الطهاره

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1273 - 1373.

عنوان و نام پديدآور : ... الطهاره/ تالیف محمدعلی الاراکی.

مشخصات نشر : [قم]: موسسه فی طریق الحق، 1415ق. = - 1373.= 1373-

شابک : 7000ریال (ج.1)

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : طهارت

شناسه افزوده : موسسه در راه حق

رده بندی کنگره : BP185/2/الف4ک2 1373

رده بندی دیویی : 297/352

شماره کتابشناسی ملی : م 78-16099

الجزء الأول

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

[فصل في المياه]

[في أقسام المياه على الإجمال]

اشارة

قال في العروة الوثقى:

«فصل في المياه» «1» «الماء إمّا مطلق، أو مضاف كالمعتصر من الأجسام، أو الممتزج بغيره ممّا يخرجه عن صدق اسم الماء، و المطلق أقسام: الجاري، و النابع غير الجاري، و البئر، و المطر، و الكرّ، و القليل، و كلّ واحد منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر مطهّر من الحدث و الخبث».

الماء إمّا مطلق و إمّا مضاف و ربّما يقسم الأوّل إلى الجاري و النابع غير الجاري و البئر و المطر و الكر و القليل.

و فيه: أنّ النابع الغير الجاري كالحياض الصغار التي ينبع ماؤها و يقف و لا

______________________________

(1) ما بين «» إلى آخر الكتاب هو عبارة العروة الوثقى، فلا تغفل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 4

يصدق عليها اسم الجاري لعدم جريانها على وجه الأرض و لا البئر كما هو واضح ليس له عنوان مستقل لا في الأخبار و لا في كلمات الأصحاب- رضوان اللّٰه تعالى عليهم-، فلا يصح عدّه قسما على حدة بخلاف البواقي، فإنّها موضوعات مستقلّة في الأخبار و في كلماتهم و لها آثار خاصة أيضا، فلا بد في الماء المذكور إمّا من الحكم بخروجه عن الماء المعتصم الغير المنفعل و اجراء حكم مطلق الماء عليه من انفعال قليله بمجرد الملاقاة و كثيرة بالتغيّر، و حصول تطهيره بإلقاء الكرّ عليه، و إمّا من إلحاقه بماء البئر في الحكم بناء على أنّ التعليل الواقع في صحيحة إسماعيل بن بزيع المعمول بها عند المتأخّرين: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه

فينزح حتى يذهب الريح و يطيب الطعم لأنّ له مادة» «1» راجع إلى كلتا القضيتين أعني: قضية عدم التنجس إلّا بالتغيّر، و قضية حصول التطهير بالنزح.

إذ حينئذ يستفاد من عموم التعليل قضيّتان عامّتان:

إحداهما: أنّ كل ماء ذي مادة لا ينجس إلّا بالتغيّر، و الثانية: أنّ كل ماء ذي مادة إذا تنجس بالتغيّر يطهر بالنزح.

و امّا لو كان راجعا إلى القضية الأخيرة فقط. فحينئذ و ان كان يستفاد من عمومه القضية الثانية- أعني قضية كون طريق التطهير في كل ماء ذي مادة إذا تنجس هو النزح- إلّا أنّ القضية الأولى مسكوت عنها، فيمكن في النابع غير البئر أن ينجس قليله بمجرد الملاقاة و يطهر بالنزح كما أفتى به شيخنا المرتضى تقوية لهذا الوجه.

و هنا احتمال ثالث و هو: أن يكون التعليل راجعا إلى الغاية أعني: ذهاب

______________________________

(1) الوسائل: ج 1 ص 126، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 5

الريح و طيب الطعم و يكون دفعا لدخل مقدر كأنّ سائلا يقول: لو لم يترتب على النزح ذهاب الريح و طيب الطعم فما الحيلة؟ فأجاب- عليه السلام- بأنّ الذهاب و الطيب يترتبان على النزح دائما لأنّ ماء البئر له مادة فكلّما ينزح منه مقدار يحصل في محله ماء جديد ينبع من مادته، و هذا موجب لذهاب ريحه و طيب طعمه نظير التعليل في قول القائل: لازم غريمك حتى يوفيك دينك فإنّه يكره ملازمتك، فإنّه تعليل لترتّب الإيفاء على ملازمة الغريم.

و على هذا فلا يفيد التعليل شيئا، لكونه تعليلا لما يتفرع عليه الطهر الشرعي أعني الذهاب و الطيب الحسيّين، و أمّا نفس الطهر الشرعي فمسكوت عن علّته كالنجاسة الشرعية، و بعبارة أخرى: تكون الرواية على هذا متعرضة لبيان

العلّة الطبيعية العادية لترتب اللازم العادي على ملزومه، لا لبيان العلّة الشرعية لترتّب الحكم الشرعي على موضوعه.

و حينئذ فالتعليل المذكور مجمل، لدورانه بين الأمور الثلاثة، فيسقط عن الاستدلال رأسا، و لكن الإنصاف أنّ الذي يظهر من الرواية عند عرضها على الذهن الخالي عن شوائب الأوهام هو أنّ التعليل علّة للحكم بكون ماء البئر واسعا، و أنّ هذا الحكم هو المقصود بالإفادة، و الذي بعده انّما هو من متفرعاته و توابعه بحيث يكون مفروغا عنه عند مفروغيته، فيكون المفاد أنّ ماء البئر و إن كان في الظاهر قليلا و حقيرا إلّا أنّه واسع لقوّة ظهره بواسطة اتصاله بمادة واسعة بحيث كلّما نزح منه الماء ينبع في محله ماء جديد من تلك المادة الواسعة، فالتمسك بعموم التعليل جائز.

ثمّ إنّه ليس المراد بلفظ الواسع في الرواية الواسع حكمه، نظير ما يقال:

التقية واسعة، يعني أنّ العباد في سعة من حكمها، بل الظاهر أنّ المراد به انّ نفس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 6

ماء البئر واسع، و ذلك لأنّ التعليل بالمادة مناسب للثاني دون الأوّل كما هو واضح.

و ثمرة الوجهين أنّه على الأوّل تكون الرواية معارضة لعمومات انفعال الماء القليل، و على الثاني تكون حاكمة عليها، لأنّها بلسانها التنزيلي- أعني تنزيل ماء البئر بمنزلة الماء الواسع- مضيّقة لدائرة القليل و موسعة لدائرة الكثير.

لا يقال: ماء البئر كثير حقيقة بملاحظة اتصاله بالمادة، فتكون الرواية واردة على العمومات لا حاكمة عليها لتغاير الموضوعين.

لأنّا نقول لو كان تحت البئر حفرة مملوءة من الماء كان الأمر كما ذكرت، إلّا أنّ القطع حاصل بخلافه و أنّ ما في حواشي البئر و تحته هو مجرّد الرطوبة و الرشحة، و المسمّى باسم الماء هو ما في

جوف البئر، لكن الشارع نزل ما في حواشيه و تحته من الرطوبات و الرشحات بمنزلة الماء، و نزل ما في جوفه بملاحظة اتصاله بتلك الرطوبات بمنزلة الماء الواسع.

ثمّ إنّه استشكل شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في التمسك بعموم التعليل في هذه الرواية على إلحاق النابع غير البئر بالبئر بما حاصله: أنّ عمومات انفعال الماء القليل جاريا كان أم لا، كان له مادة أم لا، مثل مفهوم قوله: «إذا كان الماء قدر كر «1» إلخ» مخصصة بالقليل الجاري قطعا لقطعية دليله، و كذا بقليل البئر، لأنّ الرواية نص فيه، و أمّا تخصيصها بالقليل ذي المادة الذي لم يكن جاريا و لا بئرا، فموقوف على ظهور التعليل في الرواية في الرجوع إلى كلتا الفقرتين.

و يمكن منعه أولا، و على فرض تسليمه يكون معارضا للعمومات المذكورة،

______________________________

(1) الوسائل: ج 1 ص 117، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 7

و ظهور العمومات أقوى من هذا الظهور، فيكون مقدّما عليه، و لا ضير في تقديم العام على الخاص فيما إذا كانا منفصلين و كان ظهور العام أقوى من ظهور الخاصّ كما في المقام، فإنّ العام فيه متكثّر، و الخاص أعني التعليل واحد ذو احتمالات و له أوّل الدرجة من الظهور فيما ينافي تلك العمومات المتكثّرة.

و كما فيما لو قال المولى: أكرم العلماء، و قال بعد مدة: لا تكرم زيدا، و كان زيد مشتركا بين عالم و جاهل و منصرفا إلى العالم حيث يجعل ظهور العلماء في العموم الشامل للزيد العالم لأقوائيته مقدّما على ظهور زيد في العالم فيحمل على الجاهل،.

ففيما نحن فيه أيضا لا بد من التصرف في الخاص و هو يكون بأحد نحوين أحدهما: تقييد ماء البئر بكونه كرّا و

هذا غير ممكن، إذ يلزم منه لغوية التعليل بالمادة، إذ بعد اعتبار الكرية لا وجه لاعتبار المادة، و الثاني إرجاع التعليل إلى الغاية.

فإن قلت: لم لا تجعله راجعا إلى الفقرة الأخيرة فقط.

قلت: إذ تبقى المعارضة حينئذ بحالها، فإنّ مطهرية الماء الخارج من المادة بسبب النزح يتوقّف على طهارة نفسه و عدم انفعاله بملاقاة الباقي المفروض تنجّسه، و من الواضح منافاته لعمومات انفعال القليل.

و لكنّك عرفت ممّا ذكرنا الخدشة في كلامه- قدّس سرّه- أمّا منع الظهور فقد عرفت منعه، و أنّ الرواية ظاهرة في كون التعليل تعليلا للفقرة الأولى أعني قوله:

ماء البئر واسع، فانّ هذه الفقرة هو المقصود بالإفادة أصالة، و سائر الفقرات من لوازمها و يكون مذكورة تطفّلا و بتبعها، لا أنّها تكون خبرا بعد خبر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 8

و التعليل المذكور في أمثال هذا الكلام ظاهر في الرجوع إلى ما هو المقصود الأصلي بالكلام كما في قول القائل: زيد نعم الرجل يواظب الطاعات و يعاون المساكين و يصل الرحم، لأنّه عالم، فانّ من الواضح أنّ التعليل راجع إلى حيث كونه نعم الرجل، إذ الكلام مسوق لبيانه، و بيان سائر المذكورات إنّما تكون بتطفّله، و كذا الكلام في قولك ماء البئر واسع لا يفسده شي ء و يكون كذا و كذا لأنّ له مادة.

و أمّا حديث المعارضة- بعد فرض تسليم الظهور- فقد عرفت منعه أيضا و انّ الرواية حاكمة على العمومات و ليست معارضة لها، إذ مفاد العمومات أنّ كل ماء قليل ينفعل، و مفاد هذه الرواية أنّ ماء البئر واسع لاشتداد ظهره و اتصاله بالاستعداد الكلي الحاصل في الأرض تحته، و من الواضح عدم التنافي بين هذين المضمونين.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- ذكر بعد

ذلك ما حاصله: أنّه على فرض تسليم التكافؤ بين الظهورين يكون المرجع عمومات أدلّة اشتراط اعتصام ماء الحمام بالمادة مثل قوله- عليه السلام-: ماء الحمام لا ينجسه شي ء «1» بعد تقييده بقوله في رواية أخرى «2»: إذا كانت له مادة، فانّ المادة هنا محمولة على ما يشتمل على الكرّ للانصراف، فانّ الغالب في مادة ماء الحمام ذلك، و المستفاد من الجملة الشرطية أيضا هو العليّة، فيكون مقتضى المنطوق أنّ كل ماء يكون له مادة مشتملة على الكرّ لا ينفعل القليل منه بالملاقاة، و مقتضى المفهوم أنّ كل ماء لا يكون له مادة

______________________________

(1) الوسائل: ج 1 ص 112، ح 8.

(2) المصدر نفسه: ج 1 ص 111، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 9

مشتملة على الكرّ سواء لم يكن له مادّة أصلا أو كان و لم يكن بقدر الكر ينفعل القليل منه بالملاقاة، فيدخل العيون الراكدة تحت المفهوم، فتكون محكومة بانفعال قليلها بالملاقاة، إذ هي مما ليس له مادة أصلا، فإنّ المراد بالمادة هنا هو الماء المجتمع في محل واحد كالحوض، و من المعلوم عدم ثبوته لتلك العيون.

و هذا الكلام كما ترى مشتمل على ثلاث دعا و الأولى: دعوى الانصراف للغلبة، و الثانية: دعوى استفادة العلّية من الجملة الشرطية ليمكن تسرية الحكم إلى غير ماء الحمام، و الثالثة: دعوى المرجعية لهذه العمومات بعد فرض التعارض و التكافؤ بين ظهور التعليل و ظهور العمومات السابقة، و كل منها قابل للخدشة.

أمّا الأولى فلمنع كون الغلبة في الوجود منشأ للانصراف، و إنّما المنشأ له انس اللفظ بالمعنى في الذهن، و على فرض التسليم نقول: إنّما يكون المنصرف إليه هو الكرّ إذا كان الغالب في مادة ماء الحمام هو

الكر بشرط لا، و ليس كذلك، بل الغالب هو الكر مع الزيادة، فيكون المنصرف إليه أيضا هو الكرّ معها، و إذا تعين رفع اليد عن هذا المنصرف إليه لأنّ القطع حاصل بعدم كون الكر مع الزيادة منشأ للأثر، فجعل الزيادة ملغى و جعل مقدار الكرّ منشأ للأثر دعوى بلا دليل، إذ كما أنّ جعل مطلق المادة، سواء كانت بقدر الكرّ أم لا منشأ له خلاف المنصرف إليه كذلك جعل الكرّ اللابشرط منشأ أيضا خلافه، إذ المفروض أنّ المنصرف إليه هو الكرّ مع الشي ء، فما يكون موردا للغلبة و هو الزائد على الكرّ لا يمكن أن يكون مناطا للحكم، و ما يمكن أن يكون مناطا له كمّا- و هو مقدار الكرّ- لا يكون موردا للغلبة.

و أمّا دعوى استفادة العلّية من الجملة الشرطية، ففيه أنّا و لو ساعدنا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 10

المشهور القائلين بدلالة الجملة الشرطية على العلّية التامّة لكن نقول: إنّ العليّة هنا تكون للحكم بالنسبة إلى الموضوع المذكور في نفس هذه القضية بمعنى أنّ وجود تالي الأداة علّة لترتّب الحكم على هذا الموضوع، و عدمه علّة لانتفاء سنخ الحكم عن هذا الموضوع من غير تعرض لحال موضوع آخر أصلا، فالعليّة هنا ليس على نحو العلّية المستفادة من اللام، ففرق إذن بين قولنا: الخمر حرام لأنّه مسكر، و قولنا: الخمر حرام إذا كان مسكرا، إذ مفاد الأوّل أنّ ميزان الحرمة هو الإسكار في أي موضوع كان، و مفاد الثاني أنّ وصف الإسكار متى تحقّق في موضوع الخمر يوجب ترتّب الحرمة عليه، و متى لم يتحقّق فيه يوجب انتفائها عنه من دون تعرّض لحال غير الخمر.

ففي الرواية أيضا نقول: إنّ الموضوع هو ماء الحمام،

و الحكم عدم الانفعال، و العلّة هو الاتصال بالمادة المشتملة على الكرّ، و المستفاد من القضية الشرطية أنّ وصف الاتصال بالمادة المشتملة على الكر متى تحقّق في ماء الحمام يوجب ترتب عدم الانفعال عليه، و متى لم يتحقّق فيه يوجب عدم ترتّب هذا الحكم عليه من دون تعرض لحال موضوع آخر أصلا.

و لو سلّمنا إلغاء خصوصيّة ماء الحمام لمجرّد استبعاد مدخليّة هذه الخصوصية في الحكم، لكن نقول: لا يمكن تعدية هذا الحكم إلّا إلى أمثال ماء الحمام لا إلى كل ماء أعني: ما يكون جاريا من مادة عالية إلى موضع سافل، فانّ المراد بماء الحمام في تلك الروايات ماء الحوض الصغير الذي يصبّ فيه الماء من الحوض الكبير بتوسط آلة منصوبة على الحوض الكبير فوق الحوض الصغير، و المقصود بالشرط بيان عدم انفعال ماء الحوض الصغير عند اتصاله بماء الحوض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 11

الكبير بواسطة عمود الماء الجاري من تلك الآلة و انفعاله عند انقطاع هذا العمود، فكلّ ما يشبه به كماء الحوض الصغير المعمول جنب الآب أنبار تحت الآلة المعهودة عند جريان الماء من الآلة يعدى إليه الحكم المذكور، بخلاف ما لا يشبه به و إن كان له مادة بأن كان مادته مساوية له أو سافلة كما في البئر و العيون الراكدة.

و لو سلّمنا كون العلية هنا على نحو العلّية المستفاد من اللام و تعدية الحكم إلى كل ماء دون خصوص أمثال ماء الحمام. لكن نقول: إن اخترنا حينئذ القول بأنّ اختلاف السطح موجب لتعدّد الماء يكون ماء الحمام قليلا، لعدم اتّحاده مع ماء الخزينة حتى يكون كرّا لاختلاف السطح، و المفروض أنّه في حد نفسه قليل، و كذا الكلام في

أمثال ماء الحمام و العيون الراكدة و نحوها، فيكون منطوق الرواية على هذا أنّ كل ماء قليل متصل بمادة كرّ لا ينفعل، و مفهومه أنّ كل ماء قليل غير متصل بمادة كرّ ينفعل، فتكون الرواية بمنطوقها معارضة لعمومات انفعال الماء القليل، فيجب تخصيص تلك العمومات بالقليل الغير المتصل بمادة كرّ، و حينئذ يتّحد مضمونها مع مفهوم هذه الرواية، إذ قد كان مفهوم الرواية أيضا انفعال القليل الغير المتصل بمادة كرّ.

ثمّ إنّا إذا فرضنا كون ظهور تلك العمومات مكافئا لظهور التعليل في صحيحة ابن بزيع بالنسبة إلى حكم العيون الراكدة التي هي داخلة تحت القليل الغير المتصل بمادة كرّ فكيف يجعل المرجع رواية الحمام التي فرض اتحادها مع تلك العمومات.

و لو اخترنا القول بعدم كون اختلاف السطح موجبا للتعدد تكون الرواية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 12

معارضة لأخبار عدم انفعال الكر، إذ مفاد تلك الأخبار أنّ الماء الذي يكون بقدر الكر لا ينفعل سواء كان متساوي السطح أو [غير] متساوية، و مفاد الرواية أنّ الماء القليل المتصل بمادة غير كرّ ينفعل سواء كان مجموع ما في المادة و الخارج منها قليلا أم كثيرا، فيتعارضان فيما إذا كان مجموع الخارج من المادة و الداخل فيها بقدر الكر، فإمّا أن يحكم بدخول هذا المورد تحت الأخبار و تخصّص الرواية بما إذا كان مجموع الخارج و الداخل أقل من الكر، و إمّا يحكم بدخوله تحت الرواية و تخصّص الأخبار بما إذا لم يكن مقدار الكر بعضه مادة لبعض آخر.

فإن قلنا بالأوّل يكون مفهوم الرواية انفعال جميع أقسام الماء القليل، فيتحد مع مضمون عمومات انفعال القليل فبعد فرض مكافأة تلك العمومات مع ظهور التعليل بالمادة كيف يجعل الرواية مرجعا؟

و كذا الكلام بعينه لو قلنا بالثاني، غاية الأمر أنّ مفهوم الرواية حينئذ يكون انفعال جميع أقسام القليل و قسم من أقسام الكرّ، و مجرّد ذلك لا يوجب التفاوت بعد فرض كون محل الكلام من أقسام القليل، فتحصّل أنّ دعوى المرجعية لتلك الروايات باطلة على أي حال.

نعم يمكن جعل المرجع عموم قوله- عليه السلام-: خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلّا ما غير «1» .. إلخ. فإنّ من قاعدة باب التعارض فيما إذا تعارض خاصان فوقهما عام جعل هذا العام مرجحا للخاص الذي يوافقه أو مرجعا بعد تساقط الخاصّين، كما لو ورد أكرم العلماء، و دلّ دليل على وجوب إكرام زيد العالم، كقوله: أكرم زيدا، و آخر على حرمته، كقوله: لا تكرم زيدا، و كما في المقام فانّ العموم المذكور بعد تخصيصه بالماء القليل المحقون بواسطة عمومات انفعال

______________________________

(1) الوسائل: ج 1 ص 101، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 13

القليل يدور أمره في القليل ذي المادة بين تقديم التعليل حتى يكون تخصيصه أقل. و بين تقديم العمومات حتى يكون تخصيصه أكثر، فيجعل العموم مرجحا للتعليل أو مرجعا بعد تساقط التعليل و العمومات، هذا مضافا إلى أنّ شمول عمومات انفعال القليل للمقام موهون باختصاص مورد جلّها لو لم نقل بكلّها بالماء المحقون كماء الإناء و الغدير و نحوهما من دون تعرض فيها لحال الماء الذي له مادة، مع أنّ ما كان منها من قبيل المفهوم لقوله- عليه السلام-: الماء إذا كان قدر كرّ لم ينجسه شي ء، يبتني وجوده على القول بثبوت المفهوم للقضية الشرطية، و الحق عدمه كما بيّن في الأصول، و العجب من الشيخ المحقّق المرتضى- قدّس سرّه- حيث جعلها مع ذلك

أقوى ظهورا من التعليل بالمادة، فعلم أنّ القول بعدم الانفعال قوي جدّا و قد قوّاه الميرزا الشيرازي- قدّس سرّه- و إن لم يفت به في الرسالة.

[مسائل]
[الماء المضاف طاهر و ينجس بملاقاة النجاسة]

«مسألة 1: الماء المضاف مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر، لكنه غير مطهّر لا من الحدث و لا من الخبث، و لو في حال الاضطرار، و إن لاقى نجسا ينجس و إن كان كثيرا، بل و إن كان مقدار ألف كرّ، فإنّه ينجس بمجرّد ملاقاة النجاسة، و لو بمقدار رأس إبرة في أحد أطرافه فينجس كلّه. نعم إذا كان جاريا من العالي إلى السافل و لاقى سافله النجاسة لا ينجس العالي منه كما إذا صبّ الجلاب من إبريق على يد كافر فلا ينجس ما في الإبريق و إن كان متصلا بما في يده»

أمّا عدم مطهريته من الخبث فلا يحتاج إلى دليل، بل نكتفي فيه بعدم الدليل على مطهريته، فانّ مطهرية غير الماء يحتاج إلى دليل.

ثمّ إنّ في الماء المضاف ثلاث دعاو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 14

الأولى: انفعاله بملاقاة النجاسة.

و الثانية: تنجّس تمامه بملاقاة جزء، و عدم كونه كالأجسام الرطبة في اختصاص التنجس بموضع الملاقاة.

و الثالثة: عدم الفرق في ذلك بين قليله و كثيره.

و قد يوجّه الثانية بالسراية الحكمية تارة و الموضوعية أخرى، و تقرير الأوّل أنّ من القاعدة المسلّمة تنجّس ملاقي كل نجس و متنجس، و لا إشكال في أنّ أجزاء الماء متصل بعضها ببعض، فجميع أجزائه يلاقي بعضها بعضا، فوصول النجاسة بجزء موجب لتنجّس الجميع بمقتضى القاعدة المذكورة في آن واحد، غاية الأمر على نحو الترتّب الطبعي الثابت بين العلّة و المعلول، فإنّ تنجس كل تال معلول لملاقاة المتلو، و لا يحتاج إلى طول الزمان، إذ الفرض

أنّ الملاقاة كانت حاصلة بين نفس الأجزاء قبل ملاقاة النجاسة لجزء منها، و المراد بالثاني وصول عين النجاسة إلى كل جزء من الماء، غاية الأمر أنّه مخفي علينا.

و يرد على الأوّل أوّلا: النقض بالأجسام الجامدة الرطبة، فإنّها مع وجود الملاك المذكور فيه بعينه يختصّ التنجّس بموضع ملاقاته للنجاسة.

و ثانيا: أنّ الموجود في الماء إنّما هو الاتصال دون الملاقاة، و الفرق بينهما أنّ الثاني عبارة عن اتصال سطح أحد الجسمين بسطح الآخر، و ليس لأجزاء الماء سطوح متعددة حتى يحصل بتلاصقها موضوع الملاقاة إلّا على القول بالجزء الغير المتجزّئ، و المعتبر في باب التنجيس لا شك أنّه هذا الموضوع لا مجرّد الاتصال و إن كان لم يرد به دليل خاص إلّا انّه مأخوذ من العرف، ألا ترى عدم سراية رطوبة جزء من البدن إلى تلوه مع كونه متصلا به، و لكن لو لاقاه صار الرطوبة مسرية إليه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 15

و يرد على الثاني: أنّ لازمة سراية التنجس من كل جزء إلى تلوه على التدريج، و هذا خلاف المدّعى من تنجس تمام الأجزاء دفعة واحدة، و أيضا كيف يتعقل السراية في مثل يد الكافر مع كونها في غاية النظافة.

و يمكن أن يتمسك في ذلك بفهم العرف بتقريب أنّ الشارع إذا بيّن نجاسة الشي ء الفلاني، و سكت عن كيفية تنجيسه للأشياء يرجع في ذلك إلى ما يراه العرف في القذارات العرفية، و نحن إذا راجعنا العرف نراهم يجتنبون عن تمام أجزاء الماء لو لاقاه أحد القذارات العرفية، ألا ترى أنّ الماء الذي وقع فيه جعل لا يستعملونه في الشرب أصلا.

نعم لهم تحديد للقلّة و الكثرة و إن كان هذا التحديد مخالفا لتحديد الشرع كان ملغى

و الحاصل: أنّا نأخذ بما يراه العرف في كل موضع لم يحصل الردع من الشارع.

و أمّا الاخبار فعمدتها خبر الذوبان «1» الوارد في السمن، و دلالته موقوفة على دلالة القضية الشرطية على عليّة الشرط للجزاء بالنسبة إلى كل موضوع، و قد عرفت منعه.

و أمّا خبر الخابية «2» و إن كان صدرها ظاهرا في كون المقاولة في الطهارة و النجاسة لكن الظاهر من قوله- عليه السلام- في الآخر: فإنّ اللّٰه حرّم الميتة من كلّ شي ء، أنّ الكلام في جواز الأكل و عدمه، إذ من الواضح عدم صلوح تعليل تنجّس ملاقي الميتة بكونها حراما، إذ ليس ملاقي الحرام نجسا، و هو و إن كان ليس بحرام أيضا، إلّا أنّه يمكن أن يكون فرض السائل في مورد صار أجزاء الفارة

______________________________

(1) الوسائل: ج 1 ص 149، ح 1 و 2.

(2) الوسائل: ج 1 ص 149، ح 1 و 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 16

متلاشية في السمن بحيث لزم من أكل السمن أكل الميتة.

أمّا خبر القدر «1» و إن كان مورده الماء المضاف و دلالته أيضا واضحة، لكن الفرض الذي هو مورد الرواية خارج عن محل الكلام، إذ الكلام فيما إذا لاقى النجاسة جزءا واحدا، و في هذا الفرض لاقى تمام أجزائه فلاحظ.

و أمّا الدعوى الثالثة و هو ادّعاء عدم الفرق في الماء المضاف بين القليل و الكثير، فيمكن الخدشة فيه بأنّه لا دليل يقتضي انفعال الكرّ المضاف و لا اعتصامه، و الأخبار على فرض تسليم دلالتها يختص موردها بالقليل، فيبقى الكثير مشكوكا، و حيث علم من قوله: إذا كان الماء قدر كرّ إلخ. وجود مقتضى الانفعال في نفس الماء و أنّ الكرّية مانعة، فالشك هنا في وجود

المانع بعد القطع بوجود المقتضي للانفعال، فيكون مجرى لاستصحاب النجاسة و لكن فيه:

أوّلا: أن هذا الاستصحاب مثبت إذ ترتّب الأثر على عدم المانع و وجود المقتضي من اللوازم العقلية.

و ثانيا: أنّ عدم المانع ليس له حالة سابقة، إذ يحتمل أنّ المضاف الكثير كان من أوّل وجوده مع المانع من الانفعال.

نعم لو قلنا بحجية أصالة عدم المانع في كل موضع شكّ فيه مع القطع بالمقتضي ببناء العقلاء تم الأصل هنا لكن هذا القول متروك، فيكون المرجع قاعدة الطهارة، مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّ العرف يستبعد غاية الاستبعاد أن يتنجس البحر من المضاف بوصول النجاسة بأحد أجزائه، كما لا يرى السراية في الجزء العالي لو لاقى الجزء السافل القذارة مع الجريان، كما لو انصبّ الماء من الإبريق في آنية فيها سمّ حيث يجتنبون ممّا في الآنية و لا يجتنبون مما في الإبريق مع اتصاله بما

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 150، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 17

في الآنية.

و الحاصل أنّهم كما لا يرون السراية في الجزء العالي كذلك في الأجزاء البعيدة من الجزء الملاقي في ماء البحر فكما يؤخذ بطريقهم في الأوّل كذلك في الثاني، و لو ردعهم الشارع عن ذلك لنص عليه بنصوص متكاثرة متوافرة، هذا بحسب القواعد، و لكن الإجماع واقع على تنجس كثير الماء المضاف كقليله بلا فرق و هو الحجّة.

[بقاء الإطلاق و الإضافة بالتصعيد في الماء المطلق و المضاف و طهارتهما به إذا تنجسا]

«مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن إطلاقه. نعم لو مزج معه غيره و صعد كماء الورد يصير مضافا».

«مسألة 3: المضاف المصعد مضاف».

«مسألة 4: المطلق أو المضاف النجس يطهر بالتصعيد لاستحالته بخارا ثم ماء».

تحقيق المقام يقتضي بسط الكلام في مطهرية الاستحالة.

فنقول: لا شبهة في الكبرى، أعني لو ثبت تبدل

معروض النجاسة قطع بزوالها، لاستحالة قيام العرض بدون المعروض و استحالة الانتقال، إنّما الشك في الصغرى و أنّ الاستحالة بما ذا تحصل، و ذلك لأنّا نقطع في الأعيان النجسة بأنّ الصور النوعية وسائط في ثبوت حكم النجاسة الذاتية، و نشك في أنّ الموضوع هل هو مطلق الهيولى و تلك الصور علل للحدوث حتى يكون الكلب بعد وقوعه في المملحة و صيرورته ملحا نجسا لبقاء الهيولى أو أنّه الهيولى، المتصوّرة بتلك الصور مجموعا حتى يكون الكلب المذكور طاهرا لزوال الصورة الكلبية عنه؟ فمقتضى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 18

القاعدة فيما إذا كان الموضوع باقيا بنظر العرف كالمثال المذكور- حيث يحكمون بانّ هذا الملح عين الجسم السابق و زوال عنه الصورة الكلبية و طرأ عليه الصورة الملحية- و إن كان هو استصحاب النجاسة- نعم فيما إذا كان الموضوع متبدّلا بنظر العرف كما في العذرة إذا صارت دودا حيث يرون الدود موضوعا آخر، و كما في البول إذا شربه الغنم فصار لبنا لم يبق موردا للاستصحاب، لكونه إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر- إلّا أنّ الدليل الاجتهادي الدال على الطهارة الذاتية لغير الأشياء المخصوصة وارد على الاستصحاب، و هو الإطلاق المستفاد من الأخبار المتفرقة في أبواب النجاسات الواردة من الحجج- صلوات اللّٰه عليهم- في الأزمنة المتمادية، فإنّه يستفاد من تعرّضها لنجاسة تلك الأشياء و عدم تعرّضها لنجاسة شي ء آخر انحصار النجاسات فيها و طهارة ما سواها ذاتا مطلقا، سواء كان مسبوقا بأحد تلك الأشياء كما في الملح الذي كان كلبا أم لم يكن.

و لو قيل بأنّ دليل طهارة الملح منصرف إلى الملح الخارج عن المعدن، فلا يشمل ما كان كلبا في زمان، نقول بالطهارة حينئذ من

باب قاعدة الطهارة، و لا تعارض باستصحاب النجاسة، فإنّ النجاسة كانت ثابتة لموضوع الكلب، و هذا الموضوع قد انتفى، فانتفى أثره أيضا ضرورة انتفاء الأثر بانتفاء الموضوع، و أمّا احتمال كون الموضوع هو الهيولى، و الصورة النوعية واسطة في الحدوث دون البقاء، فهو خلاف ظاهر دليل نجاسة الكلب، فإنّه ظاهر في كون الصورة النوعية بنفسها موضوعا، لا أنّ الموضوع هو الهيولى، و الكلبية واسطة لثبوت الحكم، فإنّ هذا يحتاج إلى عبارة أخرى، كأن يقال: الجسم إذا صار كلبا كان نجسا، و لا يفيده قولنا: الكلب نجس.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 19

فتحصّل أنّ الحكم بالطهارة بعد الاستحالة في الأعيان النجسة يكون على طبق القاعدة لا على خلافها، لأنّه بمقتضى الدليل الاجتهادي في صورة عدم تمامية الانصراف المذكور و بمقتضى قاعدة كل شي ء طاهر بضميمة أنّ من الواضح كون الموضوع هو الصورة النوعية في صورة تماميته فتدبّر.

و من هنا يعلم أنّ التعبير بكون الاستحالة من جملة المطهرات كما وقع في كلمات القوم مبني على المسامحة، فإنّ الحاصل ارتفاع النجاسة بارتفاع المحل، لا ارتفاع النجاسة عن المحل مع بقاء المحل كما هو الحال في سائر المطهرات، و الحاصل أنّ هذا من قبيل الرافع لنفس المحل، و سائر المطهرات من قبيل العارض على المحل و الرافع لنجاسته، فليسا من واد واحد.

و أمّا الاستحالة في المتنجسات فالفرق بينها و بين الاستحالة في النجاسات هو العلم بموضوعية الصورة النوعية هناك و العلم بعدم ذلك هنا، فيعلم أنّ قول الشارع: إذا لاقت يدك النجاسة فاغسلها، و كذا قوله: اغسل ثوبك إذا لاقى النجس، و كذا في سائر الأشياء لا يفهم منه دخل الخصوصية، بل يستفاد أنّ هذا خاصية ملاقاة النجاسة الكذائية

في أي جسم حصل، فلهذا يتعدى الى كلّ جسم مع عدم ذكر كثير منها في شي ء من الأخبار.

و حينئذ فنقول أوّلا: لا مجال لحصول الشبهة في بقاء النجاسة لو تبدّل الثوب مثلا بالدود، إذ الفرض أنّ الأمر الموجود في كلا الحالين معروض النجاسة و هو باق و لم ينعدم، فلم يجر هنا مثل ما يجري في الأعيان النجسة من ارتفاع النجاسة بارتفاع المحل كما عرفت من معنى مطهرية الاستحالة هناك، و مع ذلك فلا وجه لحصول الطهارة، فإنّ حصولها بعد عروض النجاسة يحتاج إلى أحد أمرين كلاهما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 20

مفقود في المقام، أحدهما: حصول الرافع للمحل كما في الاستحالة في النجاسات، و من المعلوم عدمه في المقام، و الثاني: عروض المطهر كالكرّ على المحل، و المفروض عدمه.

ثمّ لو فرض الشك من جهة احتمال أن يكون تبدّل الصورة النوعية مطهرا للهيولى و رافعا لنجاسته فاستصحاب النجاسة محكّم، أعني: نجاسة الهيولى الثابتة في كلا الحالين، كما فرضنا أنّها معروض القذارة و النجاسة بدون دخل للصور فيها أصلا، و على هذا فيلزم الحكم بنجاسة الدود المتكوّن من الثوب المتنجس دون الدود المتكوّن من العذرة مثلا، و من هنا ينقدح فساد ما ربما يتوهّم من أنّ قاعدة كل جسم لاقى النجس ينجس لم يرد في خبر و رواية، و إنّما وقع معقدا للإجماع، و الغرض منها سوق العبارة الجامعة لا إناطة الحكم على الجامع، بل المقصود الإناطة على الخصوصيات المختلفة بحسب الموارد.

و حاصل ما عرفت: أنّ المتفاهم العرفي في قولنا: اغسل يدك لو لاقى النجس و نحوه غيره في قولنا: الكلب نجس، فيفهم إلغاء الخصوصية في الأوّل و مدخليتها في الثاني: فيفهم أنّ ذلك حكم

كلّ جسم في الأوّل، و يفهم أنّ ذلك حكم خصوص هذا الجسم في الثاني، و الإجماع أيضا لم ينعقد إلّا من جهة هذه الأخبار التي مفادها ذلك، و حينئذ فبعد فرض كون المعروض حال الملاقاة هو الهيولى لا وجه للشك أوّلا، و على فرضه يكفي للنجاسة استصحابها، و يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- الميل إلى الطهارة من جهة قاعدتها، و عدم الفرق بين المتنجسات و النجاسات، و حاصل ما يستفاد من كلماته في الطهارة و الرسائل في تقريب ذلك انّه لا دليل على تبعيّة النجاسة للقدر المشترك و الجسم الموجود في كلا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 21

الحالين ممّا سوى الإجماع و هو غير صريح في إفادة ذلك إن لم نقل بظهوره في خلافه من تبعيتها للصور النوعية، فإنّ إجماعهم المدّعى على إلحاق المتنجّس بالنجس في الاستحالة و إن كان غير حجة، و لكن يستكشف منه أنّ مراد المجمعين في الإجماع الأوّل الذي قام على أنّ كل جسم لاقى نجسا فهو نجس تبعية النجاسة للصور النوعية، و لا أقل من إيجابه لحصول الشك و حصول الاحتمال و لو مرجوحا لأن يكون المراد بهذه العبارة نظير المراد بقولك: كل دواء له خاصيّة، إذ من المعلوم أنّ ثبوت الخاصية ليس من جهة جامع الدواء، بل لها قوام بالصور النوعية فخاصيّة لسان الثور مثلا قائمة بصورته النوعية و هكذا، و بعد هذا الاحتمال لا يمكن الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع، و لا يمكن إبقاء الموضوع بالاستصحاب أيضا، لأنّ الشك في موضوعية الباقي لا في بقاء الموضوع، فتكون قاعدة الطهارة سليمة عن المعارض.

و الإنصاف أنّ احتمال كون القضية المذكورة، أعني كل جسم لاقى إلخ مثل القضية الأخرى، أعني:

قولك: كل دواء إلخ بأن يكون الغرض إتيان العبارة الجامعة لا لإثبات الأثر للجامع، فيكون الأثر محمولا على الخصوصيات الحاصلة في الموارد الخاصة خلاف الانصاف، بل المقطوع عدم دخل الصور في المتنجسات، و لكن مع ذلك يمكن تقريب مدّعاه- قدّس سرّه- بطريق آخر به يجمع بين هذا المقطوع و بين المدعى المذكور.

و حاصله أن يقال: إنّ الجامع الذي ينتزعه العقل من الأفراد يمكن جعله موردا و موضعا لحكم من الأحكام بنحوين:

الأوّل: أن يكون الموضوع صرف الوجود و هو الجامع بالاعتبار الذي يقبل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 22

الصور المختلفة و الأشكال المتشتتة، و هو الذي لا يخرج عن القوة إلى الفعل فإنّ الخلوّ عن جميع الصور لا يكون له فعلية، و هذا العرض و الحكم لا يسري إلى الفرد كوصف الكلية العارض على الإنسان مثلا المتحد مع زيد من دون سرايته إلى زيد، و من هذا القبيل بيع الصاع الكلّي الخارجي من الصبرة فلا يسري الملكيّة إلى الخصوصيات و إنّما يملكها بالتسليم.

و الثاني: أن يكون الغرض ثابتا له بالوجود السرياني بمعنى أن تكون الخصوصيات غير دخيلة في الأثر و لكن ترتّب الأثر مع كل وجود، و ذلك كما في حرارة النار، إذ من المعلوم أنّ خصوصيات النار الكذائي غير دخيلة في الإحراق فهو صفة لحقيقة النار، لكن كل وجود من النار له إحراق على مقدار وجوده، غاية الأمر ليس من جهة ذاته، بل من جهة كونه نارا، و كذلك الحال في: تواضع للعالم، و أمثلة ذلك غير عزيز.

و حينئذ نقول: الطهارة و النجاسة من آثار مطلق الجسم لكن باعتبار وجوده السرياني. فإنّه يصح أن يقال: هذا الخشب نجس، و هذا الحجر نجس، و هكذا

مع أنّ القذارات العرفية من هذا القبيل، و حينئذ فيصير الوجود المحدود الخاص من الجسم معروضا للنجاسة، غاية الأمر بعلية أنّه جسم، فإذا تبدّل هذا الوجود المحدود بوجود محدود آخر فلا شبهة أنّه كما يتبدّل الوجود فالوجود الأوّل غير وجود الثاني، كذلك يختلف عرض الوجود أيضا، فعرض الوجود الأوّل غير عرض الوجود الثاني و يكون أجنبيا عنه و لا يمكن الاستصحاب.

فإن قلت: هب أنّه لا يمكن الاستصحاب، لكن بقاء النجاسة قضيّة ما اعترفت به من علّية كونه جسما، و هذه العلّة موجودة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 23

قلت: نعم الجسميّة علّة للنجاسة على تقدير الملاقاة، و هذا الحكم التعليقي ثابت لجميع أفراد الجسم، لكن ملاقاة الجسم الأوّل بذلك الوجود المحدود لا يرتبط بملاقاة هذا الجسم الثاني بحدوده.

ثمّ هذا كلّه لو لم يعد الجسم المستحيل بعد الاستحالة إلى موضوع آخر إلى نفسه كالعرق الحاصل من بخار الماء القراح، فإنّه لدى العرف نفس الماء المستحيل بالبخار، غاية الأمر صار متصاعدا بالبخار، و لا يصير الماء بمجرّد التصاعد مستحيلا، فالحكم بالنجاسة- لا من جهة الاستصحاب بل من جهة فهم العرف، إذ بعد أنّه عين الماء السافل، فلا محالة يكون له أثره- لا يخلو عن قوّة.

لكن يشكل الحكم في بعض الأفراد مثل ما إذا اتخذ الجلاب و العرق من الماء النجس و الورد أو غيره.

ثمّ ما ذكرنا في صورة العلم بتحقّق الاستحالة و تعدّد الوجود لا إشكال فيه، كما لو صار الخشب رمادا، كما أنّه لو علم عدم تبدّل الوجود لا إشكال في النجاسة إلّا مع النصّ الخاص في المورد المخصوص، و لو شكّ في تعدد الوجود و عدمه كما في صيرورة الخشب فحما فقد ذكر شيخنا المرتضى: أنّ

استصحاب الحكم أعني النجاسة غير ممكن، لعدم إحراز الموضوع، و لكن استصحاب الموضوع كاستصحاب الخشبيّة ممكن.

أقول: لو كان الموضوع شيئا و كان الحكم له بتوسّط شي ء آخر كالماء فإنّه موضوع للأحكام الخاصّة بتوسّط الكريّة، فحينئذ لو شكّ في بقاء الواسطة كما لو شكّ في كرّية الماء بعد اليقين بها أمكن الاستصحاب، فيقال: هذا كان في السابق كرّا، فهذا كان كذا و كذا، و بعد استصحاب الكريّة يثبت كون هذا أيضا كذا و كذا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 24

و من هذا القبيل أيضا استصحاب الخمريّة و الزوجيّة، و السر أن معروض الحرمة و وجوب النفقة هو المانع الخاص السر أن و معروض الحرمة و وجوب النفقة هو المانع الخاص و بعلية الخمرية و الزوجية و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فليس النجاسة أثرا لهذا المشار إليه لكونه خشبا، بل كان الخشب تمام الموضوع لكونه جسما، و إذن فالحاصل من استصحاب الخشبيّة أنّ الخشب نجس، فإنّه الحكم الذي كان في زمان وجود الخشب، و إثبات الحكم لهذا المشار إليه موقوف على تطبيق الخشبيّة عليه و هو أصل مثبت فتدبّر جيدا.

و الحاصل أنّه يقع التنافي بين مفاد الاستصحاب و مفاد دليل الطهارة المستحال إليه و هو الإطلاق المذكور، فانّ مفاد الأوّل هو النجاسة الذاتية و مفاد الثاني هو الطهارة الذاتية، فيقدم الدليل على الأصل، و أمّا تبدّل الموضوع في المتنجّسات فكما لو صار الخشب المتنجس فحما أو رمادا فهنا نقطع بأنّ الصورة النوعية غير دخيلة، و أنّ معروض النجاسة هو الجسم الملاقي للنجس- و لكن نشك في أنّ تبدّل الموضوع بنظر العرف بحيث يعدّون هذا موضوعا آخر غير الأوّل أو تبدّل الحال و الوصف مع

بقاء الموضوع العرفي و هو المسمّى بالانقلاب، و لعلّ من الأوّل صيرورة الخشب رمادا، و من الثاني صيرورته فحما هل يصير مطهرا و مزيلا للنجاسة أو لا؟ ففي الصورة الأولى أعني صورة تغيّر الموضوع العرفي لا يمكن الاستصحاب كما هو واضح، بل يكون الحكم هو الطهارة، للإطلاق الدال على طهارة غير الأشياء المعهودة، و في الصورة الثانية لا مانع من الاستصحاب أعني: استصحاب النجاسة العرضية، إذ لا منافاة بينه هنا و بين الإطلاق المذكور لكون مفاد الإطلاق هو الطهارة الذاتية.

فإن قلت: كيف لا يستصحب النجاسة العرضية في الصورة الأولى و المفروض أنّ معروضها و هو الجسم و المادة و الهيولى باق، و ما هو زائل و هو الصورة غير دخيل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 25

قلت: نعم المعروض هو الهيولى، لكن تطرأ النجاسة على الصورة التي يقوم بها الهيولى من باب الاتفاق بحيث لو قام بصورة أخرى لكانت هي المعروض، و سرّ ذلك أنّ النجاسة ليست من الأعراض الذهنية كالكلية حتى يعرض الهيولى في عالم تجرّده عن الصورة، بل من الخارجية العارضة على الهيولى في الخارج و لازم ذلك أن يصير المعروض هو الصورة التي قامت بها الهيولى حال ملاقاة النجاسة قهرا، و لا شكّ أنّ تلك الصورة قد زالت بالفرض و صارت الهيولى موجودة بوجود آخر و متلبّسة بصورة أخرى غير الأوّل، فاستصحاب النجاسة التي فرض أنّ موضوعها قهرا هو الصورة الزائلة ليس إلّا اسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر، و هذا بخلاف الصورة الثانية، فإنّ العرف يرى الموضوع بعد التبدّل عين الموضوع قبله، و يرى التغيّر في الحال و الوصف، فلهذا يمكن استصحاب النجاسة بعد التبدّل.

فإن قلت: كيف يوجب التبدّل في الصورة

الثانية في المتنجس الحكم بالنجاسة، و في النجس الحكم بالطهارة؟ فيلزم أن يكون المتنجس أسوأ حالا من النجس.

قلت: إن كان ما ذكرت مجرّد الاستبعاد فلا يقاوم الدليل، و إن كان مرجعه إلى دعوى حصول القطع من ضرورة أو إجماع بثبوت الملازمة بين الحكمين بمعنى أنّه لو كان الحكم في النجس هو الطهارة كان كذلك في المتنجس، و إن كان في المتنجس هو النجاسة كان في النجس أيضا كذلك، فحينئذ لو كان مستند الحكم بالتفكيك بين الحكمين المتلازمين هو الأصلين الجاريين فيهما و لم يلزم من اجرائهما مخالفة قطعية عملية، كان الحكم هو التفكيك و إن كان مقطوع الخلاف.

و أمّا لو كان المستند في أحد الحكمين هو الدليل و في الآخر هو الأصل كما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 26

في المقام حيث إنّ المستند في الحكم بالطهارة في النجس هو الإطلاق و في الحكم بالنجاسة في المتنجس هو الاستصحاب وجب رفع اليد عن هذا الأصل و الحكم في موضوعه بما يوافق الحكم في موضوع الدليل، إذ بعد القطع بأنّ الحكم في النجس هو الطهارة بواسطة الدليل نقطع بضميمة القطع بالملازمة بكون الحكم في المتنجس أيضا ذلك.

ثمّ هذا كلّه هو الكلام فيما إذا تبدّل موضوع النجس أو المتنجس بموضوع آخر بدون تخلّل عدم، و إمّا مع تخلّله كما لو صار النجس أو المتنجس بخارا ثمّ ماء أو شيئا آخر فقد يقال بعدم إمكان جريان الاستصحاب إذ الموضوع قد انعدم و ما وجد ثانيا بالتصعيد غيره بمعنى أنّ العرف يحكم بأنّ الماء الحاصل من بخار الماء ماء جديد و ليس عين الماء الذي كان موجودا في الآنية، و لكن لا يبعد ان يقال بأنّ العرف يجوّز في

أمثال ذلك إعادة المعدوم فيحكم بأنّ هذا عين الماء الذي قد انعدم و صار بخارا، فيحكم بثبوت أثره أيضا لا محالة من دون حاجة إلى الاستصحاب حتى يشكل بانفصال زمان الشك عن زمان اليقين، و نظير ذلك ما إذا ألقى الماء المتغيّر بالنجاسة في ماء حوض فصار مستهلكا في ماء الحوض ثمّ حصل التجزئة بينهما بعلاج، فإنّ العرف يحكم بأنّ هذا الماء المتغيّر قد انعدم ثم وجد فتكون نجاسته باقية، ثم لو شك بعد القطع بتبدّل الصورة النوعية في تبدّل الموضوع العرفي و عدمه لا يمكن الاستصحاب، للشك في بقاء الموضوع، فانّ الموضوع في الاستصحاب لا بدّ و أن يكون متيقّن البقاء، إذ مع الشك في بقائه لم يعلم أنّ بقاء الحالة السابقة في نفس الموضوع السابق أو في غيره فيكون من باب الشبهة المصداقية لقوله: لا تنقض إلخ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 27

و أمّا عرق الماء المتنجس الحاصل بالتصعيد فقد يقال بطهارته من جهة استحالة الماء أوّلا بالبخار ثم صيرورته عرقا، و البخار طاهر، فيكون العرق أيضا طاهرا لقاعدة الطهارة، و لا يمكن الاستصحاب لنجاسة الماء قبل صيرورته بخارا، لانقطاعه بالطهارة حال البخارية.

و الحق أنّا إمّا أن نقول بأن لا فرق في مطهرية الاستحالة بين الأعيان النجسة و المتنجسات، و إمّا أن نقول بالفرق، فإن قلنا بالفرق و أنّ المطهرية خاصة بالاستحالة في النجاسات فواضح أنّ الحكم هو النجاسة، و إن قلنا بعدم الفرق فيشكل أيضا القول بالطهارة في خصوص هذا المقام، و ذلك لأنّه و إن لم يمكن حينئذ استصحاب النجاسة السابقة بواسطة انقطاع الحالة السابقة بالاستحالة بخارا، إلّا أنّه لا يبعد أن يقال: إنّ العرف لا يرى العرق الحاصل بالتصعيد شيئا

آخر وراء نفس الماء المستحيل بخارا، بل إنّهم يرون أنّ الماء صار بخارا ثم صار ثانيا ماء و يرون الماء الثاني عين الماء الأوّل.

نعم لا يفهم أنّ البخار أجزاء رقيقة للماء، بل يرى البخار شيئا أجنبيا عن الماء، و اذن فيعتقد في العرق المذكور أنّه وجد ثم انعدم ثم وجد، و لهذا يكون في الغالب الآثار الخارجية الموجودة للأصل ثابتة للعرق أيضا من اللون و الطعم و غيرهما، فهكذا أيضا النجاسة.

و بالجملة أظن أنّ ذلك من الواضحات لو عرض على أهل العرف الغير المشوب ذهنه بما تعارف الآن من التكلّم و البحث فكل أحد منهم لا يرتاب في أنّه لو رتّب أثر على الماء كان ثابتا لعرقه، و ليس هذا إلّا من قبيل ما لو تبدّل شكل إنسان بصورة الغراب مثلا، ثمّ عاد إلى الشكل الأوّل الإنساني، فإنّه لا شك في أنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 28

عين الشخص الأوّل عرفا و يرتبون عليه جميع آثاره من زوجية زوجته و ملكية أمواله، و بقاء بدنه أو ثوبه على النجاسة لو كان قبل المسخ نجسا و لم يحصل التطهير و غير ذلك من الآثار التي يرتّبونها قبل ذلك من غير فرق و توقّف.

هذا و إنّما الكلام في العرق المتحد من غير ماء القراح كالماء و الورد، و الماء و العود، و الماء و الهندباء، و نحو ذلك حيث إنّ العرق المتصاعد من البخار حينئذ يسمى باسم خاص كالجلاب مثلا، و لا يطلق عليه اسم الماء، و ربّما لا يكون له آثاره و خواصه، فيشكل حينئذ القول بأنّه عرفا عين الماء الممزوج المتصاعد من دون اختلاف في الذات و الحقيقة.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في بحث

المطهرات من كتاب الطهارة:

ثمّ إن المحكي عن المنتهى أنّ البخار المتصاعد من ماء نجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل و تقاطر فإنّه نجس- إلى أن قال قدّس سرّه:- و هو جيّد لعدم استحالة الماء المتصاعد، و يشكل مع تغاير الحقيقة عرفا كما في العرق و الجلاب المتخذين من ماء النجس و الورد أو غيره، أمّا المتخذ من ماء القراح فالظاهر نجاسته لعدم ارتفاع الحقيقة، و لا تنافي بين طهارة البخار و ان اشتمل على تلك الأجزاء المائية، و نجاسة تلك الأجزاء عند اجتماعها و صدق الماء عليها عرفا.

انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه. و هو ظاهر الانطباق على ما ذكرنا في ماء القراح.

و أمّا الكلام في غيره فيمكن أن يقال: إنّه لا شبهة في عدم صدق اسم الماء على المائع المضاف فلا يطلق على الجلاب و عرق الهندباء و غيرهما اسم الماء، و لكن هنا مرحلتان: أحدهما: عدم صدق الاسم السابق، و الثاني: تبادل الحقيقة و ارتفاع الذات، و بعبارة أخرى: تعدد الوجودي في الموضوع، و لا يخفى عدم الملازمة بين المرحلة الأولى و بين الثانية، فمن الممكن ارتفاع الاسم السابق و عدم صدق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 29

المفهوم السابق و صدق مفهوم آخر، و لكن مع ذلك لم يتعدد الموضوع و لم يكن الثاني لدى العرف موضوعا أجنبيا عن الأوّل، بل كان الموضوع الأوّل باقيا عندهم و حدث الاختلاف في مجرّد عرض من إعراضه و حالة من حالاته، و أقوى شاهد على هذه الدعوى العيان، فانّا نرى بالحس أنّ مقدارا من الماء لو صب في آنية ثم امتزج مع قدر من السكر فلا يصدق الاسم بلا شبهة، لكن لا يوجب

ذلك تغاير الموضوع، بل محسوس بالعيان أنّ الموضوع نفس الموضوع السابق من دون تغير في ذاته، و انّما حدث في صفة من صفاته و هو الطعم.

و بالجملة عدم صدق الاسم لا يكون دليلا على تعدّد الموضوع و تغيّره ذاتا و وجودا، بل يلائم معه و مع عدمه، كما أنّ من هذا القبيل أيضا الحال في العجل و البقرة، فإنّ الموضوع واحد مع تعدّد الاسم بتعدد الصغر و الكبر إلى غير ذلك مما ليس بعزيز.

إذا عرفت ذلك فنقول: الماء النجس الممزوج بالورد و العود و الهندباء إذا تصاعد و اجتمع لا شك في أنّ هذا المجتمع بعد التصاعد ليس موضوعا آخر بحيث كان بحسب الذات و الحقيقة مغايرة مع نفس الماء. نعم اسم الماء لا يصدق عليه كما كان صادقا في الماء القراح، و لكن عرفت في المقدمة عدم الملازمة بينه و بين تباين الموضوع ذاتا، فهو عند العرف متحد مع نفس الماء ذاتا و مختلف معه اسما و صفة و هي الرائحة، فيمكن أن يشار إليه و يقال: إنّ هذا المائع هو نفس ذلك المائع كان يسمى باسم الماء قبل تصاعده بالبخار، و لم يكن ذا رائحة فصار بعده مسمى باسم آخر و وجد الرائحة الحسنة، فصدق العينية هنا أيضا كما في الماء القراح بين المتصاعد و نفس الماء و إن اختلف معه في أنّه مغاير معه هنا في الاسم و الصفة، و على هذا نتعدى من ذلك و نقول: في الأعيان النجسة أيضا من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 30

البول و العذرة و المني و غيرها أنّه لو تصاعد منها بالبخار أجزاء و اجتمعت رطوبة فهي و إن لم يسم باسم تلك الأشياء

لكن يشملها أدلّة نجاسة هذه العناوين بمساعدة الفهم العرفي، فإنّا لو خلّينا و طبعنا العرفي الخالي عن شوائب التشكيكات، لا نشك في أنّ معيار نجاسة هذه الأشياء بعينها موجودة في عرقها المتصاعد منها بالبخار أيضا، و ليس ذلك إلّا لعينية. عرقها معها ذاتا و إن كان مقتضى الجمود على اللفظ الاقتصار على نفس تلك الأشياء و عدم التعدّي إلى عرقها، لكن قضيته فهم العرف العينية و الاتحاد بينها بحسب الحقيقة و الذات و بين العرق بحيث لا يراهما موضوعين موجودين بوجودين مثل الإنسان و الحجر هو التعدي و عدم الاقتصار «1».

و إن شئت قلت: إنّ العرف يرى ملاك الحكم بالنجاسة في عرق تلك الأشياء أيضا، ألا ترى أنّهم في قذاراتهم يستقذرون من عرق القذر كما يستقذرون من نفسه، و لا يفرقون في الاستقذار بين القذارات و أعراقها، فإذا قال لهم الشارع:

ما استقذرتم ليس بقذر و إنّما القذر هو كذا و كذا، فهم يعاملون بحسب طبعهم مع هذه الأشياء معاملتهم مع تلك الأشياء، و يفهمون أنّ ذلك هو مراد الشارع أيضا.

و بالجملة فاللفظ و إن كان قاصرا لكن العرف قاض بأوسعية المراد، هذا و لكن الحكم مع ذلك غير خال عن الإشكال و ليس صافيا بمثابته في ماء القراح،

______________________________

(1) و يشهد على ذلك انّا سلمنا العينية في الماء القراح و لم يحدث هنا شي ء أوجب الفرق سوى الرائحة الحسنة مثلا، و مجرّد ذلك لا يوجب اختلاف الحقيقة فلو كان ماء من أوّل خلقته ذا رائحة حسنة، فلا يوجب ذلك تغاير حقيقته مع حقيقة سائر المياه، فكذلك لو عرض له الرائحة بعد ما لم يكن له. و بالجملة حديث العينية بعد تسليمها مع فقد الرائحة لا يمكن

إنكارها بمجرّد وجود الرائحة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 31

و الاحتياط يجب أن لا يترك في كل مورد كان العرق المتصاعد عين المائع ذي العرق في الذات و الحقيقة و لم يكن له وجود منحاز عن وجوده و حقيقة أجنبية عن حقيقته، و إن كان الاسم مختلفا و الآثار و الخواص أيضا متبدلة متفاوتة، لوضوح عدم الملازمة بين الاختلاف في الخواص و الآثار أيضا، و بين اختلاف حقيقة الموضوع، ألا ترى أنّ لحم الغنم الشاب له خاصية و أثر وراء خاصية لحم الغنم المسنّ مع عدم اختلاف الوجودي بينهما عرفا.

نعم لو أحرز في مورد أنّ العرق المتصاعد من شي ء يرى في العرف شيئا غير نفس ذلك الشي ء و موضوعا أجنبيا عن موضوعه، بل و إن اشتبه الحال في صدق الحقيقة السابقة عليه عرفا كان الحكم بمقتضى القاعدة هو الطهارة، و إن فرض مع ذلك اتحاد الاسم و الخاصية، و إن كان هذا الفرض في غاية البعد إن لم يكن مجرد فرض لا واقعية له هذا فافهم و تدبر.

و حاصل ما ذكرنا دعوى العينية بين العرق و ذي العرق سواء كان ذو العرق من الأشياء الجامدة أو المائعة، و الفهم العرفي المذكور و المعاملة العرفية المذكورة أيضا جعلناهما كاشفين عن العينية، إذ بدونها لا يتم المدّعى، فلو كان جهة الأمرين كون العرق فرعا للشي ء النجس و كونه أصلا للعرق مع محفوظية التعدّد في الوجود بينهما لما أمكن إثبات المدّعى به، فإنّه لو سلّمنا الغيرية فلا يمكن بمجرد كونه حاصلا و متولّدا من النجس و كون النجس منشأ له و أصلا القول بالنجاسة، فإنّ العرف يستقذر من المني و لا يستقذر من المرأة الشابة الوجيهة مع كونها

متولّدة من المني، و الشرع أيضا لا يحكم بالاجتناب عن الدود و التراب اللذين كان أصلهما عذرة مثلا، فنعلم من ذلك أنّ حكمهم بالتبعيّة و السراية في العرق ليس إلّا من باب العينيّة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 32

[في حكم الشك في الماء أنه مطلق أو مضاف]

مسألة 5: إذا شك في مائع أنّه مضاف أو مطلق فإن علم حالته السابقة أخذ بها و إلّا فلا يحكم عليه بالإطلاق و لا بالإضافة، لكن لا يرفع الحدث و الخبث و ينجس بملاقاة النجاسة إن كان قليلا و إن كان بقدر الكرّ لا ينجس لاحتمال كونه مطلقا و الأصل الطهارة».

امّا صورة ثبوت الحالة السابقة قد يقال بعدم إمكان الاستصحاب بعد أنّ المفروض كون المضاف شيئا غير الماء لا ماء مع الغير، فهذا نظير ما إذا شك في كون شي ء ماء أو حجرا، فالاستصحاب غير جار للشك في بقاء الموضوع.

و الحق أن يقال: بالفرق بين استصحاب الحكم و استصحاب الموضوع، فالأوّل لا يجري و الثاني يجري، أمّا الأوّل فللشك في بقاء الموضوع، و أمّا الثاني فبأن يجعل موضوع الاستصحاب هو المائع و يقال: هذا المائع قد كان في السابق ماء و شك في الحال في بقاء مائيته فيستصحب مائيته السابقة، و لا يرد أنّ مطلق المائع لا أثر له و إنّما هو للماء، فإنّ الموضوع في الاستصحاب لا يلزم أن يكون له أثر، بل يلزم أن يكون المستصحب ذا أثر و هو هنا كذلك، فانّ المستصحب هو المائيّة.

لكن إجراء الحالة السابقة، إنّما هو في صورة الشك في المصداق كما لو علم بأنّ إدخال مثقال من التراب في الماء لا يصيّره مضافا، و إدخال مثقالين يصيّره كذلك، و لكن اشتبه عليه أنّ هذا الماء الذي لم يكن

فيه تراب في السابق دخل فيه في اللاحق مثقال أو مثقالان، فإنّ في هذه الصورة يستصحب كون هذا المائع ماء في السابق في حالة الشك في بقاء مائيته، و أمّا لو لم يكن الشك في المصداق و لأجل الأمور الخارجية مع معلومية المفهوم و الكبرى، بل كان الشك في أصل المفهوم و الكبرى بأن كان شاكّا في صدق عنوان الماء على الموضوع الذي مزج معه مثقالان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 33

من التراب و عدمه، فحينئذ لا يمكن استصحاب كونه ماء قبل المزج، و ذلك لمعلومية الحال بحسب الخارج في كل من السابق و اللاحق و عدم الشك في شي ء منهما، فإنّه يعلم بأنّه لم يكن معه شي ء من التراب في السابق و يكون معه مثقال تراب في اللاحق.

نعم له يقين سابق و شك لاحق بحسب أمر آخر غير الواقع و هو صدق مفهوم الماء على هذا المائع، فإنّه في السابق متيقّن و في اللاحق مشكوك، لكن من المعلوم عدم ترتّب الآثار الشرعية على صرف المفهوم، فلا يكون المطهرية من الحدث و الخبث مثلا أثرا لعنوان الماء بما هو عنوان الماء مع قطع النظر عن التحقّق الخارجي، بل الأثر حقيقة ثابت لنفس المصاديق الخارجية لهذا العنوان، و قد عرفت أنّ الشك إنّما هو في مرحلة المفهوم مع عدمه بحسب مرحلة المصداق، و على هذا فيكون الحكم في هذه الصورة ما نذكر في صورة عدم الحالة السابقة رأسا من التفصيل بين الآثار و المعاملة في كل أثر على حسب الأصل الموجود في نفس هذا الأثر.

نعم لو فرض الاتحاد العرفي بين الموضوعين، بأن كان هذا الموضوع و الموضوع السابق واحدا بنظر العرف و لم يتبدّل بموضوع

آخر أمكن حينئذ استصحاب الأحكام فيقال: هذا الموضوع الشخصي كان في السابق رافعا للحدث و الخبث و بحيث ينجس قليله بالملاقاة دون كثيره، فالأصل بقاءه على تلك الأحكام فتدبّر جيدا.

و أمّا صورة عدم الحالة السابقة، فإمّا أن يكون المائع المشتبه قليلا أو يكون كثيرا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 34

فعلى الأوّل: ينجس بالملاقاة و لا يكون رافعا للحدث و مزيلا للخبث بحكم الأصل و هو استصحاب الحدث و الخبث، و أمّا الشرب لو كان مشتبها بمضاف لا يجوز شربه، فمقتضى الأصل جوازه، و لا يضر القطع بمخالفة مقتضى الأصلين من حيث الجمع للواقع ما لم يلزم من إجرائهما مخالفة قطعية عملية، و تظهر ثمرتهما فيما إذا لم يكن عند المكلّف إلّا هذا المائع و مقدار من الماء واف بالوضوء خاصة، و كان له خوف الهلاك من العطش، فإنّه يتعيّن الوضوء من الماء و يتعيّن الشرب من المائع. و لو كان المائع معلوم الإضافة في هذا الفرض كان المتعيّن شرب الماء و التيمّم.

و على الثاني: ينجس أيضا بالملاقاة بناء على جريان استصحاب عدم المانع عن تأثير المقتضى للانفعال الموجود في نفس المائع، أو جريان قاعدة المقتضى و المانع، و الأوّل مثبت مع عدم الحالة السابقة، و الثاني غير معلوم الحجية، فيكون مقتضى الأصل الطهارة، كما أنّ مقتضاه عدم رفع الحدث و عدم تطهير الخبث و جواز الشرب.

و لا يضر هنا أيضا القطع بمخالفة مقتضى الأصول من حيث الاجتماع للواقع ما لم يلزم من إجرائها مخالفة عملية، فإن لزم من إجراء الأصلين ذلك يجب طرحهما و الرجوع إلى الاحتياط.

و مثال ذلك كما إذا لم يتمكّن المكلف من ماء معلوم المائية لوضوئه، فإنّه يلزم حينئذ من إجراء أصالة

عدم رفع الحدث بهذا المائع و أصالة جواز شربه مخالفة عملية، إذ لو كان في الواقع ماء كان الوضوء به واجبا و جاز شربه. و لو كان مضافا كان الواجب هو التيمّم و لم يجز الشرب، فنقطع بالمخالفة في أحد العملين من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 35

التيمّم و الشرب، فيطرح الأصلان و يعمل بالاحتياط في كلا المقامين بالجمع بين التيمّم و الوضوء بهذا المائع و ترك الشرب منه مع فرض التمكن من شرب مضاف آخر حلال.

و كما إذا كان الساتر المنحصر نجسا مع عدم التمكّن من الماء المعلوم المائية و كون المائع المشتبه بقدر الكر، فإنّه حينئذ لو غسل الساتر بالمائع كان مقتضى استصحاب النجاسة في الساتر وجوب الصلاة عاريا، و مقتضى استصحاب الطهارة في المائع جواز شربه، مع أنّا نقطع بأنّه إمّا يجوز الشرب و يجب الصلاة مع الساتر، و إمّا لا يجوز و يجب الصلاة عاريا، فنحتاط بعد طرح الأصلين بالصلاة مع الساتر و عاريا في المقام الأوّل، و بترك الشرب في المقام الثاني.

و لا يخفى أنّه في هذا الفرض قبل الملاقاة ليس في البين أصل حتى يلزم من إجراءه مخالفة عملية، فلذا قيّدناه بما بعد الغسل.

[في حكم المضاف النجس إذا استهلك في الكر أو الجاري و حكمه إذا خرج عن الإطلاق إلى الإضافة أو انحصر الماء في مضاف مخلوط بالطين]

«مسألة 6: المضاف النجس يطهر بالتصعيد كما مر و بالاستهلاك في الكر أو الجاري».

«مسألة 7: إذا ألقي المضاف النجس في الكر فخرج عن الإطلاق إلى الإضافة، تنجّس إن صار مضافا قبل الاستهلاك، و إن حصل الاستهلاك و الإضافة دفعة لا يخلو الحكم بعد تنجّسه عن وجه، لكنّه مشكل».

«مسألة 8: إذا انحصر الماء في مضاف مخلوط بالطين إلخ».

اعلم أنّ طريق تطهير المضاف النجس منحصر في جعله متّحدا مع الماء المعتصم و فانيا فيه، ثم لا

بدّ أن يكون المراد من قوله- طال بقاه-: إن صار مضافا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 36

قبل الاستهلاك، ما إذا كان الماء بقدر الكر بلا زيادة فصار مقدار منه بإلقاء المضاف فيه مضافا ثم حصل الاستهلاك بواسطة الامتزاج مع الباقي، و أمّا حصول الإضافة في تمام أجزاء الكر أوّلا ثم حصول الاستهلاك كما هو ظاهر العبارة، فلعلّه أمر غير متصوّر، و المراد من قوله- دام عمره-: و إن حصل الاستهلاك و الإضافة دفعة، صيرورة الماء مضافا آخر، ثم في هذه الصورة الظاهر هو الحكم بالتنجّس، إذ هذا من قبيل تبديل المضاف النجس بمضاف آخر.

[نجاسة الماء المطلق بأقسامه بالتغير الحسي لا التقديري]

«مسألة 9: الماء المطلق بأقسامه حتى الجاري منه ينجس إذا تغيّر- إلى قوله-: و ان يكون التغيّر حسيا».

هنا إشكال، و هو أنّ المعروف فيما بينهم- رضوان اللّٰه عليهم- تنجّس القليل بملاقاة النجس و المتنجّس، و عدم تنجّس الكثير إلّا بالتغيّر بالنجاسة دون التغيّر بالمتنجّس، مع أنّه لو جعل الشي ء في قوله- عليه السلام-: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء إلّا ما غيّر ريحه أو طعمه. عبارة عن الأعم من النجس و المتنجّس، لزم أن يكون المراد بالموصول أيضا أعم، فيلزم أن يكون التغيّر بأوصاف المتنجّس أيضا منجسا.

فإنّ الظاهر على هذا التقدير أنّ المراد تغيير كلّ بوصفه، و لو جعل عبارة عن خصوص الأعيان النجسة لزم أن يكون مفهوم الكلام غير متعرّض إلّا لتنجّس القليل بالنجس، فيكون تنجّسه بالمتنجّس بلا دليل، و ليس في البين خبر آخر متعرّض لتنجّسه بالمتنجّس صريحا.

و يمكن أن يقال: إنّ الشي ء منصرف إلى الأعيان النجسة، و ليس المراد به ما من شأنه التنجيس و يوجّه تنجّس القليل بالمتنجّس بأنّ نجاسة الأشياء

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 1، ص: 37

المخصوصة و تأثيرها في نجاسة غيرها و إن كانت متلقاة من الشرع، و لكن طريق تأثيرها في تنجس الغير محول إلى العرف، و لا شك أنّ العرف كما يستقذر ممّا لاقى القذر بلا واسطة، كذلك يستقذر ممّا لاقاه بواسطة أو واسطتين أو أزيد و إن لم يكن في الواسطة شي ء من عين القذر.

و علّة تمام هذه الاستقذارات ملاقاة الشي ء الأوّل للقذر، لا أن يكون ملاقاة الواسطة بنفسها علّة لقذارة الملاقي، فليس المنجس إلّا نفس القذر، غاية الأمر أنّ دائرة تنجيسه واسعة تسري إلى ملاقي ملاقي ملاقيه فصاعدا.

فتنجيس النجاسات للقليل محمول على ما يراه العرف، و تنجيسها للكثير لا يحصل بحكم الشرع إلّا لظهور أحد أوصافها الثلاثة في الماء حسّا. ثم على تقدير عدم الجزم بالانصراف المذكور لا أقل من الشك، فيكون التنجيس بالتغيّر بالمتنجس بلا دليل فيصير المرجع هو الأصل.

فإن قلت: مجرّد الشك في التقييد لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق.

قلت: نعم، و لكن فيما إذا انعقد ظهور للفظ متساو الإقدام بالنسبة إلى كلا فردي معناه لا في مثل المقام مما إذا كان التبادر بالنسبة إلى أحد الفردين موجودا و شك في أنّه تبادر بدوي يزول بالتأمّل، أو أنّه تبادر صحيح، فإنّه في هذه الصورة ليس المتيقن من الدليل إلّا الفرد المتبادر و الفرد الآخر لم يعلم انعقاد أصل الظهور بالنسبة إليه.

ثم قد يقال: إنّ الأصل الجاري هنا استصحاب المانعية السابقة، أعني مانعية الكرية من الانفعال الثابتة قبل التغيّر، و قد يقال بأنّه القاعدة العقلائية و هي الجري على طبق المقتضى ما لم نقطع بوجود المانع، و هنا نقطع بوجود

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 38

المقتضي في نفس الماء و نشك

في مانعية الكر في هذا الحال، و قد ظهر مما سبق الخدشة في كليهما.

و العجب من الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- حيث إنّه مع ذهابه في الرسائل إلى عدم حجية الأصل المثبت و تأمّله في حجية القاعدة المذكورة، جعل في كتاب الطهارة الأصل في الماء هو الانفعال، مستندا إلى أنّ المستفاد من قوله- عليه السلام-:

إذا كان الماء قدر إلخ، وجود مقتضى الانفعال في نفس الماء، و كون الكرية مانعا، مع وضوح أنّه لا يتم إلّا على القول بالأصل المثبت أو حجية القاعدة المذكورة.

و كيف كان فالحق أنّ الأصل في المقام هو استصحاب الطهارة.

قوله- دام علاه-: «و أن يكون التغيّر حسيا إلى مسألة 12».

لا إشكال في التنجّس فيما إذا تغيّر وصف الماء الأصلي، سواء كان طبيعيا نوعيا أم صنفيّا بوصف النجاسة كذلك، و ذلك لا محالة يكون فيما إذا كان وصفاهما متخالفان، فيحصل الكسر و الانكسار بينهما بحسب النظر المسامحي العرفي، فيضمحل المقهور في جنب القاهر، و هذا هو المتيقن من الأخبار.

كما أنّه لا إشكال في عدم التنجّس لو لم يتغيّر كذلك، أي الوصف الأصلي للماء بالوصف الأصلي للنجس إمّا لفقد الوصف رأسا، و إمّا لاقتضاء الهواء، و إمّا لتوافق الوصفين. فلو كان لون الماء بحسب صنفه أحمر و وقع فيه الدم بحيث لو وقع في الماء المتلوّن باللون النوعي لغيّره لم يتنجس، و لو وقع في الماء المذكور بول فتبدّل حمرته بالبياض و الصفاء، بحيث لو وقع في الماء الباقي على لون نوعه لما غيّره تنجس، و تقدير التغيّر في الصورة الأولى و عدمه في الصورة الثانية لا يساعد عليه الدليل، و هذا مما لا كلام فيه ظاهرا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 39

إنّما الكلام و

الإشكال في فرع، وقع فيه التشاجر بين جمع من الأعلام، و بين الشيخ المحقق المرتضى- قدس أسرارهم-، و هو ما إذا تغيّر لون الماء بشي ء طاهر يوافق لونه لون النجس، ثم وقع فيه النجس و لم يظهر بسبب ذلك تغيير في الماء بحيث لو لم يتغيّر أولا بالطاهر لظهر التغيّر، كما في مقدار من الدم مع شي ء طاهر أحمر لو وقع الدم أوّلا تغيّر الماء بالدم، و لو وقع الطاهر أوّلا تغيّر بالطاهر.

فقطع بالنجاسة جمع من الأعلام مستندين إلى أنّ التغيّر التقديري معتبر هنا عند العرف، بل صرّح بعضهم بأنّ التغيّر هنا تحقيقي، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ، فالماء عند العرف واجد للونين، أحدهما ظاهر و حاجب للآخر عن الحس، و يكشف عنه أنّه لو أزيل اللون العارضي بعلاج كان لون الدم مثلا محسوسا في الماء.

و خالفهم الشيخ المرتضى- قدّس سرّه-، مستندا إلى أنّ التغيّر المجعول مناطا في الأخبار هو الفعلي، فلا اعتبار بالتقديري بجميع أقسامه، و اللون المكتسب للماء لا يعقل أن يتغيّر بمماثله، ألا ترى أنّ اللبن لا يصير أشدّ بياضا بوقوع اللبن فيه، و اللون الأصلي مفروض الزوال لعدم معقولية اجتماع لونين في جسم واحد.

و بعبارة أخرى انتقال العرض و إن كان محالا فاللون المائي قائم بأجزاء الماء الغير المدركة بالحس و اللون البقّمي أيضا قائم بأجزاء البقم المنتشرة، و كذا لون الدم بالأجزاء الصغار، إلّا أنّ هذا بحسب الدقة العقلية، و أمّا بحسب النظر المسامحي العرفي فعين البقّم و الدم صار فانيا مضمحلّا كما هو موضوع البحث في باب التغيّر، و الباقي إنّما هو الماء و لكن تخلّف لون البقّم و الدم فيه و زوال لون نفسه

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 1، ص: 40

بالانكسار. فعلى هذا النظر الذي هو المتبع شرعا، لون الماء الثابت له فعلا هو الحمرة و لا يعقل تأثير الحمرة في الحمرة.

هذا و لكنّه مخدوشة، مضافا إلى استبعاد أن يصير حال الماء في النجاسة و الطهارة متفاوتا بمجرّد كون الواقع فيه أوّلا هو الدم أو البقّم، بأن لازم هذا القول اعتبار الوصف العارضي في طرف النجس أيضا، لوضوح عدم الفرق بينه و بين الماء فيلزم أن يكون الماء متنجّسا إذا تغيّر ريحه بريح المسك القائم بالنجاسة، إذ حال هذا الريح بعينه حال ذلك اللون المكتسب من البقّم. فكما جعل الثاني ميزانا في جانب الماء، يلزم أن يكون الأوّل أيضا ميزانا في جانب النجس، لوضوح كون لسان الدليل في وصف النجس و الماء على نسق واحد، و لا يلتزم بذلك اللازم أحد. و القطع حاصل بعدم إرادة هذا القسم من التغيّر في الأخبار، بل هي منصرفة عنه، فإذا تحقق ذلك لزم عدم إرادة التعميم في جانب وصف الماء للوصف العرضي أيضا، لما ذكر من اتّحاد لسان الدليل في المقامين.

و حينئذ إمّا أن تكون تلك الصور، أعني: صور حصول التغيّر في الوصف العرضي للماء أو بالوصف العرضي للنجاسة خارجة من تحت مفاد الأخبار، و بعبارة أخرى تكون الأخبار غير متعرضة لحكم هذه الصور رأسا، و إمّا أن تكون داخلة في مفادها و تكون الأخبار متعرّضة لحكمها، و الأوّل منتف قطعا، إذ يلزم عليه أن لا يكون حكم ما إذا تبدّل لون الماء المتغيّر بالبقم مثلا بالصفرة بواسطة الدم مستفاد من الأخبار. و هذا ممّا لا يتفوّه به أحد فيتعيّن الثاني: و هو أن تكون الأخبار متعرضة لبيان الحكم في تلك الصور أيضا، و لا

شك أنّ الجمع بين هذا و بين ما فرضناه من كون الوصف العرضي في كلا الطرفين ملغى في باب التغيّر لا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 41

يحصل إلّا بجعل المناط و الميزان في التغيّر و عدمه هو تغيّر اللون الذاتي للماء المكنون فيه المستور عن النظر و عدم تغيّره.

فلو كان وقوع النجاسة بحيث أوجب تغيّر هذا اللون المكنون تنجّس الماء و إن منع من ظهور التغيّر غلبة اللون العرضي على الذاتي، و إن كان بحيث لم يوجب ذلك لم يتنجس، و إن فرض التغيّر في الوصف العرضي كما لو وقع في الماء المتلوّن بلون البقّم بول فصار صافيا، و كذلك الكلام في طرف النجس، و ذلك بأن يفرض الوصف العرضي معدوما، و يلاحظ في طرف هذا الفرض أنّ وصفها الذاتي المكنون هل هو موجب لتغيّر الماء أو لا، فيحكم بالنجاسة على الأوّل و إن كان الوصف العرضي مانعا عن ظهور التغيّر، و بالطهارة على الثاني و إن كان بوصفه العرضي مغيّرا.

و الحاصل أنّ التغيير و عدمه في جانب النجس، و التغيّر و عدمه في جانب الماء يلحظان بالنسبة إلى الوصف المكنون دون الوصف العرضي.

فبعد هذه المقدّمات يكون اعتبار التقدير في تلك الصور من باب الإلجاء، أو نقول بأنّ العرف كما يرى بنظره المسامحي عين النجاسة بعد وقوعه في الماء فانيا منعدما و لونه منتقلا إلى الماء، كذلك يرى للماء في آن واحد لونين أحدهما ظاهر و الآخر مستور، فالماء المتلوّن بالبقّم يكون له لونان عند العرف، غاية الأمر أنّ أحدهما مستور بالآخر، فالتغيّر ملحوظ على وجه التحقيق في لونه المستور.

و كذا النجاسة التي طرأ عليها رائحة المسك لها رائحتان، ريح عفن و هو مكنون

فيه، و ريح حسن فيكون التغيير ملحوظا تحقيقا في ريحه الأوّل.

و يشهد لذلك أنّه لو جزّي أجزاء البقم من أجزاء الماء بآلة فظهر لونه الذاتي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 42

يحكم العرف بأنّ هذا عين اللون الذي كان ثابتا قبل وقوع البقم فيه.

ثم إنّ الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- أيضا معترف بعدم الاعتبار بالصفات العارضة لا في طرف النجاسة و لا في طرف الماء. و لهذا ذكر في جواب الاستدلال على النجاسة في المقام بأنّ الصفات العارضة لا تكون معتبرة في النجاسة، فكذلك لا بد أن لا تكون معتبرة في الماء، لدلالة الإضافة على اعتبار الحيثية في الموضعين ما حاصله: أنّ الصفات العارضة و إن كانت غير معتبرة في الموضعين لدلالة الإضافة على اعتبار الحيثية، إلّا أنّ ذلك لا يوجب انفعال هذا الماء، أعني: المصبوغ بطاهر أحمر الواقع فيه الدم، بل يوجب خروجه عن مورد أخبار التغيّر لاختصاص موردها بما إذا غيّر النجاسة بوصفها الأصلي الماء عن وصفه الأصلي، و المفروض انتفائه في المقام فيرجع إلى أصالة الطهارة.

أقول: هذا الاعتراف منه- قدّس سرّه- مناف لما ذكره قبل ذلك من أنّ الماء الذي صار أحمر بالعرض إذا وقع فيه عين النجاسة فصار ماء صافيا، فالأظهر نجاسته، لأنّ هذا الصفاء صفاء النجاسة كالبول، لوضوح أنّ هذا التغيّر في الماء إنّما هو بوصفه العارضي دون الأصلي، فلا بد أن لا يكون موجبا للنجاسة بمقتضى هذا الاعتراف.

و أيضا مقتضى ما ذكره من خروج هذه الموارد عن مورد الأخبار و كون المرجع فيها أصالة الطهارة: أنّه لو تغير لون هذا الماء بالصفرة بواسطة النجاسة لم ينجس، لفرض أنّ الوصف الذي كان قائما بالماء و تبدّل بالصفرة وصف عرضي، و هذا

ممّا لا يلتزم به أحد، فالإنصاف أنّ تلك الموارد مشمولة لأخبار التغيّر، بأن يكون المناط هو الوصف الأصلي المستور، و ذلك لما ذكرنا من أنّ العرف يرى الماء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 43

المذكور متصفا بلونين فعليين، و لهذا لو أخرج من الماء الأجزاء البقّمية مثلا يقال ظهر لون الماء.

و كذا الكلام في طرف النجاسة، فالماء الذي غلب عليه ريح المسك بواسطة امتزاجه مع النجس كذلك لو زال عنه ريح المسك و صار عفنا يقال: هذه العفونة قد منع من ظهورها إلى الآن ريح المسك، فلمّا زال ظهرت. و لا يقال: قد حدثت العفونة. كما لا يقال في المثال السابق: قد حدث لون الماء.

فالحاصل: أنّ المناط تغيّر هذا الوصف الأصلي الذي هو مخفي في المادة بنظر العرف، و عدم تغيّره في طرف الماء، و تغييره و عدم تغييره في طرف النجاسة.

و هذا بخلاف ما إذا كان اللون الموافق للون النجاسة كالحمرة خلقيا أصليا بحسب صنف الماء، فإنّ هذا اللون مانع من أصل تحقّق التغيّر لا عن ظهوره، إذ ليس للماء غيره لون آخر لا ظاهرا و لا باطنا، و هو أيضا موافق للون النجاسة، و لهذا لو زالت حمرته الأصلية و صار صافيا يقال: قد تجدّد له الصفاء. و لا يقال: ظهر صفاؤه، و بالجملة: الفارق نظر العرف.

ثم إنّ تغيّر النجاسة أحد الأوصاف الثلاثة للماء يكون على أقسام الأوّل: أن يكون الظاهر في الماء عين وصف النجاسة و هذا هو المتيقّن من الأخبار.

و الثاني: أن يكون مرتبة ضعيفة منه، كما لو أوجب وقوع الدم صفرة الماء، و الظاهر شمول الأخبار لهذا أيضا.

و الثالث: أن يحصل من امتزاج عين النجاسة في الماء وصف ثالث، إمّا

بالكسر و الانكسار كما في حصول الخضرة من امتزاج الزرقة مع الصفرة. و إمّا بسبب تفاوت لون النجاسة قبل الرطوبة و بعدها كما في الحناء، حيث إنّه قبل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 44

الرطوبة أخضر و بعده أحمر.

و يمكن التمسّك بسببية هذا القسم للنجاسة بالإطلاقات، لصدق مفهوم التغيّر عليه، و دعوى انصرافه إلى ما إذا حدث في الماء وصف النجاسة لغلبة هذا و ندرة صورة حدوث الوصف الثالث ممنوعة، لعدم كون الغلبة في الوجود منشأ للانصراف ما لم يكن في البين انس ذهني بين اللفظ و الفرد الشائع.

و أمّا تقييد الإطلاقات بالأخبار المشتملة على التغيّر بوصف النجاسة- مثل قوله- عليه السلام- في جواب السؤال من التوضؤ بالماء الراكد الغدير الذي تكون فيه الجيفة: نعم توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب على الماء الريح فينتن. و قوله- عليه السلام- في الماء الراكد من البئر: فما لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة. قلت: فما التغيّر؟

قال: الصفرة، فتوضأ منه و كلّما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر. الخبر- فغير صحيح، لأنّ الغالب في الجيفة أن لا يحدث في الماء ريحا و لونا ثالثا. و القيد بمجرّد احتمال كونه واردا مورد الغالب يسقط عن صلاحية تقييد المطلق.

هذا كلّه فيما إذا كان تأثير النجاسة في الماء بوصفها بحيث كان لوصفها مدخلية في التأثير.

و أمّا لو كان التأثر بالخاصية الثابتة لمادتها و جسمها بأن يكون التغيّر من خواص جسم النجاسة بأيّ لون تلوّن، فالظاهر عدم إيجابه للنجاسة، لانصراف الإطلاقات عنه و إن حدث بسببه عين وصف النجاسة في الماء.

ثمّ إنّه لا بد و أن يحصل التغيّر بالملاقاة دون المجاورة، و ذلك لأنّ التغيّر و إن كان يصدق على

الحاصل بالمجاورة، و لذا لو كان في الأخبار قضية مبتدئة، مثل قولنا: إذا تغيّر الماء ينجس لزم الحكم بالنجاسة بسبب التغيّر بالمجاورة، إلّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 45

أنّ التغيير وقع في الأخبار على وجه الاستثناء عقيب ما يكون ظاهرا في الملاقاة، مثل قوله: لا ينجسه شي ء إلّا إذا غيّر إلخ. فيكون الكلام في قوة أن يقال: لا ينجس بالملاقاة إلّا إذا تغيّر، فكما أنّ الثاني مفيد لحصول التغيّر بالملاقاة، فكذا ما هو في قوته.

[في حكم الحوض المتنجس]

«مسألة 13: لو تغيّر طرف من الحوض مثلا ينجس و إن كان الباقي- إلى قوله:- مسألة 14».

أمّا تنجّس الطرف المتغيّر فظاهر، و كذا عدم تنجّس الطرف الغير المتغيّر إذا كان بقدر الكر، و أمّا تنجسه إذا كان قليلا، فقد يستشكل بأنّ أجزاء الماء كما مر يتّصل بعضها ببعض و ليس بينها ملاقاة، فتنجّس جزء لا يوجب تنجّس تاليه. أمّا ملاقاة عين النجاسة فالمفروض أنّها غير مؤثّرة في الكر، فقبل اضمحلال العين لم يكن في البين موجب للنجاسة، و بعده صار الطرف المتغيّر نجسا، و ليس بالنسبة إلى الباقي إلّا الاتصال بهذا المتنجس و هو أيضا غير منجس إلّا أن يقال: إنّ التغير صار سببا لامتياز المتغيّر عن غيره و كونهما وجودين مستقلّين و بذلك تحصل الملاقاة بينهما.

في لزوم امتزاج الماء العاصم بالماء المتنجس عند تطهيره أو كفاية مجرد الاتصال و كيف كان، فإذا كان الباقي بقدر الكر و زال التغيّر فهل يلزم الامتزاج بالباقي في تطهيره أو يكفي مجرّد اتّصاله به؟

فنقول: هذا ممّا وقع فيه التشاجر بين الأعلام من قديم الأيام، و حاصله أنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 46

يكفي في تطهير الماء المتنجس اتّصاله بماء عاصم، أو

لا بد من المزج؟ تمسّكوا للأوّل بوجوه:

منها: الأصل، أعني أصالة عدم وجوب المزج، و فيه أنّ الأصل هو النجاسة.

و منها: عمومات مطهرية الماء بقول مطلق أو خصوص المعتصم منه كماء المطر و ماء النهر «1».

منها: قوله- عليه السلام- في رواية السكوني: الماء يطهّر و لا يطهر «2». و فيه: أنّها متعرضة لبيان أصل حصول التطهير بالماء في قبال عدم حصوله بغيره من غير تعرّض لكيفية التطهير، و أنه يكون في المياه بمجرّد الاتصال أو بالامتزاج.

منها: قوله- عليه السلام-: «ماء الحمام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا» «3» حيث يدلّ بإطلاقه على أن كل بعض من ماء النهر يطهّر كل بعض منه إذا تنجّس، و هذا يشمل لما إذا كان البعض المتنجّس مؤخّرا عن تمام أبعاض الماء و متصلا بالمادة، فإذا زال تغيّره فيكفي اتّصاله بالأبعاض التي تكون جارية أمامه بمقتضى هذه الرواية مع عدم امتزاج تلك الأبعاض بهذا البعض، بل يكون دائما متصلة به.

و فيه: أنّ هذه الرواية تكون بصدد بيان العاصمية، يعني أنّ ماء الحمام كماء النهر يعصم و يحفظ بعضه بعضا و يمنع من تنجّسه بمجرد الملاقاة، فهي تكون

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 107 و 108.

(2)- المصدر نفسه: ج 1 ص 99، ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ج 1 ص 112، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 47

بصدد الدفع لا الرفع.

و منها: و هو عمدة ما استدل به في هذا الباب: قوله- عليه السلام- في صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه فينزح حتى يذهب الريح و يطيب الطعم، لأنّ له مادة» «1» بناء على ما تقدم اختياره من رجوع التعليل إلى جميع الفقرات، أعني

إلى قوله: ماء البئر واسع أصالة و إلى الباقي تبعا، لكونها من متفرّعات الأوّل، فما يكون علّة له يكون علة لها، فإنّه يستفاد من قوله- عليه السلام-: حتى يذهب الريح أنّ المقصود الأصلي من النزح ذهاب الريح و طيب الطعم، و بعبارة أخرى زوال التغيّر، و أمّا النزح فليس مطلوبا إلّا للمقدمية لذلك، و تخصيص هذا الفرد بالذكر لكونه الغالب المتعارف في البئر، فإنّ زوال تغيّر البئر و إن كان ممكنا بشي ء آخر كهبوب الريح و إلقاء الكر و إرسال الجاري، إلّا أنّ الأوّل في غاية الندرة في مثل البئر، و الأخيران يكونان بعد إمكان النزح كالأكل من القفا، فلما كان النزح أسهل أسباب زوال التغيّر في البئر و أغلبه خصّ بالذكر، فلا يرد أنّه لو كان المراد مجرّد زوال التغيّر لكان حقّ العبارة أن يقال: فيطهر بزوال التغيّر.

و بالجملة فيكون الحاصل من الرواية: أنّ ماء البئر لا ينجس أبدأ بشي ء من النجاسات إلّا إذا تغيّر، فإذا زال تغيّره الذي كان سببا لنجاسته عاد إلى طهارته، و علّة ذلك كلّه أنّ له مادة، و بعد وضوح أنّ خصوص المادة غير دخيل و إنّما الدخيل هو الاتصال بالماء العاصم، يفيد أنّ كل ماء متّصل بالماء العاصم حكمه ما ذكر.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 127، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 48

و فيه: أنّ ما ذكر احتمال في معنى الرواية، بأن تكون كلمة «حتى» تعليلية أو انتهائية داخلة على العلّة الغائية، كما في قول القائل: كرر النظر في العبارة إلى أن تفهمها، مع احتمال أن يكون لخصوص النزح أيضا مدخل و ليس مدخليته إلّا لأجل كونه سببا لنبع ماء جديد من المادة و صيرورته ممزّجا مع

المتغيّر، فيدل على هذا على اعتبار الامتزاج، و الانصاف تساوي الاحتمالين، فتكون الرواية من هذه الجهة مجملة فتسقط عن الاستدلال.

و منها: قوله- عليه السلام- في مرسلة الكاهلي: كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «1». و قول أبي جعفر- عليه السلام- فيما أرسله في أوّل المختلف عن بعض العلماء، عن أبي جعفر- عليه السلام- مشيرا إلى غدير من الماء: إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهره «2»، فإنّ الرؤية و الإصابة و إن كانا لا يصدقان في الأجسام الجامدة إلّا بالنسبة إلى خصوص ما رآه المطر، و ما أصابه الكر دون ما لم يره و لم يصبه من أجزائها، إلّا أنّها في المائعات على خلاف ذلك، فإذا تحقق رؤية المطر بالنسبة إلى جزء من الماء يصدق بالنسبة إلى تمام أجزائه أنّه رآه المطر.

و بعبارة أخرى: أنّ التطهير حاله حال التنجيس، فكما أنّ الثاني يسري في المائعات إلى تمام الأجزاء، فكذا الأوّل، و سرّ ذلك أنّ العرف يستبعد في الأجسام الجامدة أن يكون المؤثر في بعض منها مؤثرا في تمام أبعاضها تنجيسا و تطهيرا، و أمّا في المائعات فيرى التأثير في جميع أجزائها لما يلاقي جزء منها، و لهذا يستقذر من جميع ما في الآنية من المائع إذا وقع فيه قذر، غاية الأمر أنّ الشارع خطّأه في تحديد

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 109 ح 5.

(2)- المختلف للعلّامة الحلّي ص 3. المستدرك: ج 1 ص 198، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 49

القلّة و الكثرة. و حينئذ فنأخذ بإطلاق الدليل بالنسبة إلى ما لا يستبعده العرف و هو تأثّر المائع بتمامه نجاسة و طهارة بحصول سببهما في جزء منه، و يكون منصرفا عمّا يستبعده من

تأثر الأجسام الجامدة بذلك، فهذا نظير دليل نجاسة الماء القليل، حيث نقول بانصرافه عمّا إذا كان القليل جاريا من العالي إلى السافل بالنسبة إلى غير الجزء الوارد على النجس، لاستبعاد العرف تأثّر الباقي.

و فيه: منع صدق الرؤية و الإصابة في المائعات أيضا بالنسبة إلى غير ما رآه المطر و أصابه الكر، فإنّا لو فرضنا ماء متنجّسا مستطيلا بقدر فرسخ أو أزيد فنزل المطر على أحد طرفيه لا يصدق على الطرف الآخر أنّ هذا قد رآه المطر. و كذا الكلام في الإصابة، و حينئذ فمقتضى استصحاب النجاسة في الماء، عدم الاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

و أمّا الاكتفاء بالمزج فتدل عليه هذه الأخبار، أعني روايات البئر و المطر و الغدير، للقطع بصدق الرؤية، و الإصابة بعد الامتزاج بالنسبة إلى تمام أجزاء الماء عرفا، و لكن لا بدّ أن يكون المزج بالكر بحيث لم يحصل الفصل بين أجزائه بالماء النجس ليصدق اصابة الكر عرفا بالنسبة إلى كلّ جزء، و ذلك بأن يمزج الكر بالماء النجس شيئا فشيئا بحيث صار المطهر كرا و قطرة، ثم كرا و قطرتين، ثم كرا و ثلاثة قطرات و هكذا.

ثم لو قلنا بانصراف الروايتين عن الماء و كونهما في مقام بيان تطهير سائر الأشياء بالمطر و الكر فحينئذ و إن كان مقتضى الأصل عدم كفاية الامتزاج أيضا، إلّا أنّ الإجماع واقع على نفي اعتبار ما وراء الامتزاج في تطهير الماء، لأنّ العلماء- رضوان اللّٰه عليهم- بين قائل بكفاية الاتصال، و قائل بلزوم المزج، فاعتبار الزائد منفي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 50

بالإجماع المركّب، و أيضا الإجماع واقع بسيطا على أنّ الماء الواحد محكوم بحكم واحد إمّا بالطهارة أو بالنجاسة، و القدر المتيقّن من مورده ما

إذا اتّحد الماءان بحيث لم يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما، بأن حصل الاختلاط التام بين أجزائهما، لا ما إذا أمكن الإشارة بأن يقال: هذا الطرف من الحوض كذا، و أمكن اختلافهما في الصفات، ككون أحدهما في اليمين و الآخر في اليسار و نحو ذلك.

و حينئذ: فإذا اختلط الماء العاصم بالماء النجس فلا بدّ إمّا من الحكم بنجاسة الجميع أو بطهارة الجميع، و الأوّل مخالف لأدلة عدم انفعال الكر و المطر، فيتعين الثاني، فإنّه إذا ثبت الإجماع على الملازمة بين الشيئين في الحكم و علم الحكم في أحدهما بالدليل فلا بدّ من إلحاق الآخر به بحكم الإجماع المذكور.

[في حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة و لم يتغير إلا بعد مدة]
اشارة

«مسألة 14: إذا وقع النجس في الماء فلم يتغيّر ثم تغير بعد مدة- إلى قوله:- فصل».

لا بد أوّلا من تأسيس القاعدة في مورد الشك في انفعال الماء بقول مطلق و عدمه.

فنقول: قد تكون الشبهة مصداقية و قد تكون حكمية، و المعيار في الأولى أن يكون منشؤها أمورا خارجية بعد تلقّي الكليات من الشارع بدون شك في شي ء منها. و بعبارة أخرى: ما ليس وظيفة رفعها بيد الشارع، و لو رفعها كأن سئل من الإمام- عليه السلام-: هذا الذي نشك في خمريته و مائيته لظلمة أو عمى أو غيرهما ما ذا؟ فقال: خمر أو ماء، فإنّ هذا ليس من جهة شارعيته و إنّما هو لكونه عالما بالغيب أو ملتفتا بحسب الفطرة البشرية.

و معيار الثانية أن يكون منشؤها إجمال النص، أو عدم النص، أو تعارض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 51

الدليلين و كان رفعها من وظيفة الشارع بما هو شارع، و هذا على قسمين قد يكون المشكوك هو الحكم في موضوع معيّن، و قد يكون الشك في موضوع الحكم

المعيّن، بأن يكون مفهومه مجملا عندنا.

و بالجملة: فكما أنّ المسئول في سؤال: ما حكم هذا الموضوع الكلّي هو الشارع، كذا المسئول في سؤال ما أردت من قولك الخمر حكمه كذا أو الغناء حكمه كذا أيضا، يكون هو الشارع، إذ في تعيين مراد الشارع من كلامه لا نرجع إلّا إليه، فإن كان الشبهة في المقام من القسم الأوّل كما لو شكّ في كم الماء المعيّن و بلوغه حدّ الكر بعد الفراغ عن تحديد الكر، فلا إشكال لو كان للماء حالة سابقة، فيستصحب الكرية إن كانت هي الحالة السابقة، و القلّة كذلك.

و إنّما الكلام فيما إذا لم يكن في البين حالة سابقة، فإنّه مبنيّ على أنّ التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية جائز أو لا؟ و المشهور عدم جوازه، و بيانه موكول إلى الأصول، فإن قلنا بعدم الجواز، فلا محيص عن الرجوع إلى الأصل، و العام في المقام قوله- عليه السلام-: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» بعد ملاحظة تقييده بالكر بأدلّة الكر، فنشك في كرية هذا الفرد المعيّن من الماء.

فعلى القول المذكور لا يرفع هذا الشك العام المذكور و لا الخاص، فيرجع في رفعه إلى الأصل، و هل هو الانفعال بقاعدة الاستصحاب أو بقاعدة المقتضى و المانع كما يقوله الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- أو هو الطهارة فيحكم بترتّب كل ما هو من آثار الطهارة كطهارة الثوب المتنجّس المغسول بهذا الماء بطريق الصب، لا بما هو من آثار الكرية كطهارة هذا الثوب إذا كان الغسل بإدخاله في الماء؟ سيأتي بيانه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 52

و إن كانت الشبهة من القسم الثاني كما لو شك في تعيين مقدار الكر

بحسب المفهوم و انّ الميزان هو الأرطال العراقية أو المدنية أو المكية، أو نشك في أنّ التغيير الذي هو منجس للكر مخصوص بما إذا كان حاصلا بالملاقاة بحيث كان الملاقاة هو المؤثر التام، أو يكفي مجرّد دخلها في التأثير، بحيث لو حصل التغيّر من المجموع من الملاقاة و المجاورة، بحيث كان كل منهما منفردا قاصرا عن التأثير كان منجسا، كما لو وقع بعض الجيفة في الماء و كان بعضه خارج الماء و علم استناد التغيّر إلى مجموع الداخل و الخارج و بعبارة أخرى نشك في مراد الشارع من قوله:

ينجس الكر إذا تغيّر بسبب الملاقاة، فهل المراد هو السبب التام أو الأعم منه و من جزء السبب فالمرجع في رفعه هو الشارع.

كما أنّ المشكوك في المثال الأوّل هو مراده من قوله: إذا كان الماء قدر كر ففي هذه الشبهة لا بدّ أوّلا من الرجوع إلى الدليل الاجتهادي، و بعد اليأس منه نرجع إلى الأصل، بخلاف سابقتها، إذ فيها نرجع إلى الأصل من أوّل الأمر.

فنقول: إذا كان لنا عام مستقر الظهور في العموم و صحيح السند كان حجّة بمقتضى حجية الظواهر المعتبرة السند فيجب العمل بعموم هذا العام إلّا في المقدار الذي علم بوجود الدليل الأقوى من العام فيه على الخلاف.

فلو ورد الحكم المخالف للعام بدليل منفصل كما لو ورد بعد أكرم العلماء:

لا تكرم الفساق، و كان هذا الدليل المنفصل مجملا و مردّدا بين الأقل و الأكثر، كما لو شكّ في مفهوم الفاسق أنّه خصوص من ارتكب الكبيرة، أو الأعم منه و من مرتكب الصغيرة، فحينئذ فالمقدار المتيقن الذي دلّ عليه هذا الدليل المنفصل الأقوى هو خروج المرتكب للكبيرة، و أمّا المرتكب للصغيرة فعلى الوجوب فيه قام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 53

الحجة الشرعية و هو عموم العام بلا معارض، لقصور دلالة الخاص بالنسبة إليه، لكونه مجملا.

فالخاص بالنسبة إليه ليس بحجة، و قد فرض كون العام حجة بالنسبة إليه، و لا تعارض بين الحجة و اللاحجة بل نرجع في هذا الفرد إلى العموم و نرفع بهذا الإجمال عن الخاص فيقال: مرتكب الصغيرة واجب الإكرام و ليس كل فاسق بواجب الإكرام، فينتج أنّ هذا ليس بفاسق.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المنفصل مخالفا للعام في الإيجاب و السلب كالمثال المذكور، أو كان موافقا له كما لو قال بعد أكرم العلماء: أكرم العدول من العلماء، فإنّ العموم بالنسبة إلى جميع أفراد العالم موضوع للحجيّة، فيجب الأخذ به إلى أن يظهر الحجة الأقوى، و الدليل المنفصل جعل موضوع العام محدودا، لكن نشك في أنّ مفهوم العادل من لم يرتكب الذنب أصلا، أو أنّ ارتكاب الصغيرة غير مضرّ، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة و الصغيرة الحجة الأقوى موجودة، و بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فقط العموم حجة بلا معارض، و بذلك يحكم بأنّ المراد بالعدول من لم يرتكب الكبيرة و إن ارتكب الصغيرة.

و هذا بخلاف ما إذا كان ما يدل على الخلاف متصلا بالكلام المشتمل على العموم كما لو قال: أكرم العلماء إلّا الفساق فإنّ المجموع حينئذ كلام واحد، و لا يستقر الظهور للكلام الواحد إلّا بعد تمامية جميع ما يتعلق به من القيود، فإذا كان في بعض القيود إجمال صار هذا الكلام الواحد مجملا، فلا يكون من باب التعارض بين الدليلين و الحجّتين بأن يقال: مقتضى عموم العلماء وجوب إكرام كل عالم، و قوله: إلّا الفساق، ليس ناصا إلّا في إخراج مرتكب الكبيرة،

فيبقى غيره

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 54

تحت العموم، و ذلك لأنّه لم يستقر بعد ظهور للعموم حتى يكون حجة و يجب الأخذ به إلى أن يظهر المخصص، بل ينتزع من المجموع ظهور واحد، فإذا كان في بعض أجزاء المجموع إجمال يسري الإجمال إلى هذا الظهور، فلا محيص في مورد الشك من الرجوع إلى الأصل.

فنقول في المقام: العام هو قوله- عليه السلام-: خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه، فهذا الخبر بعد الفراغ عن سنده يكون حجة لنا على الطهارة و عدم الانفعال في كل ماء سواء كان قليلا أم كثيرا.

و قوله: «إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه شي ء» بعد الشك في مفهوم الكر، و أنّه الماء الذي يكون كمّه عشرين منا أو ثلاثين أو أربعين مثلا، لا دلالة له و لا لسان إلّا بالنسبة إلى خصوص ما دون العشرين، بمعنى أنّه لا يثبت الحكم المخالف للعام بملاحظة منطوقه، حيث إنّه محدّد لموضوع العام، أو بمفهومه إلّا في خصوص هذا الفرد، و أمّا بالنسبة إلى بالغ العشرين إلى الأربعين، لا دلالة و لا لسان له لفرض إجماله، و قد فرضنا ثبوت الدلالة و الظهور للعام بالنسبة إلى جميع المراتب فيكون العموم في هذه الأفراد حجة بلا معارض.

فتحصل: أنّ الشبهة في كم الكر الذي هو المثال الأوّل من المثالين الذين ذكرناهما للشبهة الحكمية في المقام يتعيّن الرجوع في رفعها إلى الدليل الاجتهادي و هو عموم خلق اللّٰه إلخ، و لا نحتاج فيه إلى الأصل العملي بل نرفع إجمال الخاصّ أيضا بذلك، و نقول: إنّ البالغ العشرين إلى الأربعين لا ينجس بعموم خلق اللّٰه إلخ، و كل

ما ينقص عن الكر ينجس فينتج أنّ بالغ العشرين فصاعدا ليس ناقصا عن الكر، فيكون حدّ الكر هو العشرين منّا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 55

و يمكن الخدشة فيه بأنّ المقام ليس من قبيل العام و الخاص، بل هو من قبيل المتباينين، فإنّ مفاد قوله- عليه السلام-: خلق اللّٰه الماء طهورا على ما هو الظاهر من كون قوله: لا ينجسه شي ء من لوازم الطهوريّة لا شيئا مستقلا، فيكون بمنزلة قولنا: خلق اللّٰه الماء بحيث لا ينجسه شي ء، هو: أنّ عدم الانفعال وصف مخلوقي جبلي للماء، و أنّ المحتاج إلى العلّة هو الانفعال، و هذا مخالف لمفاد قوله- عليه السلام-:

الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه شي ء، حيث إنّ ظاهره أنّ الماء بحسب ذاته ليس عاصما بنفسه عن النجاسة، بل هو في نفسه منفعل و يحتاج عدم انفعاله إلى الكرية، و حينئذ فلا بدّ من طرح الدليلين و الرجوع إلى الأصل، اللّٰهمّ إلّا أن يقال:

إنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو جعل في أدلّة الكر عصمة الماء منوطة بشي ء أجنبي عن الماء و ليس كذلك، لإناطتها العصمة على الكرية و هي ليس شيئا ما وراء الماء، بل هو كمّ قائم بنفس الماء، فالماء الخاص بخصوصيّة الكم الخاص قد اجتمع فيه المقتضى و المانع، فمن حيث المائية مشتمل على المقتضى، و من حيث الخصوصية مشتمل على المانع.

و الحاصل: أنّه يصدق بعد التقييد بأدلة الكر أنّ عدم الانفعال وصف جبلي للماء، غاية الأمر لا لكلّ ماء، بل لماء خاص، فتكون النسبة هو العموم و الخصوص دون التباين هذا في المثال الأوّل.

و أمّا المثال الثاني: أعني ما إذا شكّ في أنّ سببية الملاقاة للتغيّر لا بدّ و أن تكون على

وجه الاستقلال أو تكفي على غير هذا الوجه أيضا، فلا يمكن فيه الرجوع إلى عموم خلق اللّٰه إلخ، إذا المفروض أنّ الدليل المشكوك، أعني دليل التغيّر وقع عقيب هذا الكلام متصلا به و استثناء منه، فيسري الإجمال منه إلى العموم كما تقدم بيانه فيتعيّن فيه الرجوع إلى الأصل العملي.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 56

بقي الكلام في أنّ الأصل في المقام في الشبهات المصداقية عند عدم الحالة السابقة، و في الشبهات المفهومية عند عدم الدليل ما ذا؟

فنقول و على اللّٰه التوكل ليعلم أوّلا أنّ الشك في كرية الماء المعيّن المعلوم الكم المسبب عن الشك في مفهوم الكر، يكون على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يعلم أنّ الماء كان في السابق أقل من عشرين منّا فصار الآن بالغا إلى العشرين.

الثاني: أن يعلم أنّه كان سابقا بقدر الأربعين الذي هو المتيقّن من الكر فصار الآن بقدر العشرين.

الثالث: أن يعلم كونه بقدر العشرين في الحال و لم يكن له حالة سابقة بأن يكون موجودا دفعة، أو كان له و لم يعلم.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه قد يتوهّم أنّه كما في الشبهة المصداقية في صورتي العلم بالحالة السابقة قلنا بالتمسك بالاستصحاب، كذلك في الشبهة المفهومية أيضا في صورتيها الأوليين المعلوم فيهما الحالة السابقة نتشبث بذيل الاستصحاب، فتبقى صورة الأخيرة محلّا للكلام و الإشكال.

و تقريب الاستصحاب أن يقال: إنّ هذا الماء كان أقل من الكر قطعا بأيّ معنى كان الكر، سواء كان بمعنى العشرين أو الثلاثين أو الأربعين، فنشك في الحال أنّه باق على أقليته من الكر أوّلا بواسطة الترديد في معنى لفظ الكر بين المعاني الثلاثة، فنستصحب الأقلية السابقة و نحكم بانفعاله بالملاقاة.

و كذلك يقال في الصورة الثانية: إنّ هذا الماء

كان كرا قطعا على جميع أطراف الترديد في معنى لفظ الكر، و نشك الآن في بقائه على الكرية السابقة و عدمه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 57

بواسطة الشك في مفهوم الكر، فنستصحب الكرية فنحكم بعدم الانفعال بالملاقاة.

و لا إشكال في هذين الاستصحابين من جهة اتّحاد الموضوع لبقائه بنظر العرف، إذ المدار في بقائه صحة الإشارة إلى الموجود الخارجي و توارد الحكم المقطوع و المشكوك عليه و هو موجود في المقام بلا اشكال.

و لهذا لو كان الشك في الكرية و عدمها من باب الشبهة المصداقية مع العلم بالحالة السابقة كان الاستصحاب جاريا بلا كلام و لم يستشكل أحد فيه باختلاف الموضوع، و نظير هذين الاستصحابين في الجريان في الشبهة الحكمية ما ذكره الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- في كتاب الصلاة، فإنّه- قدّس سرّه- جعل من جملة الأدلة و المؤيدات لكون لفظ الغروب و المغرب بمعنى زوال الحمرة دون استتار القرص، استصحاب عدم تحقق الغروب بعد الاستتار و قبل زوال الحمرة، فإنّه نظير المقام في كونه شبهة حكمية لا مصداقية، إذ الفرض عدم الشك من جهة الخارج، فنعلم بتحقّق الاستتار و عدم تحقّق زوال الحمرة لكن لا نعلم مع ذلك بتحقق الغروب من جهة الشك في مفهوم لفظه، فيكون كالمقام، حيث إنّ الفرض فيه أيضا عدم الشك من جهة الخارج، للعلم بكم الماء و مع ذلك نشك في كريته من جهة الشك في مفهوم لفظ الكر.

و لكن الحق: عدم صحّة مثل هذه الاستصحابات ممّا كان جاريا في الشبهة المفهوميّة، و بيانه: أنّ المعتبر في الاستصحاب أن يتعلّق الشك بنفس واقع الحكم الشرعي، أو بنفس واقع موضوعه، و هذا منتف في الشبهة المفهوميّة التي يكون الشك فيها متعلقا

بمفهوم اللفظ من دون حصوله في شي ء من الواقعيات، فإنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 58

الموضوع للأحكام الشرعيّة إنّما هو نفس المعاني المحكية بالألفاظ و ذواتها، لا هي بعنوان كونها مفاهيم للألفاظ الدالة عليها أو كونها مقصودة و مرادة للشارع من تلك الألفاظ لوضوح أنّ الألفاظ إنّما هي مطلوبة لمجرد استحضار المعاني بتوسطها في الذهن بحيث لو لم يكن في البين ألفاظ موضوعة لاحتجنا إلى استحضار المعاني بتوسط آلة أخرى غير الألفاظ.

فلا شبهة في أنّ الأحكام الشرعية المترتبة على الكر إنّما هي ثابتة لحقيقة المعنى الواقعي المحكي بهذا اللفظ من العشرين أو الثلاثين أو الأربعين من دون مدخلية لكونها مرادة بهذا اللفظ أو مدلولا و مفهوما له في ذلك أصلا، و كذا الأحكام المترتبة على الماء القليل مرتب على نفس الواقع المعبّر عنه بهذا اللفظ من دون مدخلية مفهوميته بهذا اللفظ في موضوعيته للآثار، و كذا ما جعل غاية للصوم في قول الشارع: صم إلى الغروب إنّما هو نفس حقيقة المعنى المحكي بهذا اللفظ من الاستتار و الزوال بما هو نفسه و واقعه، من دون مدخلية عنوان كونه مدلول هذا اللفظ أو مرادا به في ترتب هذا الأثر عليه.

و اذن فنقول في هذه الأمثلة: إنّه ليس لنا شك في أمر واقعي، إذ في المثال الأوّل نقطع بأنّ العشرين منّا حاصل و الثلاثين و الأربعين غير حاصلين، و كذلك في المثال الثاني، فما هو موضوع للأثر من ذوات هذه المعاني ليس موردا للشك و الجهل أصلا، نعم هنا مقطوع سابق و مشكوك لاحق في شي ء آخر لكن ليس موضوعا للأثر الشرعي و هو صدق مفهوم اللفظ و عدم صدقه.

فنقطع في المثال الأوّل بأنّ الماء كان

في السابق بحيث لا يصدق عليه مفهوم لفظ الكر، و نشك في اللاحق في بقائه على ذلك و صيرورته بحيث يصدق عليه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 59

مفهومه، و في المثال الثاني بالعكس، و كذلك الكلام في مسألة الغروب، إذ الموضوع للأثر الشرعي و المجعول غاية للصوم أعني ذات أحد الحدين و حقيقته لا شبهة و لا شك فيه، إذ أحد الحدين و هو الاستتار مقطوع الحصول، و الآخر و هو الزوال مقطوع عدم حصوله، فلم يبق في البين مشكوك مرتبط بالموضوع للأثر الشرعي، نعم هو موجود بالنسبة إلى شي ء آخر ليس موضوعا له و هو صدق مفهوم لفظ الغروب في أوّل زمان استتار القرص إلى أوّل زمان زوال الحمرة بعد القطع بعدم صدقه قبل هذا الزمان و هو آخر أزمنة ظهور القرص.

فعلم أنّ في الشبهات المفهومية ما يكون موضوعا للأثر الشرعي ليس له مقطوع سابق و مشكوك لاحق، و ما يكون له مقطوع سابق و مشكوك لاحق ليس له أثر شرعي، و هذا بخلاف الحال في الشبهات المصداقية، فإنّ الشك فيها واقع بعد الفراغ عن مفهوم اللفظ في بقاء نفس واقع ما هو موضوع للحكم و عين حقيقته، كما لو أحرز أنّ الكر مقدار من الماء كان بحسب الوزن أربعة و ستين منّا إلّا عشرين مثقالا، و علم كون الماء بهذا الوزن في السابق فشك في اللاحق في أنّه هل نقص عن هذا أو لا؟ أو علم بكونه في السابق ناقصا فشك في اللاحق في بلوغه تلك المرتبة و عدمه، فإنّ الشك في هاتين الصورتين في تحقق نفس الكم الخاص الذي هو المعيار في الماء و عدمه فيجرّ بالاستصحاب تحققه في المثال الأوّل

و عدمه في المثال الثاني، و كما لو أحرز أنّ مفهوم لفظ الغروب هو الاستتار فشك في تحققه لوجود غيم أو غبار أو عمى و نحوها، فإنّ الشك واقع في نفس ما هو غاية للحكم الشرعي بعد القطع بعدم تحققه سابقا.

و بالجملة: فالمطلوب بالاستصحاب في الشبهات المصداقية جرّ نفس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 60

الواقع الذي هو ذو أثر شرعا و مشكوك في بقائه و ارتفاعه، و المطلوب به في الشبهات المفهومية جرّ ما هو أجنبي عن الأثر بالمرة.

فإن قلت في الشبهة المفهوميّة في مسألة الكر: لنا متيقن و مشكوك آخران يكونان في موضوع ذي أثر و هو عنوان المانع، و ذلك لأنّا قد استفدنا من أدلّة اشتراط الجريان أو الكرية أو المادة في اعتصام الماء أنّ الماء في حد نفسه قابل للانفعال و يكون فيه المقتضى له، و أنّ الأمور الثلاثة موانع عن انفعاله.

فنقول: انّا نقطع بتحقق عنوان المانع عن الانفعال في نفس الماء سابقا في المثال الثاني، و بعدمه في الأوّل، و الشك حاصل في كليهما في اللاحق، فنستصحب وجود المانع في الأوّل و عدمه في الثاني، و لا شك أنّ لعنوان المانع وجودا و عدما دخلا في التأثير عقلا، فيترتب على عدمه المجامع لوجود المقتضي الأثر العقلي و على وجوده الأثر الضد.

لا يقال: إنّ هذا الأصل من الأصول المثبتة، فإنّ الأثر و إن كان شرعيا إلّا أنّ ترتيبه على عنوان المانع أو على عنوان عدم المانع عقلي، و يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا نفس الحكم الشرعي و إمّا الموضوع الذي له أثر شرعي بلا واسطة قد رتبه الشرع عليه، فكما أنّ استصحاب الموضوع الذي ليس له أثر شرعي بل

كان له أثر عادي و لأثره أثر شرعي، و كذا استصحاب أحد المتلازمين في الوجود لإثبات الآخر أو استصحاب اللازم لإثبات الملزوم من الأصول المثبتة، كذلك استصحاب الموضوع الذي يكون له أثر شرعي بلا واسطة، لكن لم يرتب الشرع هذا الأثر عليه، بل العقل كما في المقام، فإنّ المانع متى تحقّق وجوده فالحكم بترتّب الطهارة أو عدمه فالحكم بترتّب النجاسة أمر يحكم به العقل، فإنّ ترتيب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 61

المعلول على العلّة حكم العقل.

و لا يتوهم أنّ الاستصحابات الموضوعية من هذا القبيل بعد فرض كون الموضوع علّة للحكم إذ ورد من الشارع في دليل من الأدلّة ترتيب حكم هذا الموضوع عليه بخلاف المقام، فلم يرد من الشرع في دليل أنّه متى تحقّق علّة التنجيس في شي ء ينجس، و متى تحقّق المانع لم ينجس، و انّما ورد الكر لا ينجس و القليل ينجس.

و لا فرق في ذلك بين المانع الذي يدرك مانعيته العقل و بين ما لا يدركه و انّما كشف عنه الشرع كما في المقام، إذ بعد فرض المانعية أو العليّة من أي القسمين كانا يكون ترتيب عدم المعلول أو وجوده من حكم العقل، و لا ينافي ما ذكرنا من كون الأثر في المقام أعني: الطهارة و النجاسة أثرا شرعيا كونهما أمرين واقعيين كشف عنهما الشرع كما هو أحد القولين فيهما، إذ يكفي في كون الأثر من الشرعيات حتى يشمله لا تنقض كون كشفه بيد الشارع و من وظيفته و ان لم يكن من مخترعاته و مجعولاته، فيكون برزخا بين الموضوع و الحكم بمعنى أنّه قد يستصحب نفسه ليترتّب عليه أثره كما في استصحاب النجاسة لترتّب عدم جواز الأكل مثلا عليها، و

قد يستصحب موضوع آخر لترتّب هذا الأثر عليه كما في استصحاب الخمرية لترتّب النجاسة.

لأنّا نقول: يمكن شمول دليل لا تنقض بعمومه لمثل هذا الاستصحاب، فإنّ المانع من شموله لزوم اللغوية، كما لو قلنا بشموله للآثار العادية، إذ ليس من وظيفة الشرع بيان تلك الآثار و إثباتها لموضوعاتها و نفيها عنها، و هذا مفقود في مثل المقام، مثلا لو ثبت سببية شي ء لوجوب شي ء آخر شرعا فعند العلم بتحقّق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 62

السبب أو عدم تحقّقه و إن كان يدرك العقل الترتّب أو عدمه و لكن عند الشك في وجوده و عدمه لا يدرك العقل الترتّب و لا عدمه، فأي لغوية تلزم لو حكم الشارع في هذه الصورة، أعني: صورة الشك بثبوت الحكم الذي من وظيفته بيانه أو بعدم ثبوته.

و حينئذ فعموم لا تنقض بالنسبة إلى هذا القسم من الاستصحاب ثابت لعدم المانع عنه.

قلت: الاستصحاب المذكور، أعني: استصحاب عنوان المانع أو عنوان العلّة و إن كان سليما من الاشكال من جهة كونه أصلا مثبتا بالتقريب الذي ذكرت، إلّا أنّه محل للإشكال من جهة أخرى و هو أنّ عنوان المانع و العلّة و المقتضي كعنوان المقدمة لا أثر لها عقلا أيضا، و إنّما الأثر لنفس العنوان الخاص الذي له خاصيته كذا أو بمانع من ظهور خاصية شي ء آخر، و هذه العناوين ينتزعها العقل من تلك العناوين باعتبار الحالات المذكورة.

و بعبارة أخرى: أن حمل العلّة على عنوان العلّة أو المانع على عنوان المانع لا يصحّ إلّا بالحمل الذاتي كما في قولك: الإنسان إنسان، و لا يصح بالحمل الشائع الصناعي، فعلم أنّ الاستصحاب في الشبهة المفهومية لا يجري على كل وجه.

و ربما يتوهم في المقام جريان

استصحاب آخر و هو استصحاب العدم الأزلي للمانعية بتقريب أنّ المانعية هنا ليس ممّا يدركه العقل، إذ لا يدرك العقل مانعية الكرّية عن الانفعال، بل يكون بيد الشرع و من جعله و لا شك أنّ الجعل أمر مستحدث مسبوق بعدم أزلي.

فنقول: لنا موضوعان كليّان، أحدهما الماء الذي كان بقدر العشرين منّا،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 63

و الآخر ما كان بقدر الأربعين منّا، ففي الثاني نقطع بأنّ هذا العدم، أعني: عدم جعله مانعا قد انقلب بالوجود، و في الأوّل نشك في بقائه بحاله و انقلابه بالوجود فنستصحب العدم الأزلي، و لا يرد أنّ عدم الجعل الذي هو المستصحب ليس له أثر شرعي إذ ليس الانفعال في الماء أثرا شرعيا لعدم جعل المانعية فيه، إذ يكفي في الاستصحاب أحد الأمرين، إمّا كون المستصحب موضوعا له أثر بحسب الشرع، و إمّا كونه نفس الحكم الشرعي.

فحينئذ لا يلزم أن يكون المستصحب ذا أثر و المقام من هذا القسم، فانّ عدم الجعل حكم من أحكام الشارع، و أمّا الشبهة في هذا الاستصحاب بأنّه مثبت إذ المقصود إثبات عدم مانعية الموجود الخاص من الماء الذي يكون كمّه عشرين منّا باستصحاب عدم جعل المانعية في الموضوع الكلّي الصادق على هذا الفرد، فمدفوعة بأنّ الذي يكون من الأصول المثبتة و يكون ممنوعا ما إذا كان نفس المستصحب ذا أثر عقلي فقصد بالاستصحاب ترتيب هذا الأثر العقلي، كأن يترتّب بياض اللحية أو طولها على بقاء زيد المستصحب.

و أمّا لو كان لنفس الاستصحاب و التعبّد ببقاء المستصحب أثر قهري عقلي فلا شبهة في ترتّب هذا الأثر بالاستصحاب، مثلا لازم الحكم الإيجابي واقعيا كان أم ظاهريا بحسب العقل وجوب الامتثال، فالتعبّد بالوجوب بالاستصحاب يترتّب عليه

قهرا وجوب الامتثال، و من هذا القبيل أيضا تطبيق الحكم المجعول في الموضوع الكلّي على مصاديقه، فإنّه أيضا من اللوازم القهرية العقلية لنفس التعبّد بالحكم في الموضوع الكلّي واقعيا كان أم ظاهريا، فإذا استصحب في موضوع الزبيب الكلّي الحرمة بالاستصحاب التعليقي، و قيل: إنّه حال كونه عنبا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 64

كان بحيث لو غلى يحرم و نشك في حال الزبيبية في بقاء هذا الحكم فيه و ارتفاعه فنستصحبه فنحكم بكون الزبيب الخارجي حراما، ففي المقام أيضا إسراء عدم جعل المانعية من كلّي الماء الذي كمّه عشرون منّا إلى مصاديقه بحكم الاستصحاب ليس من الأصل المثبت، لكونه من آثار نفس التعبّد بالاستصحاب دون المستصحب.

و حينئذ فإذا انضم عدم جعل المانعية الذي هو مستصحب إلى الاقتضاء المفروض ثبوته في نفس الماء كان اللازم ترتّب الأثر و هو الانفعال، و هذا الاستصحاب يجري في الشبهة المفهومية في مسألة الشك في الكرّية في فروضها الثلاثة المتقدمة كما هو واضح، كما أنّه من الواضح أيضا عدم جريانه فيما إذا كان الشك في الكرّية من جهة الشبهة في المصداق لأجل تبيّن الحال في الكبريات و كون الشك ممحضا في الصغرى، و يجري في مسألة حصول التغير بمجموع الملاقاة و المجاورة، فيقال: إنّ سببية التغيّر للانفعال مجعولة للشرع فتكون مسبوقة بالعدم، و هذا العدم قد علم نقضه بالوجود في التغيّر الذي كان سببه التام هو الملاقاة و شك في انتقاضة في التغيّر المسبب عنها و عن المجاورة فنستصحب بقاءه على العدم، و على هذا فالأصل في كل مورد شك في انفعال الماء من جهة الشبهة المفهومية الحكمية هو الانفعال.

و فيه: أنّ المانعية و العلّية ليستا من الأمور القابلة للجعل

حتى يكونا حادثين، فإنّ الربط الخاص الذي لا بد أن يكون بين العلّة و معلولها إن كان موجودا فيها لا يمكن سلبه عنها، و إن كان منتفيا لا يمكن إعطاؤها إيّاه، فإنّ الارتباط و السنخية من الذاتيات، فلا يمكن جعل الماء مثلا بماهيّته المائية محرقا فإنّ ما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 65

بالذات لا ينفك عن الذات.

و كذا الكلام في المانعية، فإنّ مرجعها إلى العلّية أيضا، و على هذا فعليّة العلل و مانعية الموانع من الأمور القديمة الثابتة من الأزل، فإنّ كلّ علّة، كان موصوفا من القديم بصفة أنّها متى وجدت كانت علّة و لا يلزم من هذا تعدّد القدماء، فإنّ هذه أمور انتزاعية ليس لها حظ من الوجود، بل و كذا الحال في الشرطية و الجزئية و إن كان يظهر الفرق من المحقّق الخراساني- قدّس سرّه- حيث ذهب إلى أنّ الأوليين لا تنالهما يد الجعل بالبيان الذي ذكرنا، و لكن الثانيتين قابلتان للمجعوليّة بالتبع، بمعنى أنّ جعلهما تابع لجعل منشأ انتزاعهما و هو الأمر، فإذا أمر بالمركب ينتزع من هذا الأمر المجعول الجزئية للمأمور به و إذا أمر بالمقيّد ينتزع منه الشرطية للمأمور به.

نعم لا يقبلان الجعل بالاستقلال بأن يقول: جعلت هذا جزءا أو جعلته شرطا، و لكن الحق عدم الفرق و ذلك لأنّ مفهوم الصلاة مع الطهارة الذي هو مفهوم من المفاهيم كان وجوده مشروطا بالطهارة، و لا يمكن وجود هذا المفهوم في الخارج إلّا بعد وجود الطهارة، و مفهوم الصلاة الأعم لا يتوقّف على الطهارة بمعنى إمكان وجوده بدونها، و يستحيل انسلاخ التوقّف عن الأوّل و إعطائه في الثاني، و كذا الحال في الجزئية، فإن المركب من الأمور التي من جملتها

الفاتحة مثلا تكون الفاتحة جزءه، و المركب من الأمور التي ليست فيها الفاتحة ليست الفاتحة جزؤه، و لا يمكن انسلاخ الجزئية في الأوّل و لا إعطائها في الثاني.

فلو قيل مثلا أطلب منك الإتيان بهذا المركب من التسعة و لا أتقبل منك إلّا بعد الإتيان بالجزء العاشر، فهذا مرجعه إلى توجيه الطلب نحو المركب من العشرة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 66

لا نحو المركب من التسعة و إعطاء الجزئية للجزء العاشر، و هذا من الواضحات، و الموجب لتوهّم مجعوليتهما بالتبع هو أنّ حيثية إضافة الجزء أو الشرط إلى عنوان المأمور به تكون مجعولة كذلك، فإنّ مفهوم الصلاة مع الطهارة قبل الأمر يكون الطهارة شرطا لها، لكن لا بعنوان كونها مأمورا بها، و بعد الأمر يحدث و يتجدّد وصف كون الطهارة شرطا للمأمور به و كذا الكلام في الجزئية.

و بالجملة أصل الشرطية و الجزئية ليستا بحادثين و مجعولين، و إنّما الحادث و المجعول هو إضافتها إلى عنوان المأمور به، إذ من المعلوم توقّف هذا على وجود الأمر حقيقة، و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الأصل في الشبهة المتعلّقة بالكرّية سواء كانت مصداقية مع عدم الحالة السابقة أو مفهومية مطلقا هو عدم الانفعال في نفس الماء، بمعنى أنّه لو لاقاه نجس فيستصحب طهارته السابقة، و أمّا المغسول به بالوضع فيه فالأصل فيه الانفعال، لاستصحاب النجاسة السابقة، و لا يضر التفكيك بين حكميهما إذا لم يلزم مخالفة عملية، و ليس الشك في المغسول مسببا عن الشك في طهارة الماء، بل عن الشك في كرّيته، فإن طهارة المغسول من آثار الكرّية لا من آثار الطهارة، و حيث إنّ المفروض عدم الأصل في جانب الكرّية فالأصل في المسبب لا مانع

عنه، و هذا بخلاف الشبهة المتعلّقة بالتغير الحاصل بمجموع المجاورة و الملاقاة، فإنّ الأصل فيها في نفس الماء و إن كان عدم الانفعال للاستصحاب إلّا أنّه في المغسول هو عدم الانفعال أيضا، و السرّ أنّ الشك هنا مسبب عن الشك في طهارة الماء فانّ كرّيته محرزة بالفرض، فالشك في طهارة المغسول به لا محالة يكون مسببا عن الشك في طهارته، فإذا ثبت الطهارة فيه بحكم الأصل كان هذا حاكما على الأصل في جانب المغسول فيحكم فيه أيضا بالطهارة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 67

فإن قلت: في الشبهة المفهومية المتعلقة بالكرّية و إن كان لا مجرى لاستصحاب الكرّية أو عدمها فيما إذا كان مسبوقا بأحدهما و لا لاستصحاب وجود المانع أو عدمه و لا لاستصحاب عدم جعل المانعية كما مرّ بيانها، إلّا أنّه يمكن استصحاب الحكم على نحو الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّ الماء الذي يكون حدّه عشرين منّا و قد كان في السابق عشرة كان في السابق موضوعا للقضية التعليقية التي هي قولنا: إذا لاقاه نجس ينجس، و نشك الآن في بقاء هذا الحكم التعليقي فيه فنحكم ببقائه بحكم الاستصحاب، و كذا في الماء الذي حدّه العشرون و قد كان في السابق أربعين فيقال: إنّه كان سابقا بحيث لو غسل به متنجس طهره، فالأصل بقاء هذا الحكم التعليقي فيه في الحال، فإذا صار المعلّق عليه فعليا يكون مفيدا لانفعال الماء و المغسول معا في الأوّل و بطهارتهما معا في الثاني، و هذا نظير الاستصحاب التعليقي في الزبيب، فينحصر مورد ما ذكرت من التفكيك بين حكم الماء و المغسول بعدم الانفعال في الأوّل و الانفعال في الثاني بالشبهة المفهومية التي ليس لها حالة سابقة معلومة.

و لا

يتوهّم أنّ هذا الاستصحاب يعارضه الاستصحاب الفعلي الثابت في تلك الموارد أعني: استصحاب الطهارة في الأوّل و استصحاب النجاسة في الثاني، فإنّ الاستصحاب الفعلي محكوم للاستصحاب التعليقي، إذ منشأ الشك في طهارة الماء و عدمها هو الشك في بقاء الحكم التعليقي فيه و عدمه، فإذا أحرز الحكم التعليقي فيه بالأصل فلم يبق شك في النجاسة، و كذا الكلام في سائر الأمثلة مثلا الشك في كون العصير الزبيبي حراما بعد الغليان مسبب عن الشك في بقاء الحكم التعليقي الثابت في موضوع العنب و هو كونه بحيث لو غلى يحرم في موضوع الزبيب و عدم بقائه، فإذا أحرز بقاءه بالأصل ارتفع الشك في الحرمة الفعلية بعد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 68

الغليان.

قلت: يعتبر في الاستصحاب أن يكون الموضوع في حال الشك عين الموضوع في حال اليقين فإن كان هو الوجود الخارجي لا بدّ من اتحاد الوجود الخارجي كما في: ان كان زيد قائما فصلّ ركعتين، فلو شك في قيام زيد بعد العلم بتحقّقه يستصحب، و الموضوع و هو زيد الموجود في الخارج واحد، و إن كان ماهيّة لا بد من اتحادها، كما في استصحاب الوجود، كما لو شك في وجود زيد بعد العلم بتحقّقه، فإن الموضوع هو ماهية زيد باعتبار الوجود المقرّر في الذهن، و هذه الكبرى أعني: لزوم الاتحاد و العينيّة في الموضوع في حالي الشك و اليقين مسلّمة، إنّما الكلام في أنّ الحاكم بالوحدة و العينية ما ذا؟

فنقول: هنا ثلاثة احتمالات: الأوّل: أن يكون موكولا بنظر العقل. و الثاني:

أن يكون موكولا إلى لسان الدليل. و الثالث: بنظر العرف. و الأوّل لازمة سد باب الاستصحابات الحكمية التي يكون المستصحب فيها غير الوجود، لوضوح تعدّد الموضوع

فيها بالدقة العقلية، و الفرق بين الأخيرين أنّ المتبع في تشخيص الموضوع في الأوّل هو نظر العرف فيما يستفاد من الدليل، و في الثاني يكون نظر العرف في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الدليل متبعا في تشخيص الموضوع.

فعلى الأوّل لا بد من الفرق بين الوصف الذي ذكر في الدليل بصورة الشرطية و ما وقع بصورة الوصف، ففي الأوّل كما لو قيل: الماء إذا تغيّر تنجس، يكون الشرط خارجا من الموضوع، فإنّ الشرط في القضايا الشرطية بحسب نظر العرف خارج عن الموضوع، فموضوع الإكرام في: إن جاءك زيد فأكرمه، هو زيد، لا زيد الجائي، و وصف المجي ء ليس بموضوع و لا محمول، نعم هو واسطة في ثبوت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 69

المحمول للموضوع.

و في الثاني يكون الوصف داخلا في الموضوع كما في: الماء المتغيّر نجس، فلو شك في طهارة الماء عند زوال التغيّر من قبل نفسه يستصحب النجاسة في الصورة الأولى لبقاء موضوعها و هو نفس الماء، و لا يستصحب في الثانية، لعدم بقائه، و على الثاني و هو أن يكون المتّبع نظر العرف بالاستقلال فالأوصاف بحسب المناسبات التي يدركها العرف بين الموضوعات و المحمولات مختلفة، فقد يكون وصف بنظر العرف مقوّما للحكم و دخيلا في موضوعه كما في الخمرية و الخلّية، فليس حكم الحرمة و الحلية متواردين على المائع الخاص بحسب توارد الوصفين عليه، بل يرى العرف موضوع الحرمة هو الخمر و موضوع الحليّة هو الخل، فيرى دخل الوصف على وجه المقوّمية لا على وجه الوساطة، و قد يرى بحسب المناسبة الثابتة بين الموضوع و الحكم دخل الوصف على وجه الوساطة و كونه أجنبيا و خارجا من الموضوع كما في عروض النجاسة

على الماء المتغيّر، حيث يرى التغيّر أجنبيا و أنّ الموضوع للنجاسة نفس الماء.

نعم التغيّر دخيل، لكن على وجه كونه واسطة في الثبوت، و على هذا فقد يتخلّف نظر العرف عن مفاد الدليل، ألا ترى أنّ قولك بعتك هذا بشرط أن يكون فرسا ظاهر في اشتراط الفرسية، و قولك: بعتك الفرس الأسود ظاهر في كون السواد جزء من المبيع، و لكن العرف يرى العكس فيرى المبيع هو الفرس و إن ذكر بصورة الشرطية، فلو ظهر كونه حمارا مثلا لم يكن من باب تخلّف الشرط، بل من باب تخلّف المبيع و يرى الاسوداد شرطا خارجا و إن ذكر بصورة الوصف، فلهذا يعد تخلّفه تخلّف الشرط لا تخلّف المبيع، و الأقوى من الاحتمالات هو الأخير، و وجهه انّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 70

المراد بالنقض في قوله- عليه السلام- لا تنقض اليقين بالشك هو النقض العرفي، و لا شك في عدم صدقه إلّا مع وحدة الموضوع عرفا، و لو كان مختلفا بنظر العرف لا يصدق النقض عرفا و إن كان بحسب لسان الدليل واحدا.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الظاهر أنّ وصفي القلّة و الكثرة في الماء بالنسبة إلى حكم الاستقذار بملاقاة القذر و عدمه يكونان من الأوصاف التي يراها العرف دخيلة في الحكم على وجه المقومية دون الوساطة، فيرى موضوع الاستقذار بملاقاة القذر هو الماء القليل بوصف القلّة، و موضوع عدم التأثّر بالملاقاة هو الماء الكثير بوصف كثرته، لا أنّ الماء قد يكون متأثّرا و قد يكون غير متأثر و شرط تأثره القلّة و شرط عدمه الكثرة حتى تكون القلّة و الكثرة خارجين عن الماء في ترتيب هذين الحكمين.

فإن قلت: الماء الناقص عن الكرّ بمثقال و الذي

يكون بقدر الكرّ يكونان عند العرف واحدا.

قلت: لا شك أنّ القليل عند العرف مغاير للكثير عنده فإذا خطّأه الشرع في تحديد القلّة و الكثرة و جعل الناقص عن الكرّ بمثقال قليلا و البالغ حدّ الكرّ كثيرا فالعرف بعد هذا التعبد من الشرع يعامل مع هذين الماءين معاملته مع ما يراه نفسه قليلا كمقدار كف من الماء، و ما يراه نفسه كثيرا كمقدار حوض كبير منه، فكما يرى الثانيين موضوعين للتأثّر و عدمه فكذا يرى الأوّلين بعد التعبّد من الشرع أيضا كذلك.

فإن قلت: فما معنى المسامحة العرفية في استصحاب موضوع الكثرة أو القلّة لا حكمهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 71

قلت: فرق بين استصحاب نفس الموضوعين و بين استصحاب حكمهما، فموضوع الاستصحاب الأوّل هو أصل الماء مع إلغاء الحدود، و معنى المسامحة أنّ الماء و إن كان باختلاف الحدود و تبادلها يختلف وجودا عند بعض من أهل المعقول- فتفريق الماء المجتمع في كوز في كوزين يكون عند هذا البعض من باب إعدام وجود و إحداث وجودين آخرين- إلّا أنّ العرف يرى للماء في جميع الحالات وجودا واحدا يتبادل عليه حدود مختلفة، ففي استصحاب نفس الحد يجعل الماء مجرّدا عن كل حد و هو بهذه الملاحظة واحد، و أمّا في استصحاب الحكم فلا بدّ من ملاحظة الحد مع الماء أيضا، و لا شك أنّ الماء المحدود بحد القلّة مغاير للماء المحدود بحد الكثرة في الحكمين المذكورين عرفا كما عرفت، فتحصل أنّ المانع من استصحاب حكم الكرّية أو القلّة هو اختلاف الموضوع، و امّا استصحاب موضوعهما في الشبهة المفهومية فقد عرفت ما فيه و إن كان سالما عن محذور اختلاف الموضوع.

ثمّ إنّه ربّما يقال في مسألة حصول التغير

في الماء مسببا عن الداخل و الخارج: بحصول الانفعال، مستظهرا ذلك من الدليل.

و الحق أن يقال: إنّه لا بدّ إمّا من القول بأنّ التغيّر في الكثير يكون في قبال الملاقاة في القليل بمعنى أنّ منجس القليل هو الملاقاة و منجس الكثير هو التغيّر سواء حصل بالملاقاة أو بالمجاورة أو بهما كما ربما يساعد ذلك العرف، و إمّا من القول بأنّ الظاهر من قولنا: الماء الكثير لا ينجسه نجس إلّا إذا غيّره، كون التغيّر حاصلا بسبب الملاقاة فقط فلا اعتبار بغيره و لا أقل من الشك فيما إذا كان مسببا عن المجموع منها و من المجاورة، فيكون المرجع الأصل، فدعوى أنّ المستفاد من الدليل عدم العبرة بالتغيّر بالمجاورة، و العبرة بالتغيّر بالملاقاة أو بالمجموع منها و من المجاورة لا وجه له.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 72

مسألة: لا إشكال في نجاسة الكر بتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة «1»

إنّما التكلّم في مواقع:

الأوّل: هل التغيّر المنجّس مختصّ بهذه الثلاثة أو يعم غيرها كالسخونة و الثقالة و غيرهما؟

الإنصاف أنّ من راجع أخبار المسألة و أنصف و جد أنّ الميزان مطلق قاهرية الماء على النجاسة و مقهوريته لها بظهور بعض آثار النجس فيه، و يشهد لذلك أمور:

الأوّل: تفريع التغيّر بالطعم على غلبة الماء على ريح الجيفة في صحيح حريز، فإنّه قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه و لا تشرب» «2» فإنّه لا يصح بدون إلغاء الخصوصية من الطرفين و أخذ مطلق التغيّر.

و الثاني: اختلاف الأخبار ففي بعضها ذكر الرائحة فقط، و في بعضها مع الطعم، و في بعضها الرائحة مع اللون، و في بعضها هذه الثلاثة جميعا، فإنّ ذلك لا يصح أيضا إلّا مع كون

المعيار التغيّر و كون ذلك مصاديقه.

و الثالث: كون الغالب في التغيّر أن يكون بهذه الأوصاف الثلاثة و عدم انفكاك غيرها منها، و اذن فلا يبقى في البين سوى الإجماع و عدم ظهور القائل مع عدم الاطمئنان بمثله، لقوّة احتمال اعتمادهم على هذه الأخبار.

الثاني: هل التغيّر بالأوصاف خاص بالأعيان النجسة أو يعمّ المتنجسات

______________________________

(1) تحرير آخر لبعض المسائل المذكورة آنفا.

(2) الوسائل: ج 1، ب 3، من أبواب الماء المطلق، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 73

أيضا؟ الانصاف عدم الدليل على الأوّل و مساعدته على الثاني، و ذلك لأنّ قوله في النبوي: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر» «1» إلخ، مسوق في مقام بيان وصف الماء و أنّه بحسب ذاته و خلقته يكون بحيث لا يتأثّر بمقتضى التنجيس، فإنّ الظاهر من الشي ء في هذه المقامات هو الصالح للتأثير، و في قوله: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه إلّا ما غيّر» إلخ يكون الكلام مسوقا لبيان أنّ الكم الخاص متى حصل يمنع عن تأثير ما يصلح للتنجيس، و في كليهما ليس المقام مقام تعيين ما يصلح للتنجيس، بل يحيل المتكلّم السامع إلى موضع آخر.

فحينئذ فالأشياء العشرة بحدّها مذكورة في الأدلّة، و نجد شيئا آخر ملحقا بها في الحكم و إن لم يكن مذكورا في الأدلة، و لكن قام به الضرورة عند المتشرّعة و هو المتنجس.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في ذيل مسألة تنجس المضاف كغيره من المائعات أو الجوامد الرطبة بملاقاة النجاسة أو المتنجّس: نعم هنا شك من بعض المتأخّرين في تنجّس الشي ء بملاقاة النجس الذي ليس معه نجاسة عينية، بل قوى عدمه لاستظهار ذلك من بعض الأخبار، و فيه منع الظهور

و معارضته بكثير من الأخبار مع كونه إجماعيّا بل ضروريا عند المتشرّعة. انتهى.

و حينئذ فإذا صار الشي ء و ما يصلح للتنجيس بحسب ما أحرز من الخارج هذه الأمور كان الاستثناء أيضا متعلّقا بالجميع، و لازمة كون التغيّر بالمتنجّس أيضا منجسا، و لعمري ليس لهذا مدفع و إن لم يعرف له قائل.

نعم هو معروف من شيخ الطائفة على ما نقله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 101، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 74

و حينئذ فالمسألة ممّا لا ينبغي ترك الاحتياط فيها، و الفرق بينها و بين سابقتها وجود القائل هنا دون سابقتها.

ثمّ على فرض الاختصاص بنجس العين فلو اضمحل عين النجس في الماء و بقي لونه مثلا، ثمّ لاقى كرّا آخر فتلوّن بلون النجس هل يحكم بالنجاسة أو لا؟

الأظهر الثاني، فإنّ الملاقاة واسطة التنجيس، فلا عبرة لغيرها من المجاورة و نحوها، و هي هنا منتفية لفرض اضمحلال العين، و ملاقاة الماء الأوّل للنجاسة لا يكفي، و إلّا لزم الكفاية فيما إذا وجد الماء الأوّل ريح النجاسة بالملاقاة لعينها، و الماء الثاني بمجاورة الماء الأوّل، فإنّ حال المجاورة في هذا الفرض حال ملاقاة المتنجّس في الفرض الأوّل من حيث عدم العبرة بهما حسب الفرض.

الثالث: لو أريق الدم في الماء المصبوغ بطاهر أحمر، بحيث لولاه لغيره الدم هل يحكم بنجاسته بملاحظة أنّه لو قدر صفاء الماء لتغيّر، أو لا اعتبار بهذا التغيّر التقديري؟

تحقيق المقام بعد طي مقدمات:

الأولى: في قول المتكلّم ينجس الماء إذا تغيّر بالنجاسة محتملات، فإنّه لا ينفك عن ملاحظة الصفة في جانب الماء و النجاسة، فالأوّل أن يلاحظ الصفة النوعية المتعارفة للماء، و تكون المياه الزاجية و الكبريتيّة خارجة عن مورد كلامه،

و هذا خلاف الظاهر.

الثاني: أن يلاحظ الصفة النوعية المتعارفة للماء أيضا، لكن الحق المياه الزاجية و أشباهها، و كذلك المياه المتغيّرة بالصبغ و نحوه بالمياه الصافية من باب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 75

إلحاق النادر بالغالب، فيفرض جميع مياه العالم ماء صافيا ثم يحكم عليها بالنجاسة لدى التغيّر، و على هذا فلا بدّ في ما نحن فيه و أشباهه من فرض الماء صافيا ثمّ ملاحظة حصول التغيّر فيه مع ذلك و عدم حصوله، و هذا مراد من اعتبر التغيّر التقديري فيما إذا كان الماء و النجاسة مسلوبي الصفة أو متماثلين، و إلّا فمن الواضح تعلّق الحكم بالعناوين الفعلية كما في أكرم العالم و نحوه، و عدم العبرة بالتقديري، لكن التقدير على هذا الوجه مستفاد من نفس الدليل و هذا أيضا خلاف الظاهر.

الثالث: أن يلاحظ جميع أشخاص الماء كلا على ما هو عليه من وصفه الخلقي الذاتي، ففرق اذن بين الماء المخلوط بالملح و بين الماء في الأرض المالحة، إذ في الأوّل لا ينسب الطعم إلى الماء من حيث كونه ماء، و في الثاني ينسب، و لهذا يقسم مياه العالم إلى المرّ و المالح و العذب، و لا يعد من الثاني ماء وجد طعم الملح بالمزج، و هذا الوجه اختاره شيخنا المرتضى على ما يستفاد من كلماته، إلّا أنّه ذهب إلى الطهارة فيما نحن فيه لأجل زوال الصفة الأصلية لا لأجل الاعتبار بالصفة العارضية، و هذا هو المنصرف إليه من الكلام، إذ الظاهر من اضافة اللون و أخويه إلى الماء و النجاسة كون الحيثية مأخوذة في الجانبين.

الثانية: تارة يقال: إنّ التغيّر فيما نحن فيه بالنسبة إلى الصفة الأصلية قد حدث بالشي ء الطاهر، فالحاصل بسبب الدم

بقاء التغيّر، لأنّ الفرض عدم اضمحلال الدم و عدم حصول اشتداد التغيّر بسببه. و حينئذ فالتغيّر المحسوس يستند إلى المجموع للزوم الترجيح بلا مرجّح من استناده إلى أحدهما، و واضح أنّ وجود التغيّر في هذا الحال وجود بقائي و هو غير معتبر، بل المعتبر هو الحدوثي و هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 76

غير موجود فعلا.

نعم موجود تقديرا بمعنى أنّه لو لا الشي ء الطاهر لحدث التغيّر بالدم، و عرفت عدم الاعتبار بالتقديري. لكن الحقّ انّ التغيّر أعم من الحدوث و البقاء، و الدليل عليه أنّ الشي ء الطاهر لو كان مثل الطين يصير إلى الأسفل بمضي الزمان و يصفو الماء من تغيّره، فصار كذلك و بقي في الماء التغيّر المستند إلى الدم فلا شبهة حينئذ في الحكم بالنجاسة مع أنّه بقاء التغيّر لا حدوثه.

الثالثة: سلّمنا أنّ التغيّر المعتبر أعم من الحدوث و البقاء، لكن المعتبر كونه بتأثّر النجاسة وحدها و بالاستقلال، و هنا بقاء التغيّر مستند إلى تأثير المجموع.

نعم يمكن إسناده إلى النجاسة وحدها بنحو التقدير بأن يقال: لو لا الشي ء الطاهر لكان التغيّر مستندا إليها وحدها، لكن عرفت عدم العبرة بالتقديري و السند في دعوى اختصاص التغيّر المعتبر بما كان من تأثير النجاسة وحدها، أنّه لو كفى مطلق التأثير حتى الاشتراكي لزم نجاسة الماء فيما إذا لم يستقل شي ء من الدم و الخليط الآخر بالتغيير مع الانفراد و لا يلتزمون بذلك، و أيضا ظاهر قولك: ينجس الماء إذا تغيّر بالنجاسة هو الاستقلال، و هو نظير قولك: يشترط في الذبح أن يكون بحديد، حيث يستظهر منه عدم كفاية الذبح بالحديد مع شي ء آخر.

فالحاصل: بعد هذه المقدّمات، عدم محكومية الماء المذكور بالنجاسة لا لأجل كون العبرة

بالوصف العارضي و هو غير متغيّر، بل لا عبرة به أصلا، و لا من جهة أنّ الحاصل بالنجاسة بقاء التغيّر لا حدوثه، و المعتبر خصوص الثاني، بل المعتبر هو الأعم، بل من أجل أنّ بقاء تغيّر الوصف الأصلي ليس بتأثير النجاسة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 77

وحدها، و المستفاد من الأدلّة خصوص ما كان بتأثيرها كذلك.

نعم يحكم بالنجاسة في كلّ مورد حكم العرف بتأثيرها كذلك و لو لم يكن كذلك عقلا، كما لو أريق في الماء طاهر أحمر لم يغيّره لكن صيّره معدّا للتغيّر بالدم فألقى فيه الدم و تغيّر بسببه، فإنّ الدم بحسب العقل جزء أخير للعلّة، و لكنّه عرفا مؤثّر بالاستقلال في التغيير، فيحكم حينئذ بالنجاسة كما لا يحكم بها في العكس.

فإن قلت: على ما ذكرت و ذكره شيخنا المرتضى من عدم العبرة بالصفات العرضية يلزم عدم الاعتبار بالتغيّر الحاصل فيها بسبب النجاسة، و هذا مستبعد.

قلت: لا يخفى أنّ مادة التغيير كالتبديل مشتمل على إثبات و إذهاب، أعني:

إذهاب وصف الماء و إثبات وصف النجاسة في محلّه، فتارة يقال بمقتضى الجمود على اللفظ باعتبار كلا الأمرين في الحكم بالنجاسة، فمع أحدهما لا يحكم بها، ففي الفرع المذكور و إن كان قد تحقّق إثبات وصف النجاسة و لكن لم يتحقّق إذهاب وصف الماء بالنجاسة لأنّه ذهب بالشي ء الطاهر.

و لكنّ الظاهر كون العبرة بالأمر الآخر أعني: إبراز النجاسة وصفها في الماء و الأمر الأوّل إنّما اعتبر من باب المقدمة، إذ بدون ذهاب وصف الماء لا يتحقّق مجي ء وصف النجاسة.

و حينئذ فلو أريق في الماء شي ء آخر أذهب صفاء الماء و بدله بالحمرة، ثمّ ألقى فيه البول الصافي بحيث اضمحل في جنبه حمرة الشي ء الطاهر، و

برز في الماء صفاء البول بحيث علم أنّ الصفاء البارز صفاء البول و ليس صفاء الماء بل هو مستور و محجوب بالحمرة كما كان، كان محكوما بالنجاسة لأنّ النجاسة قد أبرز وصفها في الماء و إن كان لم يتحقق منها إذهاب وصف الماء، لأنّه قد ذهب به قبله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 78

الحمرة الغالبة عليه.

نعم لو صار النجاسة سببا لعود الوصف الأصلي للماء و بروزه بواسطة إعدام المانع عن بروزه لم يحكم بالنجاسة.

مسألة: لو تغيّر طرف من الحوض حكم بنجاسته بلا اشكال، و أمّا الطرف الآخر فإن كان بمقدار الكر فلا ينجس

بلا إشكال، و أمّا إن كان قليلا فينجس بلا إشكال أيضا مع بقاء عين النجس في الطرف المتغير، و أمّا مع اضمحلال عينه فهل ينجس نظرا إلى اتصاله بالطرف المتغيّر، أو لا ينجس لعدم حصول الملاقاة بالنسبة إليه لا مع النجس- لفرض اضمحلال عينه بعد التغيّر، و قبله كان المانع عن تأثيره و هو الكرّية موجودا- و لا مع المتنجّس و هو الماء المتغيّر لما ذكره شيخنا المرتضى في الماء القليل الملاقي جزء منه للنجس في الحكم بنجاسة جزئه الغير الملاقي، حيث استدل على النجاسة بأنّ الملاقاة بين تمام الأجزاء حاصلة قبل ملاقاة النجس فبعدها يحكم بنجاسة الجميع، أمّا في الجزء الملاقي فبسبب ملاقاة النجس، و أمّا في غيره فبملاقاته، و هكذا يحكم بنجاسة ملاقي الملاقي فصاعدا على نحو الترتّب الطبعي دفعة و من دون فصل زمان. فاستشكل هناك بأنّ الملاقاة عبارة عن اتصال سطح الجسمين، و أجزاء الماء كلّها موجودة بوجود واحد، فليس لكل منها تعيّن و وجود و سطح حتى يكون في البين اتصال السطح إلّا على القول بالجزء الذي لا يتجزى، و الدليل على عدم كفاية الاتصال بغير الملاقاة: أنّ الجسم الجامد إذا لاقى جزء منه النجس

فلا شبهة في نجاسة هذا الجزء، مع أنّه لا يفهم العرف سراية نجاسته إلى سائر هذا الجسم الواحد مع وجود الاتصال بين أجزائه، و لا فرق في ذلك بين الجامد و المائع.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 79

و بالجملة فلا ينجس القليل في ما نحن فيه بملاقاة الماء المتغيّر من جهة عدم أصل الملاقاة في البين لا حدوثا و لا بقاء، فإنّ الماءين المنفصلين إذا اتصلا و إن كان أوّل اتصالهما حدوث الملاقاة، لكن بعده يتبدل بالاتصال من جهة وحدة الوجود، و من هنا يعلم الفرق بينه و بين الجامد حيث إنّه متعيّن بتعيّن خاص و موجود بوجود على حدة، فبقاؤه في الماء يكون بقاء الملاقاة بخلاف الماء، فإنّه بعد الاتصال يصير المجموع شيئا واحدا فلا ملاقاة في البين بل يتبدل بالاتصال.

و أمّا الإجماع على وحدة حكم الماء الواحد طهارة و نجاسة فهو غير شامل للمقام.

و لهذا ذهب شيخنا المرتضى في تطهير الماء النجس بالماء إلى اعتبار الامتزاج بحيث ارتفع الامتياز عن البين، و هنا يكون الماءان متميّزين.

و دعوى أنّ عين النجاسة و إن كانت مضمحلّة حسب الفرض، لكن بعد وجود أثره من اللون و الطعم و الريح لا يبعد أن يحكم العرف بوجود عين النجس في الماء معه ثمّ الحكم بالنجاسة بملاقاته، مدفوعة بأنّ هذا غير موجود في الجيفة إذا أخرجت عن الماء و بقي نتنها فيه.

و قد يستدلّ على النجاسة في المقام بأنّ المستفاد من قوله- عليه السلام-: «الماء إذا بلغ» إلخ من حيث المنطوق و المفهوم حصر أفراد الماء بحسب الطهارة و النجاسة عند ملاقاة النجس في قسمين:

فالقسم الطاهر ما كان بقدر الكر و لم يغيّره النجس، و القسم النجس غير ذلك،

سواء كان قليلا متغيّرا أو غيره، أم كان كرّا و غيّره النجس بتمامه، أم كرّا و غيره ببعضه، فيستفاد نجاسة البعض الغير المتغيّر في القسم الأخير أيضا من الرواية، و يستفاد أنّ جهة نجاسته ملاقاته مع النجس.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 80

فإن قلت: المحتمل في الرواية ثلاثة معان: الأوّل: ما ذكرت، و الثاني: جعل القسم الطاهر الكر الغير المتغيّر بتمامه، فالكر المتغير ببعضه داخل في القسم الطاهر بتمامه، و الثالث: جعل القسم الطاهر غير مقدار المتغيّر من الكرّ، فلو بقي منه جزء يسير و لم يتغيّر فهو داخل في القسم الطاهر، فلا معين لما ذكرت.

قلت: المعين له أنّ «الثاني» أعني: كون الكر المتغيّر بعضه طاهرا بتمامه حتى المتغيّر منه يكون الإجماع على خلافه، و «أمّا الثالث» فهو مقطوع عدم إرادته، إذ عليه تنتفي فائدة الاعتبار بالكمية المخصوصة و يلزم سقوطها عن الاعتبار، و صريح الرواية ينفيه، إذ على هذا يلزم كون الجزء اليسير الخالي عن التغيّر طاهرا، فيلزم سقوط الكرية عن الفائدة، إذ مع عدمها أيضا يحصل فائدتها، و صريح الرواية إعطائها إيّاها.

و الحاصل: أنّ المستفاد منها أنّ لهذا الكم دخلا في عصمة الماء، و لازم ذلك ارتفاع العصمة بنقصان هذا الكم و لو يسيرا، فالماء الغير المتغيّر في ما نحن فيه لكونه أقل من الكر غير معتصم فيدخل في القسم الآخر، فيستفاد من الرواية نجاسته بنفس الملاقاة.

و من هنا يعلم الحال في صورة كون الباقي بقدر الكرّ، فإنّه محكوم بالاعتصام و المانعية، غاية ما يقال: إنّه يندرج تحت الكر المتغيّر بعضه أيضا، فإنّا لو فرضنا أوّل كم الكر من الجزء الملاصق بالمتغيّر كان كرّا خاليا عن التغيّر، و لو فرضناه بحيث صار جزء

من المتغيّر داخلا فيه كان كرّا متغيّر البعض، بل نقول: يمكن فرض هذه الكمية في هذا الماء على أنحاء كثيرة جميعها داخل في متغيّر البعض إلّا واحدا لو كان الباقي كرّا بلا زيادة، فمقتضى كون هذا الواحد في البين عصمة الماء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 81

و عدم تأثير النجاسة فيه، و مقتضى انطباق الأنحاء الأخر عليه كونه بلا مانع عن تأثير النجاسة، و من المعلوم عدم المزاحمة بين المانعية و اللامانعية، فيقدّم مقتضى الأولى و هو حفظ الطهارة على مقتضى الثانية و هو التنجّس، و سرّ ذلك أنّ الرواية غير مختصّة بهذا الكم إذا كان منفصلا، بل تشمل حال اتصاله بالغير أيضا، ففي صورة الاتصال يكون الوجود واحدا بناء على بطلان الجزء الغير المتجزّئ، لكن الرواية غير متعرّضة إلّا لحال هذا الكم بنحو اللابشرط، و الماء في صورة زيادته عن الكر يكون مع وحدة وجوده معروضا لأفراد متعدّدة من هذا الكم كما هو واضح، فتشمله الرواية بجميع الوجوه فيكون أفرادا متعدّدة لمضمون الرواية لا فردا واحدا. فتدبّر.

مسألة: هل المياه النجسة بعد زوال التغيّر عن متغيّرها قابل للتطهير أو لا، و على الأوّل يكفي الاتصال بالعاصم أو يلزم الامتزاج معه؟

قد يستدلّ على عدم قابليتها للتطهير بالصحيحة المروية في الأشعثيّات:

«الماء يطهّر و لا يطهّر» و الانصاف عدم تمامية الدلالة لأنّ في الرواية احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ الماء يطهّر غيره و لا يطهّر بغيره فيكون مساوقا لقول القائل في الفارسية:

هر چه بگندد نمكش مى زنند واى به وقتى كه بگندد نمك

فلا يتعرّض لحال تطهير الماء بالماء.

الثاني: أن يكون في مقام إثبات شأنية التطهير للماء من غير تعرّض للأشياء القابلة للتطهير و أنها ما ذا، فلا بدّ من تعيين كون شي ء قابلا له من الخارج، فلو لم يكن شي ء قابلا لم يكن منافيا لهذا، فالفقرة الأولى في

مقام الإهمال، و أمّا الفقرة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 82

الثانية فقد حقّق في الأصول أنّ المهملة إذا وقعت في سياق النفي تفيد العموم: من غير حاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان أزيد من مقام بيان محرز في عامة باب الألفاظ، لأنّ نفي المقسم نفي لجميع الأقسام، بخلاف الإثبات فإنّه يتحقّق بوجود قسم واحد.

و على هذا فمفاد الفقرة الثانية أنّ جنس التطهير غير واقع على الماء، و هذا نفي لجميع أقسام التطهيرات عن الماء.

و الثالث: انّ «الماء يطهّر» يعني يتمشى منه التطهير و لكنّه أجلّ من أن يطهّر، يعني أنّه ليس قابلا للانفعال حتى يحتاج إلى التطهير كما هو المنساق من نظائر هذه العبارة، فقولك: زيد يعطي و لا يعطى، يعني أنّه لغني نفسه لا يحتاج إلى عطاء الغير، لا أنّه لو افتقر لا يعطيه أحد شيئا.

فالرواية على الأوّل غير متعرّضة لحال مسألتنا.

و على الثاني تدلّ على عدم قبول الماء بعد الانفعال لتطهير أصلا، فلا بدّ من إعدام موضوعه باستهلاكه في ماء عاصم.

و على الثالث: تدلّ على أنّه غير قابل للانفعال حتى يحتاج إلى تطهير، فيكون مطلقا قيّد بماء القليل و نحوه، و الأظهر هو الاحتمال الأخير، و على فرض التنزل فلا أقل من تكافؤ احتمالات.

و يستدل على القول بالاتصال بصحيحة ابن بزيع في ماء البئر: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح و يطيب الطعم لأنّه له مادة» «1» بقرينة أنّ قوله: «حتى» قرينة على كون النزح مقدمة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 14، من أبواب الماء المطلق، ح 6، 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 83

غايتها زوال الريح و طيب الطعم،

فالمقصود ذلك. ثمّ قوله: «لأنّ له مادة» يعني لقوّته باتصاله بماء لا ينفعل، هذا. و تحقيق حال الرواية أنّها ذو احتمالات:

الأوّل: أن يكون قضايا كل لاحقة متفرّعة على سابقتها [و] كانت الجميع بمنزلة قضية واحدة، فقوله: «لا يفسده شي ء» شرح قوله: واسع، و قوله: «فينزح» تفريع على قوله: «واسع لا يفسده» إلخ، فيكون علّة قوله: «فينزح» قوله: «لا يفسده شي ء» فيرجع قوله: «لأنّ له مادة» إلى أوّل الكلام، أعني: قوله: «واسع» فيصير المحصّل أنّ ماء البئر لكونه ذا مادة يكون واسعا، يعني: لا يفسده شي ء إلّا بالتغيير، و لكونه لا يفسده شي ء إلّا بالتغيّر الذي هو معنى واسعيته يكون مطهره زوال التغيّر، فيناسب حينئذ عرفا أن يكون الغرض من النزح، المقدمية الصرفة، لأنّ مناسب انحصار المنجّس في التغيّر كون المطهر زوال التغيّر، فتدلّ الرواية بعموم التعليل بالواسعية على أنّ كل ماء لا ينجسه شي ء إلّا بالتغيّر، يطهر بزوال التغيّر و لو لم يتّصل بماء عاصم أصلا.

الثاني: أن تكون «الفاء» في قوله: «فينزح» للتعقيب لا للتفريع، فيكون ما بعدها قضية مستقلة و ما قبله قضية كذلك، فيتركّب الرواية من قضيتين: إحداهما متعرّضة لبيان تنجيس ماء البئر، و الأخرى لبيان تطهيره.

و قوله: «لأنّ له مادة» أمّا تعليل لكلتا القضيتين و إمّا راجع إلى الأخيرة فقط.

و حينئذ فالمراد بقوله: «فينزح» مجرد المقدمية لزوال الريح و طيب الطعم بقرينة حتى، فخصوصية النزح ملقاة، و المقصود نفس زوال التغيّر، ثمّ قوله: «لأنّ له مادة»، تعليل للطهارة بعد زوال التغير، و العرف يفهم منه أنّه لا خصوصية للمادة بما هي مادة، بل لكونها ماء لا ينفعل بالنجاسة فكأنّه قيل: لأنّه قوي الظهر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 84

بواسطة اتصاله بماء

لا ينفعل، فيصير دليلا على طهارة كل ماء زال تغيّره بمحض الاتصال بالماء العاصم.

الثالث: أن تكون مركبة من قضيتين أيضا مع رجوع التعليل إمّا إلى كلتيهما أو إلى الأخيرة فقط، و لكن كان خصوصية النزح مأخوذة، لأنّ كلمة حتى تستعمل في مقام مجرد بيان الانتهاء، مع كون المقصود هو الشي ء المنتهى لا المنتهى إليه، كما يقال: انزح ماء هذا البئر حتى لا يبقى منه شي ء، مع كون المقصود نفس النزح لما فيه من إعمال القوّة، و يكون قوله: «لأنّ له مادة» تعليلا للطهارة بالنزح إلى زوال التغيير يعني لكونه ذا مادة، فيخرج من المادة ماء جديد و يمزج مع الباقي، و النزح ملازم لذلك، فلهذا يكون علاج التطهير هو النزح، يعني أنّ سبب طهارته خروج الماء الجديد و امتزاج الماء الزائل عنه التغير مع هذا الخارج، فيكون دليلا على اشتراط الامتزاج، فتكون الرواية غير مأخوذة بشي ء من احتمالاته لمكافئتها، و عدم أظهرية واحد منها.

و حينئذ فنقول: إنّه لا دليل يدلّ على أنّ الماء لا يقبل التطهير بعد الانفعال، لأنّ الدليل عليه الرواية المتقدّمة و قد عرفت حالها من ضعف الدلالة.

و هنا مطلب آخر عرفي مسلم عند أهل العرف و هو أنّ الماءين إذا حصل بينهما الخلطة و كان أحدهما نجسا و الآخر طاهرا، فلا يمكن بقاء كل من أجزاء الماءين على وصفه بحيث لا تسري النجاسة من الأجزاء النجسة إلى الأجزاء الطاهرة، و لا الطهارة من الأجزاء الطاهرة إلى النجسة، بل لا بدّ إمّا من غلبة النجس و تصييره الطاهر نجسا، و إمّا من غلبة الطاهر و تصييره النجس طاهرا، و يمكن أن يكون تعليل رواية البئر أيضا ناظرا إلى هذا الأمر العرفي، يعني يمتزج

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 85

بواسطة النزح المزيل لتغير الماء الخارج من المادة مع الباقي، و لما لم يمكن مغلوبية المادة صار طاهرا.

و حينئذ دليل عدم انفعال الكر و عدم تنجسه بشي ء شامل للمقام، فلا يمكن تأثير الماء النجس الزائل تغييره في الكرّ لمخالفته مع هذا الدليل، و بقاء النجس بحاله أيضا لا يمكن بنظر العرف و لا يمكن الخلطة إلّا مع التأثير، فلا محالة يكون التأثير من الكر في الماء النجس، و على هذا لا بدّ من مزج الماء على مقدار يرى العرف السراية المذكورة معه، فيمكن تطهير كرّ واحد أكرارا متعدّدة بحيث كان المطهّر- بالكسر- فانيا و مستهلكا في جنب المطهّر- بالفتح- لقضاء المقدّمات الثلاث المذكورة بذلك.

مسألة: لو تغير الماء العاصم بمجموع الداخل و الخارج من نجاسة واحدة

كالجيفة الواحدة، أو العذرة الكثيرة، فحصل التغيّر بمجموع الملاقاة و المجاورة، فهنا يكون التغيّر عرفا مستندا إلى نفس الملاقاة بدون شركة أمر آخر معه، إذ يصدق أنّ النجس لاقى الماء فغيّره، و أنّ الماء تغيّر بوصول النجس إليه، فلا ينبغي الإشكال في نجاسة هذا الماء، و لو استظهرنا من الأدلّة خصوص التغيّر الاستقلالي المستند إلى الملاقاة ليس إلّا كما استظهرناه.

مسألة: لو لاقى الجزء السافل من الماء الجاري- من الأعلى إلى الأسفل- نجاسة فسرى التغيّر من الجزء السافل إلى العالي

لو كان لهذا الفرض إمكان فهل ينجس بهذا التغيّر أو لا؟

حقّ الكلام أنّا إن قلنا: هذا النحو من الملاقاة- أي ملاقاة الجزء السافل من الماء المذكور للنجاسة- مشمول لأدلة نجاسة الماء بالملاقاة، غاية الأمر خرج من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 86

عمومها هذا النحو بالنسبة إلى الجزء العالي بالإجماع، فلا إشكال أنّه يقتصر في تخصيص العموم على القدر المتيقّن فيرجع في موارد الشك إلى ذلك العموم، و من جملتها هذا المقام.

و أمّا إن قلنا: بأنّ الأدلّة منصرفة عن هذا النحو من الملاقاة فلا يخلو إمّا أن نقول: بأنّ المقتضي للتنجيس غير حاصل للعالي إمّا بالقول بأنّ ملاقاة السافل ليس ملاقاة للعالي، و أمّا بالقول بأنّ الملاقاة و إن كانت حاصلة بالنسبة إلى المجموع العالي و السافل، لكن الملاقاة المقتضية مختصّة بالسافل، فليست لهذه الملاقاة اقتضاء التنجيس في العالي، و أمّا أن نقول بأنّ الملاقاة حاصلة بالنسبة إلى المجموع و هي مقتضية أيضا بالنسبة إليه، و لكن العلو مانع لدى العرف كالكرية لدى الشرع عن التنجّس بمقتضى التنجيس.

فإن قلنا بالأوّل فواضح أنّ حال هذه الملاقاة بالنسبة إلى العالي حال المجاورة، فالتغيّر الحاصل منها كالتغيّر الحاصل من المجاورة.

و إن قلنا بالثاني فيلزم التنجّس في هذا الفرع مع عدمه بدون التغيّر، لكن يدفع هذا الاحتمال العمومات الدالّة

على أنّ غير ماء المطر و الجاري و الكر ينجس بملاقاة النجاسة، فيكون هذا تخطئة لنظر العرف حيث رأى العلو أيضا في عرض هذه الأمور.

مسألة: قد يستدل على طهارة الكثير المتغيّر بمجرد زوال تغيّره و لو من قبل نفسه

بقوله: «إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا» و الكلام تارة في السنة و أخرى في الدلالة، أمّا السند ففي غاية الضعف، فلم يعمل به على ما حكى إلّا ابن حيّ من العامّة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 87

و أمّا الدلالة فاعلم أنّ فعل المضارع يدل بشهادة التبادر على التجدد و الحدوث «1»، يعني أنّ الفعل الصادر من الفاعل يكون فعلا جديدا لا باقيا من السابق، فإذا دخلت أداة النفي على المضارع فهذا التجدّد هل يكون موردا للنفي أو واردا عليه.

و بعبارة أخرى هل التجدّد يكون من أجزاء المادة المأخوذة في كل من الإثبات و النفي، فيكون كمادة الضرب مثلا مدخولا للنفي و الإثبات، أو أنّ التجدّد يعرض على النفي و الإثبات في عرض واحد، فكما أنّ معنى يضرب أنّه يتجدّد منه وجود الضرب، فمعنى لا يضرب أنّه يتجدّد منه عدم الضرب، و على الأوّل يكون معنى «لا يضرب» لا يتجدّد منه وجود الضرب، الأظهر ورود النفي على التجدّد دون العكس، و الدليل على ذلك انّا لا نفهم من كلمة لا يضرب أنّ الضرب يصدر الآن من الفاعل ثمّ يمتنع منه في المستقبل، و بناء على ورود التجدّد على النفي لا بد من ذلك و إلّا لم يكن معنى لتجدّد عدم الضرب، فلو كان متلبسا بعدم الضرب قبل هذه النسبة لكان عدم ضربه باقيا لا حادثا و جديدا، و إنّما يكون كذلك لو كان قبل النسبة متلبسا بضد النفي، كما أنّ هذا هو الحال في طرف الإثبات حيث إنّه

ظاهر في أنّه ليس في الحال متلبسا بالضرب.

و بالجملة: يصير محصّل النفي على هذا أنّ زيدا يصير بعد ذلك غير ضارب، و معنى هذا أنّه ضارب الآن، و معلوم عدم انفهام هذا من صيغة لا يضرب و أشباهه.

______________________________

(1)- كتب- رحمه اللّٰه- في الحاشية بالفارسيّة: بعض فضلاء مدّعى است كه اختلاف راجع به مادّة «حمل» است نه هيئت آن، پس قائل به بقاء نجاست سابقه مى گويد: معناى «لم يحمل» «برنميدارد» است، و قائل به ارتفاع مى گويد: معنايش «به گرده نگه نمى دارد» است و تقويت قول به ارتفاع از مرحوم آقاى آخوند و آقاى شريعت در مجلس درسشان نقل شد.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 88

و حينئذ نقول: لا إشكال في كون «لم يحمل» مضارعا لأنّه جواب المشترط، و الماضي في جوابه يكون بمعنى المضارع، فإن كان المعنى أنّ الماء بعد بلوغ الكرية يتجدّد فيه صفة عدم حمل شي ء من الخبث، فلازم ذلك ارتفاع النجاسة السابقة و إلا لا يصدق ذلك، بل يصدق أنّه بقي وصف حامليته لفرد من الخبث.

و إن قلنا بأنّ المعنى لا يتجدّد منه الحمل فلا ينافي ذلك بقاء الحمل السابق.

فعلى الأوّل: يكون زوال التغيّر من قبل النفس مطهرا فإنّه قد خرج من عموم الرواية حال التغيّر قطعا و بقي غيره.

و على الثاني: ليس دليلا على البقاء، و لا الارتفاع، فيرجع إلى الأصل و هو استصحاب النجاسة، و لا يشكل بتعدّد الموضوع لأنّ موضوع النجاسة عرفا جسم الماء، و التغيّر و عدمه من الحالات فليسا معددين للموضوع، و لهذا يقال: على تقدير بقاء النجاسة لم يتغيّر حكم الماء، و لا يقال: ارتفع الموضوع السابق و حدث آخر شريك معه في الحكم، و على تقدير

الارتفاع أنّه تغيّر حكم الماء لا أنّ موضوع النجاسة ارتفع فارتفعت بارتفاع الموضوع و هذا الموجود شي ء آخر، و قد تقرّر في محلّه أنّ الاعتبار في الاستصحاب بالوحدة العرفية لا العقلية، فتحصّل ممّا ذكرنا ضعف الرواية سندا و دلالة معا، و لا يتوهّم جريان هذا النزاع في «لم ينجسه شي ء» الواقع في رواية أخرى، فإنّه لا تظهر ثمرة بين المعنيين فيه كما يظهر للمتأمّل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 89

[القسم الأول في الماء الجاري]
اشارة

قوله- دام ظلّه- في العروة الوثقى:

«فصل» «الماء الجاري- إلى قوله-: فصل الراكد إلخ»

اختلف في تفسير الجاري على أقوال ثلاثة:

أوّلها: أنّه مطلق النابع سائلا كان أم لا، و حكي عن الشهيد الثاني.

و ثانيها: أنّه مطلق السائل على وجه الأرض و إن لم يكن نابعا.

و ثالثها: أنّه النابع السائل على وجه الأرض.

و في الأوّل أنّ العنوان الراكدة لا يسمّى باسم الجاري قطعا مع نبعها، و في الثالث أنّ الماء الجاري الحاصل من ذوبان الثلج الذي يكون بمقدار جبل يسمّى جاريا مع عدم النبع، و الظاهر هو القول الوسط، و لا يرد عليه انّ لازمة كون الماء الجاري من نحو الإبريق على الأرض مسمّى باسم الجاري، إذ نحن نعتبر السيلان الخاص و هو أن يكون عن ملكة و استعداد، يعني يكون له ملكة البقاء و الدوام إلى زمان معتد به كشهر مثلا، و ان تكون هذه الملكة و الاستعداد ثابتا لنفس الماء من دون توسط آلة خارجة بناء على عدم تسمية الماء الذي يسيل بمعونة الصب من الدلو و نحوه جاريا، و الحاصل: أنّه يعتبر في صدق الجاري المادة و الاتصال بها، و لا يعتبر خصوص النبع من الأرض.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 90

ثمّ لو شك في

بعض المياه من جهة الشك في مفهوم الجاري و كان دون الكر كان من باب الشك في العموم الناشئ من إجمال المخصّص المنفصل، و العموم هنا عمومات انفعال القليل، و المخصص أدلّة عدم انفعال الجاري، فإن قلنا بجواز التمسّك بالعام في هذه الصورة كان منفعلا، و إن قلنا بإجماله فالمرجع هو أصالة عدم الانفعال.

و كيف كان فقد استدل على عدم انفعال الماء الجاري بما دلّ على نفي البأس عن البول في الماء الجاري مثل قوله- عليه السلام-: «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد» «1».

و عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال: «لا بأس به إذا كان الماء جاريا» «2».

و عنه- عليه السلام- قال: «لا بأس بالبول في الماء الجاري» «3».

و عن سماعة قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: «لا بأس به» «4».

بتقريب أن يقال: إنّ نفي البأس عن البول في الماء الجاري في قبال الراكد ظاهر في كونه لأجل وصف الجريان و أنّه يذهب بالنجاسة، فكان الماء بعد وقوع البول فيه لا يسقط عن الانتفاع به، فانّ ذهاب البول بواسطة الجريان موجب لعدم استقذار الطباع عن الماء، و أمّا الماء الواقف فالاستقذار فيه بعد البول موجود، فلهذا كره البول فيه.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 5، من أبواب الماء المطلق، ص 107، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ح 3.

(4)- المصدر نفسه: ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 91

و الحاصل: أنّ الماء في الأوّل لا يستقذر و لا ينجس، و في الثاني يصير مستقذرا و ينجس، فهذا تفصيل بين الجاري و الواقف بعد ثبوت الكراهة في

مطلق الماء و تعليله بأنّ للماء أهلا بتضعيف الكراهة في الأوّل و تشديدها في الثاني، و لكن الإنصاف أنّه مع ذلك لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لإمكان أن تكون العلّة أمرا آخر.

نعم لو استظهر من الرواية الأخيرة كون جملة «يبال فيه» صفة للماء و رجوع الضمير في «لا بأس به» إلى الماء دون أن يكون التقدير «أ يبال فيه» و يكون الضمير راجعا إلى البول أمكن التمسّك به.

و بالمرسل المحكي عن نوادر الراوندي: الماء الجاري لا ينجسه شي ء «1».

و عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين- عليه السلام- قال في الماء الجاري يمر بالجيف و العذرة و الدم يتوضّأ و يشرب و ليس ينجسه شي ء ما لم تتغير أوصافه:

طعمه و لونه و ريحه «2».

و ليس فيهما سوى ضعف السند، و يمكن أن يقال بجبره بعمل الأصحاب، فإن المشهور المعروف ممّن عدا العلّامة- قدّس سرّه- هو القول بعدم انفعال الجاري، و المفروض أنّ خبر البئر لم يكن معمولا به عند كثير منهم، إلّا أن يقال:

لعلّ استنادهم إلى روايات الحمام- كما يأتي ذكرها- و بعموم التعليل بالمادة في صحيحة ابن بزيع و التمسك بها في محلّه بناء على ما اخترناه من رجوع التعليل إلى الفقرة الأولى.

______________________________

(1)- المستدرك: ج 1 ص 191، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ج 1 ص 191، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 92

و بصحيحة ابن سرحان أنّ «ماء الحمام بمنزلة الجاري» «1»، فإنّ معناها أنّ الجاري كما يكون معتصما و لا ينفعل، فكذا ماء الحمام، و يظهر منه مفروغية كون الجاري معتصما.

و أما ما يقال من أنّه بناء على اعتبار الكرّية في ماء الحمام فمقتضى التنزيل اعتبارها في المنزل عليه، أعني: الجاري أيضا فمدفوع

بأنّ ماء الحمام بعد التقييد بالكرّية قد نزل منزلة مطلق الماء الجاري.

و القول بأنّ ذلك يوجب عدم الوقع للتنزيل المذكور، إذ يصير مرجعه حينئذ إلى أن الكرّ بمنزلة الجاري مردود بأنّ هذا أيضا يكون مساوقا لأدلة عدم انفعال الكرّ فلعل الحكم كان في ذلك الزمان مفروغا عنه في الجاري دون الكر.

نعم لو كان في الكرّ أيضا مفروغا عنه لزم اللغوية، بل يمكن عدم لغوية التنزيل المذكور في الرواية في هذا الفرض أيضا بناء على اعتبار الكرية في مجموع ما في الخزينة و ما في الحوض الصغير و العمود الذي بينهما بأن يقال: إنّ عدم الانفعال لم يكن مفروغا عنه في هذا القسم من الكر، أعني ما يختلف سطحه و ان كان مفروغا عنه في متحد السطح، و أيضا اقتران الحكم بوصف، كما لو قيل: تبيّن في خبر الفاسق و لا يلزم التبيّن في خبر العادل، يفهم منه العرف بواسطة المناسبة التي يدركها بين الحكم و هذا الوصف، علّية هذا الوصف للحكم، فيفهم في المثال انّ وجوب التبيّن في الأوّل لأجل فسق المخبر و عدم وجوبه في الثاني لأجل عدالته، فكذا لو قيل: إنّ الماء الجاري لا ينفعل بالملاقاة، يفهم منه أنّه كذلك لكونه جاريا، و من الواضح أنّه لو اعتبر في عدم انفعاله الكرّية يلزم لغوية وصف جريانه.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 110- 111، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 93

و بمرسلة ابن أبي يعفور: ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا «1»، و قد يستشكل في دلالته بأنّ التطهير هنا يكون بمعنى الدفع و حفظ الطهارة، مثله في آيتي تطهير أهل البيت «2» و تطهير مريم «3»، و ذلك لأنّه واقع في جواب

السؤال عن ماء الحمام الذي يغتسل فيه اليهود و النصارى، فتوهّم السائل أنّه يصير بذلك نجسا، فأجاب- عليه السلام- بأنّه كماء النهر يطهّر بعضه بعضا، يعني يحفظ بعضه بعضه الآخر عن أن يصير نجسا، ثمّ البعض يشمل كل بعض من ماء النهر، فالمعنى أنّ كل بعض من النهر يحفظ كل بعض منه عن النجاسة، فيكون للأبعاض المتقدمة دخل في اعتصام البعض المتأخّر من الجميع المتصل بالمادة، فهذا يدل على اعتبار الكثرة في ماء النهر، لأنّ اعتصام بعض بكل بعض إنّما هو من خواص الكثرة.

و فيه أوّلا: أنّه لا داعي إلى حمل التطهير هنا على الدفع، بل لا مانع من الحمل على الرفع، و ذلك لأنّ أصل النجاسة لم يكن محط نظر السائل، فإنّ استعمال اليهود و شبههم لماء الحوض كان في زمان انفصال الماء من الخزينة، فسؤالهم إنّما هو عن أنّه هل يصير بعد ذلك طاهرا أم لا فأجاب- عليه السلام- بأنّه كماء النهر يطهر بعضه بعضا، يعني كما أنّ كل بعض عال من النهر رافع لنجاسة سافله، فكذلك حال ماء الحمام حين الاتصال بالمادة.

و ثانيا: أنّه لا يلزم أن يكون البعض شاملا لكل بعض، إذ الكلام مسوق لبيان عدم احتياج الماء في التطهير إلى مطهر من الخارج كإلقاء كر و نحوه، فهو

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 112، ح 7.

(2)- سورة الأحزاب، الآية: 33.

(3)- سورة آل عمران، الآية: 42.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 94

بمنزلة قولنا: إنّ نفسه مطهر لنفسه، و هذا لا ينافي اختصاص المطهر- بالكسر- بالبعض العالي و المطهر- بالفتح- بالبعض السافل، و أمّا المشبه به، أعني: ماء النهر فإمّا أن يكون موضوعا للأعم من القليل و الكثير كما يشهد بهذا توصيفه

بالصغير و الكبير، و امّا أن يكون منصرفا إلى الكثير، لكن هنا يكون وصف كثرته ملغى، و انّما وقع مشبها به باعتبار وصف الجريان، و إلّا ناسب أن يقال: كماء البحر، و لو قيل مع ذلك: كماء النهر يلزم أن يكون حيث كونه ماء النهر و جاريا ملغى، مع أنّ العرف يفهم الدخل للجريان دون الكثرة، كما يفهم من قولك: ماء الحمام كماء البحر، العكس.

فإن قلت: يكفي في دخل وصف الجريان في التشبيه، الشباهة الصورية بين ماء الحمام حين الاتصال بالمادة و بين النهر في الجريان الفعلي.

قلت: الغرض تشبيه ماء الحمام بماء النهر في الحكم و هو ما ذكره بقوله:

يطهّر بعضه بعضا، لا في الصورة، و الحاصل أنّ ظهور هاتين الروايتين في عدم انفعال مطلق الجاري ممّا لا ينكر، و حينئذ فيقع بين هذه الأدلّة و بين أدلّة انفعال ما دون الكر من الماء تعارض بحسب الصورة.

فإن قلنا: باختصاص مورد تلك الأدلّة بالماء الراكد- كما يشهد بذلك ورود أكثرها في مورد الغدران و نحوهما كما يأتي ذكرها إن شاء اللّٰه تعالى- فلا معارضة أصلا.

و إن قلنا: بأنّ الموضوع فيها مطلق الماء ثبت المعارضة، و النسبة هو العموم من وجه، فإنّ مفاد الأولى: أنّ الماء الجاري لا ينفعل و إن كان قليلا، و مفاد الثانية:

أنّ الماء القليل ينفعل و إن كان جاريا، فيجتمعان في القليل الجاري، فامّا أن يحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 95

بدخول مورد الاجتماع تحت الأولى و تخصّص الثانية بغير الجاري، أو بدخوله تحت الثانية و تخصّص الأولى بغير القليل، لكن يلزم من الثاني و هو تخصيص أدلّة الجاري بغير القليل مساوقة تلك الأدلّة لأدلّة الكر و اتحادها معها، و هذا مناف

لما هو صريح الأدلّة من أنّ الجاري عنوان مستقل في عدم الانفعال كعنوان الكر فيتعيّن الأوّل و هو تخصيص أدلّة القليل بغير الجاري، و على هذا فلو شككنا في ماء خاص أنّ له مادة حتى يكون مصداقا للجاري أو لا يكون له مادة و كان قليلا كان من باب الشبهة المصداقية التي تقرر في الأصول عدم جواز التمسك فيها بالعام، فلا يمكن فيه التمسّك بعمومات انفعال القليل، فيكون المرجع هو الأصل و هو الطهارة، فما في العروة الوثقى من الحكم بالنجاسة ممّا لا وجه له.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 96

فصل في اعتصام الماء الجاري

اعلم أنّ هنا ثلاثة مقامات:

الأوّل: ملاحظة سند أخبار المسألة.

و الثاني: ملاحظة دلالة لفظ الجاري.

و الثالث: علاج التعارض بين هذه الأخبار و أخبار اناطة الاعتصام بالكرّية.

أمّا المقام الأوّل:

فقد روي في الجعفريات بسندها الصحيح المتصل إلى الصادق إلى آبائه- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- «أنّ الماء الجاري لا ينجّسه شي ء» «1» و في آخر بهذا الاسناد إلى علي- صلوات اللّٰه عليه- أنّه قال: في الماء الجاري يمرّ بالجيف و العذرة و الدم يتوضّأ و يشرب و ليس ينجّسه شي ء «2». و هذه هي الرواية التي أرسلها في دعائم الإسلام عنه- صلوات اللّٰه عليه- و بعد هاتين الصحيحتين، فلا يحتاج إلى التمسّك بروايات عدم البأس بالبول في الماء الجاري و ما يشبهها في ضعف الدلالة.

______________________________

(1)- المستدرك: ج 1 ص 190، ح 1 و 5.

(2)- المستدرك: ج 1 ص 190، ح 1 و 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 97

و أمّا المقام الثاني:

إنّ الجريان مأخوذ في مادة لفظ الجاري فهو يدل على ذلك بحسب اللغة. و أمّا المادة بمعنى النبع عن الأرض فلا يعتبر في صدقه. نعم يعتبر فيه

المادة بمعنى أن يكون له استمرار الجريان عرفا، فماء الكوز إذا أجري على الأرض فلفظ الجاري لا يصدق و إن صدق سائر المشتقات. و أمّا الماء الذي يجري من ذوبان الثلج الكثير الذي له شأنية الجريان إلى شهر، فلا نسلّم فرقا بينه و بين ما يجري من المادة النابعة، فكما يصدق الجاري على الثاني من غير فرق بين كثيره و قليله كما في أوّل زمان خروجه، فكذا على الأوّل من غير فرق بين كثيره و قليله كما في أوّل زمان ذوبانه. و هكذا الكلام في الساقية المتصلة و نحوها.

نعم هنا أفراد مخفيّة أيضا مثل ما هو مرسوم في بلاد العرب من سقي الزارعات بالدلاء، بحيث يجري ساقية من ماء في مدّة طويلة، و كما يعمل في بلاد العجم من جذب الماء بما يسمى «ترنبه» على فرض انفصال الماء و عدم اتصاله.

و أمّا المقام الثالث:

فاعلم أنّ شيخنا المرتضى ذكر ما حاصله: أنّ مورد التعارض و هو الماء القليل الجاري لو عمل فيه بأخبار الجاري، يلزم إخراج مطلق الماء الجاري عن أدلّة اعتبار الكرّية، و لو عمل فيه بأدلّة الكرّية يلزم خروج هذا الفرد و هو القليل الجاري عن أدلّة الجاري، و حيث إنّ الثاني تقييد بالفرد النادرة لندرة القليل الجاري، و الأوّل تقييد بالفرد الشائع المتعارف و هو المياه الجارية، فالمقدّم تقييد أدلّة الجاري بالقليل الجاري.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 98

فإن قلت: بل لا يفرق الحال فلا يلزم إلّا تقييد الدليل بهذا الفرد النادر حتى في دليل الكرية لوضوح عدم التعارض في غيره.

قلت: بل لا بدّ من تقييد دليل الكر بمطلق الجاري، و ذلك لأنّ مفاده اناطة اعتصام الماء بالكم الخاص، فإمّا أن يعمّم الماء

للراكد و الجاري، و امّا يخصّص بالأوّل، فيلزم ما ذكرنا من خروج الفرد الشائع، و ليس ذلك إلّا من تقديم دليل الجاري و ليس هكذا الحال لو قدمنا دليل الكر، فيكون مفاده أنّ مطلق الماء جاريا كان، أم راكدا شرط اعتصامه الكرية، فيحمل أدلّة اعتصام الجاري بما إذا كان كرّا ثمّ إنّه- قدّس سرّه- اختار اعتصام القليل الجاري بواسطة الإجماعات.

قلت: لا يخفى أنّ أدلّة الكرّ ليس لها ظهور قوي في شمول الجاري، بل بعضها ظاهر في الراكد لكونه مسبوقا بالسؤال عن الماء الذي تبول فيه الدواب، و يلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب، و لا يخفى ظهوره في الراكد، و لفظ الماء في الجواب و هو قوله- عليه السلام-: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء»، و إن كان مطلقا لكن لا يمكن الأخذ بإطلاقه بعد مسبوقيته بهذا السؤال، لاحتمال رجوع اللام إلى المذكور في السؤال، و كون اللام للجنس و إن كان أصلا، و لكنّه حيث لا عهد.

و في رواية صحيحة أخرى متحد مع السابقة إلى الحسين بن سعيد لكن يفترق من بعده، و الإمام المروي عنه هو أبو عبد اللّٰه في كلتيهما قال: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1». و الظاهر أنّ هذا عين تلك الرواية، و الراوي حذف منه السؤال، و يؤيّده استبعاد صدور هذه القضية من الإمام ابتداء بدون سابقة سؤال،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 9، من أبواب الماء المطلق، ح 1، 2، 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 99

و مثله رواية أخرى بطريق الكليني عن معاوية بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّٰه يقول: «إذا كان إلخ»، و مثل الرواية السابقة قوله في رواية أخرى:

لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من الماء لمسبوقيته بالسؤال عن الوضوء بالماء الذي تدخل فيه الدجاجة، و الحمامة و أشباههما الواطية للعذرة، و بعضها صريح في الراكد و هي كثير منها: مثل قوله: «إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه» «1».

و مثل قوله: «إذا كان قدر كر لم ينجسه شي ء» «2»، و الضمير راجع إلى ما ذكر في السؤال من الغدير الذي فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب، إلى غير ذلك ممّا يكون الموضوع فيه الغدير، أو الماء الساكن، أو الماء الراكد، أو الحياض، أو الماء النقيع، أو الحبّ.

و أمّا ما وقع فيه السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شي ء، فوقع الجواب بالكر فهي واردة في مقام السؤال عن الذي وقع في الأخبار الأخر، فهذا سؤال عن تعيينه و تعيين مقداره و مساحته فيكون واردة مورد حكم آخر.

هذه أخبار الباب و عرفت أنّ ما يمكن أن يستدلّ به في الجاري روايتان ذكر فيهما قضية «إذا كان الماء إلخ» ابتداء و بدون سبق سؤال، و عرفت حالهما أيضا، و لو سلم فلهما أوّل الدرجة من الظهور الذي كان مأخوذا لو لم يكن معارض.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 99

و حينئذ نقول: لو قيّد في دليل الجاري يلزم لغويته بالمرة، فإنّه صريح في أنّ عنوان الجاري له دخالة في الحكم و ليس مجرّد المعرّف لما هو الموضوع، و على تقدير تعميم اعتبار الكرّية بالنسبة إلى الجاري أيضا يلزم لغوية وصف الجريان،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 117، ح 3.

(2)-

الوسائل: ج 1 ص 117، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 100

فإنّه على هذا ليس تمام العلّة و إلّا لم يكن القليل الجاري منفعلا و لا بعضا من العلّة و إلّا لكان الكثير الراكد منفعلا، فعدم انفعال الثاني و انفعال الأوّل لازمة كون العلّة التامة هي الكر و كون الجريان لغوا لا يترتب عليه أثر أصلا، و هذا في المخالفة لظاهر دليل الجاري بمكان.

و أمّا لو قدم دليل الجاري فاللازم التصرّف في دليل الكرّ بأحد نحوين ليس شي ء منهما بهذه الدرجة من الموهونية، إمّا رفع اليد عن عموم الماء فيها للماء الجاري، و قد عرفت أنّ ظهورها في شموله في غاية الدرجة من الضعف، و رفع عن مثل هذا الظهور لا يبلغ حدّ ذلك التصرف و مخالفة الظاهر في الوهن، و إمّا رفع اليد عن مفهوم الشرط و قد حققنا في محلّه عدم الجزم بالمفهوم للقضية الشرطية، و إنّما المسلّم ثبوت الارتباط و العلّية بين الشرط و الجزاء، و أمّا حصر العلّة في الشرط كما هو مبنى استفادة الانتفاء عند الانتفاء فلم يحصل الجزم به، فقوله: «الماء إذا كان إلخ» إنّما يستفاد منه عدم كفاية حيثية المائية بنفسها في الاعتصام و أنّه محتاج إلى شي ء آخر و هو الكرّية، و أمّا أنّه ليس شي ء آخر يقوم مقام الكرّية في هذه الفائدة فلا يستفاد منه، و لو سلم مطلقا أو في خصوص هذا المقام، فهو ظهور ضعيف ليس رفع اليد عنه بمثابة رفع اليد عن ظهور دليل الجاري، فيقال: إنّ سبب اعتصام الماء أمران: الكرّية، و الجريان، فربّما يكون الأوّل فقط كما في الراكد الكرّ، و ربّما يكون الثاني فقط كما في القليل الجاري، و

ربما يجتمعان كما في الكر الجاري، و لعمري أنّ ما ذكرنا في غاية الوضوح بحيث لا ينبغي الإشكال فيه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 101

[القسم الثاني في الماء الراكد]
اشارة

قوله- دام ظلّه- في العروة:

«فصل: الراكد بلا مادّة إن كان دون الكرّ ينجس بالملاقاة، من غير فرق بين النجاسات، حتّى برأس إبرة من الدم الّذي لا يدركه الطرف، سواء كان مجتمعا أو متفرّقا مع اتّصالها بالسواقي، فلو كان هناك حفر متعدّدة فيها الماء و اتّصلت بالسواقي و لم يكن المجموع كرّا إذا لاقى النجس واحدة منها تنجّس الجميع، و إن كان بقدر الكرّ لا ينجس و إن كان متفرّقا على الوجه المذكور، فلو كان ما في كلّ حفرة دون الكرّ و كان المجموع كرّا و لاقى واحدة منها النجس لم تنجس لاتّصالها بالبقيّة.

[في انفعال الماء الراكد القليل بالنجاسة]

(1 مسألة): لا فرق في تنجّس القليل بين أن يكون واردا على النجاسة أو مورودا».

القول بالانفعال في الراكد القليل هو المعروف، و القول بعدمه للعماني و المحقّق الكاشاني، و ينبغي أوّلا ذكر أخبار البار تيمّنا و تبرّكا و النظر فيها مع خلو الذهن.

فنقول و باللّه المستعان و عليه التكلان: في الوسائل عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر- عليه السلام- قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه و لم يستبين ذلك في الماء هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس و إن كان شيئا بيّنا فلا تتوضأ منه، قال: و سألته عن رجل رعف و هو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا إلخ «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 112، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 102

الفقرة الأخيرة واضح دلالتها على الانفعال، و الفقرة الأولى إمّا محمول على صورة العلم بإصابة الدم

الماء ففصل بين صورة ظهوره في الماء و عدم ظهوره، و على هذا حمله شيخ الطائفة فحكم بعدم تنجيس ما لا يدركه الطرف من الدم، و إمّا محمول على صورة العلم الإجمالي بوقوع الدم إمّا في ظهر الإناء، و إمّا في جوفه ففصل بين صورة الاستبانة في الماء فيبدّل الإجمالي بالعلم التفصيلي، و بين عدم الاستبانة في الماء فحكم بعدم البأس باستعمال الماء مع كونه أحد طرفي العلم الإجمالي.

فذكر الشيخ الأجل المرتضى أنّه لو خرج أحد طرفي العلم الإجمالي عن مورد الابتلاء كما هنا حيث إنّ ظهر الإناء خارج عن مورد الابتلاء، فالشك في الطرف الآخر الذي داخل في محلّه بدوي فيكون مجرى للأصل، و لكن هذا المطلب بكليّته مسلم، لكن لم نفهم كون ظهر الإناء خارجا عن محل الابتلاء، فإنّ المناط في الخروج و عدمه كون التكليف المتوجّه إليه مستهجنا قبيحا عند العرف و عدمه، و ملاك الاستهجان و عدمه انصراف الدواعي بحسب النوع عن ارتكابه و عدمه، مثلا تقبيل رأس المنارة ممّا لا يتحقّق إليه الداعي نوعا، فيقبح لو علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة شي ء مبتلى به التكليف بأنّه لا تقبّل رأس هذه المنارة، و في ما نحن فيه و إن كان الطهر بالنسبة إلى الاستعمال في الأكل و الشرب ممّا ليس له داع نوعي إلّا أنّه بالنسبة إلى إيصال اليد إليه مع الرطوبة ممّا يكون إليه الداعي قطعا.

و هذا يكفي في عدم خروجه، فالتكليف بأنّه لا ينجس ظهر هذا الإناء و إن كان مستهجنا إلّا أنّه يصحّ التكليف الشرطي إليه بأن يقال احفظ بدنك و ثوبك من رطوبة تمام ظهر هذا الإناء لأجل صلواتك.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 103

و حينئذ فنقطع

إجمالا في المثال بتوجّه أحد التكليفين إمّا لا تشرب هذا الماء و لا تتوضّأ منه، و إمّا لا بد أن لا تصل يديك و ثوبك بظهر هذا الإناء مع الرطوبة مقدمة للصلاة، فيلزم من إجراء الأصل في كلا الطرفين العلم بالمخالفة لأحد التكليفين فيجب الاحتياط عقلا للأمن عن ضرر مخالفة التكليف.

و حينئذ فلا بد إمّا من جعل هذه الرواية مخصّصا لعمومات تنجيس الدم مطلقا، أو لعمومات انفعال الماء القليل بكل نجس، و إمّا من مخالفة القاعدة العقلية في العلم الإجمالي في خصوص هذا الفرض من باب ارتفاع موضوعها، فإنّ موضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط دفع الضرر المقطوع وجوده في أحد الجانبين، و هذا الموضوع يرتفع بعد ترخيص الشارع في الارتكاب للعلم بأنّه لو صادف مخالفة التكليف واقعا لا يؤاخذ عليه الشارع نظير البراءة العقلية، حيث إنّ موضوعه قبح العقاب بلا بيان، فلو ورد من الشرع دليل و لو ظاهريا كان بيانا فيكون له الورود على هذه القاعدة العقلية و يكون من باب التخصّص لا التخصيص، إذ القواعد العقلية يمتنع تخصيصها فإنّ موضوعاتها علل تامة بمحمولاتها و تخصيصها تفكيك للمعلول عن علّته.

و بالجملة الوجه الأوّل و هو تخصيص العمومات المذكورة في غاية البعد، فإنّ تخصيصها مع تكثّرها لا بد و أن يكون بظاهر قوي الدلالة و الظهور لا بمثل هذه الرواية التي لا ظهور لها في إصابة الدم بنفس الماء، فالحمل على العلم الإجمالي و خروج هذا المورد عن موضوع القاعدة العقلية من جهة النص على جواز الارتكاب يكون أولى، فتكون هذه الفقرة أيضا دليلا على الانفعال.

و عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1،

ص: 104

أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و ليس يقدر على ماء غيره قال: «يهريقهما جميعا و يتيمّم» «1»، دلالته على الانفعال واضحة، إذ لو لم يكن متنجسا لما كان وجه للتيمّم لكونه حينئذ من أفراد واجد الماء.

و عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها أنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء إلخ «2»، الظاهر أنّ السائل كان متوهّما لأنّ من يصير جنبا لا بد و أن لا يصل يده بشي ء حتى يغسلها، فسأل عن إدخال يده قبل الغسل في الإناء، بل يظهر منها و ما بمعناها أنّ ذلك أعني: توهّم المنع عن إدخال اليد في آنية الماء قبل غسلها كان مركوزا في أذهان الرواة، بل يظهر من رواية الطشت الآتية ارتكاز ذلك في غير الجنب أيضا.

فأجاب- عليه السلام-: بأنّه إذا لم يكن أصاب يده شي ء يعني من المني فلا بأس و يكون مفهومه أنّه لو أصابه شي ء ففيه بأس فيكون دليلا على الانفعال.

و عن سماعة عن أبي بصير عنهم- عليهم السلام- قال: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فأهرق ذلك الماء» «3» إلخ، و دلالته على الانفعال واضحة.

و عن ابن مسكان قال: حدّثني محمد بن ميسر قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل منه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 113، ح 2.

(2)- الوسائل: ج 1،

ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 113، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 105

و ليس معه إناء يغترف به و يداه قذرتان قال: يضع يده ثم يتوضّأ ثم يغتسل هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1»، حمله على ما إذا كان الماء بقدر الكر و إطلاق القليل عليه عرفي لا شرعي، أو حمله على القليل الشرعي و حمل القذارة على الوسخ كلاهما خلاف الظاهر، بل إمّا المراد بالقليل خصوص القليل الشرعي أو القليل العرفي الذي من مصاديقه القليل الشرعي، و الظاهر من القذارة هو النجاسة، فهذه الرواية دليل على عدم الانفعال إمّا بالصراحة و إمّا بالإطلاق.

و روى الصدوق أنّه سئل الصادق- عليه السلام- عن ماء شربت منه دجاجة فقال: «إن كان في منقارها قذر لم تتوضّأ منه و لم تشرب، و إن لم يعلم في منقارها قذر توضّأ منه و اشرب» «2» دلالته على الانفعال واضحة، و الماء ظاهر في القليل بقرينة شرب الدجاجة فإنّها غالبا تشرب من المياه القليلة.

و عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن- عليه السلام- عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة قال: «يكفئ الإناء» إلخ، يكفئ «3» يعني يقلب، و هذا أيضا دليل على الانفعال.

و عن سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الجرّة تسع مائة رطل من ماء يقع فيها أوقية من دم أشرب منه و أتوضأ؟ قال: «لا» إلخ «4» دلالة هذا أيضا على الانفعال واضحة بعد ملاحظة نسبة الأوقية من الرطل مع المائة رطل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق،

ص 113، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ص 114، ح 6.

(3)- المصدر نفسه: ح 7.

(4)- المصدر نفسه: ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 106

فإنّه لا يوجب التغيّر في الماء قطعا.

و عن سماعة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء من المني» إلخ «1»، و دلالته على الانفعال بمفهومه واضحة.

و عن سماعة قال: سألته عن رجل يمس الطست أو الركوة ثمّ يدخل يده في الإناء قبل أن يفرغ على كفيه، قال: «يهريق من الماء ثلاث حفنات و إن لم يفعل فلا بأس، و إن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي ء من المني، و إن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه فليهرق الماء كلّه» إلخ «2»، يدل على استحباب اهراق ثلاث حفنات و الحفنة ملاء الكفّين عند إدخال اليد في الإناء من الطشت أو الركوة أو نحوهما قبل الإفراغ و الصبّ عليها من ماء الآنية فترقّى من ذلك و قال: إنّه لو أصابته جنابة فأدخل يده في الإناء لم يكن به بأس إذا لم يصب يده شي ء، و أمّا إذا أصابها شي ء فأدخلها في الماء قبل أن يصب الماء أولا على كفيه فحينئذ ليهرق الماء كلّه فدلالته على الانفعال واضحة.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور «3» فيدخل إصبعه فيه؟ قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه هذا ممّا قال اللّٰه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ

مِنْ حَرَجٍ»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 114، ح 9.

(2)- المصدر نفسه: ح 10.

(3)- التور بالفتح فالسكون إناء صغير من صفر أو خزف يشرب منه و يتوضأ فيه و يؤكل. مجمع (منه رحمة اللّٰه عليه).

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 107

«1»، هذا أيضا واضح الدلالة على الانفعال.

و عن أبي مريم الأنصاري قال: كنت مع أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركيّ له فخرج عليه قطعة عذرة يابسة فأكفأ رأسه و توضّأ بالباقي «2»، الركي هو البئر، و يبس العذرة كناية عن عدم تفرق أجزائه، و حمل على كون الدلو تسع مقدار الكر أو على كون العذرة من مأكول اللحم و كلاهما خلاف الظاهر، و يمكن الحمل على اشتباه الراوي في رؤيته، فلعلّه كان في الماء خشبة أو نحوها فتوهّمهما الراوي عذرة، و إلّا فهل يرضى أحد بوضوء الإمام- عليه السلام- بهذا الماء فالإنصاف أنّ هذا ليس دليلا على عدم الانفعال، إذ ليس هذا المضمون من لفظ الإمام- عليه السلام- و إنّما هو كلام الراوي ينقل به ما شاهده من فعل الإمام و يحتمل خطاؤه في رؤيته.

و عن علي بن جعفر- عليه السلام- عن أخيه موسى بن جعفر- عليه السلام- قال:

سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء «3» و هذا أيضا ظاهر الدلالة على الانفعال.

و عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حديث قال: سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و

حضرت الصلاة و ليس يقدر على ماء غيرهما، قال: يهريقهما جميعا و يتيمم «4». و هذا أيضا متضح الدلالة على الانفعال.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 115، ح 11.

(2)- المصدر نفسه: ح 12.

(3)- المصدر نفسه: ح 13.

(4)- المصدر نفسه: ص 116، ح 14.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 108

و عن كشف الغمّة نقلا من كتاب الدلائل لعبد اللّٰه بن جعفر الحميري عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: لما كان في الليلة التي وعد فيها علي بن الحسين- عليه السلام- قال لمحمد- عليه السلام- يا بنيّ ابغني وضوءا قال: فقمت فجئته بماء، فقال: لا تبغ هذا فإنّ فيه شيئا ميّتا، قال: فخرجت فجئت بالمصباح فإذا فيه فأرة ميتة فجئته بوضوء غيره «1» الحديث» ابغ بمعنى اطلب و تكون القضية من معجزات السجاد- عليه السلام- و ذكرها فيها في البحار، و كيف كان فهو متّضح الدلالة على الانفعال.

و عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، قال: سألته عن جرّة ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية بول هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا يصلح «2»، دلالته على الانفعال واضحة فإنّ الألف رطل ينقص عن الكر بما في رطل.

و عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- و سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء «3»، لا إشكال في دلالته مفهوما على الإيجاب الجزئي و هو كاف للمدّعي من تنجّس القليل بمجرّد الملاقاة.

و عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه

شي ء «4».

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حديث قال: و لا تشرب من

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 8، من أبواب الماء المطلق، ص 116، ح 15.

(2)- المصدر نفسه: ح 16.

(3)- المصدر نفسه: ب 9، من أبواب الماء المطلق، ص 117، ح 1.

(4)- المصدر نفسه: ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 109

سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه «1» إلخ، و هذا واضح الدلالة على الانفعال.

و عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: قلت له الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب قال: «إذا كان قدر كر لم ينجسه شي ء» «2».

و عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- يقول: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «3».

و عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الماء الذي لا ينجسه شي ء؟ فقال: كر، قلت: و ما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار إلخ «4»، يدل على أنّه كان عند الرواة من المفروغ عنه كون بعض المياه ممّا لا ينفعل و كون بعضها ممّا ينفعل، فسأل الإمام عن تعيين ما لا ينفعل.

و عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجسه شي ء، قلت: و كم الكر؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها إلخ «5»، مضمون هذه الرواية مخالف للإجماع حيث فصّل في ماء البئر بين القليل و الكثير، و الفقهاء بين من يقول بانفعاله مطلقا، و من يقول بعدم انفعاله

كذلك.

______________________________

(1)- الوسائل: ب 9، من أبواب الماء المطلق، ص 117، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 118، ح 5.

(3)- المصدر نفسه: ح 6.

(4)- المصدر نفسه: ح 7.

(5)- المصدر نفسه: ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 110

و روى الصدوق أنّه سئل الصادق- عليه السلام- عن الماء الساكن يكون فيه الجيفة؟ قال يتوضّأ من الجانب الآخر و لا يتوضّأ من جانب الجيفة «1».

قال: و أتى أهل البادية رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله إنّ حياضنا هذه تردها السباع و الكلاب و البهائم، فقال لهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله: «لها ما أخذت أفواهها و لكم سائر ذلك» «2»، كلتا الفقرتين بإطلاقهما يدلّان على عدم الانفعال في القليل.

و عن شهاب بن عبد ربّه قال: أتيت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- أسأله فابتدأني فقال: إن شئت فسل يا شهاب و إن شئت أخبرناك بما جئت له، قلت: أخبرني، قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا، قال: نعم، قال: توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن. و جئت تسأل عن الماء الراكد ممّا لم يكن فيه تغيير و ريح غالبة، قلت: فما التغيّر؟ قال: الصفرة فتوضّأ منه، و كلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر إلخ «3»، دلّ على أنّ المناط غلبة كثرة الماء على وصف النجاسة أو غلبة وصف النجاسة على الماء، فعلى الأوّل طاهر من غير فرق بين القليل و الكثير، و على الثاني نجس كذلك، فيدل بالإطلاق على عدم الانفعال، فإنّ الغدير و الماء الراكد شاملان على القليل و الكثير.

و عن صفوان بن مهران الجمال قال: سألت

أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الحياض التي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع و تلغ فيها الكلاب و تشرب منها الحمير و يغتسل فيها الجنب و يتوضّأ منها، قال- عليه السلام-: و كم قدر الماء؟ قال: إلى

______________________________

(1)- الوسائل: ب 9، من أبواب الماء المطلق، ص 119، ح 9.

(2)- المصدر نفسه: ح 10.

(3)- المصدر نفسه: ح 11.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 111

نصف الساق و إلى الركبة، فقال: توضّأ منه إلخ «1»، و هذا دليل على الانفعال فانّ سؤال الإمام- عليه السلام- أوّلا عن قدر الماء يدل على أنّ للماء قدرا يكون منفعلا لو كان بذاك القدر.

و عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الماء الساكن و الاستنجاء منه، فقال: «توضّأ من الجانب الآخر و لا تتوضّأ من جانب الجيفة إلخ «2»، و هذا بإطلاقه يدلّ على عدم الانفعال، و النهي عن التوضّؤ من الجانب التي فيه الجيفة إمّا محمول على الإلزامي لحصول التغيّر، أو على التنزيهي لعدم حصول التغير و حصول الاستقذار، و رواه الصدوق مرسلا إلّا أنّه قال: يكون فيه الجيفة و ترك قوله و الاستنجاء منه.

و عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة و يبول فيه الصبي و تبول فيه الدابة و تروث، فقال: إن عرض في قلبك منه شي ء فافعل هكذا- يعني افرج الماء بيدك- ثم توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيق فإنّ اللّٰه يقول مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إلخ «3»، افرج الماء- يعني اضرب بيدك الماء- يمينا و يسارا حتى تذهب الكثافات إلى

الجانب الآخر، فهذا أيضا بالإطلاق دال على عدم الانفعال.

و عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل

______________________________

(1)- الوسائل: ب 9، من أبواب الماء المطلق، ص 120، ح 12.

(2)- المصدر نفسه: ح 13.

(3)- المصدر نفسه: ح 14.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 112

فيه الجنب ما حدّه الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه إلخ «1»، ظاهره جواز الوضوء منه إلّا أنّه عند التمكّن من غيره يستحب اختيار الغير لأجل التنفّر عن هذا الماء فيكون دليلا على عدم الانفعال بإطلاقه.

و عن عثمان بن زياد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- أكون في السفر فآتي الماء النقيع و يدي قذرة فأغمسها في الماء، قال: «لا بأس» «2»، النقيع الماء المجتمع، و هذا أيضا مطلق شامل للقليل و الكثير.

و عن بكار بن أبي بكر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحب في مكان قذر ثم يدخله الحبّ، قال: «يصب من الماء ثلاثة أكف ثم يدلك الكوز» إلخ «3»، و هذا بظاهره يدل على عدم لزوم الاجتناب عن الحب الذي أدخل فيه الكوز الموضوع في المكان القذر. نعم يدل على لزوم صب ثلاثة أكف من الماء على الكوز و دلكه، و حمله على ما إذا كان مريدا لإدخاله في الحب و لم يدخله بعد حمل قوله: ثمّ يدخله على «يريد إدخاله»- كما في قمتم إلى الصلاة حيث فسر باردتم القيام- فيدل على أنّه لا بد أوّلا من الصب و الدلك و تطهير الكوز

ثم إدخاله بعيد عن الظاهر، فيكون دليلا على عدم الانفعال.

و في كتاب الطهارة للشيخ الأجل المرتضى- قدّس سرّه- عن قرب الاسناد و كتاب المسائل لعلي بن جعفر قال: سألت عن جنب أصاب يده جنابة فمسحه بخرقة ثم أدخل يده في غسله هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: «إن وجد ماء غيره

______________________________

(1)- الوسائل: ب 9، من أبواب الماء المطلق، ص 120، ح 15.

(2)- المصدر نفسه: ص 121، ح 16.

(3)- المصدر نفسه: ح 17.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 113

فلا يجزيه أن يغتسل، و إن لم يجد غيره أجزأه» «1»، و هذا واضح الدلالة على عدم الانفعال.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام- قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرد أو صعوة ميتة؟ قال: «إن تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء» إلخ «2»، يدل على أنّه لو صار أجزاء الميتة متفرّقة في الماء و لا محالة صار الماء متغيّرا فهو نجس، و إن كان طريا و لم يتلاش أجزائه فتطرح الميتة و الماء طاهر.

إلى غير ذلك من الأخبار التي قيل أنّها تبلغ ثلاثمائة، و من هذه الأخبار خمسة تدلّ على قول العماني الثلاثة الأخيرة، و رواية ابن ميسر و رواية أبي مريم المتقدمتان، و الباقي ممّا كان منها قد استدل به لهذا القول و هو ستة منها ليس إلّا إطلاقات، و ما عدا ذلك و هو الاثنان و العشرون قد عرفت ظهورها في القول بالانفعال، و

ينبغي أن يذكر و يعد من جملة الأخبار الدالّة على عدم الانفعال الأخبار الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء، فإنّها أيضا ظاهرة في عدم انفعال مطلق الماء القليل لكنّهم لم يذكروها في هذا الباب و لم نعلم وجه ذلك.

منها ما عن الأحول يعني محمد بن النعمان «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- اخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ فقال: لا بأس به» «3».

______________________________

(1)- قرب الاسناد: ص 84، الطبع الحجري.

(2)- الوسائل: ج 1 ص 104، ح 8.

(3)- المصدر نفسه: ج 2 ص 1079، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 114

و منها ما عن الأحوال أيضا أنّه قال لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حديث: الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به، فقال: لا بأس، فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس به؟ قلت: لا و اللّٰه، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر «1». فإنّه يمكن أن يقال: إنّه ليس المراد الأكثرية بحسب المقدار قطعا فإنّا نقطع بأنّ الطهارة و النجاسة لا تدوران مدار الأكثرية بحسب الكم و المقدار و عدمها، إذ ربّما يكون الماء أكثر كمّا و مع ذلك يتغيّر بالنجاسة فيكون نجسا قطعا، فالمراد هو الأكثريّة بحسب الوصف، فيكون مفاد هذا التعليل بعمومه أنّه كلّما كان الماء بحيث غلب وصفه على وصف النجاسة فهو طاهر، و كلّما غلب وصف النجاسة وصف الماء كان الماء نجسا، فيكون منجس القليل أيضا هو التغيّر، إذ المفروض أنّ مورد الرواية أيضا هو القليل، فإنّ ماء الاستنجاء يكون بحسب الغالب قليلا.

و كيف كان فيمكن الجمع بين الأخبار مع قطع النظر عن الإجماع بحملها على اختلاف مراتب النجاسة، فكما أنّ

القذرات العرفية تكون مختلفة بحسب الشدّة و الضعف فربّ قذارة يتجنب عنها العرف و لا يرتكبها حتى عند الضرورة، و ربّ قذارة يكون متجنبا عنه ما دام غيره ممكنا، و أمّا عند الضرورة و الإلجاء يجوّزون ارتكابه، و هذا أيضا يكون على قسمين قد يكون الاجتناب حال الاختيار على وجه الوجوب، و قد يكون على وجه الرجحان الملائم مع جواز الترك، فيحمل اخبار الانفعال على حال التمكّن من ماء آخر، و اخبار عدم الانفعال على حال الضرورة كما صرّح به في بعضها، أو يحمل الأولى على رجحان التجنب، و الأخيرة على عدم البأس بالارتكاب.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 161، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 115

لكن هذا أعني القول بثبوت المراتب للنجاسة الشرعية لم يظهر قائل به إلّا أن ينزّل قول العماني و من وافقه على هذا.

فلا يرد عليهم أنّ الأخبار الواردة بتقييد الكرّية في عدم الانفعال و في تحديد الكرّية على هذا يكون مفادها لغوا، إذ بعد عدم الفرق بين القليل و الكثير في حكم ذي النجاسة بالتغيّر و عدمها بدونه فما وجه التقييد و بيان حد الكرّ؟ فليس هذا إلّا لأجل أنّ للماء حدّ ينفعل كما أنّ له حدّا لا ينفعل.

فإنّه يقال في الجواب: إنّ فائدة التقييد أنّ الماء إذا بلغ هذا الحدّ لم يحمل خبثا أصلا حتى في حال الاختيار و على وجه التنزّه، و أنّ الماء الذي له قابلية الانفعال و قابلية عدمه هو ما دون هذا الحدّ.

و يؤيد هذا المعنى أنّ القول بانفعال القليل مع القول بحصول تطهير الثوب- مثلا- به لا يندرج في الأذهان العرفية، إذ يتوقف على القول بأنّ الماء المصبوب على الثوب يحمل نجاسة الثوب فالثوب

طاهر و الماء المندمج في أجزائه نجس يعني حمل نجاسة الثوب السابقة، و هذا لا تساعده الأذهان العرفية، و كذا لازمة القول بأنّ الجزء المتخلّف من هذا الماء المندمج في الثوب الحامل لنجاسة الثوب بعد خروج غالبه يصير طاهرا، فالجزء الغالب الخارج مطهر للجزء القليل المتخلف فانّ هذا أيضا لا يساعده العرف.

نعم لو كان على ذلك الإجماع أو ثبت التعبّد به من الشرع من طريق آخر نتقبله، لكن الكلام في الاستفادة من الدليل و فهم معنى الخبر على حسب المتفاهم العرفي هذا.

و على فرض ثبوت الإجماع على عدم تحقّق المرتبة للنجاسة فلا بدّ من طرح

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 116

أخبار عدم الانفعال لأكثرية أخبار الانفعال. و بعد الفراغ عن علاج تعارض هذه الأخبار إمّا بالقول بانفعال الماء القليل و طرح ما يدلّ على الخلاف، و إمّا بالقول بكون النجاسة في الماء القليل ذات مراتب يكون هنا شي ء يمكن استفادته من التعليل في خبر ماء الاستنجاء أعني قوله: أو تدري لم صار ماء الاستنجاء به لا بأس به، فقال: لا و اللّٰه، فقال: لأنّ الماء أكثر من القذر، و هو أن يقال إنّه ليس المراد الأكثرية بحسب المقدار للعلم بأنّ الأكثرية الكمية ليست مناطا من الأدلة كما يدل عليه خبر الدم الذي صار قطعا صغارا و قوله في خبر عمر بن حنظلة في المسكر لا قطرة قطرت منه في حب إلّا أهريق ذلك الحب، و موثقة سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّٰه «قال: سألته عن الجرّة تسع مائة رطل من الماء يقع فيه أوقية من الدم إلخ» «1»، و غير ذلك.

و لا بحسب الوصف لمخالفته للتحديد بالكرّية و تخصيص عدم التنجس إلّا بالتغيّر به

المدلول عليه الأخبار الكثيرة.

بل المراد الأكثرية بحسب مقام المنازعة و المخاصمة الواقعة بين الماء و النجاسة و التأثير و التأثّر الثابت بينهما يعني أنّ الماء أقوى من النجاسة و أكثر قوّة منها، فيكون الفتح و الغلبة معه و ذلك بأن يقال: بأنّ الماء الذي يجري من العالي إلى السافل فلاقى سافله النجاسة فالجزء الملاقي يكون مشغولا و مبتلى بالمخاصمة و المنازعة و المدافعة لخصمه و هو النجاسة، و الجزء الذي هو فوقه ليس طرفا للنجاسة إذ ليس للنجاسة قوّة المخاصمة معه و التأثير فيه، فيكون حال هذا الماء العالي حال الماء المنفصل الذي كان نصره للماء الملاقي.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 114، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 117

فجانب الماء مشتمل على طائفتين المبتلى بالخصم و المستريح من الخصم المعاون للمبتلى به، و لكن جانب النجاسة ليس إلّا نفسه فهو متفرّد وحيد بلا ناصر و معين، فبهذا الاعتبار قيل: انّ الماء أكثر من النجس، يعني: أنّ الماء مشتدّ الظهر بالعون و النجاسة صفر الظهر من العون و ذلك لأنّ الماء الفوق مع وجود طهره في ذاته بمعنى عدم تأثّره من نجس أو متنجس تحتاني يكون مطهرا و طهورا لغيره أيضا، فبهذا الاعتبار يكون عونا للماء التحتاني الملاقي للنجس، فإذا انفصل الماء عن المحل النجس بعد جريانه عليه بهذا النحو و اجتمع في محلّ آخر فقد جاوز عن محلّ الجدال مع الخصم و مضى أمره و صار مع النصرة و الظفر، فقد انصب في المحلّ الثاني غير متأثر من النجس بل غالبا عليه.

نعم لو صار الجزء الملاقي متغيّرا فهو كالمغلوب الذي لا ينفعه نصرة الناصر و عون المعاون.

و كذا لو بقي عين النجاسة، إذ يصير

حينئذ ملاقيا و مخاصما لتمام أجزاء الماء على التدريج، فمحلّ الكلام ما إذا انتفى الأمران، يعني: التغيّر و بقاء العين، و هذا بخلاف الماء الذي يكون أكثر من النجاسة كمّا و لكن لا يكون جاريا بحيث كان مشتملا على عال و سافل كما لو لاقى النجس جزء من ماء الحوض فإنّ الباقي من الماء ليس عونا و ناصرا لهذا الجزء، إذ نسبة طرفية النجاسة و تخاصمها إلى جميع الأجزاء على السواء، و السر أنّ مجموع الماء ماء واحد، و يصدق أنّ هذا الماء الواحد قد لاقى النجاسة و الماء الجاري على صورة العمود أيضا و إن كان ماء واحدا إلّا أنّ تأثير الفوق ممّا لاقى التحت لا يفهمه العرف، فليس النجاسة إلّا معارضا لما يلاقيها فقط، و أمّا في ماء الحوض فهو معارض لجميع الماء دفعة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 118

و لعمري انّ هذا معنى لطيف شريف لهذا التعليل و يكون من مختصّات هذا الوجيز، و على هذا فلا بد من أن يفصل في الماء القليل الملاقي للنجس بين ما يشتمل على طائفتين إحداهما مشغولة بالتدافع مع النجس و الأخرى غير مشغولة بذلك و لكنّه عون للطائفة الأولى و بين غيره، فيحكم في الأوّل بعدم الانفعال إلّا مع التغيّر أو بقاء العين، و في الثاني بالانفعال مطلقا أو على التفاوت بحسب المراتب.

و لا يتوهم اتحاد هذا مع قول السيد- قدّس سرّه- حيث فرّق في الماء القليل بين ما إذا كان الماء واردا على النجس و بين ما إذا ورد النجس على الماء، فإنّ الصورة المفروضة التي ذكرناها و إن كانت من أفراد ورود الماء على النجس إلّا أنّ له أفراد أخر أيضا، فإنّه شامل

لما إذا وقع قطرة من الماء على النجس كما لو صار الماء المنصب على البدن قطرات و وقع على الأرض النجسة ثمّ عاد إلى البدن، فإنّ القطرة سواء وردت من فوق أم من عرض أم من تحت ليس مشتملا إلّا على طائفة واحدة مبتلاة بالمعارضة مع النجس فهي خارجة عمّا ذكرنا مع كونه من أقسام الورود.

فلا يرد عليه ما يرد على السيد من أنّ الفرق بين الورودين يكون بحسب المذاق العرفي مستبعدا و يكون خلافه مشاهدا في التأثيرات العرفية، ألا ترى أنّ تأثّر اليد من ملاقاة السمن، و كذا تأثّره من ملاقاة السكين لا يفرق فيه ما إذا وضع السمن و السكين على اليد أو وضع اليد عليهما، و لكن ليس مستبعدا في نظر العرف بعد ملاحظة جريان الماء من الفوق إلى التحت مثلا و عدم تأثّر الفوق بملاقاة التحت للنجاسة أن يكون التحت الملاقي للنجس غير متأثّر لاشتداد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 119

ظهر الماء بالعون، فهذا المعنى يصل إليه فهم العرف بعد ملاحظة هذه المقدّمات بسهولة.

و يؤيّد هذا المعنى أخبار [ماء] الحمام المشترطة طهارته على المادة مع عدم التقييد بالكرّية فيكون مفادها أنّ هذا الماء الجاري على هيئة العمود يكون له مادة و هو الجزء الفوقاني الغير المتأثّر بملاقاة التحتاني فإنّه عون و مادة للجزء التحتاني، فيستفاد منها أيضا أنّ كلّ ماء كان بهذه الهيئة كماء الإبريق لو جرى ماؤه من ثقبه على هيئة العمود فحكمه كذلك فلا يحتاج إلى اشتراط الكرّية إمّا في نفس المادة، و إمّا في المجموع منها و من العمود و المجتمع في الحوض الصغير بدعوى الانصراف لغلبة كون مادة الحمامات كرّا حتّى يرد عليه أنّ ما هو

الغالب هو الأزيد من الكرّ و هو لا يكون معيارا قطعا، و الكرّ الذي يحتمل أن يكون معيارا ليس بغالب فإذا رفع اليد عن الغالب و هو الزيادة و علم عدم استعمال اللفظ فيه فما وجه الحمل على خصوص الكرّ.

و على هذا المعنى الذي ذكرنا فحصول تطهير الثوب المتنجس بالماء القليل أيضا ليس مستبعدا عرفا، فإنّه أيضا يكون على وجه صبّ الماء عليه، فالثوب و الماء الذي يكون فيه بعد زوال العين يكونان طاهرين معا فيكون ملازما للقول بطهارة غسالة ماء القليل الغير المزيلة.

بقي الكلام في وجه الجمع بين هذا التفصيل الذي استظهرناه في الماء القليل من التعليل المذكور و أخبار الحمام و بين الأخبار الأخر.

فنقول: هنا ثلاث طوائف من الأخبار يتوهّم معارضتها لهذا المدلول.

إحداها: الأخبار الدالّة على الانفعال التي يكون موردها الماء القليل و لم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 120

يذكر فيها اسم الكر.

و الثانية: الأخبار الّتي تدل على عدم الانفعال مع كون موردها القليل و عدم ذكر اسم الكرّ فيها فإنّه يتوهّم معارضتها لأجل أنّ مقتضى تعليل عدم الانفعال في خبر الاستنجاء بالأكثرية هو الانفعال في صورة عدم الأكثرية، فهذا التعليل مشتمل على حكمين: عدم الانفعال في صورة الأكثرية بأن يكون الماء جاريا على وجه لم يتأثّر جزء بملاقاة جزء كالجاري من العلو إلى السفل، و الانفعال في غير هذه الصورة، و مورد تلك الأخبار هو غير هذه الصورة أيضا، فإنّ موردها صورة ورود النجاسة على الماء.

و الثالثة: مطلقات انفعال القليل و هي الأخبار التي ذكر فيها الكرّ و دلّت بالمفهوم على انفعال غيره و هي العمدة في باب انفعال القليل.

فنقول: أمّا الطائفة الأولى فليست معارضة، لأنّ مورد كلّها صورة ورود النجاسة

على الماء، فلاحظها.

و أمّا الطائفة الثانية، فلأنّ الكلام بعد الفراغ عن الجمع بين هذه الطائفة و ما يدلّ على الانفعال إمّا بالحمل على كون النجاسة ذات مراتب، و إمّا بطرح هذه الطائفة و العمل بما يدلّ على انفعال القليل فبعد الفراغ عن هذا المقام نريد استفادة المعنى المذكور من التعليل.

بقي الطائفة الثالثة المفصّلة بين القليل و الكرّ و يكون موردها مطلق الماء فيكون مفادها أنّ مطلق الماء إذا كان قليلا ينجس بالملاقاة بأي وجه حصل الملاقاة سواء كان بالنحو المزبور أم بغيره، فيقال في دفع المعارضة بأنّه ليس في هذه الأخبار لفظ الملاقاة حتى يتمسّك بإطلاقه، فإمّا أن يقال بأنّ مفادها أنّ الموضع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 121

الذي يتحقّق فيه المقتضي للتنجيس في الماء القليل فينجسه، ففي الماء الكثير متى تحقّق هذا المقتضى فالكرّية مانعة عن تأثيره، فليست هذه الأخبار إلّا متعرضة لمانعيّة الكرّ فيما لو فرغ عن وجود المقتضي للتنجيس و ليست متعرّضة لحال المقتضى له و أنّه يكون هو الملاقاة على وجه خاص أو الملاقاة بأيّ وجه اتّفق.

و الحاصل أنّها ليست في مقام بيان أنّ تنجيس النجاسات للماء بما ذا يحصل، بل هي في مقام بيان مانعية الكرّ عن التنجيس في المقام الذي تحقّق فيه المقتضي للتنجيس أيّاما كان، فطريق التنجيس يكون محالا و موكولا إلى العرف، و حينئذ فلا إشكال أنّ القدر المتيقّن من ما يؤخذ من العرف هو حصول التنجيس في غير الصورة المفروضة و فيها إمّا نقطع بعدم التنجيس، أو نشك و لا أقل منه فيكون المرجع الأصلي و هو الطهارة.

و إمّا أن يقال بأنّ الارتكاز العرفي يوجب التقييد في هذه الأخبار فكما أنّ في قولنا: الشمس مربية

للنبات يفهم العرف بمناسبة المقام أنّه بالإشراق عليه، و في قولنا: السكين تقطع اليد أنّه بالمماسة مع اليد، فكذا إذا قيل: النجس ينجس الماء القليل نفهم منه أنّه بالملاقاة، لكن نقول ليس كلّ ملاقاة بحسب المرتكز العرفي موجبة للتنجيس، بل الملاقاة على غير الوجه المذكور، و أمّا الملاقاة على هذا الوجه فقد عرفت أنّ العرف يساعد على عدم تأثّرها، لأكثرية الماء على النجس.

فإن قلت: لا نسلّم كون المرتكز العرفي في التأثيرات العرفيّة عدم التأثير بالملاقاة المذكور، و يشهد لذلك أنّ السم إذا لاقى الماء الذي يكون على هيئة العمود يجتنبون من موضع ملاقاته قطعا، و إن كانوا لا يجتنبون عن الماء العالي.

قلت: نعم لكن ذلك من باب أنّ الماء ليس رافعا لأثر السم عن موضع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 122

ملاقاته بخلاف النجس فإنّ شأن الماء هو الطهورية و المطهرية لغيره، فالماء العالي مضافا إلى عدم تأثّره بالنجس التحت يكون مؤثّرا في رفعه أيضا، و اذن فهذا الذي استفدناه من التعليل و أخبار الحمام في غاية القوّة بحسب الدليل و إن كان ليس العمل إلّا على التجنب لعدم قائل بهذا التفصيل.

و على أيّ حال سواء قلنا بنجاسة موضع الملاقاة في الماء الجاري على الهيئة المذكورة كما هو المشهور أم قلنا بطهارة جميعه كما استقويناه من الدلالة فهل يكون من مصاديق عنوان المستثنى عن عمومات انفعال القليل ما إذا كان الماء جاريا من سفل إلى علو كالفوارة أو لا؟ الظاهر الأوّل لثبوت الملاك فيه أيضا فإنّ العرف كما يرى في ما يكون كهيئة العمود أكثرية الماء من القذر كذلك فيما يكون كالفوارة، فإنّ الماء في كليهما يكون مسلطا على النجس و ذاهبا نحوه بقوّة، فهو

بقوّته يدفعه عن امامه.

و الحاصل أنّ الملاك ليس هو الجريان من العلو إلى السفل، بل مطلق الجريان بقوّة و سرعة و شدّة، و أمّا مطلق الجريان على وجه الأرض و إن كان مساويا في النظر فلا أقلّ من الشكّ في كونه من مصاديق الأكثرية. نعم ما يكون من الجريان على وجه التسنيم أو التسريح الشبيه به يكون كافيا لوجود الملاك فيه، و المراد بالأوّل ما يتصاعد ثمّ ينحدر على هيئة ظهر السمك، و المراد بالثاني ما يكون العلو فيه محسوسا جدّا، و ينبغي الكلام في هذا المقام و إن كان أجنبيا عنه في ماء الغسالة لمناسبة بينهما.

فنقول: قيل في الغسالة خصوصا المطهرة بالطهارة، و قيل فيها خصوصا المزيلة بالنجاسة، مستند الثاني ظاهر و هو عمومات انفعال الماء القليل الشاملة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 123

بعمومها لماء الغسالة، و مستند الأوّل أنّه كيف يكون المحل طاهرا و الماء الداخل فيه نجسا، و مرجع هذا إلى دعوى التلازم بين طهارة المحل و طهارة، الماء و بين نجاستهما، و الحقّ أن يقال لنا في المقام صنفين من العمومات عمومات انفعال القليل و عمومات أنّ الماء النجس لا يؤثر فيما لاقاه الطهارة فبعد القطع بحصول التطهير بالماء القليل لا بدّ من رفع اليد عن أحد هذين الصنفين لوضوح عدم إمكان حفظهما معا، فلا بدّ إمّا من تخصيص عموم انفعال القليل بغير المستعمل في التطهير، و إمّا من تخصيص عموم عدم إفادة الماء النجس للطهارة بغير مقام التطهير و النجاسة الحاصلة بسببه، و لا شكّ في جريان أصالة العموم بالنسبة إلى عمومات الانفعال لأنّ الشكّ بالنسبة إليها مرادي و أمّا جريانه بالنسبة إلى العمومات الأخر فمبني على القولين في

حجية أصالة الحقيقة و أصالة العموم في الشبهات الغير المرادية و عدم حجيّتهما، فانّ الشكّ بالنسبة إليها غير مرادي لمعلوميّة إفادة هذا الماء طهارة المحلّ، و إنّما الشكّ في أنّه من أفراد الماء الطاهر حتى يكون بالنسبة إلى العموم المذكور تخصصا أو من أفراد الماء النجس حتّى يكون تخصيصا.

فإن قلنا بالحجية كما زعمها السيد- قدّس سرّه- وقع التعارض فيتساقط الأصلان و يرجع إلى الأصل الجاري في كلّي الماء المشكوك الطهارة و النجاسة بين الانفعال و عدمه على الخلاف المتقدّم، و حيث اخترنا أنّه عدم الانفعال يكون ماء الغسالة طاهرا.

و إن قلنا بعدم الحجية و عدم الجريان كان أصالة العموم في جانب عمومات الانفعال بلا معارض، فيتعيّن القول بنجاسة الغسالة، لكن يمكن أن يقال بأنّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 124

و إن لم نقل في أصالة الحقيقة بالجريان إلّا في الشبهات المرادية خلافا للسيد- قدّس سرّه- حيث عمّمها بالنسبة إلى غيرها، لكن يمكن أن نختار قول السيد في أصالة العموم و نقول بجريانه في مقام تشخيص الموضوع و إن كان المراد معلوما، و الفرق بين المقامين أنّ المراد بجميع حدوده في الأوّل أعني: ما إذا لم يكن المعنى الحقيقي للفظ مميزا عن معناه المجازي و وجد مستعملا في معنى معلوم، فالشك في أمر خارج عن المراد بالمرّة، لوضوح عدم كون حقيقية المعنى المراد و مجازيته وجها و كيفية للمراد بحيث تفاوت كيفية الإرادة بسببهما.

و هذا بخلاف المقام الثاني حيث إنّ الشك هنا واقع في نحو المراد الإجمالي فنشك فيما إذا قال: أكرم العلماء و علم من الخارج بعدم وجوب إكرام زيد و لم يعلم أنّه عالم أو جاهل أنّ المراد اللّبي و المحبوب الجدي للمتكلّم

إكرام تمام الأفراد لعنوان العالم على نحو الإجمال أو إكرام بعضها، فإن كان زيد عالما كان مراده في أكرم العلماء إكرام البعض من العلماء، و إن كان جاهلا كان مراده إكرام تمامهم، و لا يبعد أن يكون أصالة العموم هاهنا جارية فنحكم بمقتضى عكس النقيض بانتفاء الموضوع عن مورد انتفاء الحكم، و ينزل هذا الأصل بمنزلة العلم، فكما لو علم بأنّ كلّما ينطبق عليه عنوان العالم يكون محبوب الإكرام، علم بأنّ الشخص المبغوض الإكرام ليس بعالم، فكذا ما هو بمنزلة هذا العلم أعني: أصالة العموم، فيقال: إنّ كل عالم واجب الإكرام بمقتضى الأصل فليس كل من لم يجب إكرامه بعالم كما في القواعد العقلية مثلا يقال: إنّ كل إنسان حيوان ناطق، فليس كلّما ليس بحيوان ناطق بإنسان، و ذلك لأنّ الموضوع في القواعد العقلية علل تامّة للمحمولات فإنّ انتفاء المحمولات قاض بانتفاء الموضوعات.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 125

و على هذا يكون أصالة العموم في جانب عمومات عدم إفادة الماء النجس الطهارة جارية أيضا فتكون معارضة للأصل الجاري في العمومات الأخر و إن كان على هذا يوجد في البين أصالة عموم أخرى تكون موافقة لأصالة العموم في عمومات الانفعال و هي أصالة العموم في عمومات أنّ كلّ ماء طاهر يرفع الحدث بعد العلم بأنّ الماء المستعمل في الخبث و إن كان طاهرا لا يرفع الحدث، فانّ هذا الماء لو كان طاهرا يلزم التخصيص في تلك العمومات و لو كان نجسا لا يلزم، فأصالة العموم تقضي بكونه نجسا فيكون على النجاسة أصلان و على الطهارة أصل واحد، و لا يضر بباب التعارض أكثرية أحد الطرفين من الآخر بعد فرض تساويهما بحسب الظهور.

نعم لو كان الأكثرية موجبة

للأظهريّة كانت مرجحة، و أمّا بدون ذلك كما هو كذلك في المقام فلا.

[في تحديد ماء الكر وزنا و مساحة]

في الكرّ الراكد

«مسألة 2: الكرّ بحسب الوزن ألف و مائتا رطل بالعراقيّ، و بالمساحة ثلاثة و أربعون شبرا إلّا ثمن شبر فبالمنّ الشاهيّ- و هو ألف و مائتان و ثمانون مثقالا- يصير أربعة و ستّين منّا إلّا عشرين مثقالا».

المشهور أنّ الكر بحسب الوزن ألف و مائتا رطل بالعراقي، و الرطل مائة و ثلاثون درهما، و لا إشكال في أنّه لو ثبت كون الكر ألفا و مائتي رطل بالعراقي و ثبت كون كلّ رطل مائة و ثلاثين درهما فهذا الوزن يطابق بحسب المنّ الشاهي المتداول في هذا العصر الذي هو عبارة عن ألف و مائة و ثمانين مثقالا، لأربعة و ستين منّا إلّا عشرين مثقالا، يعرف ذلك بالحساب. إنّما الكلام في الأمرين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 126

فنقول: و أمّا الثاني فيدل عليه مكاتبة الهمداني عن أبي الحسن- عليه السلام-: إنّ الصاع ستة أرطال بالمدني و تسعة أرطال بالعراقي و وزنه ألف و مائة و سبعون درهما، فإنّ الألف و المائة و السبعين إذا وزع على التسعة صار بإزاء كلّ من التسعة مائة و ثلاثين.

أمّا الأوّل فيدل عليه مرسلة ابن أبي عمير- الذي قد اشتهر أنّ مراسيله لغاية الوثوق به بمنزلة المسانيد- عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: الكر من الماء الذي لا ينجسه شي ء ألف و مائتا رطل «1»، و روي أيضا بإسقاط قوله الذي لا ينجسه شي ء، لكن لم يقيد الرطل فيه بالعراقي فيحتمل المكي الذي هو ضعفا العراقي و المدني الذي هو ضعف و نصف للعراقي.

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه-

عليه السلام- في حديث قال: و الكرّ ستمائة رطل «2» و في رواية أخرى عن ابن أبي عمير قال: روي لي عن عبد اللّٰه بن المغيرة يرفعه إلى أبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: إنّ الكرّ ستمائة رطل «3» و ربما يحمل الرطل في المرسلة على العراقي بدلالة كون ابن أبي عمير عراقيا.

و فيه أوّلا: أنّ المناط لو سلّم هو عراقية الراوي لا عراقية ابن أبي عمير الذي هو المرسل.

و ثانيا: أنّ عراقية الراوي لا يوجب الظهور في العراقي، لأنّ تخالف اصطلاح المتكلّم و المخاطب في اللفظ لا يلازم جهل كل منهما بعرف الآخر، فمخالفة عرف

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 11، من أبواب الماء المطلق، ص 123، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 124، ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 127

بلاد العراق لعرف بلاد الحجاز في لفظ الرطل لا يلازم جهل كل من أهل هاتين البلادين لعرف الآخر، و مع العلم لا قبح أصلا في أن يتبع المتكلّم عرف نفسه، بل لو كان هذا اللفظ في كلام السائل من أحد البلدين في البلد الآخر و اعاده المجيب الذي من أهل هذا البلد الآخر في الجواب كان ظاهرا في عرف نفس المجيب. نعم مع جهل المخاطب بعرف المتكلّم يقبح اتّباع المتكلّم لعرف نفسه.

و الحاصل لا ظهور للرواية في كون الرطل عراقيا فلو تكافأ الاحتمالات الثلاثة فإن قلنا بأنّ الأصل في الماء عند الشكّ هو الطهارة كما اخترناه لزم الأخذ بالقدر المتيقّن من طرف القلّة و هو العراقي، و إن قلنا بأنّه الانفعال كما اختاره الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- لزم الأخذ بالمتيقّن من جانب الكثرة و هو المكي.

و يمكن أن يستدل بمجموع الروايتين

على كون الرطل عراقيا بأن يقال: لو فرض القطع بصدور هذين المضمونين- أعني: كون الكرّ ألفا و مائتي رطل و كونه ستمائة رطل- من الإمام فلا شكّ أنّ وجه الجمع كان منحصرا في حمل الأوّل على العراقي و الثاني على المكي، لأنّ الثاني ضعفا الأوّل، ألا ترى أنّه لو قال المتكلّم: إنّ الشي ء الفلاني منان، و قال بعد ذلك: أنّه أربعة أمنان هل يرتاب أحد في أنّه أراد في الأوّل المنّ الشاهي و في الثاني المنّ التبريزي، فكل من الكلامين و إن كان مجملا مرددا بين معنيين أو معاني إلّا أنّه يحصل من انضمامهما معنى مبين فكل من المجملين يصير مبيّنا للآخر.

و على هذا فالروايتان خارجتان عن باب التعارض بين الخبرين، فانّ مورد التعارض ما إذا لم يكن في البين جمع عرفي و لا يختص الجمع العرفي كما أفاده الشيخ الجليل المرتضى- قدّس سرّه العزيز- في باب التعادل و التراجيح من رسائله بما إذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 128

كان أحد الخبرين نصا أو أظهر حتّى يجعل النصوصية و الأظهريّة موجبة لصرف الظاهر كما في العام و الخاص و المطلق و المقيّد، بل يشمل الجمع العرفي لمثل المقام ممّا إذا كان كلّ من الخبرين مجملا في نفسه و صار مبيّنا بانضمام الآخر، إذ المدار في الجمع العرفي الذي هو خارج عن موضوع أخبار علاج المتعارضين بالرجوع إلى المرجحات السندية هو عدم تحيّر العرف عند عرض الكلامين عليه، و لا شكّ أنّه موجود في المقام.

و كيف كان فيبقى الكلام في المعارضات الأخر من التحديد بالقلّتين اللتين هما جرّتان.

كما في مرسلة عبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: إذا

كان الماء قدر قلّتين لم ينجسه شي ء، و القلّتان جرّتان إلخ. «1»

و من تقدير الكرّ بقوله نحو حبّي هذا كما في المرسلة الأخرى لعبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: الكرّ من الماء نحو حبّي هذا و أشار إلى حبّ من تلك الحباب التي تكون بالمدينة «2» لكن هذان لا يقاومان ما تقدّم لإمكان أن تسع الجرّتان ألفا و مائتي رطل خصوصا مع ملاحظة رواية علي بن جعفر في جرّة ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية بول حيث فرض وسعة الجرّة الواحدة لألف رطل، و كذا من الممكن أنّه كان الحبّ المشار إليه واسعا لمقدار الكرّ، هذا بحسب الوزن.

و أمّا بحسب المساحة فالمعروف أنّه ثلاثة أشبار و نصف طولا و ثلاثة أشبار

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 10، من أبواب الماء المطلق، ص 123، ح 8.

(2)- المصدر نفسه: ص 122، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 129

و نصف عرضا و ثلاثة أشبار و نصف عمقا و يكون مكسره ثلاثة و أربعين شبرا إلّا ثمن شبر، إذ يحصل من ضرب ثلاثة العرض في ثلاثة الطول التسعة، و من ضرب ثلاثة العرض في نصف الطول واحد و نصف، و كذا من ضرب ثلاثة الطول في نصف العرض، و يحصل من ضرب أحد النصفين في الآخر الربع، فيصير المجموع اثني عشر و ربعا فيضرب الاثني عشر في ثلاثة العمق يحصل ستة و ثلاثين، و في نصف العمق يحصل ستة، و يحصل من ضرب الربع في ثلاثة العمق ثلاثة أرباع، و من ضربه في نصف العمق الثمن فيصير المجموع اثنين و أربعين شبرا و سبعة أثمان شبر.

و الأولى التيمّن بذكر

الأخبار الواردة في الباب فنقول:

منها: صحيحة إسماعيل بن جابر التي ذكر في المدارك أنّها أصحّ رواية عثر عليها في المقام قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام- الماء الذي لا ينجسه شي ء قال- عليه السلام- ذراعان عمقه في ذراع و شبر سعته. «1»

المراد بالذراع كما يظهر من باب المواقيت قدمان، فالذراعان عبارة عن أربعة أقدام التي هي مساوية لأربعة أشبار، و المراد بالسعة الفضاء و السطح المشتمل على الطول و العرض، و لا يقال سطح هذا الشي ء وسعته ثلاثة أشبار إلّا إذا كان كل من طوله و عرضه ثلاثة أشبار، و لا يقال ذلك فيما إذا كان عرض الجسم شبرا و طوله ثلاثة أشبار، فيصير المحصل من الرواية انّ الكرّ ما كان ثلاثة أشبار عرضا و ثلاثة أشبار طولا و أربعة أشبار عمقا فيصير مكسره ستة و ثلاثين.

و منها: مرسلة الصدوق- رحمة اللّٰه عليه- أنّ الكرّ هو ما يكون ثلاثة أشبار

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 10، من أبواب الماء المطلق، ص 121، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 130

طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا «1». و هذا يكون مكسره سبعة و عشرين.

و منها: مرسلته الأخرى أنّ الكرّ ذراعان و شبر في ذراعين و شبر «2» و هذه مجملة، إذ يحتمل أن يكون المراد أن يكون السطح المشتمل على الطول و العرض ذراعين و شبرا يعني خمسة أشبار في عمق و ذراعين و شبر، فيكون كلّ من الأبعاد الثلاثة خمسة أشبار فيصير المكسر مائة و خمسة و عشرين شبرا، و يحتمل أن يكون المراد كون كلّ من الطول و العمق خمسة أشبار مع كون العرض شبرا واحدا ليكون المكسر خمسة و

عشرين، و يحتمل أن يكون المراد بالذراع عظم الذراع حتّى يكون كل ذراع أزيد من الشبر بيسير فيكون دليلا على المشهور من كون كلّ من الأبعاد ثلاثة أشبار و نصف.

و منها: رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قلت: و ما الكر؟

قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار «3» هذا موافق للمرسلة الأولى بناء على أنّ المراد بأحد البعدين السطح المشتمل على الطول و العرض.

و منها: رواية الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: قلت و كم الكرّ؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها «4». هذا يدلّ على المشهور بناء على أنّ المراد بالعرض السطح المشتمل على الطول و العرض كما في الصحيحة المتقدمة، مع أنّ العرض إذا كان بهذا المقدار فالطول لا بدّ و أن

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 10، من أبواب الماء المطلق، ص 122، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ح 4.

(4)- المصدر نفسه: ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 131

لا يكون أنقص منه و إلّا لم يكن العرض عرضا.

و منها: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الكرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفا في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء. «1» عدم تعيين مقدار العمق لمعلوميته من الطول و العرض أو يقال قوله في عمقه صفة لقوله ثلاثة أشبار و نصف يعني في ثلاثة أشبار و نصف ثابتة في عمقه، و يكون المراد بالبعد الأوّل كل من الطول و العرض، و على أيّ حال يكون دليلا

على قول المشهور ..

[في حكم أحد الماءين المعين النجس و لم يعلم وقوع النجاسة فيهما]

«مسألة 12: إذا كان ماءان أحدهما المعين نجس فوقعت نجاسة لم يعلم وقوعها في النجس أو الطاهر لم يحكم بنجاسة الطاهر».

إذ في هذا الفرض لم يعلم بثبوت تكليف لاحتمال الوقوع في النجس فلم يوجب تكليفا جديدا و هذا واضح، و هكذا الكلام في العلم التفصيلي اللاحق بمعنى أنّه لو علم تفصيلا بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين بوقوع قطرة بول مثلا بأنّ هذا المعيّن كان قبل وقوع القطرة نجسا فإنّه موجب لعدم تأثير العلم الإجمالي السابق بالنسبة إلى غير هذا المعيّن من هذا الجبن، و ليس حال العلم الطارئ حال الاضطرار و الخروج عن محلّ الابتلاء الطارئين، فلو صار أحد طرفي المعلوم بالإجمال بخصوصه مضطرا إليه أو أهرق أحد الماءين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالا مثلا لم يوجب ذلك عدم تأثير العلم الإجمالي بعد ذلك بالنسبة إلى الآخر الغير المضطر إليه أو الغير الخارج عن محلّ الابتلاء.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 10، من أبواب الماء المطلق، ص 122، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 132

و وجه الفرق أنّه يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون المكلّف متى التفت إلى زمان حصول العلم الإجمالي وجد في نفسه الترديد و الإجمال بالنسبة إلى ذاك الزمان، مثلا إذا كان أوّل زمان حصول العلم الإجمالي أوّل الصبح فلا بدّ أن يكون المكلّف إذا لاحظ الحال في أوّل الصبح في كلّ من الأزمنة المتأخّرة من الصبح وجد في نفسه أنّه في أوّل الصبح عالم بأنّه إمّا أن يكون هذا الماء نجسا أو ذاك، فيشترط بقاء العلم الإجمالي في الأزمنة المتأخّرة بهذا المعنى و إن كان لا يلزم بقاءه بالنسبة إلى نفس الأزمنة المتأخّرة.

و بعبارة أخرى: انحلال

العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي و الشكّ البدوي إذا لم يكن ساريا إلى أوّل زمان حصول العلم الإجمالي، بل كان مخصوصا بالأزمنة المتأخّرة فهو غير مضر و إذا كان ساريا إلى الزمان السابق فمضر، ففي صورة حدوث الاضطرار بالنسبة إلى الأحد المعيّن أو الخروج عن محلّ الابتلاء فيه يحصل الانحلال في الأزمنة المتأخّرة فيعلم تفصيلا بعدم التكليف بالنسبة إلى المضطر إليه أو الخارج، و يشك بدوا في ثبوت التكليف بالنسبة إلى الآخر من دون أن يكون هذا الانحلال مرتبطا بالزمان السابق.

فإنّا إذا لاحظنا أوّل الصبح الذي هو زمان وقوع القطرة بعد حدوث الاضطرار أو الخروج نجد الإجمال أيضا في أنفسنا بالنسبة إلى أوّل الصبح حتّى في هذا الحال، فيلزم الخروج عن عهدة هذا التكليف المعلوم بالإجمال، غاية الأمر أنّ المكلّف قبل الاضطرار إلى الأحد المعيّن كان متمكنا من الموافقة القطعية لهذا التكليف و بعده انحصر في حقّه بالموافقة الاحتمالية، كما أنّه يتصور ثلاث مراتب للموافقة فيما إذا حدث الاضطرار إلى أحدهما الغير المعيّن، فالموافقة القطعية غير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 133

مقدورة و الظنّية لو كانت بأن يكون المظنون وقوع القطرة في هذا المعيّن مثلا هي المتعينة فيلزم اختيار غير المظنون، فلو لم يتمكن من أحدهما بأن يكون الطرفان متساويين ينحصر في الموافقة الاحتمالية، فيتخيّر في تعيين أيّهما.

و أمّا في صورة حدوث العلم التفصيلي بأنّ هذا المعيّن كان من السابق نجسا ينحل العلم الإجمالي في الحال و يسري الانحلال أيضا إلى السابق وجدانا، فإذا لاحظنا بعد حدوث العلم التفصيلي المذكور أوّل الصبح الذي هو زمان وقوع القطرة نجد في أنفسنا أنّا في هذا الحال غير عالمين بالإجمال في هذا الزمان، بل يكون هذا معلوم

النجاسة تفصيلا و ذاك مشكوك النجاسة بدوا في هذا الحال حتّى بالنسبة إلى أوّل الصبح، فيكشف هذا عن بطلان العلم الإجمالي الحاصل من الأوّل فيعمل في غير المعلوم بالتفصيل بالأصل الجاري فيه من البراءة و غيرها لكونه مشكوكا بدويا.

هذا فيما إذا حصل العلم التفصيلي الذي هو الطريق العقلي بعد الملاقاة، و أمّا لو حصل الطريق التعبّدي و الأمارة الشرعية بعدها بالنحو المذكور بأن تقوم البيّنة بأنّ هذا الماء المعيّن من الماءين اللذين علم إجمالا بوقوع قطرة البول في أحدهما كان نجسا من السابق و قبل وقوع القطرة، لا بأن تقوم بأنّ القطرة الواقعة إنّما وقعت في هذا دون ذاك فإنّه لا إشكال في الانحلال في هذا الفرض، و قد يتوهّم في الفرض الأوّل بأنّ حال الأمارة حال العلم و أنّ ذلك مقتضى تنزيل الأمارة منزلة العلم و تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع، فكما أنّ العلم مؤثّر في السابق و يوجب سراية الانحلال إلى السابق عقلا، فكذا قول البيّنة بأنّ هذا كان في السابق نجسا منزل منزلته في هذا التأثير، بل في كلّ أثر شرعا و تعبّدا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 134

و فيه انّا و إن فرّقنا بين الأمارة و الأصل فيؤخذ بالأمارة بالنسبة إلى الآثار المترتبة مع الواسطة، و لا يؤخذ بالأصل إلّا بالنسبة إلى اللوازم المترتّبة بلا واسطة لا غير، إلّا أنّ هذا بالنسبة إلى الآثار و اللوازم الشرعية دون العقلية، فحجية الإمارة في الآثار المرتّبة مع الواسطة إنّما هي في الآثار الشرعية التي هي كذلك دون العقلية من طول اللحية و نحوه، لقصور لسان التنزيل إلّا بالنسبة إلى الشرعيّات دون العقليات.

فنقول: نحن نأخذ فيما إذا أخبر البيّنة بنجاسة الأحد المعيّن سابقا و نعامل

معه معاملة القطع بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على محكي هذا الخبر فنحكم بنجاسة هذا المعيّن من السابق و وجوب الاجتناب منه كذلك، فلو أصاب البدن أو الثوب هذا المعيّن في السابق يحكم بوجوب تطهيره بعد هذا الاخبار إلّا أنّه لا يعقل التعبّد و التنزيل بالنسبة إلى الأثر الوجداني الثابت لنفس العلم و الانكشاف و هو سراية الانحلال وجدانا إلى السابق، فإنّه لا يعقل للتنزيل و التعبّد تأثيرا في الوجدان الذي أمره بأيدينا، فإنّا نشاهد تبدّل الوجدان في صورة العلم و نشاهد عدم تبدّله في صورة قيام البيّنة بالنسبة إلى الزمان السابق.

و أمّا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة عن الإخبار فنشاهد تبدّله، إذ قد قام البيّنة و علمنا بحكم الشارع بوجوب العمل على طبقه تعبّدا مع عدم إيجابه إلّا الظن بمؤدّاه، فحيث لا دخل لإضافة حكم الشرع إلى الواقع، و الظاهر في حكم العقل بوجوب الامتثال فنحن إذا ألقينا حيث الظاهرية و الواقعية للحكم نعلم تفصيلا بأصل الوجوب في ما أخبر البيّنة بنجاسته و نشك بدوا في غيره، لكن هذا بخلاف الأزمنة السابقة على الاخبار، إذ المفروض عدم إيجاب قول البيّنة سوى الظن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 135

بمحكيّه دون القطع، و دليل الاعتبار و التنزيل لم يفد إلّا ترتيب آثار وجود النجاسة و وجوب الاجتناب من السابق واقعا، و هذا لا يوجب الانحلال أيضا إذ مجرّد الوجود الواقعي ما لم يتعلّق العلم التفصيلي به لا يوجب الانحلال، كيف و إلّا لزم عدم وجود العلم الإجمالي في مورد أصلا، لوضوح ثبوت الوجود الواقعي في أحد الطرفين قطعا دائما.

و أمّا القطع التفصيلي الحاصل من حين قيام البيّنة فهو من آثار نفس الحجيّة و مستفاد من قول

الشارع: اعمل بقول البيّنة، فلم يكن قبل قيام البيّنة له عين و لا أثر، لأنّ الحجية و قول اعمل تابع لموضوعه و هو وجوب الاخبار و قيام البيّنة و المفروض عدمه في السابق فلم يكن في السابق الحجية و قول اعمل حتّى يستفاد منه العلم التفصيلي بأصل الحكم بعد إلقاء الظاهرية و الواقعيّة لعدم موضوعه.

و الحاصل أنّا نرتّب من حيث العمل كل أثر ثابت للوجود الواقعي من السابق لمحكي البيّنة، و أمّا من حيث الوجدان و انقلاب وجدان الإجمال إلى وجدان التفصيل الذي هو من آثار نفس الانكشاف فنعلم بالوجدان عدم حصوله إلّا من حين البيّنة لا قبلها، لوضوح أنّ هذا الأثر من آثار نفس الحجية دون نفس المحكي بالبيّنة إذ ليس محكيه إلّا الوجود الواقعي، و ليس من أثره الانقلاب، و التنزيل بالنسبة إلى هذا الأثر الوجداني أيضا غير معقول، و إذن فحال البيّنة الطارئة حال الاضطرار و الخروج الطارئين في أنّ العلم الإجمالي الحاصل في السابق محفوظ بالنسبة إلى السابق في الجميع مع انقلابه بالنسبة إلى اللاحق إلى التفصيلي، كما لو أوقع النجاسة في واحد معيّن من الماءين المعلوم إجمالا نجاسة أحدهما، فإنّ هذا أيضا سبب لانقلاب العلم الإجمالي بالنسبة إلى اللاحق دون السابق.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 136

هذا كلّه في الأمارات المعمولة لتشخيص الموضوعات في الشبهات الموضوعية، و هذا بخلاف الأدلّة القائمة على الأحكام الكلّية في الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الإجمالي، كما لو علم إجمالا بحرمة شرب التتن أو شرب الخمر، و قام بعد ذلك خبر الواحد على حرمة الخمر، فانّ هذا موجب لجريان أصالة الإباحة في شرب التتن بلا معارض، لعدم جريان أصالة الإباحة في شرب الخمر، لورود الخبر الذي

هو الدليل عليها، مع كون المدار في وجود المعارض و عدمه للأصل الجاري في أحد طرفي العلم الإجمالي على زمان حدوث العلم الإجمالي، فإذا كان في هذا الزمان معارضا بالمثل لم يعبأ بسقوط معارضه في الزمان اللاحق كالعكس.

و وجه الفرق أنّ الموضوع هنا ليس هو القيام عندنا، بل الموضوع هو الوجود الواقعي للخبر المضبوط في الكتب فهو حجة علينا قبل قيامه عندنا، فالأصل الجاري في جانب ما دلّ الخبر على حرمته كان من الأوّل محكوما للدليل و غير جار فكان الأصل في غيره بلا معارض من الأوّل، و هذا بخلاف البيّنة في الموضوعات، فإنّ الموضوع للحجية هو نفس وجود قول البيّنة و قيامه عند المكلّف و هو غير موجود في زمان حدوث العلم الإجمالي بالفرض، فالأصلان متعارضان بالنسبة إلى هذا الزمان و إن صار بعد البيّنة الأصل في غير ما أخبرته البيّنة سليما عن المعارض لقيام الإمارة في قبال معارضه.

ثمّ إنّ هنا طريقا آخر للأخذ بما قام به البيّنة من طرفي العلم الإجمالي و الاجتناب عنه و ارتكاب الآخر، و هو أنّا و إن لم نقل بانحلال العلم الإجمالي السابق بسبب البيّنة المتأخّرة، بل قلنا بمحفوظيته و كونه مؤثّرا، لكن نقول: حكم العقل بوجوب الاجتناب عن كلا الطرفين إنّما هو من باب المقدمة لامتثال التكليف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 137

الواقعي بالاجتناب عن النجس الواقعي الموجود إمّا في هذا أو في ذاك، و كما يكون الإتيان بكلا الطرفين موجبا للامتثال و الخروج عن العهدة و عدم مؤاخذة المولى قطعا، فكذا الإتيان بما قام به البيّنة المتأخّرة أيضا موجب لذلك، إذا المفروض أنّ المولى جعله حجة بمعنى أنّه جعل احتمال الخلاف في حكم العدم و

غير معتنى به.

فإذا أخبر البيّنة بأنّ هذا نجس كان مقتضى حجيّة قوله كفاية الاجتناب عن هذا الماء و يحصل امتثال أمر «اجتنب» المعلوم إجمالا به، فإنّه و إن لم يحصل الجزم بالبراءة بسببه لاحتمال وجود المعلوم الإجمالي في الطرف الآخر، إلّا أنّ المولى لا بدّ و أن يتقبّل الإتيان بالطرف الذي أخبر به البيّنة امتثالا للتكليف الواقعي، و لا يمكنه أن لا يتقبّله، إذ للعبد أن يقول: لم يكن عليّ إلّا امتثال تكليف واحد بالاجتناب من النجس، و هذا الذي أتيته أيضا امتثال لتكليف اجتنب بحكم جعل قول البيّنة حجة، إذ معناه عدم الاعتناء باحتمال المكلّف عدم كون ما أخبر البيّنة بنجاسته نجسا و يعلم المكلّف- بالكسر- بذلك إذا كان عالما بالغيب، و كون مفاد البيّنة تكليفا زائدا على التكليف الذي تعلّق به العلم الإجمالي غير معلوم، لاحتمال انطباقه على الواقع المعلوم إجمالا، و مع هذا الاحتمال فالأصل براءة الذمة من الزائد على التكليف المعلوم بالإجمال.

و الحاصل: أنّه يكون على المكلّف الخروج عن عهدة التكليف الذي نجزه عليه العلم الإجمالي، و كما يحصل هذا بإتيان الطرفين معا في صورة عدم وجود البيّنة في البين، كذلك يحصل هذا الخروج بموافقة الطرف الذي قام به البيّنة فقط إذا لم يمكن المولى عدم تقبّله كما بيناه، و هذا الطريق يشترك مع الانحلال الحقيقي في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 138

الثمرة و هو كفاية الإتيان بأحد الطرفين، إلّا أنّهما يفترقان في أنّه على الانحلال يكون الطرف الآخر، أعني: غير ما قام به البيّنة مجرى للبراءة بمجرّد قيام البيّنة على الآخر و إن لم يعمل المكلّف على طبقه بعد، إذ الموجب للانحلال المصحّح لجريان الأصل هو نفس الانحلال من

دون دخل لعمل المكلّف فيه أصلا.

فعلى هذا لو خالف المكلّف كلا الطرفين و كان المعلوم الإجمالي في الطرف الذي كان مجرى الأصل يلزم عدم استحقاقه عقابا إلّا على التجري، إذ الطرف الذي قام به البيّنة مخالفته غير موجبة للعقاب لفرض خطاء البيّنة، و الأمارة إذا كانت مخطئة لم يوجب مخالفتها العقاب إلّا على حرمة التجرّي، و أمّا الطرف الآخر فالمفروض أنّه مورد للبراءة، و على هذا الطريق لا تجري البراءة في الطرف الآخر إلّا بعد العمل بما قام به البيّنة، فلو لم يعمل بشي ء من الطرفين و اتّفق وجود المعلوم الإجمالي في غير ما أخبر البيّنة به كان للمولى أن يؤاخذه على الترك، إذ المفروض أنّه لم يخرج عن عهدة التكليف الذي علم به لا بالامتثال القطعي و لا بما هو بدل للامتثال القطعي و هو الإتيان بالطرف الذي قام به البيّنة، فبمجرّد قيام البيّنة على أحد الطرفين لا يجري الأصل في الطرف الآخر، إذ المفروض بقاء العلم الإجمالي.

غاية الأمر أنّ امتثاله ممكن بنحوين، فما لم يحصل امتثاله بالإتيان بما قام به البيّنة لم يكن الطرف الآخر موردا للبراءة، هذا، لكن يرد على هذا الطريق أيضا الإشكال من جهة أخرى و هو أنّه على هذا يلزم أنّه لو كان الطرفان حرامين معا واقعا و اجتنب المكلّف عمّا أخبر بحرمته البيّنة و ارتكب الآخر كان خارجا عن عهدة التكليف المعلوم الإجمالي و ممتثلا له، و هذا مبني على الوجهين في أنّ اللازم بحكم العقل في باب العلم الإجمالي بالتكليف، بل هو تحصيل العلم بموافقة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 139

التكليف المعلوم أو العلم بعدم مخالفته.

فعلى الأوّل لا إشكال، إذ يكون على المكلّف أن يعلم بموافقة

التكليف الواحد، إذ المفروض أنّ متعلّق علمه هو التكليف الواحد و لا شكّ في حصول موافقة التكليف الواحد بإتيان ما قام به البيّنة، و أمّا على الأوّل، فعلى المكلّف أن يصير عالما بعدم مخالفة التكليف الواحد و حيث إنّ الواحد الذي تعلق به علمه ليس ممتازا و نسبته إلى الطرفين واحدة و البيّنة أيضا لا تعيّنه في هذا دون ذاك، و المفروض أنّ كلا الطرفين محرم واقعا فتعيين الواحد في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، و لازم هذا أنّه لا يحصل العلم بعدم مخالفة التكليف الواحد المعلوم إجمالا إلّا بالعلم بعدم مخالفة كلا التكليفين الموجودين في الطرفين.

نعم فيما إذا كان في الواقع أحد الطرفين حراما سواء كان هو ما قام به البيّنة أم غيره يحصل عدم مخالفة التكليف الواحد إمّا واقعا، أو ما يقوم مقامه، و أمّا في الصورة الأخرى فلا يمكن أن يقال: إنّه لم يحصل مخالفة التكليف الواحد المعلوم إجمالا بمجرّد عدم مخالفة ما قام به البيّنة و أنّه بدل لامتثاله، و ذلك لما عرفت من أنّ نسبته إلى كلا الطرفين على السواء لصدق الواحد على كل منهما فلا مرجح لتعيينه في أحدهما، فعدم مخالفة التكليف الواحد بهذا الوصف لا يحصل إلّا بعدم مخالفة كلا الطرفين، و على هذين الوجهين يتفرّع النزاع في أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد هل هو حجية الظن و كفاية العمل به أو هو تجزّي الاحتياط و تبعيضه على قدر ما يدفع به الحرج، فإنّ المكلّف متى كان عالما بوجود مائة تكليف في ضمن المظنونات و المشكوكات و الموهومات و المفروض أنّ الموافقة القطعية لا تحصل إلّا بموافقة الجميع و هو حرج عظيم عليه، فإذا تنزّلنا عن القطع كان

المتعيّن هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 140

الظن، إذ هو المرتبة النازلة من القطع فيكون قائما مقام القطع عند عدم إمكانه بحكم العقل.

فإن قلنا: بأنّ اللازم عليه أوّلا هو القطع بموافقة مائة تكليف و اللازم عليه ثانيا بعد عدم إمكان القطع هو الظن بذلك أيضا كان موافقة المائة من المظنونات مجزيا، إذ بذلك يحصل الظن بموافقة المائة المعلومة إجمالا و لا يلزم الإتيان بسائر المظنونات لو كانت فضلا عن المشكوكات و الموهومات، غاية الأمر يحكم بوجوب سائر المظنونات أيضا بعدم القول بالفصل فتفيد المقدمات حجية مطلق الظن.

و إن قلنا: بأنّ اللازم عليه أوّلا هو القطع بعدم مخالفة مائة تكليف و مع عدم إمكانه أو تعسّره، فالظن بذلك أيضا هو المتعيّن، كان اللازم حينئذ هو الإتيان بتمام المظنونات و تمام المشكوكات، بل بعض من الموهومات، و ذلك لأنّ الظن بعدم مخالفة مائة تكليف لا يحصل بمجرّد عدم مخالفة مائة من المظنونات، لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي تعلّق بالمائة و لم يتعلق بالزائد منه لا أنّه متعلّق بنفي الزائد و الحصر في المائة أيضا فيحتمل وجود الزائد أيضا، و مع هذا لا يحصل الظن بعدم مخالفة المائة المعلومة إجمالا إلّا بالإتيان بتمام المظنونات و المشكوكات، فعند هذا يحصل أوّل الدرجة من الظن بعدم مخالفة المائة، و حيث إنّ التنزّل من القطع عند عدم إمكانه يكون إلى الأقرب منه فالأقرب بحكم العقل فالمتبع عقيب القطع هو الظن الاطمئناني الذي هو أقصى درجات الظن و هو متوقف على إتيان بعض من الموهومات أيضا بقدر ما لا يلزم منه الحرج، بل ترجيح ما كان الاحتمال فيه أقوى بالإتيان، و دفع الحرج بما كان الاحتمال فيه في غاية الضعف، فيكون

مفاد المقدمات على هذا تبعيض الاحتياط لا الاكتفاء بالظن.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 141

[في حكم الماء القليل النجس المتمم كرا]

«مسألة 14: الماء القليل النجس المتمّم كرّا بطاهر أو نجس نجس على الأقوى».

مقتضى مفهوم مثل قوله: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شي ء هو الانفعال، فانّ مفهومه أنّ القليل ينفعل بملاقاة النجس أو المتنجس فيشمل المقام، غاية الأمر أنّ القليل فيما نحن فيه صار بسبب الملاقاة كرّا، و مقتضى المنطوق أن تكون الكرّية سابقا على الملاقاة و هاهنا قد حدثت الكرّية بسبب الملاقاة، و أيضا الموضوع لهذه القضية هو الماء الطاهر بقرينة المحمول و هو قوله: لم ينجسه شي ء، فمعناه أنّ الكرّ المجتمع من المياه الطاهرة لا يصير نجسا بالملاقاة، فالمفهوم شامل للمقام و المنطوق غير شامل له من غير فرق في ذلك بين ما إذا كان الماء المتمّم- بالكسر- طاهرا أو نجسا.

بقي الكلام في دلالة الخبر الآخر الذي قد انجبر ضعف سنده بعمل الأصحاب حتّى من لم يعمل بخبر الواحد و هو قوله- عليه السلام-: إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثا فقد يتوهّم دلالته على الطهارة في كلتا الصورتين بتقريب أنّ مفاده بمقتضى تفريع عدم حمل الخبث على بلوغ الكرّية أنّ وصف الكرّية متى وجد في الماء يمنع من أن يحمل الخبث فلو كان عليه حمل الخبث من السابق كان مقتضى هذا التقريب وضعه بعد حصول هذا الوصف، إذ لو كان باقيا بعده لم يصدق أنّه لا يحمل حمل الخبث، و هذا بخلاف مفاد قوله- عليه السلام-: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شي ء، فإنّ المتفرّع على الكرّية في هذا الكلام هو عدم التأثير، فلا بدّ أن يكون الماء الذي تجدد فيه الكرّية بمقتضاه بحيث

لم يؤثر فيه نجس، فلو كان فيه نجاسة من السابق و بقيت إلى ما بعد الكرّية لم يكن منافيا لذلك، إذ يصدق أنّه لم يؤثر فيه نجس بعد صيرورته كرّا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 142

و الحاصل أنّه متعرّض لنفي التأثير عمّا بعد الكرّية فلا تبقى النجاسة الحاصلة بالتأثير السابق، و التحقيق أن يقال: إنّه لا شك في انفهام التجدد و الحدوث من فعل المضارع، فإمّا أن نقول في المضارع المنفي بأنّ التجدّد داخل على النفي كما أنّه في المثبت وارد على الإثبات فمعنى لم يضرب أنّه يتجدّد و يحدث منه عدم الضرب كما أنّ معنى يضرب أنّه يتجدّد منه الضرب.

و حينئذ فيكون مفاد قوله: لم يحمل أنّه يتجدّد في الماء بعد بلوغ الكرّية عدم الحمل للخبث، و لا يخفى أنّ لازم هذا المعنى وجود الحمل في السابق فلو كان الحمل السابق مستمرا بعد الكرّية ينافي ذلك لتجدّد عدم الحمل، إذ مفاده أنّ الماء الذي كان حاملا للخبث إلى حين حصول الكرّية يتّصف من هذا الحين بعدم الحاملية، و هذا لا يتحقّق إلّا بوضع الحمل السابق لو كان، و إمّا أن نقول بأنّ النفي وارد على التجدّد و أنّ المثبت مع ما كان هو عليه يصير مدخولا للنفي، فمعنى «يضرب» يتجدّد منه الضرب، و إذا وقع عقيب النفي يكون مفاده لا يتجدّد منه الضرب، فمعنى قوله: لم يحمل خبثا أنّه لا يحدث منه حمل الخبث، و من المعلوم انّ هذا لا ينافي بقاء الحمل السابق، فهو غير متعرّض إلا لنفي حدوث الحمل من غير تعرّض لحال الحمل السابق.

فالعمدة في المقام تشخيص أنّ العرف يفهم أيّا من هذين المعنيين من القضية المنفيّة المصدّرة بالمضارع، و الظاهر

بحسب متفاهم العرف هو المعنى الثاني و إن ادّعى بعض الأساتيد أنّه المعنى الأوّل.

ثمّ على تقدير عدم الدليل في البين إمّا بإجمال كلتا الطائفتين، و إمّا بظهور الطائفة الثانية في المعنى الأوّل، و صيرورتها معارضة للطائفة الأولى، و قلنا بعدم كون أحدهما أظهر يتعين الرجوع إلى الأصل العملي و هو فيما إذا كان المتمّم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 143

- بالكسر- نجسا واضح فإنّه فيه استصحاب النجاسة.

و أمّا ما إذا كان طاهرا فنشك في أنّ الطاهر، هل صار نجسا بملاقاة الجزء النجس و أنّ الجزء النجس هل صار طاهرا بطروّ الكرّية، فمقتضى الأصل في الأوّل الطهارة و في الثاني النجاسة.

ثمّ إن تمّ دعوى القطع باتحاد حكم الماء الواحد الذي قد عرفت في مسألة كفاية الاتصال في تطهير الماء النجس بالماء العاصم أو لزوم الامتزاج أنّ القدر المتيقّن من الإجماع صورة الاتحاد التام الحاصل بالاختلاط، أو قلنا بأنّ الإجماع واقع على أنّ الماءين القليلين المتصلين البالغ مجموعهما حدّ الكرّ إمّا أن يؤثّر الكرّية فيصير المجموع طاهرا، أو لا تؤثر فيكون المجموع نجسا، و لم يقل أحد بالفصل و على هذا فلا نحتاج إلى الإجماع الأوّل حتّى يكون مورده مخصوصا بما بعد الامتزاج، لكن نحتاج مع ذلك إلى دعوى القطع بأنّه لم ينشأ في مثل هذين الماءين إلّا حكم واحد لا في مرحلة الواقع و لا في مرحلة الظاهر، إذ لو لم نقطع إلّا بأنّ الحكم الواقعي واحد فلا ضير في أن يكون الحكم الظاهري الجائي من قبل الأصل متعدّدا، إذ قد عرفت سابقا بأنّ مخالفة مقتضى الأصل للواقع ليس بمضر ما لم يلزم مخالفة عملية قطعية نظير ما لو قطعنا بأنّ الحكم الواقعي في هذين

الموضوعين إمّا الوجوب و إمّا الإباحة، فاقتضى الأصل في أحدهما الوجوب، و في الآخر الإباحة.

و بالجملة لو قطعنا باتحاد الحكم واقعا و ظاهرا، فيكون استصحاب الطهارة في الجزء الطاهر مقتضيا بضميمة هذا القطع لطهارة المجموع، و استصحاب النجاسة في الجزء النجس بضميمته مقتضيا لنجاسة المجموع فيرجع بعد تساقطهما بالمعارضة إلى قاعدة الطهارة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 144

فتحصل أنّ الحكم بحسب الدليل هو النجاسة من غير فرق بين صورة كون المتمّم نجسا و بين صورة كونه طاهرا، و أمّا بحسب الأصل فالحكم في الصورة الأولى هو النجاسة أيضا، و في الثانية لو قطعنا باتحاد حكم الماءين ظاهرا و واقعا هو الطهارة، و إن لم نقطع إلّا باتحاد حكمهما واقعا فالحكم في الجزء النجس هو النجاسة و في الطاهر هو الطهارة، هذا على ما قرّرناه من أنّ الأصل في موارد الشكّ في الطهارة و النجاسة مع عدم الحالة السابقة هو عدم الانفعال.

و أمّا على مبنى الشيخ الأجل المرتضى- قدّس سرّه- من أنّه الانفعال بقاعدة المقتضى و المانع فيمكن أن يقال: إنّه أيضا في هذا الفرع يقول بجريان قاعدة الطهارة على تقدير إجمال الأدلّة أو تساقطها بالمعارضة، بل يمكن القول بذلك في الفرع الذي تقدّم و هو ما لو علم بتجدّد الكرّية و الملاقاة في الماء، أو كانا معلومي الوجود فعلا و نشك في سابقهما و لاحقهما و كان التاريخان مجهولين، فيكون المرجع بعد عدم جريان الاستصحابين كما قلناه أو تساقطهما بالمعارضة كما قال الشيخ الأجل المرتضى- قدّس سرّه- هو قاعدة الطهارة حتّى عند القائل بقاعدة المقتضي و المانع.

بيان ذلك أمّا في الفرع المتقدّم فهو أنّ أصالة عدم المانع، إنّما المسلم من حجيته عند العقلاء هو في

ما إذا شكّ في وجود المانع كما لو علم بكم الكرّ و أنّه ألف و مائتا رطل و شك في كون هذا الماء الخاص بالغا هذا الحدّ و عدمه و لم يكن له حالة سابقة، و كذلك الكلام في الشبهة المفهومية كما لو كان كمّ هذا الماء معلوما و شكّ في تعيين كمّ الكرّ بحسب المفهوم، فإنّ الشك ها هنا أيضا و إن كان في مانعية الموجود إلّا أنّه راجع إلى الشك في تحقّق عنوان المانع، و هذا بخلاف ما إذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 145

علم وجود الكرية التي هو المانع من تأثير المقتضي للتنجيس و لكن شكّ في أنّه هل وجد سابقا على وجود المقتضي، أعني الملاقاة حتّى كان مؤثّرا، أو وجد المقتضي سابقا على وجود الكرية حتّى كان غير مؤثّر، فلا نسلّم أنّ العقلاء في مثل هذا يحكمون بتأخّر المانع.

و هذا نظير ما قلناه في أصالة عدم النقل حيث إنّ بناء العقلاء على عدم انتقال اللفظ عن معناه الموضوع له إلى معنى آخر، فمتى كان أصل تحقّق الانتقال مشكوكا ينفونه بالأصل، و أمّا لو كان أصل تحقّقه معلوما و شك في تاريخه، كما لو علم بنقل لفظ الصلاة عن معناه اللغوي إلى الأركان المخصوصة و شك في أنّ هذا النقل هل حدث في أوائل زمان الشارع أو أواسطه أو أواخره فلا نسلّم أنّ للعقلاء حينئذ أصلا يفيد عدم النقل إلى الزمان المتأخّر.

و لعلّ السرّ في ذلك في كلا المقامين أنّ وجود المانع عن جريان المقتضي على مقتضاه أمر موهوم نادر الوقوع، و كذلك نقل اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنى آخر جديد أمر موهوم نادر الحصول، فبناء العقلاء على عدم وقوع

هذا الأمر الموهوم إلى أن نقطع بخلافه، فإذا قطع بالخلاف و أنّ هذا الأمر النادر الوقوع قد وقع و لكن شكّ في تقدّمه و تأخّره فلا أصل عندهم يعيّن أحد هذين، فإنّ أصل الوقوع الذي هو مجرى الأصل متحقّق بالقطع في أحد الزمانين.

و أمّا في هذا الفرع أعني مسألة المتمّم و المتمّم فيما إذا كان المتمّم- بالكسر- طاهرا و قلنا بأنّ أدلّة الباب مجملة أو متساقطة بعد التعارض فلأنّ القطع حاصل بأنّ الملاقاة التي هي سبب للتنجيس قد حصل و أنّ الكرّية التي هي مانعة عن التنجيس حصلت متأخّرة عن وجود الملاقاة، إذ المفروض أنّ الماء صار كرّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 146

بالملاقاة، فالكرّية و التنجس كلاهما معلولان للملاقاة، ففي مرتبة وجود المقتضي و هو الملاقاة لم يكن المانع و هو الكرّية موجودا و إنّما صار موجودا بسببه و تبعه، و العقل حاكم في مثل ذلك بتأثير المقتضي أثره لعدم معقولية ممانعة ما هو متأخّر في الرتبة عن تأثير ما تقدمه رتبة، فليس المقام من موارد العلم بوجود المقتضي و الشك في تحقّق المانع، بل مما علم بتحقيق المانع لكن في محل سقط عن أن يؤثر في رفع المقتضي، فالشك الحاصل في المقام إنّما هو في أنّ الكرّية بعد القطع بعدم كونه رافعا و مانعا، هل هو رافع أو لا؟

و بعبارة أخرى، إذا حصل الملاقاة و لم تكن الكرّية في رتبته موجودة أثر في النجاسة بحكم العقل و في الكرّية، فهل هذه الكرّية الحاصلة بالملاقاة ترفع هذه النجاسة الجائية من قبل الملاقاة أو لا، فليس مورد القاعدة المقتضي و المانع.

ثمّ بعد عدم جريان هذا الأصل العقلائي في كلا الفرعين يصير الماء المفروض مشكوك

الحكم فيجري فيه الأصل الشرعي، أعني: قاعدة الطهارة و هي أنّ كل موضوع مشكوك الحكم بحسب الطهارة و النجاسة فهو محكوم شرعا بالطهارة.

و من هنا ظهر أنّ هذا الأصل العقلائي في موارد جريانه كالشك المصداقي مع عدم الحالة السابقة أو المفهومي في تحقّق الكرّية يكون واردا على الأصل الشرعي المذكور، فإنّ الأوّل أصل موضوعي، و الثاني حكمي و الموضوعي مقدّم على الحكمي إذ بالأوّل يرتفع موضوع الثاني، مثلا الشك في الطهارة و النجاسة الذي هو موضوع الأصل الشرعي مسبب عن الشك في وجود المانع و عدمه الذي هو موضوع الأصل العقلائي، فإذا حكم بعدم المانع بالأصل لم يبق شك في النجاسة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 147

[القسم الثالث في ماء المطر]
اشارة

«فصل: ماء المطر حال تقاطره من السماء كالجاري، فلا ينجس ما لم يتغيّر و إن كان قليلا، سواء جرى من الميزاب، أو على وجه الأرض، أم لا، بل و إن كان قطرات بشرط صدق المطر عليه، و إذا اجتمع في مكان و غسل فيه النجس طهر و إن كان قليلا، لكن ما دام يتقاطر عليه من السماء».

كون ماء المطر طاهرا و مطهرا في الجملة بحسب الإجماع و الأخبار ممّا لا إشكال فيه و لا كلام، و الإضافة هنا بيانيّة أي ماء هو نفس المطر، كما في ماء القناة أي ماء نفسه القناة، فلا يشمل الماء المجتمع بعد انقطاع المطر، و صحة إطلاق ماء المطر عليه إنّما هي بالإضافة اللامية نظير صحة إطلاق ماء القناة على ما ينقل من القناة في الكوز.

و كيف كان إنّما الكلام في أنّه هل يشترط في مطهرية المطر كونه بحيث جرى على وجه الأرض المتعارفة لا الأرض الصيقلي و لا الأرض الخارج عن المتعارف

في جانب الرخاوة، أو لا يشترط، بل اللازم صدق نزول المطر عرفا و لو لم يصل إلى حدّ الجريان، فلو قطر قطرة على موضع ملاقاة النجس و استوعب القطرة تمام الموضع كان طاهرا مع صدق نزول المطر؟ الظاهر من بعض الأخبار عدم الاشتراط و هو الفقرة المذكورة في ذيل مرسلة الكاهلي: عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حديث قال:

قلت: يسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التغيّر «1» و أرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه و البيت يتوضّأ على سطحه فيكفّ على ثيابنا؟

______________________________

(1)- و في بعض النسخ على ما حكاه النوري- قدّس سرّه- هكذا: يسيل علي المطر. و في نسخة أيضا بدل فتقطر: فتطفر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 148

قال: ما بذا بأس، لا تغسله كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر إلخ «1» فإنّ قوله: كل شي ء إلخ، مطلق شامل لصورة عدم الجريان، و الاخبار التي توهم كونها مقيّدة لهذا الإطلاق بين ما يكون مورده صورة الجريان، و بين ما يكون مصرحا باشتراط الجريان إلّا أنّه مجمل و مردّد بين أن يكون المراد منه الجريان من السماء في قبال الانقطاع و بين أن يكون المراد الجريان على وجه الأرض.

فالأوّل أخبار:

منها: رواية هشام بن سالم أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب؟

فقال: لا بأس به ما أصابه من الماء أكثر منه إلخ «2»، فإن مورد السؤال حيث فرض تقاطر المطر من السطح في جوف البيت صورة الجريان، فلا دلالة فيه على الاشتراط، بل يمكن أن يقال بدلالته على عدم الاشتراط بمقتضى عموم التعليل بالأكثرية بالتقريب الذي تقدّم في مثل هذا التعليل في

ماء الاستنجاء.

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى قال: سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال:

لا يغسل ثوبه و لا رجله و يصلّي فيه و لا بأس به إلخ «3» مورد هذا أيضا بملاحظة كثرة المطر المجتمع على الأرض بحيث صار كالحوض أو النهر و كان المرور فيه هو صورة حصول الجريان.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 6، من أبواب الماء المطلق، ص 109، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ص 108، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 149

و منها: ما عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في ميزابين سالا، أحدهما بول، و الآخر ماء المطر، فاختلطا، فأصاب ثوب رجل لم يضرّه ذلك «1» و منها: مرسلة محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن- عليه السلام- في طين المطر أنّه لا بأس به إن يصيب الثوب ثلاثة أيّام إلا أن يعلم أنّه قد نجسه شي ء بعد المطر. «2»

و منها: مرسلة الصدوق قال: سئل- يعني الصادق- عليه السلام- عن طين المطر يصيب الثوب فيه البول و العذرة و الدم؟ فقال: طين المطر لا ينجس «3» و منها: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الكنيف يكون خارجا فتمطر السماء فيقطر عليّ القطرة؟ قال: ليس به بأس «4» و الثاني أيضا أخبار:

منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى قال: سألته عن البيت يبال على ظهره و يغتسل من الجنابة ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟

فقال: إذا جرى فلا بأس به «5» و منها ما عن علي بن

جعفر أيضا قال: سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أ يصلّي فيها قبل أن تغسل؟ قال: إذا جرى من ماء المطر لا بأس «6»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 6، من أبواب الماء المطلق، ص 109، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ح 6.

(3)- المصدر نفسه: ص 110، ح 7.

(4)- المصدر نفسه: ح 8.

(5)- المصدر نفسه: ص 108، ح 2.

(6)- المصدر نفسه: ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 150

و منها: ما عن علي بن جعفر أيضا في كتابه عن أخيه موسى- عليه السلام- قال: سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أ يصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جرى فيه المطر فلا بأس إلخ. «1»

أقول: قد يكون المراد بالجريان الذي يعتبر في المقام هو الجريان الفعلي على وجه الأرض، أو الجريان الفعلي من خصوص الميزاب، أو من الأعم منه و من نحوه. لا إشكال في عدم اعتبار هذا القسم من الجريان، و إلّا لزم على الأوّل أن يكون المطر في الأراضي التي تكون في غاية الرخاوة أو تكون مشتملة على الرمل بحيث لا يحصل فيها الجريان الفعلي و إن بلغ المطر في الكثرة ما بلغ منفعلا لو كان تلك الأراضي منفعلة، و هذا لا يلتزم به أحد، و كذلك يلزم على الثاني أن يكون المطر في الصحاري و القفار التي لا يوجد فيها الميزاب و شبهه منفعلا على تقدير انفعالها، و كان عدم الانفعال مختصّا بالأراضي المعمورة، و هذا أيضا ممّا لا يلتزم به أحد.

و قد يكون المراد به الجريان التقديري على وجه الأرض التي تكون مثل سطح البيت في الصلابة، أو الجريان التقديري من الميزاب و شبهه،

بمعنى أنّه يعتبر في المطهرية أن ينزل المطر إلى حدّ لو كان الأرض مثل السطح لجرى عليه الماء، أو لو كان الميزاب موجودا لكان جاريا منه، و في الثاني يعتبر كثرة المطر و طوله أكثر من الأوّل، كما هو واضح، فما يمكن أن يقال باعتباره أحد هذين، فيبتني الأمر على استفادة أحدهما من الأخبار.

فنقول: أمّا الخبر الأوّل من الأخبار المصرّحة باشتراط الجريان فلا نسلّم أوّلا ظهور لفظ الجريان في الجريان على وجه الأرض، بل الجريان من السماء في المطر أيضا من مصاديق هذا المفهوم، و لو سلّم أنّ الظاهر منه هو المعنى الأوّل و أنّ

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 6، من أبواب الماء المطلق، ص 110، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 151

استعماله في الثاني محتاج إلى القرينة، فنقول يدور الأمر حينئذ بين الأخذ بظهور «إذا» في الشرطية و بين الأخذ بظهور لفظ الجريان في المعنى الأوّل.

و على الأوّل يكون المعنى أنّ صحّة الأخذ من ماء المطر المتقاطر على السطح المذكور و الوضوء به مشروطة بجريان المطر من السماء، يعني لو انقطع المطر فلا يجوز الأخذ من هذه المياه المجتمعة على السطح من المطر، لوجود أعيان النجاسة من البول و الغائط فيه، فيصير الماء بعد الانقطاع متنجسا بتلك الأعيان، فجواز أخذ ماء المطر المذكور و استعماله في الوضوء مشروط بجريان المطر من السماء.

و على الثاني يصير المعنى أنّ ما فرضت من كون المطر بحيث يصلح للأخذ من مائه ملازم لكون المطر بالغا إلى حدّ الجريان على وجه السطح، فلأجل كونه متّصفا بوصف الجريان ليس به بأس، يعني لو لم يتّصف بالجريان على وجه السطح فيه بأس.

و على هذا لا بدّ و أن يكون

التقاطر من السّماء و عدم انقطاع المطر مفروغا عنه في مفروض السؤال.

و الانصاف أنّ القول بأنّ ظهور الجريان في المعنى الأوّل أظهر من ظهور «إذا» في الشرطية، فيرفع اليد من أجله عن ظهور الثاني و يحمل إذا على العلّية خلاف الانصاف، خصوصا مع ملاحظة أنّ السؤال ظاهر في انقطاع المطر، و واضح أنّه على هذا الفرض لا وجه لحمل «إذا» على التعليل و حمل الجريان على المعنى الأوّل، إذ هو بعد الفراغ عن بقاء نزول المطر و لا أقل من إطلاق السؤال لصورة الانقطاع، فيتعيّن أيضا الحمل لكلمة «إذا» على الاشتراط و لكلمة «جرى عليّ» المعنى المقابل للانقطاع.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 152

نعم لو كان السؤال ناصّا في بقاء التقاطر حال الأخذ و قلنا بأنّ ظاهر لفظ الجريان هو المعنى الأوّل كان المتعين حمله على هذا المعنى، لوضوح أنّ في هذا الفرض لا محيص من عدم استعمال «إذا» في الشرطية، للزوم تحصيل الحاصل، لحصول الجريان بكلا المعنيين، فلا بدّ من حمله على التعليل سواء حمل الجريان على المعنى الأوّل أو الثاني، و حينئذ فحيث فرض ظهوره في المعنى الأوّل يتعيّن حمله عليه، لكن ليس كذلك، بل إمّا أن يكون مورد السؤال خصوص صورة الانقطاع، أو ما يعمّها، و على أيّ حال فلا تصلح الرواية لتقييد الإطلاق لما عرفت من ظهوره في ما هو أجنبي عن المدّعي و لا أقلّ من كونه مجملا.

و من هنا ظهر الحال في الرواية الثانية، بل يمكن ادّعاء أنّها أظهر من الأولى في إرادة الجريان بالمعنى المقابل للانقطاع، و وجه ذلك أنّ السؤال وقع عن القطرات المتقاطرة من السطح الذي فوقه الكنيف و قد تقاطر عليه المطر، و تقاطر القطرات

من السطح إلى الجوف يكون في الغالب باقيا بعد انقطاع المطر أيضا.

فيكون مفاد الجواب أنّ هذه القطرات المتقاطرة من السقف إذا كانت جارية من ماء المطر المتقاطر على السطح في حال تقاطر المطر فلا بأس بها، يعني لو تقاطرت من المياه المجتمعة على السطح بعد انقطاع المطر فيكون بها بأس، لما مرّ من الوجه من وجود أعيان النجاسة على السطح المفروض وجود الكنيف فوقه مع احتمال أن يكون المراد الاحتراز عن ماء الكنيف، يعني إن كانت هذه القطرات من ماء المطر فلا بأس، و إن كانت من ماء الكنيف فيه بأس.

و المراد بماء المطر ما اجتمع على السطح من المطر بعد انقطاعه و إطلاق ماء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 153

المطر و إن لم يكن صحيحا، إلّا أنّه يصح أنّ هذا الماء من ماء المطر، لكن الظاهر هو المعنى الأوّل، لأنّ الظاهر من ماء المطر هو المطر حال نزوله، و المجتمع منه بعد الانقطاع و إن كان يصحّ أن يطلق عليه أنّ هذا بعض من ماء المطر إلّا أنّ هذا وصف أتى به لمجرّد المعرفيّة باعتبار الاتصاف السابق مع عدم الاتصاف في الحال.

ألا ترى أنّه يصح سلب هذا الوصف عن الماء في الحال فيقال: ليس هذا جزء من ماء المطر في الحال، كما يصحّ أن يقال في ماء الكوز المتخذ من الشطّ: إنّ هذا ليس الآن جزء من ماء الشط، و الحاصل أنّ المتخلّف من المطر بعد انقطاعه كان في السابق جزء من المطر لا أنّه في الحال جزء من ماء المطر، بل هو في الحال ليس جزء لواحد من مياه العالم.

نعم يصح إطلاق الوصف عليه باعتبار الاتصاف فيما مضى، لكن الظاهر من هذا

الوصف عند الإطلاق هو الاتصاف الحقيقي الثابت في الحال و هو غير ثابت إلّا في ماء المطر حال النزول من السماء، و كيف كان فالرواية أجنبيّة على أي حال عن اشتراط الجريان بالمعنى الذي هو المدعى في المقام.

و نعلم من ذلك الحال في الرواية الأخيرة، فإنّ السؤال فيها عن المطر الذي يجري في المكان الذي فيه العذرة فيصيب الثوب، و هذا أعم من صورة بقاء نزول المطر في هذا الحال و من انقطاعه، فالمراد بالجواب أنّ إصابة الثوب إن كانت في الزمان الذي يجري في المكان المطر من السماء فلا بأس، و إن كان في زمان انقطاع المطر ففيه بأس و لا أقل من الإجمال.

و اذن فالأقوى بحسب الأدلّة هو المشهور من عدم اعتبار الجريان.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 154

[في حكم تقاطر ماء المطر على الإناء المتروس بماء نجس]

«مسألة 2: الإناء المتروس بماء نجس كالحب و الشربة و نحوهما إذا تقاطر عليه طهر ماؤه و إناؤه بالمقدار الذي فيه ماء، و كذا ظهره و أطرافه إن وصل إليه المطر حال التقاطر، و لا يعتبر فيه الامتزاج، بل و لا وصوله إلى تمام سطحه الظاهر، و إن كان الأحوط ذلك».

قد مرّ الكلام في اعتبار الامتزاج في تطهير كلّي الماء العاصم للماء المتنجس أو كفاية الاتصال، و قد قلنا: إنّه يمكن أن يقال: إنّ صدق رؤية المطر بالنسبة إلى جميع الماء موقوف على وصوله بتمام الأجزاء المتوقف على المزج و الخلط و لا أقلّ من الشك في صدقه على ما إذا وصل المطر بعضا منه، فالقدر المتيقن هو صورة حصول الامتزاج، هذا.

ثمّ لا إشكال في كون المطر مطهرا إذا لم ينزل على المحل النجس من السماء بطبعه، بل كان بمعونة قوة الريح، إذ يصدق

المطر في الثاني كما في الأوّل، إنّما الكلام و الإشكال في أنّه هل يصدق المطر على القطرات التي تتقاطر من الخيمة التي ينزل المطر فوقها، أو من أوراق الشجر، أو نحو ذلك حال عدم انقطاع المطر، و المراد صورة وقوع المطر على شي ء ثمّ منه على شي ء آخر، فمجرد المرور على شي ء في الهواء بدون صدق الوقوع عليه لا يضر؟

يمكن أن يقال بعدم صدق المطر على ذلك عرفا ألا ترى لو انقطع المطر و كانت القطرات باقية لا يقال ينزل المطر، و ليس إلّا لأنّ اسم المطر غير صادق على تلك القطرات.

نعم يصدق أنّ تلك القطرات تكون من ماء المطر لكن لا يصدق اسم المطر على نفسها فنقول: قد يفرض تلك في ما إذا كان بينها و بين المطر الاتصال الحقيقي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 155

أو العرفي، و قد يفرض في ما لا يكون بينها ذلك.

فالأوّل كما إذا نفذ المطر الواقع على سطح السقف في أعماق السقف و وصل إلى سطحه التحتاني و كان النجاسة في الأعماق أو في السطح التحتاني، أو وقع المطر على الفرش المفروش و كان تحته الفراش المتعدد مفروشا و كان بعض الفروش المفروش الواقعة تحت الفرش الفوقاني أو الأرض الواقعة تحتها نجسا، فلا إشكال في أنّ هذا الماء الذي يصل إلى الجزء التحتاني لا يصير بمروره على النجاسة نجسا، لأنّه و إن لم يكن مطرا لكنّه متّصل بالاتّصال الحقيقي بالمطر النازل على فوق السطح أو فوق الفراش، و الماء المتصل بالماء العاصم لا ينفعل بمجرّد الملاقاة، و أمّا أنّه يطهر المحل النجس الذي يمر عليه أو لا يطهره يمكن أن يقال: بأنّه يطهره لأنّ الماء المتصل بالعاصم المتّحد

معه عرفا يكون عاصما و إن فرض عدم صدق اسم الماء العاصم عليه.

ألا ترى أنّ الماء الراكد المتّصل بالماء الجاري يكون في حكم الجاري مع كونه قليلا و لا يصدق عليه اسم الجاري و ليس إلّا لاتّصاله و اتحاده مع الجاري، فكذلك نقول في المطر أيضا: إنّ كل ماء يكون متصلا به حقيقة و عرفا كماء الميزاب أو الماء المجتمع من المطر الجاري إلى مكان مسقف أو الماء المذكور الواصل من الفوق إلى الأجزاء التحتية المتصلة به يكون مطهرا، لاتصاله بالمطر و إن كان لا يصدق على نفسه اسم المطر، لكن ما دام لم ينقطع المطر، و أمّا متى انقطع فلو وصل هذا الماء إلى محل نجس ينجس فضلا عن أن يطهره، لعدم كونه أحد المياه العاصمة و لا متصلا بالماء العاصم.

و الثاني كما لو تقاطرت القطرات من السقف على الأرض النجسة التي تحت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 156

السقف أو من أوراق الشجر على المكان الذي تحتها أو من الخيمة على الأرض تحتها، فإنّ تلك القطرات الساقطة من السقف و الورق و الخيمة لا تكون متصلة بالماء المطر النازل على السطح أو الشجر أو فوق الخيمة، و الظاهر نجاستها و عدم تطهيرها المحل لعدم صدق المطر عليها و لا اتّصالها به.

[في حكم تقاطر المطر على الثوب أو الفراش أو الإناء النجس]

«مسألة 1: الثوب أو الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر و نفذ في جميعه طهر و لا يحتاج إلى العصر أو التعدّد».

«مسألة 11: الإناء النجس يطهر إذا أصاب المطر إلى آخر الفصل».

أمّا لزوم التعدّد و العصر في غير البول و غير الإناء فملخص القول فيه أنّ مقتضى المرسلة «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» الاكتفاء بالمرّة و عدم لزوم العصر، و

ليس لهذا الإطلاق معارض فإنّا إمّا أن نخص التعدّد و العصر بالماء القليل و لا نقول بهما في الجاري و الكثير، و إمّا نعمّمهما للأخيرين أيضا فعلى [الأوّل] فلا كلام.

و أمّا على الثاني فليس التعميم إلّا لأجل عدم الإطلاق لأنّ ما ورد من الأمر بغسل المتنجسات لم نعلم كونها في مقام البيان من حيث كيفية الغسل و كميته حتى يؤخذ بإطلاقها لنفي التعدد و العصر، و حينئذ فيكون مقتضى أصالة بقاء النجاسة هو لزومهما، و من المعلوم أنّ هذا ليس معارضا لدليل المطر، و هذا واضح.

و أمّا في البول فقد ورد فيه التصريح بالمرّتين إلّا أنّ مورد الخبر مخصوص بماء المركن و هو الإجانة، و الرواية لمحمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 157

واحدة. «1» و من المعلوم عدم شمول الخبر لغير الماء القليل لعدم وسعة الإجانة لما سواه، فيكون إطلاق المرسلة في المطر سليمة عن المعارض في البول أيضا، و أمّا الإناء فتارة نتكلم في تطهيره من غير الولوغ، و أخرى من الولوغ. أمّا الأوّل فاعلم أنّ في تطهير الإناء المتنجس بغير الولوغ ثلاثة أقوال:

أحدهما: لزوم التعدّد ثلاث مرّات في القليل دون الجاري و الكثير.

و الثاني: لزومه في القليل و الكثير دون الجاري.

و الثالث: لزومه في الأقسام الثلاثة، و الرواية الموجودة في الباب رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل، و كم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب فيه الماء فيحرك فيه، ثمّ يفرغ منه، ثمّ يصب

فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ ذلك الماء، ثمّ يصب فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرّغ منه و قد طهر «2» و الإناء فيه و إن كان بإطلاقه شاملا لما إذا كان واسعا لمقدار الكرّ إلّا أنّه خلاف الظاهر، فالظاهر كون الرواية بصدد بيان حكم تطهير الإناء بالماء القليل، إذ الكيفية المذكورة في كلام الإمام من صبّ الماء و تحريكه و إفراغه ثلاث مرّات إنّما يناسب القليل دون الجاري و الكثير، و إذن فلا يتعدّى منه إليهما فضلا عن المطر، فدليل المطر سليم عن المعارض أيضا.

و أمّا الإناء المتنجس بالولوغ- و هو شرب الكلب من الإناء بطرف لسانه- ففيه ثلاثة أقوال:

الأوّل: لزوم التعفير بالتراب أوّلا و الغسل بالماء مرّتين في القليل، و عدم

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1002، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 2 ص 1076، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 158

لزومهما، و الاكتفاء بالغسل مرّة في الجاري و الكثير.

و الثاني: لزومهما في القليل و لزوم التعفير ثمّ الغسل مرّة في غيره.

و الثالث: لزومهما في القليل و غيره، و الرواية التي هي المستند في الباب هو صحيحة البقباق عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في حديث أنّه سأله عن الكلب؟

فقال: رجس نجس لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء و اغسلها بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء. «1» فالعمدة الكلام في معنى الرواية فنقول: تحتمل الرواية أربعة وجوه من المعنى.

الأوّل: أن تكون ناظرة إلى الموضع الذي يعتبر فيه المرّات في تطهير الإناء يعني أنّ الموضع الذي لا بدّ فيه من غسل الإناء المتنجس ثلاث مرّات و هو ما إذا غسل بالماء القليل كما هو مدلول الرواية السابقة، ففي هذا الموضع لو

كان الإناء متنجسا بالولوغ يصير أوّل المرات متبدّلا بالتعفير بالتراب عوض الغسل بالماء، و المرّتان الأخيرتان باقيتان بحالهما، يعني لا بدّ فيهما الغسل بالماء، و يؤيد هذا الاحتمال ما حكي عن المحقّق من نقل الصحيحة مع زيادة مرتين بعد قوله: ثمّ بالماء، و على هذا يكون التعفير و الغسل مرتين مخصوصين بالقليل، فيكتفى في الجاري و الكثير و المطر بالمرّة بدون سبق التعفير، و ليس هذا الاحتمال بعيدا في الغاية.

و الثاني: أن تكون الفقرة الأولى مقيدة للزوم التعفير مطلقا في القليل و غيره و الفقرة الثانية كانت ناظرة إلى أبواب أقسام المياه.

فكأنّه قيل: إنّ الإناء المتنجس بالولوغ يحتاج علاوة على الغسل المعتبر في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 163، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 159

سائر المتنجسات المقرر في كلّ باب من لزوم التعدّد في القليل و الاكتفاء بالمرّة في غيره إلى التعفير بالتراب، فالرواية متعرّضة لحيث الاحتياج إلى التعفير الذي هو الخصوصية الزائدة في الولوغ، و لحيث الغسل بالماء في كلّ قسم من الماء إلى بابه و قاعدته.

و على هذا يلزم التعفير في جميع أقسام الماء، و هذا الاحتمال و إن كان قريبا في نفسه إلّا أنّه يبعده انّه يلزم على هذا أنّ من يقول بالتثليث في تطهير الإناء من غير الولوغ يقول هنا بالتربيع بضميمة التعفير إلى ثلاثة الغسل، و هو خلاف الإجماع، إذ الإجماع واقع على عدم لزوم الأزيد من مرّتين بعد التعفير حتّى في القليل، و يبعده أيضا المحكي عن بعض النسخ من زيادة مرّتين بعد قوله: بالماء.

و الثالث: أن تكون الرواية متعرضة لحكم هذا الفرع من دون أن يكون ناظرا إلى باب آخر و مسألة أخرى، و تكون مفيدة

للزوم التعفير و لزوم الغسل بالماء في الإناء المتنجس بالولوغ مطلقا سواء غسل بالقليل أم بغيره، فيكتفى في الغسل بالمرّة حتى في القليل لإطلاق الغسل بالماء.

و الرابع: أن يكون كذلك يعني لم يكن متعرضا إلّا لحكم هذا الفرع إلّا أنّها كانت في القضية الأولى، أعني: لزوم التعفير بصدد البيان، و في القضية الثانية، أعني: الغسل بالماء، كان في مقام الإهمال دون البيان، يعني: انّ الإناء المتنجس بالولوغ حكمه ابتداء هو التعفير بالتراب، و يلزم بعده الغسل بالماء في الجملة، و امّا انّه في كلّ باب على قاعدته في غير الولوغ أم للولوغ حكم جديد في الغسل بالماء أيضا فلم تكن الرواية في مقام البيان لهذا الحيث، و إنّما هو في مقام البيان لحيث التعفير الذي يعتبر علاوة على الغسل في الولوغ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 160

و الفرق بين هذا و الاحتمال الثاني انّه على الاحتمال الثاني لا بدّ من مركوزية كيفية تطهير الإناء بكل قسم من الماء في ذهن السائل و أمثاله و معلوميتها عندهم على التفصيل حتّى يوكل البيان إلى ما علموه و أخذوه من المعصومين- عليهم السلام- و على الثاني لا يلزم ذلك، بل يلائم مع ما لو لم يكن في ذلك الزمان حكم كل ماء معلوما مبيّنا، بل صار معلوما بعده.

و الأظهر من هذه الاحتمالات هو الأخيران، إذ الأوّل مبني على أن تكون الرواية ناظرة إلى الموضوع المحتاج إلى المرّات، أعني: القليل، و ليس في العبارة ما يدلّ على ذلك، و كذلك الثاني مبتن على أن تكون الفقرة الثانية ناظرة إلى ما هو القاعدة المقرّرة في كل باب و ليس على ذلك أيضا دليل، فيبقى الأخيران المشتركان في كون الرواية عليهما

غير متعرّضة إلّا لحكم الإناء المتنجس بالولوغ، فإن لم يكن بين هذين الاحتمالين من كون كلا القضيتين في مقام البيان، أو خصوص الأولى أقوى و أظهر، فتكون الرواية حينئذ بالنسبة إلى الغسل مجملة، فنشك في كفاية المرة أو لزوم الزيادة عليها و الأصل في مثل ذلك من موارد دوران الأمر بين الأقل و الأكثر و إن كان عدم وجوب الأكثر و تعيينه في الأقل، إلّا أنّه مع ذلك لا يحصل الجزم بالاجتزاء إلّا بإتيان الأكثر لوضوح أنّه مع عدم الإتيان إلّا بالأقل يحتمل عدم الإتيان بالمأمور به بتمامه، بل ببعض أجزائه.

و بالجملة فلا يحصل في المقام بالغسل مرّة القطع بزوال النجاسة، فتكون النجاسة مستصحبة، فلا بدّ من الإتيان بالزائد على المرّة إلى حدّ يقطع بالاجتزاء و عدم لزوم الزائد عليه، و هذا القطع إمّا أن يحصل بالدليل اللفظي، و إمّا بالدليل اللبّي، ففي المطر و الكرّ و الجاري يحصل بالدليل اللفظي، و هو قوله في المطر: كل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 161

شي ء يراه إلخ، و قوله في الكرّ: أنّ هذا لا يصيب إلخ، و الأدلّة الدالّة على الاكتفاء بالمرّة في الجاري، فيحصل القطع بالاكتفاء بالمرّة في هذه الثلاثة، إذ المفروض عدم المعارض لأدلّتها.

و كذلك الكلام في القليل لو كان في البين دليل يستفاد منه الكلّية و العموم بأن كان مفاده انّ كل متنجس إذا غسل بالماء القليل فيعتبر فيه المرّتان، فيحصل القطع بهذا العموم بالاجتزاء بالمرّتين، و أمّا لو لم يكن في البين عموم و إنما ورد المرّتان في الموارد الخاصة مثل البول و الدم و مجرى البول فلا يتعدّى منها إلى غيرها، فحينئذ لا بد من الرجوع إلى الدليل اللّبي، و هو

الإجماع على كفاية المرّتين بعد التعفير، و بذلك يظهر دفع ما يتوهم من وجود الدليل اللفظي في القليل أيضا، و هو الرواية المتقدّمة المصرّحة بالتثليث في الإناء، إذ مدلول هذه الرواية لا يؤخذ به في الولوغ لقيام الإجماع على كفاية المرتين.

و بالجملة المناط حصول القطع بالاجتزاء بأي وجه كان، فإذا فرض القطع من الإجماع بكفاية المرّتين فلا يعبأ بوجود الإطلاق على خلافه.

ثمّ إنّ في مسألة الولوغ فروعا كثيرة من حيث إلحاق اللطع به و إلحاق سائر الأعضاء باللسان، و إلحاق سائر المائعات بالماء، و إلحاق أكل الطعام الغير المائع به، و حكم ما لو أصاب الماء الذي شربه الكلب في إناء إناء آخر، و بيان أنّ التعفير لا بدّ و أن يكون بالتراب الخالص أو الممزوج بالماء إلى غير ذلك، و بيانها موكول إلى مقام آخر، و المناسب لهذا المقام هو ما ذكرناه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 162

[القسم الرابع في ماء البئر]
اشارة

«قوله: فصل: ماء البئر النابع بمنزلة الجاري لا ينجس إلّا بالتغيّر سواء كان بقدر الكرّ أو أقل إلخ».

اعلم أوّلا: أنّ تحقيق مفهوم البئر عرفا إنّما يحتاج إليه على تقديرين، و هما:

البناء على نجاسة ماء البئر بالملاقاة مطلقا، و البناء على طهارته من دون جعل التعليل بالمادة في صحيحة ابن بزيع تعليلا للحكم الشرعي، و جعله بيانا للعلّة الطبيعية لذهاب التغيّر عقيب النزح، نظير قول القائل: لازم غريمك حتّى يوفي حقّك، فإنّه يكره ملازمتك.

و أمّا على تقدير البناء على طهارته مع جعل التعليل المذكور علّة للحكم الشرعي، فالموضوع في الحقيقة ليس هو البئر، بل كل ذي مادة، فليس لتحقيق مفهوم البئر فائدة في الحكم الشرعي. و مفهوم لفظ البئر هو الحفرة المخصوصة و إن كانت جافّة فاقدة

الماء، لكن إذا أضيف إليه لفظ الماء يكون معناه الماء الناشئ من نفس البئر، فلا يشمل الماء الموضوع فيه من الخارج، أو المنصب فيه من المطر و نحوه، كما لا يقال على الرّمان الموضوع في البستان من الخارج انّه رمّان هذا البستان، بل يتوقّف صحّة الإضافة إلى كونه متولّدا من شجرة نفس البستان، و كذا لا يشمل الماء الناشئ بعد انقطاعه عن المادة بنفسه، أو بقاطع من الخارج كإلقاء طين في البئر مثلا، و إطلاق ماء البئر عليه حينئذ يكون مثل إطلاق لفظ ماء الشط على ما يكون منه في الكوز، فيكون مجازا بعلاقة ما كان.

و على هذا فالقنوات ليست داخلة في موضوع ماء البئر، لعدم كون الماء الجاري فيها متولّدا من نفسها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 163

نعم الآبار التي يكون ماء القناة ناشئا منها، و يكون أمّ الآبار يكون داخلة، لكنّها خارجة عن الموضوع الشرعي، فإنّ جعل البئر في الأخبار و في كلمات الفقهاء- رضوان اللّٰه عليهم- في مقابل الجاري قرينة على أنّ المراد بالبئر ما سوى هذا الفرد، و أيضا البئر التي كانت مورد سؤال السائلين في الأخبار كان ماؤها واقفا، و هذا وجه التقييد في تعريف البئر في كلماتهم بقولهم لا يتعدّاها غالبا.

و لو اجتمع عنوان الجاري و عنوان ماء البئر في موضع، كما لو أرسل ماء الشط في البئر التي ينشأ منه الماء فعلى القول بالنجاسة ليس من موارد التعارض بين دليل الطهارة في الجاري و دليل النجاسة في البئر، إذ كلّ من الدليلين متعرّض للحكم من حيث موضوع نفسه مع قطع النظر عن أمر خارجي، فمفاد الأوّل أنّ الجاري من حيث هو عاصم لنفسه، و مفاد الثاني انّ البئر

من حيث هو لا عاصم له عن النجاسة، و لا منافاة بين هذا و بين أن يحصل العاصم إذا طرأ عنوان الجاري عليه.

و كيف كان فالعمدة في المقام هو المحاكمة بين القائلين بالنجاسة في البئر، و هم عامّة المتقدّمين إلّا من شذّ، كالعماني، فإنّه كالمتأخّرين، و القائلين بالطهارة مطلقا و هم عامّة المتأخّرين و من يفصل بين القليل و الكثير كما ورد به بعض الأخبار و قد تقدم .. و لم نعهد وقوع الاختلاف بين عامّة المتأخرين و عامّة المتقدّمين إلّا في هذه المسألة و مسألة منجزات المريض، فانّ فيها أيضا قال المتقدّمون بالخروج من الثلث و المتأخّرون من الأصل، و في كلتا المسألتين العامّة موافقون للمتقدّمين و الظاهر أنّهم سبب لوقوع هذا النزاع، فاللازم ذكر أخبار الطرفين تيمّنا و تبرّكا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 164

فنقول: أمّا أخبار عدم الانفعال مطلقا فكثيرة جدّا تكاد تكون متواترة.

منها: ما عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا- عليه السّلام- قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغير به» «1».

و منها: ما عن زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس به». «2»

يمكن رجوع الإشارة إلى ماء البئر و يمكن إلى ماء الدلو، و على هذا لا بدّ و أن لا يقطر ماء الحبل في الدلو، و يمكن أن يكون الخبر الآتي الذي هو نصّ في الأوّل قرينة عليه و على أيّ حال يكون دليل على المطلب.

و منها: ما عن ابن بكير عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد الهّٰل قال: قلت له:

شعر الخنزير يعمل

حبلا و يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟

فقال: «لا بأس به» «3».

و منها: ما عن محمّد بن القاسم عن أبي الحسن- عليه السّلام- في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع أو أقل أو أكثر يتوضّأ منها؟ قال: «ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغير الماء» «4» يدل على أنّ الميزان ليس هو القرب و البعد و إنّما هو التغير و عدمه، فلو لم يتغيّر و كان قريبا بحيث تسري الرطوبة من الكنيف إليها لم يتنجس ماؤها.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 125، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ص 126، ح 3.

(4)- المصدر نفسه: ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 165

و منها: ما عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- بئر يستقى منها و يتوضّأ به و غسل منه الثياب و يعجن به (خمير كرده شده به أو) ثمّ علم أنّه كان فيها ميّت؟ قال: «لا بأس و لا يغسل منه الثوب و لا تعاد منه الصلاة». «1»

و منها: ما عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا- عليه السّلام- قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأنّ له مادة». «2»

و منها: ما عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا- عليه السّلام- فقال: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه لأنّ له مادة». «3»

و منها: ما

عن موسى بن القاسم عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر- عليهما السّلام- قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين أ يصلح الوضوء منها؟ قال: «لا بأس». «4»

و منها: ما عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها و يصلّي و هو لا يعلم أ يعيد الصلاة و يغسل ثوبه؟

فقال: «لا يعيد الصلاة و لا يغسل ثوبه». «5»

و منها: ما عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «سمعته

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 126، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ح 6.

(3)- المصدر نفسه: ص 127، ح 7.

(4)- المصدر نفسه: ح 8.

(5)- المصدر نفسه: ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 166

يقول: لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلا ان ينتن فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر». «1»

و منها: ما عن أبان بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سئل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلّا بعد ما يتوضّأ منها إيعاد الوضوء؟ فقال: «لا». «2»

و منها: ما عن أبي أسامة و أبي يوسف يعقوب بن عيثم عن أبي عبد اللّٰه قال:

«إذا وقع في البئر الطير و الدجاجة و الفأرة فانزح منها سبع دلاء» قلنا: فما تقول في صلاتنا و وضوئنا و ما أصاب ثيابنا؟ فقال: «لا بأس به». «3» فيه دلالة على عدم الملازمة بين النزح المقدّر إمّا استحبابا، و إمّا وجوبا تعبّديا و بين النجاسة.

و منها: ما عن أبي عيينة

قال: سئل أبو عبد اللّٰه عن الفأرة تقع في البئر؟

قال: «إذا خرجت فلا بأس، و إن تفسّخت فسبع دلاء». قال: و سئل عن الفأرة تقع في البئر فلا يعلم بها أحد إلّا بعد أن يتوضّأ منها أ يعيد وضوءه و صلاته و يغسل ما أصابه؟ فقال: «لا قد استعمل أهل الدار (أهل خانۀ ما) و رشّوا» (و آب پاشى كردند) و في رواية أخرى: «و قد استقى منها أهل الدار و رشّوا» «4» هذا أيضا كسابقه حيث إنّه بعد ما أثبت في الصدر نزح سبع دلاء لتفسّخ الفأرة نفى في الذيل إعادة الصلاة و غسل الثوب، فيعلم انّ النزح مطلوب و الماء طاهر.

و منها: ما عن بعض أصحابنا، قال: كنت مع أبي عبد اللّٰه في طريق مكّة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد اللّٰه دلوا، فخرج فيه فأرتان، فقال أبو عبد اللّٰه:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 127، ح 10.

(2)- المصدر نفسه: ح 11.

(3)- المصدر نفسه: ص 128، ح 12.

(4)- المصدر نفسه: ح 13.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 167

«أرقه»، فاستقى آخر فخرج فيه فأرة، فقال أبو عبد اللّٰه: «أرقه»، قال: فاستقى الثالث. فلم يخرج فيه شي ء، فقال: «صبّه في الإناء فصبّه في الإناء». «1»

و منها: ما عن عمّار قال: سئل أبو عبد اللّٰه عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة؟ فقال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير». «2» اعتبار الكثرة إنّما هو لأجل تحفّظ الماء عن التغيّر بمثل الزنبيل من العذرة.

و منها: ما عن زرارة قال: قد سألت أبا عبد اللّٰه عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقي به الماء؟ قال: «لا بأس». «3» يعني لا

بأس بماء البئر، فإنّ غرض السائل السؤال عن حال البئر- و انّه يسقط عن الانتفاع بسبب ذلك أو لا، و إلّا فماء الدلو حاله واضح لا يحتاج إلى الاستفسار.

و منها: ما عن أحمد بن محمّد بن عبد اللّٰه بن الزبير عن جدّه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فتعجن من مائها أ يؤكل ذلك الخبز؟ قال: «إذا أصابته النار فلا بأس بأكله» «4» لا بد من حمل ذلك على بيان ما يزيل تنفّر طبع السائل، و ذلك للقطع بعدم كون النار مطهرا في مثل المقام على تقدير النجاسة، فالمقصود انّ الماء طاهر و التنفّر الذي حصل من الماء بسبب وقوع المذكورات يرتفع بإصابة النار و هذا تنبيه على ما غفل عنه السائل من الأمر الطبعي الوجداني و هو شائع في الأجوبة عن الأسئلة.

و منها: ما عن محمّد بن أبي عمير عمّن رواه عن أبي عبد اللّٰه في عجين عجن

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 128، ح 14.

(2)- المصدر نفسه: ح 15.

(3)- المصدر نفسه: ص 129، ح 16.

(4)- المصدر نفسه: ح 17.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 168

و خبز ثمّ علم انّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال: «لا بأس أكلت النار ما فيه». «1» و هذا الخبر إمّا مخالف للإجماع من عدم مطهرية النار لمثل ذلك لو حمل الماء على ظاهره من العموم، و إمّا يجعل على ماء البئر و يحمل قوله: أكلت النار ما فيه، تقريبا لدفع تنفّر السائل فيكون دليلا على المطلوب.

و منها: ما عن يعقوب بن عيثم انّه سأل أبا جعفر- عليه السّلام- عن سام أبرص وجدناه في

البئر قد تفسّخ؟ فقال: «إنّما عليك أن تنزح منها سبع دلاء» فقال له: فثيابنا قد صلّينا فيها نغسلها و نعيد الصلاة؟ قال: «لا». «2»

و منها: ما عن الصادق- عليه الصلاة و السّلام- قال: «كانت في المدينة بئر وسط مزبلة فكانت الريح تهب و تلقى فيها القذر و كان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و سلّم يتوضّأ منها». «3»

و منها: ما عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل اسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع- عليه السّلام- بخطه في كتابي ينزح دلاء منها. «4»

الدلاء جمع الكثرة و هو على ما ذكره أهل الأدبيّة ما يكون أقلّه عشرة، و القلّة ما يكون أقلّه ثلاثة، و لكن الظاهر انّ القلّة و الكثرة ليستا ملحوظتين بهذا النحو في نظر العرف و إنّها على حدّ سواء عندهم، و على هذا فيكون المراد ثلاثة دلاء، و على فرض ملحوظيّة كونه جمع كثرة يكون عشرة دلاء، مع أنّ القائلين بالنجاسة لا يقولون في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 129، ح 18.

(2)- المصدر نفسه: ح 19.

(3)- المصدر نفسه: ص 130، ح 20.

(4)- المصدر نفسه: ح 21.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 169

الأشياء المذكورة، أعني: البول و الدم و العذرة بهذا المقدار، بل أزيد منه قطعا، و احتمال أن يكون الغرض هو الجواب بجنس المطهر من دون إرادة بيان تفصيله مناف لغرض السائل، فإنّه على ما يفهم من كلامه يسأل عن ما يطهّر واقعا

بئره التي تكون محلا لابتلائه و ظنّ نجاستها لا عن جنس المطهر كما لو قيل: ما الذي يطهّر المتنجسات فأجاب بأنّه الماء.

و بالجملة الجواب بالجنس مناف لغرض السائل من بيان المطهر الفعلي الواقعي، فالذي يمكن أن يقال: إنّ الإجمال في الجواب في مثل هذا المقام مسوق لغرض ارتداع السائل عن توهّم النجاسة، فإنّه قد يقصد ارتداع المخاطب عن توهّمه بالإجمال في الجواب لا بالتصريح، و على هذا فيكون دليلا على الطهارة لا النجاسة بتقريب انّ السائل توهّم النجاسة، فلهذا سأل عن المطهر و الإمام قرّره على ذلك كما توهّم.

و منها: ما عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فانّ ربّ الماء ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم مائهم». «1» هذا أيضا كسابقه مما استدل به للقول بالنجاسة، فإنّ الأمر بالتيمم ليس إلّا لنجاسة الماء بسبب وقوع الجنب فيه، فإنّه لا يخلو غالبا عن النجاسة العينية في بدنه، و أيضا الإفساد هو التنجيس. و الجواب المنع عن كلا الأمرين.

أمّا الأوّل: فلأنّ المسوّغ للتيمم هو إضاعة الماء على تقدير الوقوع فيه بكدورة مائه و سقوطه بذلك عن الانتفاع به في الشرب و غيره، و لا ينافيه صحّة الغسل لو

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 14، من أبواب الماء المطلق، ص 130، ح 22.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 170

فعل، غاية الأمر أنّه عصى بالوقوع و هو خارج عن الغسل، و ذلك لوجود نظيره، فانّ من مسوّغات التيمم عدم وجدان الماء إلّا بعسر و مشقة، فلو تحمّل المكلّف المشقة و وجد الماء و اغتسل كان صحيحا،

و مع ذلك شرع في حقّه التيمم ترفيها لحاله، فهنا أيضا شرع في حقه التيمم حفظا للماء عن التكدر و الامتزاج بالطين مع أنّه لو فعل و اغتسل عصى و صحّ غسله.

و أمّا الثاني فلأنّ الإفساد هنا يكون بمعنى الإضاعة بتكدر الماء و خروجه عن الصفاء في الغاية لا بمعنى التنجيس، و ذلك لأنّ الظاهر من كلام الإمام حصر العلّة في المنع في الإفساد مع صحّة الغسل لو فعل، و إلّا لكان اللازم أن يذكر فساد الغسل أيضا ممّا يترتب على الوقوع، و الحصر المذكور لا يناسب مع إرادة التنجيس كما هو واضح، فتعيّن إرادة ما ذكرناه.

فعلى هذا يكون دليلا على الطهارة و عدم الانفعال.

هذا و ممّا استدل به للنجاسة أخبار النزح بأسرها و كثرتها، و هي أيضا غير دالّة كما عرفت للتصريح في بعضها بعد الأمر بالنزح في المعاملة مع نفس البئر بعدم البأس في مقام السؤال عن حال الاستعمالات الواقعة بعد وقوع القذر و قبل النزح، كعدم لزوم إعادة الصلاة و الوضوء، و عدم لزوم غسل الثياب، مع أنّه لو كان نجسا كان الجميع لازما، و لا أقلّ من لزوم غسل الثياب للمستقبل من الصلوات لو قلنا بعدم منافاة صحّة الصلاة الماضية مع النجاسة، و الرواية كما ترى متعرضة لنفي الغسل حتّى بالنسبة إلى ما سيجي ء.

و بالجملة هذا دليل على أنّ نزح المقدرات الواقعة في تلك الأخبار الكثيرة غير ملازم لنجاسة الماء، بل منفك عنها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 171

و ممّا استدلّ به للنجاسة مضافا إلى الخبرين الأخيرين و أخبار النزح أخبار أخر ظاهرة في النجاسة. منها: موثقة عمّار الواردة في وقوع الكلب و الفأرة و الخنزير، قال: «ينزف كلّها فإن غلبت

الماء ينزف يوما إلى الليل ثمّ يقام عليه قوم يراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلى الليل و قد طهرت» لا إشكال في ظهور قوله: «و قد طهرت»، في حصول النجاسة أوّلا، و الحمل على صورة التغير لا وجه له لإطلاق الرواية لما إذا لم يطل زمان اللبث و المقصود بيان حكم وقوع كل من الثلاثة منفردا.

و منها: حسنة الفضلاء بابن هاشم قالوا: قلنا له- عليه السّلام-: بئر نتوضّأ منها يجري البول قريبا منها أ ينجسها؟ فقال: «إن كان البئر في أعلى الوادي يجري فيه البول من تحتها، و كان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس شي ء من ذلك، و إن كان أقل من ذلك نجّسها»، قال: «و إن كان البئر في أسفل الوادي و يمر الماء عليها» و كان بينه و بين البئر تسعة أذرع لم ينجس، و ما كان أقل من ذلك فلا تتوضّأ منه» فقلت له: فإن كان مجرى البول يلصقها و كان لا يلبث على الأرض؟ فقال: «ما لم يكن له قرار فلا بأس، و إن استقر قليل منه فإنّه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتى يبلغ البئر، و ليس في البئر منه بأس فتوضأ منه إنّما ذلك إذا استنقع كلّه» (بخيساند تمام چاه را) لا إشكال أيضا في ظهوره في النجاسة عند وصول البول و نشره إلى البئر و الصور التي نفى عنها البأس لا يحصل فيها النشر و السراية.

و منها: رواية ابن مسكان عن أبي بصير: و كلّ شي ء يقع في البئر ليس له دم مثل العقرب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس. يعني لو كان له دم سائلة فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1،

ص: 172

بأس، فالإنصاف انّ له أيضا ظهور مفهومي، فإنّ ظاهر البأس بالماء و معيوبيته سقوطه عن الانتفاع به في الشرب و غيره من الاستعمالات و هو ملازم للنجاسة، لكن هذه ظواهر كما أنّ أخبار النزح أيضا ظاهرة في حدّ نفسها.

و أمّا أخبار عدم الانفعال فهي و إن كان بعضها ظاهرا، لكن بعضها كصحيحة ابن بزيع و غيرها صريح، و هذا البعض و إن كان ظاهرا أيضا في إطلاق حكم الطهارة بالنسبة إلى القليل، لكنّه نص في الحكم الإجمالي بالطهارة في قبال النجاسة مطلقا كما هو مدلول هذه الأخبار، فيجعل تلك النصوص قرينة على صرف هذه الظواهر عن ظاهرها، فيحمل الطهارة في قوله: و قد طهرت، على النظافة العرفية، و البأس على الكراهة و حصول النفرة.

و على تقدير تكافؤ الطائفتين في النصوصية أو الظهور و عدم الجمع الدلالي العرفي في البين يرجع إلى المرجحات السندية، و لا ريب في وجودها مع أخبار عدم الانفعال فإنّها كثيرة أوّلا، و مخالفة للعامة ثانيا، و موافقة للسنّة ثالثا و هي عموم «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء» لو فرغنا عن سنده.

لا يقال: موافقة السنة لا تحصل بموافقة العموم.

لأنّا نقول: بل لا يحصل إلّا به، و ذلك لأنّه لو كان خاصا كان هو أحد طرفي التعارض، فلا بدّ من كونها عامّة فوق المتعارضين حتّى تصير مرجعا أو مرجحا.

و الأصل على ما حرّرناه أيضا مطابق لتلك الأخبار و هو أصالة الطهارة، بل حتى عند المحقّق المرتضى- قدّس سرّه- القائل بكون الأصل في باب المياه هو الانفعال من باب قاعدة المقتضي و المانع، و وجهه أنّ قوله- عليه السّلام-: الماء إذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 173

كان قدر كرّ

لا ينجسه شي ء الذي يستفاد منه كون استناد عدم التنجيس إلى الكرّية و وجود مقتضيه في نفس الماء بالملاقاة إنّما يكون مصبّه المياه الراكدة، فيكون الأصل في المياه النابعة التي يكون البئر من جملتها هو الطهارة حتى عنده- قدّس سرّه- لعدم جريان القاعدة المذكورة فيها.

و أمّا القول بالتفصيل بين القليل و الكرّ الذي أعرض عنه الأصحاب و حكى عن البصروي فقد استدل له برواية الحسن بن صالح الثوري، التي ليس في طريقه سوى ابن الثوري و هو مجهول الحال عن أبي عبد اللّٰه قال: إذا كان الماء في الركي كرّا لم ينجسه شي ء. و الركيّ- بفتح الراء و تشديد الياء- كغنيّ على ما حكي في مجمع البحرين عن الصحاح جمع الكريّة- بفتح الراء و تشديد الياء- و هو بمعنى البئر.

و قوله في موثقة عمار السابقة في أدلّة المختار: لا بأس إذا كان فيها ماء كثير.

و قوله- عليه السّلام- في صحيحة ابن بزيع المتقدّمة: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، بناء على حمل الكثير في الأوّل على الكثير الشرعي دون ما لم يتغيّر، و الوسعة في الثاني على الكثرة الحقيقية الفعليّة و كان القضية منزّلة على الغالب، فانّ الغالب في الآبار كون ماؤها بقدر الكرّ.

و قال المحقّق المرتضى- قدّس سرّه- في مقام تأييد هذا القول: و لو لا إعراض الأصحاب عن هذا القول أمكن المصير إليه، و يستفاد منه أنّه عنده- قدّس سرّه- كان مطابقا للقواعد، و ليس كذلك، إذ لو سلمنا صحّة الأدلّة المذكورة دلالة و سندا لكن مجموع الأخبار المتقدّمة المطلقة الغير المفرقة بين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 174

القليل و الكثير في الحكم بالطهارة أو النجاسة متجاوزة عن حدّ التواتر، و معها

لا مجال للأخذ بهذه الأدلّة.

و دعوى أنّ رواية الحسن الثوري يجعل شاهدا للجمع بين طائفتي الأخبار المتقدّمة، فتحمل أخبار الطهارة على ما إذا كان الماء بقدر الكرّ كما هو الغالب في الآبار، و أخبار الانفعال على ما إذا كان قليلا.

مدفوعة: أولا: بأنّه يلزم حينئذ أن لا يكون للبئر بخصوصه عنوان مستقل و كان داخلا تحت عنواني الكرّ و القليل، و لا يلتزم بذلك أحد مع كثرة الأخبار المرتّبة للحكم طهارة أو نجاسة على عنوان البئر.

و ثانيا: بأنّ المستفاد من التعليل بالمادة في صحيحة ابن بزيع على المختار من رجوعه إلى الفقرة الأولى استناد الطهارة إلى المادة و إن اجتمعت مع القلّة، و مفاد هذه الرواية حيث اشترط الكرّية في عدم التنجيس هو الاستناد إلى الكرّية دون المادة، و هذان متباينان و لا بدّ فيما يجعل شاهدا للجمع بين المتعارضين من كونه أعمّ مطلق من كل منهما، مع أنّ الغلبة المدعاة ممنوعة، و ذلك إنّا و إن سلّمنا كون الغالب في الآبار الغير المستعملة في استقاء الماء منها كونها بقدر الكر، لكن لا نسلم ذلك فيها بعد الاستعمال و الاستقاء.

فحينئذ يختلف حالها فقد يكون أقل من الكر بكثير فإنّ ما ينبع من المادة عند الاستقاء لا يخرج بسرعة، بل بالتدريج، بل في أخبار الانفعال أيضا ما يكون بينه و بين هذه الرواية التباين دون العموم و الخصوص، و هو ما دلّ على انفعال البئر مع كونه بقدر الكرّ من قوله في موثقة عمّار المتقدمة بعد الحكم بنزح جميع الماء عند وقوع الكلب أو الفأرة أو الخنزير فإن غلبت الماء ينزف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 175

يوما إلى الليل، يعني لو كان كثيرا بحيث يشق نزح

جميعه يجب التراوح، و هذا لا محالة يكون عند زيادة الماء عن الكرّ بكثير.

و بالجملة فلا تصلح الرواية لكونها شاهدة للجمع، بل هي كما ذكرنا في قبال جميع مطلقات الباب، إذ هي في نفي الفرق و التفصيل متحدة و إن اختلفت في الحكم بالطهارة و النجاسة، فيتعين رفع اليد عن هذه الرواية لأجلّها، لتجاوزها عن حدّ التواتر.

مع أنّ لنا أن نقول: إنّ النسبة بين هذه و مطلقات عدم الانفعال عموم من وجه، و ذلك لعموم هذه الرواية للبئر الغير النابع و اختصاص تلك بالبئر النابع، و وجه الفرق أنّ الماء في تلك مضاف إلى البئر، و لهذا يكون ظاهرا في ما إذا كان نابعا و ناشئا من نفس البئر، فلا يشمل الماء الخارجي الموضوع في البئر و لا مائة إذا كان منقطعا عن المادة، و هذا بخلاف هذه الرواية فلم يضف فيه الماء إلى الركي، بل جعل الركي ظرفا للماء، و هذا أعم ممّا إذا كان نابعا من نفس البئر مع الاتّصال أو الانقطاع، و ما إذا كان من الخارج، و هذه الرواية مختصة بالكثير و تلك عامة للقليل و الكثير، فتتعارض هذه الرواية مع تلك في مورد الاجتماع و هو القليل النابع، و المطلقات مقدّمة على هذه لأجل حكومتها عليها، و ذلك لأنّ مفاد قوله:

ماء البئر واسع، على ما اخترناه من رجوع التعليل بقوله: لأنّ له مادة إليه، هو أنّ ماء البئر و إن كان بحسب الصورة قليلا، لكنّه بحسب الاستعداد كثير لمكان المادة، و هذا المضمون حاكم على مضمون الرواية، و كذا مضمون العمومات الدالة على انفعال القليل من الماء كما هو واضح.

فتحصل ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة و الجمع بين الأخبار هو

الطهارة مطلقا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 176

ثمّ هل النزح حينئذ مستحب أو واجب تعبّدا كما حكاه قولا في كشف الغطاء و في محكي المدارك، أو ليس هذا و لا ذاك و إنّما أمر به للتقيّة.

قد يقال إنّ كثرة الاختلاف في الأخبار في تعيين مقدار النزح في موضوع واحد يدلّ على الأوّل فينزل الاختلاف على مراتب الفضل.

و فيه: أنّ ذلك لا ينافي الوجوب فيكون الواجب أقلّ الأعداد و ما زاد عليه يكون لتحصيل المزيّة و الفضل، فيصير الوجوب في العدد الأكثر آكد، و لكن لا يخفى أنّ الظاهر من أخبار النزح عرفا كون النزح واجبا عقيب وقوع الأمور المعهودة لأجل ارتفاع أثر حدث بسببها، و هو إمّا النجاسة أو الاستقذار و النفرة، و إمّا أنّه كان واجبا تعبديا نفسيا من دون أن يكون لأجل ذلك فلا يفهمه العرف من تلك القضايا، بل هو في غاية البعد من نظرهم.

و حينئذ فلا يخفى أنّ الظاهر الأوّلي هو كون الأثر الحادث هو النجاسة و كون النزح واجبا مقدمة لرفعها عند إرادة استعمال الماء فيما يشترط فيه الطهارة، و حيث إنّا قد استفدنا من تضاعيف أخبار الباب اعتصام البئر و عدم انفعاله وجب رفع اليد عن هذا الظاهر، و حينئذ فيتعين حملها على إرادة الندب، لزوال النفرة الحاصلة في الماء بسبب وقوع الأشياء المقررة مع كون الماء طاهرا شرعيا، و قد عرفت أنّ بعض تلك الأخبار آمر بالنزح مع الحكم بالطهارة، و هو أيضا شاهد على ما ذكرنا بعد ملاحظة استبعاد العرف لإرادة الوجوب التعبدي.

و أمّا الحمل على التقيّة فلا وجه له بعد إمكان الحمل على الاستحباب فانّ الحمل على التقيّة طرح للسند فانّ معناه أنّ مفاد الخبر ليس

حكم اللّٰه، و متى أمكن محمل صحيح عرفي للسند فلا وجه لطرحه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 177

و يردّ ارادة الوجوب التعبدي بمعنى ما لا يعلم عندنا سرّ وجوبه و حكمته، في قبال التوصلي الذي هو ما بخلافه، لا بمعنى ما يعتبر في إجزائه القربة في قبال التوصلي الذي لا يعتبر فيه: أنّ القائل به إن أراد الوجوب التعبّدي الشرطي بمعنى أنّ الشرب و الاستعمال في المأكول مشروط حليتهما بالنزح، و كذا يشترط النزح في صحّة التطهير بهذا الماء من الحدث و الخبث فقبل النزح يحرم الشرب و الاستعمال في المأكول كالماء المغصوب و لا يطهر عن الحدث و لا الخبث مع كونه طاهرا كماء المضاف في كليهما. و كغسالة الاستنجاء في الثاني، فهذا و إن كان لا يرد عليه ما أورده المحقّق المرتضى من أنّ هذا هو معنى النجاسة فيلزم نجاسة الملاقي أيضا، فلا يقال: إنّ الثمرة تظهر في طهارة الملاقي على هذا و نجاسته على القول بالنجاسة، و ذلك لأنّ النجاسة ليست عبارة عن نفس هذه الأحكام، بل هو أمر واقعي موضوع لهذه، و على هذا فيمكن التفكيك بينه و بين الأحكام المزبورة فتكون الثمرة طهارة الملاقي.

لكن يرد عليه أنّ نفس أخبار الباب ناصّة في ردّ هذا الوجه و هو ما يدل على النزح عقيب وقوع نجاسة، و من ذلك نفي الإعادة لما مضى من الوضوء و غسل الثياب الحاصلين في حال الجهل بالوقوع، و لو كان النزح شرطا لصحّة الوضوء و لزوال الخبث لكان اللازم حينئذ هو الإعادة.

و كذا صحيحة ابن بزيع المصرحة بنفي الفساد و الأخبار الأخر المصرّحة بنفي البأس، إذ لا يقصد بالفساد و البأس في الماء إلّا ممنوعية الاستعمالات

المذكورة فيه لا خصوص النجاسة الشرعية، فلو كان طاهرا أو لم يجز الاستعمالات فيه من الشرب و الاستعمال في المأكول و لم يحصل التطهير به لا من الحدث و لا من الخبث

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 178

يصدق أنّ هذا الماء فاسد، و هذا معنى البأس به، فهذا الأخبار كما تنفي النجاسة كذلك تنفي هذا الوجه أيضا على حدّ سواء.

و إن أراد الوجوب التعبدي النفسي بأن كان هنا تكليف متوجه إلى المكلّفين و يعاقبون بتركه و يثابون بفعله مع كون الفعل شرطا فلو لم يفعل عصى و صحّ استعمالاته، فهذا و إن لم يناف الأخبار المذكورة من حيث عدم استلزامه سقوط الماء عن الانتفاعات المترقبة منه، و كذا لا يدفعه مجرّد كون ذلك مستبعدا كما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

لكن يرده أنّ الظاهر من الأمر بالنزح عقيب الأمور الخاصة عند العرف بحسب المناسبات المقامية هو كون ذلك لأجل كثافة و قذارة حدثت في الماء بسبب تلك الأشياء فيطلب بالنزح رفع تلك الكثافة، فلو لا دلالة الأخبار على عدم النجاسة كان الظاهر الأوّلي هو استحداثها، و كون النزح رافعا لها، و لكن لمّا دلّت الأخبار على عدمها وجب رفع اليد عن هذا، و يصير الظاهر بعد ذلك هو أن يكون الحادث القذارة العرفية و يكون النزح مستحبا لرفع تلك القذارة، فالحمل على الوجوب التعبدي التكليفي و إن كان لا يبعد عن ظاهر اللفظ بمجرّده لكنّه بعيد في الغاية بملاحظة شهادة المناسبة المقامية.

و حينئذ فتحصّل أنّ الاعتصام و استحباب النزح- دون وجوبه تعبدا- إمّا شرطيا، و إمّا نفسيا تكليفيا، كلّ ذلك مستفاد من أخبار الباب فتأمّل جيدا.

ثمّ إنّ شيخنا المحقّق الأنصاري- قدّس سرّه- ذكر في

المقام لتقريب القول باستحباب النزح دون وجوبه قرينتين من الروايات:

الأولى: ما تقدّم من الأمر بنزح دلاء لنجاسة واحدة أو لنجاسات، فإنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 179

الظاهر من ذلك هو التسامح و هو ملازم للاستحباب، إذ لو كان واجبا لم يجز التسامح و وجب تعيين مقداره لا ذكره على نحو الإجمال، فإرادة الوجوب من هذا اللفظ موجبة لإرادة خلاف الظاهر من اللفظ.

و فيه: أنّه لا ضير في التعبير بمثل هذه العبارة في مقام الوجوب، فيحصل الامتثال بأوّل مصداق وجد من الجمع و هو الثلاثة أو العشرة للانطباق القهري عليه، نظير ما لو وجب على المكلّف ذكر ما على وجه الإجمال، فحيث إنّ الذكر أمر تدريجي الحصول يحصل امتثال أمره بأوّل ما يصدق عليه الذكر كقول «سبحان اللّٰه»، و يسقط عند تمام التلفّظ به. و الحاصل أنّ الحمل على الوجوب ليس حملا على خلاف الظاهر، و لكنّه مع ذلك لعلّه يصلح للقرينية للاستحباب.

و الثانية: ورود أخبار متعارضة هنا: فإنّ الحمل على الوجوب يوجب طرح بعضها بخلاف الحمل على الاستحباب.

و فيه: أنّ الحمل على الوجوب يوجب طرح خلاف الظاهر أقل ممّا يلزم من الحمل على الاستحباب، و ذلك لأنّا لو فرضنا ورود أوامر أربعة متناقضة، فالحمل على الاستحباب و إن كان أخذا بالسند، لكنّه طرح لظاهر الجميع، فانّ الظاهر من الأمر هو الوجوب فيلزم طرح الدلالة في الأربعة، و أمّا لو حمل الأمر بالعدد الأقل على الوجوب و حمل البواقي على الأفضلية بأن كان الزائد أفضل فردي الواجب فيلزم الأخذ بالسند مع حفظ الظهور الدلالي في واحد.

نعم يلزم طرح الدلالة في الثلاثة الباقية، و ذلك لأنّ الحمل على الوجوب و إن كان لا يمكن معه التخيير،

إذ لا معنى للتخيير بين الأقل اللابشرط و الأكثر، و المعقول من التخيير بين الأقلّ و الأكثر هو ما إذا أخذ الأقل بشرط و كان طرفا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 180

للوجوب بحدّه، بحيث لو زيد عليه واحد وجب الإتمام إلى الحدّ الآخر و لم يكف ما أتى به من العدد الأقل كما هو الحال في القصر و الإتمام، و من المعلوم خلاف ذلك في ما نحن فيه لأنّا نعلم بأنّ العدد المطلوب في باب النزح ليس مطلوبا على نحو إضرار الزيادة بالامتثال. و بعبارة أخرى لم يؤخذ بشرط لا، بل لا بشرط، فلهذا لا يعقل التخيير بين العدد الأقل و الأكثر في هذا الباب.

لكن لا يلزم من الحمل على الوجوب طرح ما سوى الأقل بالمرّة حتّى يلزم ما ذكره- قدّس سرّه- بل يمكن الأخذ بالباقي أيضا بالحمل على الأفضلية كما ذكرنا، و حينئذ يكون طرح الظاهر فيه أقل من الحمل على الاستحباب كما عرفت فلا يكون هذا شاهدا على الاستحباب.

و أمّا طريق تطهير البئر لو تنجّس بالتغيّر فبمني على فهم معنى قوله- عليه السّلام- في صحيحة ابن بزيع المتقدمة: فينزح حتّى تطيب.

فنقول فيه احتمالان: الأوّل: أنّ المقصود بالأصالة هو حصول الطيب الذي هو الغاية بأيّ وجه اتفق و لو كان بتصفيق الرياح أو طول الزمان أو إلقاء الكرّ أو إرسال الجاري أو نحو ذلك. غاية الأمر خص النزح بالذكر لكونه مقدمة غالبيّة لحصول الطيب، و ندرة حصول الطيب بالبواقي، فيكون المفاد على هذا أنّ ماء البئر لا يفسده شي ء سوى التغيّر، فإذا زال التغيّر الموجب لنجاسته و فساده صار طاهرا.

الثاني: أن يكون المقصود حصول الطيب و زوال التغيّر بسبب النزح بحيث كان للنزح

أيضا مدخلية فكان المطهر هو زوال التغير بالنزح. و بعبارة أخرى زوال التغيّر بواسطة الاتصال بما يخرج من المادة جديدا بالنزح، فليس مطلق زواله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 181

مطهرا و لو لم يتصل بالماء الطاهر الخارج مثل زواله بالتصفيق أو بالطول أو غيرهما ممّا سوى الاتصال بالكر و المطر و الجاري، و أمّا الاتصال بهذه الثلاثة فالرواية ساكتة عنه، إذ من المحتمل قويا على هذا الاحتمال أن يكون ذكر النزح لأجل كونه غالبا لا لأجل الاختصاص و انحصار المطهر في البئر به.

و بالجملة فالرواية على هذا الوجه صريحة في نفي حصول الطهارة بما سوى النزح و هذه الثلاثة، كما أنّه صريح في حصوله بالنزح، و أمّا حصوله بالثلاثة و عدمه فالرواية ساكتة عنه و لا دلالة لها لا على الثبوت و لا على عدمه.

و الانصاف عدم إمكان دعوى الجزم بشي ء من الاحتمالين إذ مثل هذه العبارة ترد مختلفة في المحاورات العرفية بحسب المقامات، فقد يكون المقام مقتضيا لكون المغيّا مطلوبا لأجل الوصلة به إلى الغاية بحيث يكون تمام النظر إلى الغاية كما في قولك: كرّر النظر في العبارة حتّى تفهمها، فإنّ من المعلوم أنّه ليس لخصوص الفهم من تكرار النظر دخل، بل لو حصل الفهم بالنظر الأوّل حصل المقصود، و قد يكون مقتضى المقام دخالة المغيّا و الغاية جميعا في الغرض كما في قول الطبيب: كل البطيخ حتى تشبع فإنّ المداواة متوقفة على الشبع من أكل البطيخ لا على الشبع المطلق، و الرواية كما عرفت محتملة لكلا الوجهين صالحة لإرادة كل منهما، و ليس في البين ما يمكن الجزم بسببه بتعيين إرادة أحدهما فلا محالة تكون مجملة، فيكون القدر المتيقّن منها حصول التطهير

بالنزح المزيل للتغير.

و أمّا غيره فزوال التغيّر بنفسه أو بالعلاج ليس بمطهر لا لأجل الدليل على عدم مطهريته، بل لأجل عدم الدليل على مطهريته، فيكون الماء باقيا على النجاسة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 182

بحسب الأصل، و ذلك لإجمال الرواية و تردّدها بين معنيين بأحدهما يدل على مطهرية ذلك و بالآخر على عدم مطهريته، فلا يكون دليلا على أحدهما، و المفروض عدم دليل آخر يدلّ على المطهرية في ذلك فيكون مقتضى الأصل بقاء النجاسة.

و أمّا الاتصال بالكرّ و المطر و الجاري فهو مطهر هنا، لعموم دليل حصول تطهير المتنجس بهذه الثلاثة و لا معارض لهذا العموم في المقام، لفرض سكوت الرواية لتردّدها بين معنيين على أحدهما معاضد لهذا العموم و هو المعنى الأوّل، و على الآخر لا يعانده، لاحتمال كون النزح واردا مورد الغالب، و إن كان على هذا المعنى دليلا على عدم حصول الطهارة بغير الثلاثة.

و وجه الفرق أنّه يفهم من الرواية حينئذ أنّ الاتصال بالماء العاصم معتبر مع زوال التغيّر في حصول الطهارة، فلا يكفي الزوال بدون الاتصال بالعاصم كما في زواله بغير النزح و الثلاثة، فيبقى أنّ الماء العاصم المعتبر الاتصال به هل هو عام أو هو خصوص ما يخرج من المادة بسبب النزح، ففي هذا المقام قلنا بأنّ الرواية لا تدل على الحصر في الثاني لكمال قوّة احتمال أن يكون تخصيص النزح بالذكر لكونه غالبا، لسهولته بالنسبة إلى إلقاء الكر في البئر، أو إرسال الجاري فيه. و بالجملة تكون عموم الأدلّة في الثلاثة محكما لسلامته عن المعارض.

بقي الكلام في فرع و هو أنّه لو قلنا بانفعال البئر فانفعل، أو قلنا بعدم انفعاله فتغير بالنجاسة فألقي الكرّ من الماء الطاهر عليه

لتطهيره، فما حكم البئر بعد ذلك، فهل هو محكوم بعد ذلك على القول بالانفعال بعدم الانفعال الذي هو حكم الكرّ، أو باق على حكم ماء البئر من الانفعال. فنقول: هنا فروض أربعة:

الأوّل: أن يعلم بانقلاب عنوان ماء الكرّ لاستهلاكه في ماء البئر لكثرة ماء البئر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 183

الثاني: العلم بانقلاب عنوان ماء البئر إلى عنوان ماء الكرّ لقلّة ماء البئر بحيث يستهلك في جنب الكرّ، فيبدل عنوان كونه ماء بئر بكونه ماء كرّ.

و الثالث: العلم ببقاء كلا العنوانين، لعدم استهلاك شي ء من الماءين في الآخر.

و الرابع: صورة الشكّ في الاستهلاك و عدمه فحكم صور العلم معلوم، إذ على الأوّل محكوم بحكم البئر، و على الثاني بحكم الكرّ، و على الثالث أيضا بحكم الكرّ، و ذلك لما مرّ من أنّ دليل انفعال البئر على القول به إنّما هو متعرض لحيث كونه بئرا، فمفاده عدم العصمة من حيث البئريّة و هذا غير مناف لحصول العصمة من جهة عروض عنوان الكرّية، فلهذا يكون الماء الذي اجتمع فيه عنوان البئر و عنوان الكرّ معصوما بدليل الكر.

و أمّا حكم صورة الشك فقد يقال: إنّه استصحاب الحالة السابقة، فلو كان ماء بئر فشك في تبدّله بماء الكرّ استصحب الانفعال، و لو كان العكس كما لو فرض قلّة ماء البئر في زمان إلقاء الكر عليه بحيث صار مستهلكا في الكر، و لكن صار بعد ساعة مشكوكا بواسطة خروج الماء الجديد من مادته بمقدار يشك أنّه غالب على الكرّ أو بالعكس، فيستصحب حينئذ عدم الانفعال، و كذا استصحاب الموضوع أيضا ممكن بأن يستصحب عنوان كون الماء ماء بئر في الأوّل، و عنوان كونه ماء كرّ في الثاني.

و لكنّه توهّم باطل،

و ذلك لأنّه لو استصحب وجود ماء البئر في هذا المكان، أو وجود ماء الكر فيه سابقا فهذا مثبت، إذ يحتاج إلى واسطة و هو الحكم بأنّ هذا الموجود في حال الشكّ بئر أو كر، و لو جعل الموضوع نفس هذا الموجود و يقال بأنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 184

هذا كان بئرا أو كرّا سابقا، فالأصل بقائه على ما كان، كان مخدوشا من جهة عدم إحراز الموضوع، إذ الموضوع للبئرية أو الكريّة هو البئر الواقعي و الكرّ الواقعي، و هذا الذي يشار إليه لم يعلم أنّه من أيّ الصنفين، و كذا الكلام في استصحاب حكم الطهارة أو النجاسة إذ هو موقوف على إحراز أنّ هذا الذي يشير إليه و يجعله موضوعا للاستصحاب بئر أو أنّه كر، و مع احتمال أن يكون البئر معدوما مستهلكا و لو بالنظر العرفي كمعدومية الدم و استهلاكه في ماء البحر لا يمكن استصحاب الحكم.

و أمّا أصالة الانفعال من باب قاعدة المقتضي و المانع فمخدوشة هنا كبرى و صغرى، أمّا الكبرى فلأنّا لو سلّمنا بعد إحراز كون الملاقاة في الماء مقتضيا للتنجيس و مؤثرا فيه لو لم يمنعه مانع أنّه لو شكّ في وجود المانع و هو الكرّية و عدمه فالأصل عدم المانع، لكن لا نسلّم كون الملاقاة في ماء البئر مقتضيا و الكرّية مانعا، و الأخبار التي يستفاد منها ذلك لا يدل عليه هنا إذ مصبّها الماء الراكد فلا يشمل غيره، و أمّا الصغرى فلأنّا و لو سلّمنا عموم الأخبار المذكورة للمقام لكن لا نسلّم القاعدة المذكورة و هو كلّما كان المقتضي محرزا و المانع مشكوكا يبنى على عدم المانع فيترتب الأثر على المقتضي، و ممّا ذكرنا تبيّن

لك أنّ الأصل في صورة الشك قاعدة الطهارة.

[فيما تثبت به نجاسة ماء البئر]

(قوله دام ظله: «مسألة 6: يثبت نجاسة الماء كغيره بالعلم و بالبيّنة و بالعدل الواحد على اشكال لا يترك فيه الاحتياط و بقول ذي اليد و إن لم يكن عادلا، و لا يثبت بالظن المطلق على الأقوى إلى قوله: مسألة يحرم شرب الماء»).

أقول: أمّا العلم فلا إشكال فيه. و أمّا البيّنة فاعتبارها بقول مطلق مسلّم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 185

عندهم، و هو كذلك لحصول العلم لمن تتبّع موارد حجية قولها كما في ثبوت المدعى في المرافعات من قوله: البيّنة على المدعي، و سائر الموارد أنّ التصريح بتلك الموارد في الأخبار كان من باب المثال و انّه لأجل كونه حجّة في نفسه في كل مقام.

و أمّا قوله في خبر مسعدة بن صدقة: «و الأشياء كلّها على ذلك حتى تستبين لك أو تقوم بها البيّنة» «1» فإنّه و إن كان يظهر منه أنّ البيّنة غير العلم لكن ليس بصريح في إرادة العدلين، بل الظاهر منه الحجة كما في قوله تعالى لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ «2».

و أمّا العدل الواحد فحجية قوله في الأحكام مسلّمة و في الموضوعات محل للإشكال، و المناط وجود العموم و الإطلاق في البين بحجية قوله ليؤخذ به فيرجع في كل موضوع مشتبه إليه إلّا ما خرج بالدليل، لكن الكلام في وجود هذا العموم و الإطلاق.

و أمّا آية النبإ فهي و إن كانت في الموضوعات إلّا أنّ الاستشهاد بها متوقّف على حجية المفهوم، و قد حقّق في الأصول الإشكال فيها و ليس في الأخبار ما كان عاما لباب الموضوعات أيضا و إنّما هي واردة في باب الأحكام.

و أمّا قول ذي اليد فهل هو حجة

مطلقا حتّى لو أخبر ذو اليد بكون اللباس من غير المأكول لم يجز الصلاة فيه، و هكذا في جميع الأشياء المربوطة بما يكون تحت يده قبول قوله لازم، أو هو مخصوص ببعض الموارد الخاصة كباب الطهارة و النجاسة و الوقت مثلا، و هل المدرك في أصل حجيته ما ذا هل هو الدليل اللبّي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12 ص 60، ح 4.

(2)- سورة الأنفال، الآية: 42.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 186

حتى يقتصر على القدر المتيقّن أو الدليل اللفظي الغير المشتمل على العموم الشامل لجميع الموارد، أو الدليل اللفظي العام لجميعها لا بدّ في تعيين جميع ذلك من التتبع و المراجعة إلى كتب الأصحاب- قدّس اللّٰه أسرارهم.

نعم السيرة جارية في باب الملك على جعل اليد أمارة عليه و ورد في الأخبار ما يدلّ على جواز الشهادة بالملك بمجرد إحراز اليد، لكن الكلام في قبول قول صاحب اليد و حجيته و أماريّته في جميع الأخبار المتعلّقة بما في تحت يده أو بعضها حسب ما دلّ عليه الدليل، ثمّ بعد عدم وجود الأمارات و الظنون الخاصة التي لها دليل خاص لا يجوز الاعتماد في الطهارة أو النجاسة على الظن المطلق بأحدهما، إذ الأصل الأوّلي على ما قرّر في محله حرمة العمل بالظن و التعبّد به، و مقدّمات الانسداد على القول بتماميتها جارية في الأحكام دون الموضوعات كما هو واضح مضافا في طرف النجاسة إلى قوله- عليه السّلام- في خبر الطير: حتى يعلم في منقاره دما، و الخبر المشهور: كل شي ء طاهر حتى تعلم أنّه قذر.

و لو أخبر ذو اليد بالنجاسة و البيّنة بالطهارة فهل المقدّم أيّهما؟ يبتني ذلك على مراجعة المدرك لحجية قول ذي اليد، فإن كان دليلا

لبيّا أو لفظيا لا عموم له لما إذا كان على خلافه أمارة أخرى، بل كان مقيدا بما إذا لم يكن في البين أمارة أخرى كان المقدّم هو البيّنة، إذ على الأوّل يكون القدر المتيقّن من الدليل اللبّي على حجية قول ذي اليد غير هذا المورد، و على الثاني يكون دليل حجية البيّنة واردا على دليل حجية قول ذي اليد.

و لو كان دليلا لفظيا عاما، فالمقام من باب تعارض الحجتين و الأمارتين فيرجع إلى قاعدة تعارض الحجتين من التساقط و الرجوع إلى الأصل و هو هنا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 187

الطهارة، و عبارة المتن في هذا الفرع من قوله قدمت البيّنة ظاهرة في الأوّل، أعني:

طرح ذي اليد خاصة، إذ لو كان مبنيّا على التساقط كان حقّ العبارة أن يقال: يبني أو يحكم على الطهارة.

و إذا تعارض البيّنتان فإن علم أنّ بيّنة الطهارة مستندة إلى الأصل ففي الحقيقة ليس في قبال بيّنة النجاسة حينئذ سوى الأصل فيكون مقدّمة لا محالة، و إن كان مستندة إلى العلم كان من باب تعارض الحجتين و القاعدة تساقطهما، ثمّ يرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما و يبني على الطهارة.

و لو كان في إحدى البيّنتين جهة رجحان كأن يكون أوثق أو أعدل من الأخرى أو كان في أحد الطرفين عدلان و في الآخر ثلاثة أو أربعة، أو أخبر أحدهما عن الحسّ و الآخر عن الحدس، فهل الأصل الأوّلي حينئذ مع قطع النظر عن التعبّد من الشرع تقديم الأقوى أو هو التساقط؟

الحق هو الثاني و ذلك لأنّ مناط الحجية قد جعل في الدليل نفس العدالة و هو موجود في كلا الطرفين و الزيادة التي اختصت بأحدهما خارجة عن المناط.

و بعبارة أخرى موضوع

الحجية في الدليل هو الكاشفية، فالأكشفية ملغى، فشمول دليل الاعتبار لهما على السواء و لا يكون في أحدهما أظهر منه في الآخر، فتكون القاعدة هو التساقط.

نعم بالنسبة إلى الثالث حجيتهما محفوظة لأنّهما يتسالمان في المدلول الالتزامي، أعني: نفي الثالث، و إنّما تعارضهما في المدلول المطابقي فالأصل المخالف لهما مطروح كما لو قام أحدهما على الوجوب، و الآخر على الاستحباب، و كان مقتضى الأصل هو الإباحة المصطلحة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 188

نعم لو أمكن دعوى الجزم بأنّ بناء العقلاء الثابت في باب الظواهر اللفظية من تقديم الأقوى ظهورا على غيره ثابت في غير هذا الباب أيضا كان هو الحجة، و لكن الانصاف عدم إمكانه و القدر المتيقّن من بنائهم باب الألفاظ فقط، فتبقى حجية الأقوى في غيره مشكوكة، و عدم الدليل كاف في إثبات عدم الحجية، فانّ الحجيّة الفعلية عند التعارض كالحجية الابتدائية، فكما أنّ الثانية محتاجة إلى الدليل و مع عدمه ثابت العدم، فكذا الأوّلي، و حينئذ فيتساقطان بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي و يرجع إلى الأصل المطابق لأحدهما كالطهارة في ما نحن فيه.

ثمّ يعلم ممّا ذكرنا في الطهارة و النجاسة الحال في الكرّية فهي أيضا تثبت بالعلم و البيّنة بلا كلام، و ثبوتها بقول صاحب اليد غير معلوم، و بالعدل الواحد محلّ الإشكال.

و أمّا قبول إخبار صاحب اليد في النجاسة و إن كان فاسقا فقد استدل له:

أوّلا: بأصالة صدق المسلم خصوصا في ما بيده و في ما لا يعلم إلّا من قبله.

و فيه أوّلا: على فرض تماميته لا اختصاص له بذي اليد، بل يجري في أخبار المسلم بالنسبة إلى ما في يد غيره، فليس لعنوان صاحب اليد بخصوصه مدخل في ذلك، و ثانيا: نطالب

بدليل حجية هذا الأصل و وجه اعتباره، و أمّا عنوان أنّه لا يعلم إلّا من قبله فهو و إن كان يدل على القبول فيه في خصوص خبر المرأة بما في رحمها آية وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إلّا أنّه ليس على القبول في غير هذا المورد دليل.

و ثانيا: بالسيرة المستمرة القاطعة، و فيه أنّه لا بدّ في السيرة من كونها سيرة المسلم بما هو مسلم و لا تكون ناشئة عن تقليد، و يحرز اتّصالها بزمان المعصوم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 189

لتوقّف كشفها عن رضاه- عليه السّلام- على ذلك، و لهذا حصول الجزم بالسيرة في غاية الندرة و الصعوبة كالإجماع على الكشف، و الإنصاف عدم إمكان الجزم بها بهذا الوصف في المقام أيضا لقوة احتمال أن يكون استنادهم في القبول إلى تقليد المجتهد.

و ثالثا: بفحوى انّ من المسلّم قبول قول ذي اليد في التطهير، بل قبول معاملته مع ما في يده معاملة الطهارة و إن لم يخبر، بل قبول قوله في التنجيس بالنسبة إلى بدنه، فإنّه إذا كان قوله في التطهير مقبولا مع كونه خلاف الاحتياط، ففي النجاسة التي تكون موافقة للاحتياط يكون مقبولا بطريق أولى.

و فيه أنّ الفحوى بمعنى الدلالة اللفظية كما في قوله فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ منتفية في المقام قطعا، فالحاصل فيه هو الأولوية و هي إن انتهت إلى القطع كانت حجة، و إلّا فليست إلّا قياسا و استحسانا عقليا و الانصاف عدم القطع من الأولوية في المقام.

و رابعا: بما يشعر به قول أبي الحسن- عليه السّلام- في خبر إسماعيل بن عيسى في جواب سؤاله عن جلود الفرّاء يشتريها الرجل من سوق المسلمين يسأل عن

ذكاته إذا كان البائع غير عارف: «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه إلخ» «1»، حيث يشعر بأنّ البائع الذي يرى صلاته في الفراء قوله الذي يقوله لو سئل مسموع، و النهي عن السؤال لأجل أنّه مع وجود الصلاة يعلم أنّ قوله لو سئل هو التذكية، فلا حاجة إلى السؤال، بل يعمل بقوله الذي يكشف عنه صلاته.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1072، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 190

و فيه: أنّ الخبر دال على حجية فعله و هو الصلاة و هو غير ملازم لقبول قوله إذ لا ملازمة بين القول و الفعل بمعنى أنّه قد ينفك الأوّل عن الثاني فتخبر بالتذكية لو سئل لكن لا يصلي فيه، فيمكن أن يكون المناط هو الفعل دون مجرّد القول.

و خامسا: بصحيحة العيص بن القاسم سئل الصادق- عليه السّلام- عن رجل صلّى في ثوب رجل أيّاما ثمّ إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا يصلّي فيه فقال: لا يعيد شيئا من صلاته. و تقريب الاستدلال أنّ الظاهر انّ السائل كان من المفروغ عنه عنده مقبولية قول ذي اليد، فلهذا لم يسأل عن الصلاة المستقبلة لعلمه بعدم صحتها حسب ما هو مفروغ عنه عنده، و إنّما سأل عن الصلوات الماضية التي صلّاها قبل العلم بالإخبار، لاحتمال أن تكون صحيحة من جهة الجهل في حالها بقول ذي اليد و الإمام- عليه السّلام- قرّره على هذا و أجاب بأنّه لا يعيد، يعني صلاته صحيحة، لكونه جاهلا في حالها و إنّما أخبر ذو اليد بعد تمامها، فحال هذا الإخبار لا يزيد عن حال العلم فكما لو علم بالنجاسة بعد الصلاة لا يضر بصلاته،

فكذا ما هو قائم مقام العلم من إخبار ذي اليد، لكن يمكن أن يقال عليه بأنّه لا يظهر من كلام السائل المفروغية المذكورة، بل الظاهر منه انّه حصل له العلم بالنجاسة بسبب اخبار صاحب الثوب كما هو الغالب، فسؤاله من جهة حصول العلم لا من جهة موضوعية إخبار ذي اليد عنده.

فعلى هذا لا يستفاد من كلام الإمام التقرير المذكور، فمعنى الجواب أنّه لا يلزم إعادة شي ء من صلاته بواسطة هذا العلم الحاصل له بالإخبار المذكور، لأنّه كان في حال الصلاة جاهلا بالنجاسة، فحصول العلم من قوله و عدم حصوله سيان، فهذا دليل على ما يفتون به من أنّ الجهل بالنجاسة في حال الصلاة غير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 191

مضر لو علم بها بعد الإتمام و لا يوجب الإعادة حتّى في الوقت، و ليس على قبول قول ذي اليد فيه شاهد.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 191

و سادسا: بالنهي عن الاعلام في خبر عبد اللّٰه بن بكير «سئل الصادق- عليه السّلام- عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعلمه ذلك، قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد» «1» فإنّ النهي عن الإعلام ظاهر في أنّ الإعلام على تقدير وقوعه مقبول و أمارة على النجاسة، و الاشكال بأنّه قد حكم في ذيل هذا الخبر بالإعادة على تقدير الإعلام و هو مخالف لما جزموا به من أنّ العلم الحاصل بعد الصلاة بثبوت النجاسة في حالها غير موجب للإعادة، فإنّ حال الإخبار المذكور ليس أقوى من العلم قطعا. مدفوع بإمكان الحمل على صورة كون

الإعلام واقعا في أثناء الصلاة لا بعد تمامه و إن كان خلاف الظاهر من الرواية.

و سابعا: بما في الحدائق من أنّه ورد النهي عن السؤال في بعض الأخبار الواردة في الجبن حيث إنّه أعطى الخادم درهما و أمره أن يبتاع به من مسلم جبنا و نهاه عن السؤال «2»، إذ لو لا قبول قوله لم يكن وجه للنهي المذكور.

[في حكم شرب ماء البئر النجس]

مسألة 10: «يحرم شرب الماء النجس إلّا في الضرورة و يجوز سقيه للحيوانات، بل و للأطفال أيضا».

لا إشكال في الحكم الأوّل، أعني: حرمة الشرب. و أمّا الثاني: أعني: جواز الإشراب للحيوان و الطفل فوجهه أنّ النهي عن الشرب لا إشكال في اختصاصه بالمكلّف دون غيره، فلو شرب الطفل الماء النجس بنفسه فلا إشكال في عدم

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1069، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ج 17، ص 92، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 192

حصول مخالفة لهذا النهي، و أمّا إشراب المكلّف إيّاه مع فرض عدم مبغوضية نفس الشرب فمبغوضيته مبنيّة على إحراز أنّ شرب الماء النجس أصل وجوده في الخارج مبغوض الشارع، إذ حينئذ يعلم أنّه كما يطلب من المكلّف عدم إيجاده، كذلك يطلب منه أن لا يصير دخيلا في وجوده كما أنّ هذا هو الحال في القتل، فإنّا نعلم أنّ أصل وجوده في الخارج مبغوض للشارع، فكما يحرم على المكلّف إيجاده بنفسه، كذلك يحرم عليه مداخلته في وجوده تسبيبا، كما لو أرسل السبع على إنسان ليقتله، بل يجب عليه حفظ النفس و دفع ما تهيّأ من أسباب قتل شخص و لو من غير قبل المكلّف، و لكن هذا غير محرز في المقام، إذ لم يعلم مبغوضية الشرب للماء النجس بالنسبة إلى الطفل

و الحيوان لاحتمال أن يكون مفسدته مختصة بالمكلّف دون غيره، فإنّ المفسدة إنّما يستكشف عنه عندنا بالنهي و هو مخصوص بالفرض بالمكلّف.

و حينئذ فيحتمل أن تكون المفسدة الحاصلة منه عامة للطفل و الحيوان، و وجه عدم النهي بالنسبة إليهما عدم قابليتهما للتكليف فيكون داخلا في العناوين المحرّمة التي أصل وجوده في الخارج مبغوض الشارع، و يحتمل أن تكون المفسدة خاصة بالمكلف كالنهي فلا يكون الإشراب لغير المكلّف حراما، فإذا لم يحرز الاحتمال الأوّل بقي على أصل الإباحة، و لعلّ شرب المسكر من قبيل الأوّل فإنّه ربما يستفاد من حال الشارع و اهتمامه في النهي عنه عموم مبغوضيته حتّى بالنسبة إلى الأطفال و الحيوانات، و مثل الكلام في الشرب للماء النجس الكلام في شرب كلّ متنجس و أكله، و مثله أيضا الكلام في إلقاء الصائم في الماء بحيث صار مرتمسا فيه فإنّه قد يقال أيضا بجوازه فانّ الارتماس العمدي كان محرّما على الملقى و الملقي و لم يصدر منهما و لم يرد النهي عن إيجاد الارتماس بالنسبة إلى الغير.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 193

[القسم الخامس في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر و الأصغر]
اشارة

قوله- دام ظله-: فصل الماء المستعمل في الوضوء طاهر مطهّر من الحدث و الخبث، و كذا المستعمل في الأغسال المندوبة، و أمّا المستعمل في الحدث الأكبر فمع طهارة البدن لا إشكال في طهارته و رفعه للخبث، و الأقوى جواز استعماله في رفع الحدث أيضا و إن كان الأحوط مع وجود غيره التجنّب عنه، و أمّا المستعمل في الاستنجاء ..

أقول: قد استدل لعدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر برواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه قال: لا بأس بالوضوء بالماء المستعمل، و قال:

الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا تتوضّأ منه و أشباهه، و الماء الذي يتوضّأ الرجل به فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به «1».

الظاهر أنّ قوله أوّلا: لا بأس بالوضوء بالماء المستعمل إجمال، و قوله ثانيا: الماء الذي يغسل إلخ تفصيل هذا الإجمال و شرح المراد منه، و ليس في سند هذه الرواية إلّا أحمد بن هلال الذي رمي بالغلو تارة و بالنصب أخرى، يعني: كان في بعض زمانه غاليا، ثمّ رجع و صار ناصبيّا، لكن ذكر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- قرائن، فالحق الرواية بسببها بالصحاح.

منها: رواية بني فضال عنه و قال في حقّهم المعصوم خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 8، من أبواب الماء المضاف، ص 152، ح 1 و 13.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 194

و منها: وجود هذه الرواية في الكتب المعتمد عليها.

و منها: اعتماد القميين عليها كالصدوقين و ابن الوليد و سعيد بن عبد اللّٰه و قد عدّوا ذلك من أمارات صحّة الرواية باصطلاح القدماء، و ذكر في مقام تأييد المطلب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عقيب هذه الرواية روايات أخر.

منها: ما ورد من النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام معللا بأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم إلخ.

و منها: الصحيح عن ابن مسكان قال حدثني صاحب لي ثقة أنّه سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل و ليس معه إناء و الماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء

كيف يصنع؟

قال: ينضح بكف بين يديه و كفا من خلفه و كفا عن يمينه و كفا عن شماله، ثمّ يغتسل «1». فإنّه- عليه السّلام- قرّر السائل على ما تخيّله من محذورية رجوع الغسالة في الماء فذكر علاجا لدفع هذا المحذور، و ما ذكره في مقام العلاج و الحيلة يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد نضح الأرض من الجهات الأربع إذ ذلك يوجب سرعة جذب الأرض للماء قبل أن يصل إلى الوهادة.

و الثاني: أن يكون المراد نضح البدن من الجهات ليكون ذلك موجبا لوصول الماء إلى البدن بسرعة قبل رجوع الماء في الوهادة.

و الجواب عن الكلّ أنّ الكلّ محمول على الغالب من اشتمال بدن الجنب على نجاسة عينية و كون ماء الغسل قليلا، فلا إطلاق لها حتّى يخصص به

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 10، من أبواب الماء المضاف، ص 157، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 195

إطلاقات جواز رفع الحدث بالماء، فتبقى الإطلاقات سليمة عن المقيّد و المخصص.

بل يمكن أن يقال: بأنّ رواية عبد اللّٰه بن سنان مضافا إلى عدم كونها ظاهرة في عدم الجواز ظاهرة في الجواز، و ذلك لأنّ قوله فيها: لا بأس بالوضوء بالماء المستعمل، ظاهره رفع البأس من الاستعمال في رفع الحدث من حيث كون الماء مستعملا، فلا ينافي خروجه عن القابلية من جهة أخرى، فلا بدّ من حمل قوله: الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا تتوضّأ منه على بيان مورد طروّ المانع في الماء من جهة أخرى و هي: صيرورته بالاستعمال نجسا، فحينئذ يسقط عن القابلية لا من جهة الاستعمال، بل من جهة النجاسة، فهذا يدل على جواز الوضوء في موضع لم يكن نجسا و

إن صار مستعملا، كما في صورة كون بدن الجنب خاليا عن النجاسة في حال الغسل، و كما في المثال الذي مثله- عليه السّلام- بقوله:

و الماء الذي يتوضّأ به الرجل فيغسل به وجهه و يده في إناء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به، و لهذا وصف الإناء بقوله: نظيف لئلا تطرأ النجاسة على الماء من جهة نجاستها.

و بالجملة يظهر من ملاحظة الرواية بصدرها و ذيلها أنّ المراد رفع المانع من حيث الاستعمال ما لم يطرأ مانع آخر، فيكون الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر مع الخلو عن النجاسة مشمولا للفقرة الأولى دون قوله في الفقرة الثانية: أو يغتسل به من الجنابة، و على هذا فيكون مقتضى العمومات و هذا الخبر هو الجواز.

ثمّ على القول بالمنع و عدم الجواز يكون هنا فروع:

الأوّل: إنّ الماء المغتسل به أو المستعمل في رفع الحدث الأكبر و إن كان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 196

بحسب اللغة عاما لمثل الحوض الكبير، بل و ماء البحر و الجاري و إن اغتسل فيها شخص واحد، لكنّه منصرف عنها و ظاهر في الماء القليل و إن كان الاستعمال على نحو الارتماس، و كما أنّ لفظ السؤر بمعنى ما بقي بعد الشرب و إن كان بحسب اللغة عاما، لكن يتبادر منه القليل، كذلك ما زاد من ماء الغسل، و الباقي منه أيضا لا يطلق على الماء الكثير الذي اغتسل فيه و إن اغتسل فيه في كلّ يوم أشخاص كثيرة كحوض الحمام، و منشأ هذا الانصراف و التبادر غير معلوم.

الثاني: على القول بالمنع ما ينتضح من البدن حين الغسل و يترشح إلى ظرف الماء لا يمنع الغسل بمائه، إذ القطرات الواقعة فيه مضمحلة

في جنب الماء الموجود فيه، فلا يقال إنّه الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، و هذا واضح. إنّما الكلام في ما إذا كان الماء مخلوطا من الماء الغير المغتسل به و الماء المغتسل به بحيث لم يضمحل أحدهما في جنب الآخر، فالمنع بالنسبة إلى هذا الماء و عدمه مبنيان على أنّ الظاهر من قوله: لا تتوضأ من الماء الذي يغتسل به، أنّ الاغتسال و التوضّي بهذا الماء غير جائز مطلقا و إن كان مع الضميمة و لم يكن مستقلا و منحصرا، أو هو المنع عن الاغتسال و التوضّؤ به على وجه كان هو وحده و لم يكن معه غيره.

فيمكن أن يدّعى مدع ظهور الرواية في المنع عن الغسل و الوضوء بهذا الماء منحصرا و مستقلا، و لا يرد عليه ما لو اغتسل بعض البدن بالماء المستعمل و بعضه بغيره، فإنّ هذا مشمول للخبر قطعا، و على هذا لا يشمله لعدم الاستقلال، إذ حينئذ بعض الأعضاء المغسولة بالماء المستعمل كان مغسولا به وحده، فهو و إن كان غير مستقل بالنسبة إلى تمام الغسل، لكنّه بالنسبة إلى البعض المغسول به مستقل، و الخبر يمنع عن استعمال هذا الماء وحده و بالاستقلال في الغسل و الوضوء كلا أم بعضا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 197

و كذا لا يرد عليه أنّ الماء الذي يغسل به الثوب الذي هو رديف في الخبر لهذا الماء يراد به الأعم قطعا، لعدم جواز التوضّي و الاغتسال بالمركب من غسالة تطهير الخبث و غيرها، إذ للقائل أن يقول: المانع هنا سراية النجاسة من الجزء النجس من الماء إلى الطاهر منه، و إلّا فلو كان الجزء الطاهر محفوظ الطهارة مع اختلاطه بالجزء النجس لم يفهم

من الرواية عدم جواز الوضوء منه، إذ الظاهر منه صورة الانحصار و الاستقلال.

و إن شئت قلت: إنّ الممنوع رفع الحدث بالماء المستعمل، و الاستعمال مع الضميمة ليس رفعا للحدث بالمستعمل، بل المجموع منه و من غيره رافع للحدث.

و كيف كان فالظاهر هو التعميم، إذ قولنا: لا يصح الوضوء و الغسل بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر معناه عدم الصحّة مطلقا، لا عدم الصحّة بهذا الماء وحده.

الثالث: على المنع هل المراد بالمستعمل ما ذا، فهل المراد به هو الماء المجتمع بعد تمام الغسل، أو يشمل الماء المستعمل في غسل الأجزاء، فلا بدّ من غسل كل جزء بالماء الجديد، و على تقدير التعميم فهل يشترط الانفصال فما لم ينفصل لم يكن مستعملا، فلهذا يجوز استعمال الماء الذي غسل به جزء من الرأس في غسل جزء منه أو من الرقبة بشرط أن يكون ذلك بتسرية اليد الماء من موضع إلى موضع بدون الانفصال.

و أمّا الطرف الأيمن فهذا الماء الذي غسل به الرأس لا يجوز استعماله فيه و إن كان بالتسرية، إذ يعدّان محلين، فالماء قد انفصل من أحدهما إلى الآخر أو يشترط غسل تمامية المقصود غسله بمعنى أنّه لو قصد غسل الرأس و الرقبة، فعند

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 198

تمام غسلهما لا يجوز استعمال ما زاد من ماء غسلهما في الطرف الأيمن، و لو قصد غسل مجموع الرأس و الرقبة و الطرف الأيمن بما يغترفه يجوز استعماله بعد الرأس و الرقبة في الطرف الأيمن و لا يجوز بعده في الطرف الأيسر، و اختار هذا شيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

و الحق أن يقال: إنّ الرواية ليست مقيّدة لأدلّة الغسل و مغيّرة لمدلول تلك الأدلّة بالنسبة إلى الغسل الأوّل.

بيان

ذلك: أنّ لنا في المقام طائفتين من الأدلّة، الأولى: مطلقات الأمر بالغسل، و أنّه يحصل بكل ماء بأيّ وجه، فإنّه يقع الغسل بكيفيات متعددة منها استعمال ثلاث غرفات، و الأخرى استعمال غرفتين بأن يستعمل الأولى في الرأس و الرقبة و أخذ الزائد للطرف الأيمن و ما بقي منه و الطرف الأيسر بالغرفة الأخرى، و إلى غير ذلك من الأنحاء، و الطائفة الأخرى هذه الرواية.

فنقول: من الظاهر أنّ الرواية ليست بصدد تعليم كيفية الغسل و أنّه يقع بنحو خاص و لا يكفي وقوعه بأيّ نحو، بل الظاهر منه أنّ الغسل الأوّل إذا وقع بالماء بأيّ نحو وقع من غير تعرض لنحو وقوعه فلا يجوز بعده استعمال ماءه في رفع حدث آخر، فهو متعرض للاحداث الأخر غير ما يكون المكلّف بصدد رفعه في الابتداء، سواء كان الحدث الآخر لهذا الشخص أو لشخص آخر، و سواء كان المستعمل في رفع حدث آخر هو ما يجتمع من ماء الغسل الأوّل عند تمامه أو ما يستعمل في غسل جزء واحد منه.

فمحصّل معنى الرواية أنّ الماء الذي يغتسل به المكلّف لا يجوز استعماله كلا و لا جزءا في غسل آخر، و الوضوء لهذا المكلّف و لغيره فهو عن هذا الغسل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 199

الابتدائي ساكت، فيكون إطلاق الطائفة الأولى من الأدلّة بالنسبة إليه محفوظا.

نعم هو مقيّد له بالنسبة إلى رفع حدث آخر من حيث إنّها بإطلاقها شاملة للماء المستعمل في رفع الحدث الأوّل و غيره، و هذا يخصّصها بالثاني.

و بعبارة أخرى: الماء قبل الاستعمال في الغسل كان خارجا من موضوع المنع بلا إشكال، فإذا اشتغل المكلّف بالغسل فهو قد اغتسل بماء لم يغتسل به إلى هذا الحين من

الجنابة، و بعد فراغه يصير الماء من أفراد المستعمل، و أمّا حين الاشتغال فماء الغسل داخل في موضوع المستعمل، و محط لنظر الرواية بالنسبة إلى حدث آخر كان لهذا المغتسل أو لغيره، و خارج عن الموضوع و غير منظور للرواية بالنسبة إلى المغتسل في هذا الغسل، ثمّ لا أقلّ من الشكّ في دخول الغسل الأوّل في مدلول الرواية، فيكون أصالة الإطلاق لإطلاقات جواز رفع الحدث بكلّ ماء محكمة.

و بعبارة أخرى نقطع بورود التقييد على هذا الإطلاق، و هذا الإطلاق بالنسبة إلى أجزاء الغسل الأوّل و أفراد الأغسال و الوضوءات المتأخّرة ثابت، و التقييد الوارد عليه بالنسبة إلى الأفراد المتأخّرة ثابت و بالنسبة إلى أجزاء الغسل الأوّل مشكوك، فيبقى الإطلاق بالنسبة إليها بحاله، هذا هو الكلام في المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

[الكلام في غسالة الاستنجاء]
اشارة

و أمّا غسالة الاستنجاء و لو من البول التي بنوا على طهارته، و لو قيل بنجاسة غيرها من الغسالات، قد ادّعى الإجماع على عدم رافعيته للحدث، و المدرك لذلك هو رواية ابن سنان المتقدمة بناء على أنّ كلمة «أشباهه» الواقعة فيها في قوله- عليه السّلام-: «و الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا تتوضّأ منه و أشباهه»

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 200

عطف على الضمير المجرور، و العطف عليه بدون إعادة الجار واقع كما في «صلى اللّٰه عليه و آله»، و هذا أولى من كونه عطفا على الوضوء المستفاد من قوله: «لا تتوضّأ منه» حتى يكون المراد به الغسل، لكونه أقرب إلى الضمير، فيكون المراد منه أشباه الماء الذي يغسل به الثوب، و الماء الذي يغتسل به من الجنابة، و أشباه الأوّل كلّ ماء يستعمل في رفع الخبث عن

غير الثوب، و أشباه الثاني كلّ ماء يستعمل في رفع الحدث الأكبر غير الجنابة، فيكون ماء الاستنجاء داخلا فيه لكونه من أشباه الماء الأوّل فيشمله قوله: «لا تتوضّأ».

و يمكن أن يناقش فيه بأنّه على القول بطهارة الغسالة هذا تام، إذ يتعيّن حينئذ أن يكون وجه المنع عن رفع الحدث بالمستعمل في غسل الثوب هو نفس الاستعمال في رفع الخبث، إذ حينئذ يشمل أشباهه لماء الاستنجاء.

و أمّا على القول بنجاستها فلا يعلم انّ المنع من جهة نفس الاستعمال أو من جهة كونه نجسا بالاستعمال، إذ لا شاهد على أحد هذين لا في الخبر و لا من الخارج فكلاهما محتمل.

و حينئذ فلا يعلم أنّ كلمة «الأشباه» تشمل لماء الاستنجاء أو لا، إذ لو كان جهة المنع النجاسة فالمراد بأشباه هذا الماء ما كان شبيها به من جهة النجاسة، و ماء الاستنجاء و إن كان شبيها به من جهة الاستعمال في رفع الخبث، لكنّه غير شبيه من جهة النجاسة لكونه طاهرا، فتكون الرواية من حيث شمولها لماء الاستنجاء مجملة، فتكون الإطلاقات الدالة على جواز رفع الحدث بكل ماء محكمة، هذا.

و أمّا ماء الغسالة في غير الاستنجاء فقد اختلف في طهارته و نجاسته على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 201

أقوال، ثالثها: التفصيل بين الغسلة التي تعقّبها طهارة المحل فيطهر، و ما قبلها فلا يطهر، كما هو صريح الطباطبائي- قدّس سرّه- في المنظومة حيث قال:

و طهر ما تعقبه طهر المحل عندي قوي و على المنع العمل

و رابعها: التفصيل بين الغسل المزيلة للعين و ما بعدها بنجاسة الأولى و طهارة الثانية، و أمّا أخبار الباب:

فمنها: عمومات انفعال الماء القليل التي قيل إنّها تبلغ الثلاثمائة، و هي غير دالّة من

حيث إنّ مصبّها ما إذا وردت النجاسة على الماء فلاحظ، و ليس فيها ما كان له الإطلاق من حيث كون الماء واردا أو مورودا أو كان الملاقاة عرضية، فلا دلالة فيها لا على الطهارة و لا على النجاسة في مثل الغسالة التي هي واردة على النجاسة.

و أمّا الأخبار التي علّق عدم تنجيس الماء فيها على الكرّية الدالة مفهوما على نجاستها عند القلّة مثل قوله: «الماء إذا كان قدر كرّ لم ينجسه شي ء» فإن قلنا بعدم المفهوم لها كما هو المختار، فهي أيضا غير دالة، و إن قلنا بثبوته، فالإنصاف دلالتها على النجاسة.

و تقريب الدلالة أنّه لا شكّ أنّ للعرف استقذارا يعبّر عنه بالفارسية (دل هم خوردگى) و قذرا و قليلا و كثيرا، و لهذا لو وقع قذر في ظرف صغير للماء يتنفّر طبعه عن هذا الماء، و لو وقع في البحر لا يجتنب بسببه عن ماء البحر، غاية الأمر ورد تحديد القلّة و الكثرة من الشرع، فالماء البالغ بمقدار الأمنان الخاصة حكم الشارع بكونه في حكم ماء البحر، و خطّأ نظر العرف حيث يراه قليلا، و كذا بعض الأشياء لا يراه العرف قذرا، بل يراه في كمال اللطافة كبدن المرأة الفرنجية فخطّأه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 202

الشرع و أعلمه بكونه قذرا، و بعض الأشياء يراه قذرا كماء الأنف مثلا، فنبّهه الشرع على خطأ نظره و انّ حال هذا الماء حال العرق، فكما لا يكون العرق قذرا، فكذا ماء الأنف.

و أمّا طريق الاستقذار و تأثير القذر، فلم يرد له كيفية خاصة من الشرع لا في هذه الأخبار و لا في غيرها، فهذا موكول إلى نظر العرف، و لا إشكال انّ في التأثير و التأثّر عند

العرف سواء في الاستقذار أم في غيره يعتبر الملاقاة و المماسة، فبمجرّد المجاورة بدون المماسة لا تأثير كما نشاهد في الآلة القاطعة فإنّها لا يقطع الشي ء بمحض القرب المكاني، بل لا بدّ من المماسة، و كذا لا يستقذرون عن الشي ء بمجرّد قرب المسافة المكانية بينه و بين القذر، بل يرون توقف تأثيره على الملاقاة، لكن لا يفرق في الملاقاة بين علوّ المؤثر و علو المتأثر و كونهما في عرض واحد.

و حينئذ فإذا قال له الشرع: الدم قذر، فهو و إن اكتسب مجهولا و هو قذارة الدم، لكن يحمله بعد العلم بقذارته من الشرع على طريقة نفسه من القذارات، فيفهم من القول المذكور أنّه إذا لاقى شيئا ينجسه، سواء كان بالورود عليه، أو بورود شي ء عليه، أو بالملاقاة في العرض، كما لو قيل له: السكين تقطع اليد، يفهم أنّه إذا لاقى و صار مماسا لليد يقطعها من غير فرق بين الأنحاء المذكورة.

و الحاصل أنّ قوله- عليه السّلام- في هذه الأخبار «لا ينجسه شي ء» الذي يصير في طرف المفهوم: ينجسه شي ء، محمول على طريقة العرف في التأثيرات و التأثرات عند نفسه، و بحسبها لا فرق بين الوارد و المورد، فيشمل المفهوم ماء الغسالة، فإنّه قليل لاقاه النجس.

و أمّا حيث إنّ لمفهوم هذه القضية عموم أو أنّه موجبة جزئية، فلا ربط له

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 203

بالمطلوب، تفصيله انّه قد اختلف الأنظار في أنّ مفهوم هذه القضية هل هو موجبة كليّة أو جزئية، فذهب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إلى الأوّل و الشيخ محمّد تقي في تعليقته على المعالم إلى الثاني، و الحقّ مع الثاني.

و الأوّل فرّع كلامه على أمرين: أحدهما: ما بنى هو- قدّس سرّه- عليه

في القضايا الشرطية من كون «إن» و «إذا» مفيدة لكون التالي علّة منحصرة للجزاء، فإنّه على هذا يكون مفاد القضية أنّ الكرّية علّة منحصرة للجزاء و هو عموم «لا ينجسه شي ء».

و على هذا لا مفرّ و لا مخلص من القول بعموم المفهوم، و ذلك لأنّه إذا كان العموم حاصلا من علّة واحدة منحصرة يلزم من انتفاء هذه العلّة انتفاء جميع أفراد هذا العموم، فانّ العموم عبارة عن نفس الآحاد، فلو كان في بعض الآحاد علّة أخرى للحكم فلم يتحقّق العموم بعليّة هذه العلّة، بل بعض أفراده، و بعضها الآخر بعليّة العلّة الأخرى، فالعليّة للعموم معناها هو العليّة لكلّ واحد واحد من الآحاد.

ثمّ إذا كان هذا الذي هو علّة لكلّ واحد واحد علّة منحصرة للعموم، فمعنى ذلك انّه لم يكن لشي ء من الآحاد علّة أخرى سواها، و إذن فيفيد انتفائها انتفاء جميع الآحاد لامتناع المعلول بدون العلّة، فإذا كان مفاد «إذا» حصر العلّة لعدم تنجيس كل واحد واحد من آحاد العموم الثابت لشي ء للماء في الكرّية، فمعنى ذلك أن يكون استناد عدم التنجيس للماء في البول إلى الكرّية، و عدم تنجيس الدم له إلى الكرّية، و كذا عدم تنجيس الغائط له، و كذا إلى آخر النجاسات، إذ لو كان عدم تنجيس البول مثلا له لأجل شي ء آخر و إن لم يكن الماء حدّ كرّ، لا يصدق أنّ الماء الكرّ لا ينجسه شي ء من النجاسات لأجل أنّه كرّ،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 204

بل يصدق أنّ بعضها لا ينجسه لأجل ذلك، و بعضها لأجل شي ء آخر.

ثمّ إذا كان مفاد «إذا» حصر العلّية فلا بدّ أن لا يكون لعدم تنجيس واحد من النجاسات للماء سبب آخر سوى الكرّية،

و معنى ذلك كون الماء القليل متنجسا بجميعها، لكن الكلام في صحّة المبنى، إذ لا يجزم بأنّ معنى «إذا» كون التالي علّة منحصرة، بل غاية ما يقال إنّه مفيد لترتّب تحقّق الجزاء على ترتب الشرط، لكن ذلك يجمع مع كون الشرط جزءا أخيرا للعلّة، فلا اقتضاء فيه لكونه تمام العلّة فضلا عن إفادة كونه علّة تامة منحصرة.

و الثاني: انّه على القول بالمفهوم لو كان عموم استغراقي في المنطوق أعمّ من كونه في جانب الموضوع أم المحمول فلا بدّ من أخذه في طرف المفهوم أيضا على نحو المنطوق، فالمفهوم في قولك: إذا جاء زيد فكل العلماء واجب الإكرام، إذا لم يجئ زيد فكلّ العلماء غير واجب الإكرام، غاية الأمر أنّ العموم في القضية المذكورة أعني: الماء إذا كان إلخ، جاء من قبل وقوع النكرة في سياق النفي، و في المثال جاء من قبل «كل» فكأنّه قيل: إذا كان الماء قدر كرّ فكلّ نجس لا ينجسه، فيصير المفهوم إذا لم يكن قدر كرّ فكلّ نجس ينجسه.

قلت: ما ذكره من لزوم أخذ العموم في المفهوم لو كان في المنطوق مسلّم في الجملة لكن هنا فرق بين العموم الجائي من قبل «كل» و نحوه، و العموم الجائي من النفي و الإثبات، و العموم الجائي من قبل مقدمات الحكمة، فإن كان من قبيل الأوّل سلّمنا ذلك كما في المثال، و إن كان فيه وجه آخر حقّقناه في محلّه اخترناه، و من المعلوم أنّ العموم في القضية ليس من هذا القبيل، بل من قبيل الثاني، و أمّا الثاني يعني العموم التابع للنفي و الإثبات فليس هو مأخوذا في المفهوم لو كان في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 205

المنطوق، إذ معنى

هذا العموم انّه إذا جي ء الكلام بصورة النفي يتحقّق عموم، و إن جي ء بصورة الإثبات فلا عموم فهو تابع للنفي، و حيث إنّ المفهوم لا بدّ من مخالفته مع المنطوق في الإثبات و النفي فلا جرم يلزم مخالفته معه في ما هو من توابع النفي و الإثبات أيضا.

فإذن منطوق القضية له عموم، أعني: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شي ء لمكان النفي، فإذا أخذ المفهوم و قيل: إذا كان الماء قدر كرّ ينجسه شي ء يصير جزئيا قهرا، إذا النكرة في الإثبات يفيد الجزئية، كما أنّه في النفي يفيد الكلية.

و أمّا الثالث، أعني: العموم الأحوالي الناشئ من قبيل المقدّمات فالحقّ أنّه وارد على المنطوق و المفهوم معا و إن قال بعض الأساطين باختصاصه بالمنطوق بمعنى أنّه يجري المقدّمات أوّلا في جانب المنطوق ثمّ يؤخذ المفهوم من المنطوق المحرز فيه وصف الإطلاق بالمقدّمات، فإذن قولنا: إذا جاء زيد فأكرمه، مفهومه بالنسبة إلى أحوال زيد و أنحاء الإكرام جزئي و إن كان منطوقه عاما لها، فمعنى المنطوق بمقتضى المقدّمات أنّه: إذا جاء زيد فأكرمه بأيّ نحو كان الإكرام و في أيّ حال كان زيد، و معنى المفهوم: إذا لم يجئك فلا يجب عليك هذا الذي ذكر من الإكرام على أيّ نحو كان لزيد على أيّ حال كان.

و بعبارة أخرى لا يجب عليك هذا المطلق، و لا ينافي هذا الوجوب المقيّد بأن يكون عند عدم مجيئه واجب الإكرام على نحو خاص أو في حال مخصوص، فإذن المثال المذكور حاله حال قولك إذا جاء زيد فأكرمه في كلّ حال كان، فإنّه لا إشكال في أنّ مفهومه أنّه: إذا لم يجئك فلا يجب إكرامه في كلّ حال كان، و هو

غير مناف لوجوب إكرامه لو كان على حالة مخصوصة كما هو واضح، و لكن الانصاف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 206

الفرق بين العموم الأحوالي المصرّح به في اللفظ كما في المثال الثاني و بين ما كان بالمقدّمات كما في المثال الأوّل، فإنّ الظاهر أنّ المقدمات ترد على القضية بتمامه لا أنّها تعمل في المنطوق أوّلا ثمّ يوجد المفهوم ثانيا، بل نسبتها إلى المنطوق و المفهوم على السواء و يجري بالنسبة إليهما في عرض واحد، و إذن فكما يفيد العموم الأحوالي في المنطوق، فكذا يفيده في المفهوم أيضا، فيكون المفهوم في المثال إذا لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه في شي ء من الأحوال و بشي ء من الأنحاء بحكم المقدّمات كما يحمل المنطوق، أعني: إذا جاء زيد فأكرمه على الإطلاق بالنسبة إلى الأحوال و الأنحاء بحكمها أيضا هذا.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه فنقول: هذا الحديث سواء قلنا بعدم العموم الأفرادي له في المفهوم، كما ذهب إليه صاحب التعليقة و اخترناه أيضا، و سواء قلنا بالعموم الأفرادي فلا يفرق فيه من الحيث الذي نحن بصدده، فإنّه مبتن على العموم الأحوالي لقوله: لا ينجسه شي ء الذي يفهم منه العرف الملاقاة الثابت عمومها بالنسبة إلى الأنحاء من ورود النجس على الماء و ورود الماء على النجس و تلاقيهما في العرض بواسطة المقدّمات، و قد قلنا آنفا أنّ العموم الأحوالي الثابت في المنطوق بالمقدّمات جار في المفهوم أيضا، فإذا كان مفاد «لا ينجسه شي ء» بحكم المقدّمات و بعد إحرازها أنّه: لا ينجس الماء الكرّ شي ء من النجاسات بالملاقاة بأيّ نحو كان الملاقاة من ورود الماء و ورود النجس و تواردهما في العرض، كان مفاد المفهوم أعني: ينجسه شي ء أيضا

بحكمها، و إن قلنا بجزئيته من حيث الأفراد أنّه ينجسه شي ء إذا لاقاه هذا الشي ء أعمّ من وروده و ورود الماء و التوارد، فالعموم الأحوالي الذي هو مبنى الاستدلال ثابت و إن قلنا بعدم ثبوت العموم الأفرادي كما هو الحق.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 207

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ في الحديث إهمالا من جهة و هي أنّه متعرّض لكون الكرّية مانعة في ما إذا كان المقتضي للتنجيس موجودا، و أمّا أنّ المقتضي للتنجيس ما ذا، هل هو مطلق الملاقاة، أو الملاقاة على نحو ورود النجاسة دون ورود الماء؟

فليس الحديث من هذه الجهة بصدد البيان، بل هو في مقام الإهمال، و معناه أنّ الموضوع الذي مقتض التنجيس موجود و محرز بما هو عليه في الواقع، فالكرّية في هذا الموضع مانعة، فهو مسوق لبيان مانعية الكرّية لا لبيان كيفية تنجيس النجاسات للماء.

و بعبارة أخرى هذه الأحوال من ورود الماء، و ورود النجس، و التوارد من أحوال الملاقاة فالإطلاق بالنسبة إليها يتوقّف على وجود قيد الملاقاة في الخبر و هو غير مسلّم، و إنّما المسلّم أنّ للعرف مرتكزا في هذا المقام و أمثاله و هو: توقّف التأثير على الملاقاة، لأنّ جميع التأثيرات عنده إلّا ما شذّ يكون بها لا إشكال في ذلك إنّما الإشكال في أنّ هذا الارتكاز العرفي يكون بحيث متى أطلق لفظ التنجيس يكون منصرفا بسببه إلى القيد، أعني: بالملاقاة و يكون في قوّة قولنا: ينجسه بالملاقاة، كما ذهب إليه رئيس المذهب في رأس المائة الرابعة عشر الميرزا الشيرازي- جزاه اللّٰه عن الإسلام و أهله أفضل الجزاء- على ما حكاه الأستاذ- دام ظله- عنه في مجلس بحثه- قدّس سرّه- و غيره فكان يرى- قدّس سرّه-

في مثل قولنا: النجس ينجس الشي ء، و قولنا: السكين تقطع اليد، و الشمس تنضج الأثمار، أنّ ظاهر اللفظ انصرافا هو القيد، فمعنى الأوّل بالملاقاة، و الثاني بالمماسة، و الثالث بالإشراق عليها، فاللفظ منصرف عند العرف إلى القيد، و منشأ الانصراف ارتكاز كون التأثير بالملاقاة.

أو لا يصير سببا لذلك كما ذهب إليه أكثر تلامذته و حضّار مجلس مذاكرته

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 208

منهم السيد السند العالم الجليل الذي لم ير له بديل السيد محمّد الأصفهاني- قدّس اللّٰه تربته الزكيّة- حيث كانوا مصرّين على ما نقل الأستاذ- دام ظله- على أنّ القيد، أعني: «بالملاقاة» ليس جزء من مدلول اللفظ، بل المدلول اللفظي منحصر في التنجيس أو في القطع أو في النضج إلى غير ذلك.

فإن قلنا بالأوّل، أعني: كون جزء من مدلوله اللفظي بسبب الارتكاز العرفي قيد بالملاقاة بحيث كان الانتقال إليه لازما من الانتقال إلى المعنى الموضوع له كما في اللازم البيّن بالمعنى الأخص تمّ العموم الأحوالي للحديث، إذ حينئذ يكون كما لو كان لفظ «بالملاقاة» مذكورا في الخبر.

فكما أنّه في صورة الذكر كان بمقدّمات الإطلاق محمولا على العموم من حيث الورودين و الملاقاة العرضية- إذ المفروض إحراز أنّ الخبر في مقام البيان بالنسبة إلى كل ما يكون له من المفاد. فحينئذ يكون مفاده أمرين، مانعية الكرّية، و كون المقتضي للتنجيس هو الملاقاة، فيكون مقتضى مقدمات الإطلاق شمول لفظ الملاقاة للأنحاء الثلاثة- فكذلك لو لم يكن لفظ الملاقاة مذكورا، لكن قلنا:

إنّ لفظ «لا ينجسه» بالانصراف يدل على معنى هذا اللفظ.

و إن قلنا بالثاني، أعني: عدم الدلالة الانصرافية كما هو غير بعيد، فيكون مدلول الرواية أنّ الكرّية مانعة في موضع يكون مقتضى النجاسة موجودا من دون

دلالة أصلا على أنّ مقتضى النجاسة ما ذا، فليس في البين عموم أحوالي، إذ قد عرفت أنّ الأحوال المذكورة من حالات الملاقاة، و المفروض أنّ الملاقاة ليست مدلولة للخبر، و هذا واضح.

نعم مرتكز العرف في جميع المقامات أنّ تأثير أحد الشيئين في الآخر لا يكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 209

إلّا بالملاقاة، لكن هذا غير دلالة لفظ الخبر، فعلى هذا يؤخذ بهذا المرتكز لكونه حجّة لو لم يدل على خلافه دليل، فإن قام على الخلاف دليل شرعي كان هذا الدليل تخطئة من الشرع لطريق العرف، و ليس المرتكز مع هذا الدليل من قبيل المتعارضين، بخلاف ما لو قلنا بدلالة اللفظ، إذ يكون ظهور هذا الخبر و ذاك الدليل حينئذ متعارضين.

و على القول بعدم الدلالة لو لم يكن دليل آخر سوى ارتكاز العرف لو شككنا في أنّ الماء العالي الوارد على النجس و القذر يصير مستقذرا عند العرف أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع في حكم هذا الماء حينئذ إلى الأصل، لفرض انحصار الدليل في الارتكاز و يجب الاقتصار على القدر المتيقّن من مورده و هو صورة علو النجس أو المساواة، و هذا بخلاف ما لو كان الملاقاة قيدا لفظيا مذكورا في الكلام، إذ حينئذ كان لنا الأخذ بإطلاقه و إن شككنا في حكم العرف بالاستقذار في صورة ورود الماء.

و الحاصل: أنّ احتمال عدم الدلالة اللفظية إمّا متعيّن، و إمّا محتمل، و لا أقل منه، فيسقط الخبر عن الاستدلال، لعدم ثبوت العموم الأحوالي له على تقدير هذا الاحتمال.

ثمّ إنّه ربما يستدل على نجاسة الغسالة برواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة لقوله: «فيها و الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجناية لا تتوضّأ

منه» و لكن عرفت عدم التصريح في الرواية بالنجاسة و مجرّد الحكم بعدم رافعيته الحدث كما يجتمع النجاسة يجتمع مع الطهارة أيضا، و يكون وجه المنع حينئذ استعماله في إزالة الخبث، إلّا أن يكون وجه الاستدلال ملاحظة هذه الرواية الحاكمة بأنّ ماء الغسالة لا يرفع الحدث مع عموم القاعدة «كل ماء طاهر يرفع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 210

الحدث» فإنّه لو كان ماء الغسالة نجسا كان هذا الحكم بالنسبة إلى ذاك العموم تخصّصا و إلّا كان تخصيصا، فيحكم بالنجاسة لأصالة بقاء العموم على عمومه.

و لكن هذا مبتن على جريان الأصل في مثل المقام ممّا علم بالحكم المخالف للعام في فرد و لم يعلم دخول هذا الفرد في عنوان العام حتّى يكون تخصيصا و خروجه حتّى يكون تخصّصا، فانّ القدر المتيقن من مورد الأصل ما إذا كان الشبهة في المراد بأن علم أنّ زيدا عالم، و لكن شكّ في وجوب إكرامه، و قد ذكروا في ردّ السيد المرتضى- قدّس سرّه- حيث تمسك بأصالة الحقيقة لكون الاستعمال حقيقة، مثل ما إذا وجد لفظ الأسد مستعملا في الرجل الشجاع و لم يعلم أنّه حقيقة أو مجاز بأنّ مورد هذا الأصل هو الشبهة المرادية بأن كان المعنى الحقيقي للفظ مميزا عن معناه المجازي و لم يعلم أنّ المتكلّم أيّا منهما أراد، و لكن الأصل الجاري في جانب العموم في موارد معلومية الحكم و مجهولية العنوان له وجه يمكن القول باعتباره، و إن قيل بعدم اعتباره في جانب الحقيقة في الشبهة المرادية، و ذلك لأنّ الشبهة في تلك الموارد مرادية من جهة و غيرها من أخرى.

أمّا الأولى فمن حيث الشبهة في إرادة المتكلّم، ففي ما لو علم بعدم وجوب

إكرام زيد مع الجهل بعالميته و جاهليته لا يعلم أنّ الإرادة الإجماليّة للمتكلّم ب «أكرم العلماء» هل هي تعلّقت بكلّ عالم أو بما سوى زيد، و هذا بخلاف ما لو علم أنّه أراد بالأسد الرجل الشجاع و لم يعلم أنّه حقيقة فيه أو مجاز، فإنّه لا اشتباه في إرادة المتكلّم و مراده أصلا، لأنّ إرادة الرجل الشجاع من لفظ الأسد معلومة، و إنّما الشك في أمر خارج عن الإرادة و هو أنّه هل اعتمد في هذه الإرادة على الوضع أو على القرينة و العلاقة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 211

و بالجملة فمن هذا الحيث يمكن إدراج الشبهة في الموارد المذكورة في الشبهة المرادية.

و أمّا الثانية فمن حيث إنّ نتيجة المراد على أيّ حال معلومة بمعنى انّ المكلّف لا يتحيّر في تكليف فيكرم أفراد العالم و لا يكرم الزيد، لفرض أنّ عدم وجوب إكرامه مقطوع به على كلّ حال، فيصير من هذه الجهة كالموارد المشتبهة من حيث كون الاستعمال حقيقة أو مجازا، إذ فيها أيضا نتيجة المراد معلومة كما هو واضح.

و إذن فيمكن الفرق بين الأصلين في المقامين بموافقة المشهور في الأصل الجاري في جانب الحقيقة في عدم الحجية في الموارد المذكورة، و الحجية في الأصل الجاري في جانب العموم في الموارد الأخرى، فلا يلزم من موافقة المشهور في باب الحقيقة، القول بعدم الحجية في هذا الباب، و طريق معلومية الحال هو العرض على الذهن، فإن حصل الجزم بأنّ مورد الأصل هو مطلق الشبهة الواقعة في مراد المتكلّم من لفظه و إن لم يكن في نتيجة مراده من حيث العمل شبهة فهو المطلوب، و بعبارة أخرى حصل الجزم بانّ القضايا اللفظية بمنزلة القضايا العلمية أو العقلية.

فكما

لو علمنا بقضية عامة بمعنى سريان الحكم فيها إلى جميع أفراد موضوعها من دون استثناء واحد منها، كما لو علم بانّ كل من كان عالما فهو واجب الإكرام، فلازم هذا العلم إذا انضم إلى العلم بأنّ الشخص الفلاني غير واجب الإكرام هو العلم بعدم كون هذا الشخص عالما بقضية عكس النقيض، فإنّ قضية العلم بالعموم المذكور هو العلم بعكس نقيضه، أعني: كلّ من كان غير واجب الإكرام فهو غير عالم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 212

و كذا الكلام في القضايا العقلية مثل: كل إنسان حيوان ناطق، فإذا علم بأنّ شيئا ليس حيوانا ناطقا علم بعكس نقيض القضية انّه غير إنسان فيقال: هذا ليس بحيوان ناطق، فليس بإنسان.

فكذا القضايا اللفظية الغير العلمية أيضا يكون الأصل فيها قائما مقام العلم، فالعلم التنزيلي حاصل بعموم الحكم لكلّ واحد من أفراد العام، و لازم ذلك هو العلم التنزيلي بعكس النقيض بعدم فردية كل ما ليس له الحكم.

و إن لم يحصل الجزم بذلك بأن علم اختصاص مورد الأصل بالشبهة في نتيجة المراد، و انّ الشكّ في المراد مع معلومية النتيجة ليس مجراه أو شكّ في أنّه هل يشمل هذا المورد أيضا أو لا، فاللازم الاقتصار على المورد المعلوم و هو الشبهة في النتيجة.

و الشيخ الجليل المرتضى- قدّس سرّه- قد أعمل هذا الأصل في مواضع من متاجره، منها: في مبحث المعاطاة على القول بعدم إفادته الملك من أوّل الأمر، لكن لو تلف أحد العوضين في يد أحد المتعاطيين كان مضمونا بعوضه الموجود في يد الآخر لا بالمثل أو القيمة، فالتزم- قدّس سرّه- ها هنا بحصول الملك آنا ما قبل التلف مع القطع بضمان العوض الجعلي عملا بأصالة العموم في قوله- عليه

السّلام- «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» فإنّ موضوعه ملك الغير، فلو كان العوضان باقيين على ملك مالكهما الأوّل لزم على هذا القول تخصيص القاعدة المذكورة، فإنّ التالف ملك الغير كان في يد من كان تحت يده، فكان مقتضى القاعدة ضمانه بالمثل أو القيمة لا بالعوض المقدّر بخلاف ما لو قلنا بانتقال التالف آنا ما قبل التلف إلى من كان تحت يده.

فحينئذ لم يلزم مخالفة القاعدة، فإنّه لم يتلف حينئذ مال الغير تحت يده، بل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 213

مال نفسه، فيكون خارجا عن موضوع القاعدة، إلى غير ذلك من الموارد الأخر.

فتحصل ممّا ذكرنا صحّة الاستدلال بالرواية و تماميّته على مذهبه- قدّس سرّه- فيحكم بنجاسة ماء الغسالة التي يقطع بعدم رافعيته للحدث بمقتضى الخبر عملا بأصالة العموم في القاعدة، أعني: كلّ ماء طاهر فهو رافع للحدث، و أمّا لو شككنا فاقتصرنا في مورد الأصل على المورد المعلوم فقد عرفت انّ الخبر في نفسه لا دلالة له على النجاسة، كما لا دلالة له على الطهارة، لمجامعة عدم رافعية الحدث مع كل منهما، فتدبّر جيّدا.

و استدل أيضا بمرسلة العيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء؟ قال- عليه السّلام-: «إن كان من بول أو قذر فيغسل ثوبه، و إن كان من وضوء للصلاة فلا بأس إلخ».

و ذكر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إنّ إرساله لا يوجب القدح فيه، فإنّه مأخوذ من الخلاف للشيخ- قدّس سرّه- و طريقه- قدّس سرّه- إلى العيص حسن جدا و الشهيد- قدّس سرّه- في الذكرى و إن حمل الرواية على صورة التغير، لكنّه لم يضعّف سندها انتهى. الإنصاف انّ الحمل على الصورة التغير بعيد جدّا.

نعم قد يخدش

فيها من حيث إنّه لم يذكر في هذا الرواية أنّه كان هناك ثوب متنجس مثلا فصبّ الماء عليه للتطهير، فاجتمع الماء المنفصل منه في الطشت، و إنّما المذكور فيه أنّه كان في الطشت وضوء، و هو و إن كان المراد به في الرواية بقرينة تفصيل الإمام- عليه السّلام- الماء المستعمل في مطلق التنظيف سواء كان مستعملا في إزالة الخبث أو رفع الحدث- و إن سلّمنا كونه في غيرها ظاهرا في الثاني يعني خصوص المستعمل في الحدث الأصغر أو الوضوء الغير الرافع لثبوت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 214

الحقيقة الشرعية له فيه- لكن يمكن حمله في جانب المستعمل في إزالة الخبث على ما إذا كان الماء من الأوّل في الطشت، فغسل المتنجس بالبول أو القذر فيه للتنظيف العرفي، فلا يشمل ما إذا صبّ الماء من الخارج على المتنجس بهما للتطهير الشرعي، فاجتمع الغسالة في الطشت.

و ذلك لأنّ الغالب من استعمال الطشت في تنظيف اللباس صبّ الماء أوّلا في الطشت ثمّ وضع الثوب فيه، كما أنّ الغالب في جانب المستعمل في رفع الحدث هو العكس، أعني: صبّ الماء من خارج الطشت على الأعضاء بحذائه لينصب الماء المنفصل من الأعضاء فيه فيحمل الوضوء في كلّ من الجانبين على ما هو الغالب فيه.

إلّا أن يقال: إنّ الوضوء و إن لم يستعمل في الماء المتوضّأ به، لكنّه لا أقلّ من كونه ظاهرا في الماء المستعمل في التطهير، فلا يشمل المستعمل في التنظيف، و حينئذ فيكون مورده مخصوصا بماء الغسالة فيكون صريحا في المطلوب، أو يقال:

إنّه و إن كان مستعملا في التنظيف المطلق أعم من الشرعي و العرفي، لكن لا نسلّم كون الغالب في الاستعمال التنظيفي في الطشت صبّ الماء

أوّلا في الطشت، ثمّ وضع المتنجس في مائه، بل صبّ الماء من الخارج على المغسول بإزاء الطشت لتجتمع الغسالة فيه أيضا شائع، كأن يكون ذلك في البيت الذي فيه الفرش مفروشا فتغسل اليد أو الثوب المتنجس بصبّ الماء عليهما من إناء آخر و يجعل الطشت تحت المغسول لئلا يقع غسالته على الفرش، و بالجملة: الرواية إمّا ناصة في المطلوب و إمّا شاملة له بالإطلاق و عدم التفصيل.

ثمّ الرواية دالّة على نجاسة الغسالة الأولى كما ذكر، و على نجاسة الغسالة الثانية أيضا، و ذلك لإطلاقه لما إذا غسل المتنجس في الدفعة الأولى في غير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 215

الطشت و كان الغسلة الثانية فيه.

و استدل أيضا بموثقة عمّار الواردة في الإناء أو الكوز القذر: كيف يغسل و كم مرّة يغسل؟ قال: «يغسل ثلاث مرّات يصبّ فيه الماء، فيتحرك فيه ثمّ يفرغ منه ثمّ يصبّ فيه ماء آخر ثمّ تحرّك ثمّ يفرغ، ثمّ يصبّ فيه ماء و يحرك ثمّ يفرغ منه و قد طهر» «1».

دلّ على وجوب الإفراغ لغسالة كل من الغسلات الثلاث، و حمله على الوجوب النفسي بعيد في الغاية، بل الظاهر منه كونه مقدمة لتحصيل الطهارة، فيتعين كونه لأجل نجاسة الغسالة.

و يمكن الخدشة فيه بأنّه لا يدلّ على النجاسة، إذ لعلّ الأمر بالإفراغ في الأوّلين لأجل توقف التعدد عليه، و لو فرض أنّ التعدد يحصل بإفراغ بعضه و صبّ ماء جديد فيه و تحريكه ليصل الماء الجديد إلى تمام أجزاء الإناء، فيحمل الأمر بالإفراغ حينئذ على الإرشاد إلى أنّ إبقاء الغسالة لغو، حيث إنّه مستعمل في إزالة الخبث، و هو و إن لم يكن نجسا لكنّه لا فائدة فيه، فإنّه لا يستعمل في

الشرب لأجل الاستقذار منه و لا يصحّ الوضوء منه، مع أنّ وجوده في الإناء موجب لتعسّر الغسل، فإنّه لو أفرغ كان وصول الماء الجديد إلى تمام الأجزاء سهلا، و أمّا لو لم يفرغ فيحتاج إلى كثرة التحريك حتى يحصل العلم بوصول الماء الجديد المخلوط بماء الغسالة بكلّ جزء.

و من ذلك يعلم الحال في الأمر بالإفراغ بعد الغسلة الأخيرة، فإنّه أيضا محتمل لكونه إرشادا إلى لغوية الإبقاء لقلّة الفائدة في هذا الماء، فإنّه بعد الاستعمال في إزالة الخبث و إن لم يصير نجسا لكن يستقذر الطباع منه، فلا يستعملونه في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1076، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 216

شي ء من الشرب و المأكول، بل و التطهير مع التمكن من غيره، مع أنّ الطهارة من الحدث لا يحصل به.

و لو حملنا التوضّي في رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة في قوله: فيها الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا تتوضأ منه، على مطلق الاستعمال في التطهير أعم من إزالة الخبث و رفع الحدث، فيصير الأمر في هذه الرواية أسهل، فإنّه على هذا يسقط الماء المذكور من الانتفاع به بالمرة، فيكون الأمر إرشادا إلى لغوية إبقائه.

و حينئذ فتكون هذه الرواية أيضا مقيّدا لمدلول تلك الرواية من عدم الانتفاع بالماء المذكور مطلقا، أو في خصوص رفع الحدث مع زيادة الدلالة في هذه على تنفّر الطباع منه، فلا ينتفع به في الأكل و الشرب أيضا، فيكون الكلام فيه هو الكلام في تلك الرواية حيث قلنا: إنّ ذلك غير ملازم للنجاسة بل يلائم الطهارة أيضا، بأن يكون لخصوص الاستعمال في إزالة الخبث موضوعية لسقوط الماء عن قابليته للرافعية و إن كان باقيا

على طهارته.

و بالجملة فهذه الرواية بعد ورود رواية ابن سنان مجملة فتسقط عن الاستدلال.

فهذه هي الأدلة على النجاسة مطلقا و هي العموم الأحوالي في قوله: الماء إذا كان إلخ، بناء على كون قيد الملاقاة منصرفا إليه اللفظ أو المرتكز العرفي بناء على عدمه، و العموم لقاعدة جواز رفع الحدث بالماء الطاهر على تقدير القول به، و مرسلة العيص.

و أمّا وجه الطهارة مطلقا، فوجوه: منها: ما حكي عن السيد- قدّس سرّه- انّه لو لم يكن طاهرا لزم أن لا يفيد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 217

المحل طهارة، يعني الأعم من إفادة الاستعداد للطهارة حتّى يشمل غسالة الغسلة الأولى أيضا، و مرجع هذا إلى الملازمة و هي ليست عقلية كما اعترف به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و لم يقصدها السيد أيضا، لوضوح أنّه لا يلزم من نجاسة الماء و طهارة المحل محذور عقلي و إنّما هي شرعية، و مدركها هي القاعدة المستفادة من تتبع الموارد من عدم إفادة الماء المتنجس طهارة المغسول به أصلا لا وجودا و لا استعدادا، و بعد القطع بتأثير الغسالة في المحل الطهارة، أمّا استعدادا و إمّا وجودا، يدور الأمر بين أن يكون الغسالة طاهرا فيكون ذلك تخصّصا للقاعدة المذكورة، و أن يكون نجسا فيكون تخصيصا لها، فأصالة العموم في القاعدة يقتضي كون الغسالة طاهرة سواء الأولى و الثانية، لكن ذلك مبتن على القول باعتبار الأصل في مثل المورد ممّا علم الحكم و لم يعلم الموضوع، لكنّه مع ذلك معارض بعمومات الانفعال، و كذا بعموم آخر مثله و هو ما تقدّم من القاعدة المستفادة من أنّ كلّ ماء طاهر فهو رافع للحدث، مع ملاحظة أنّ المستعمل في إزالة الخبث لا يرفع حدثا

على ما دلّ عليه رواية ابن سنان، فإن قلنا بحجية العموم في ما علم بثبوت الحكم المخالف للعام فيه و لم يعلم مصداقيته للعام، فهذا العموم أيضا مقتض للنجاسة كما مرّ.

فيكون في البين عمومات ثلاثة، اثنان منها مقتضيان للنجاسة و واحد منها للطهارة، و قد تقرّر في محلّه أنّ التعدد في أحد طرفي التعارض لا يوجب الأقووية ما لم يوجب الأظهرية، بل يحكم بتساقط الجميع، فيرجع إلى الأصل و هو هنا الطهارة. هذا على تقدير القول بحجية العموم في المورد المذكور.

و أمّا على القول بعدمه فعمومات الانفعال سليمة عن المعارض هذا مضافا إلى أنّ العموم المذكور، أعني: عدم تأثير الماء المتنجس الطهارة في المحل، قاعدة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 218

مستفادة من تتبع الموارد، و ليست في الموارد المتتبعة مورد كان تنجّس الماء ناشئا من قبل هذا الاستعمال، بل الجميع مشترك في كون نجاسة الماء حاصلا من الخارج، فلا عموم لها بالنسبة إلى ما نحن فيه ممّا كانت نجاسته حادثة من قبل هذا الاستعمال.

و منها: طائفة من الأخبار.

منها: التعليل الوارد في خبر الاستنجاء من قوله- عليه السّلام-: «أو تدري لم صار (يعني ماء الاستنجاء) لا بأس به»؟ قلت: لا و اللّٰه، قال: «لأنّ الماء أكثر من القذر».

و فيه: أنّ هذا التعليل لا نفهم معناه، و لهذا رفع اليد عن مجموع الحديث و قال بنجاسة ماء الاستنجاء الشيخ محمّد طه- طاب ثراه- على ما نقل الأستاذ- دام ظله- و ذلك لأنّ المفروض مفروغية انفعال القليل من الماء حتّى عند المستدل، فلو أخذ بظاهر الحديث من كون المناط الأكثرية الكمية أو الوصفيّة يلزم خلاف هذا كما هو واضح، فلا بدّ على هذا من رفع اليد عن

هذا التعليل و عدم الاستدلال به.

هذا و يمكن توجيه الحديث بوجه و هو بحسب الأدلّة في غاية القوّة و لكن لم يقل به أحد، و هو أن يقال: إنّ الماء القليل الجاري من العلو إلى السفل لو لاقاه نجس فلا ينجس شي ء منه، و المراد من التعليل أنّ الماء أكثر حزبا من النجس، و ذلك لأنّ الجزء العالي من الماء لا إشكال في عدم تأثّره و تنجّسه بملاقاة السافل، فيكون هذا الجزء ممدا للجزء السافل الذي هو محارب للنجاسة، و أمّا النجس فليس إلّا نفسه فالماء مركب من الممد و المحارب، و النجاسة محارب فقط و ليس له ممد، و هذا معنى أكثرية حزب الماء من القذر.

و هذا بخلاف القليل الذي لا جريان له سواء كان مساويا مع النجس أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 219

عاليا أو سافلا، فإنّه بتمامه محارب للنجس، فانّ الماء الناقص عن الكرّ بمثقال يكون عند الشارع في حكم القطرة، فكما أنّ القطرة محارب واحد و النجس أيضا محارب واحد في قباله و ليس أحدهما أكثر من الآخر، فكذا ذلك الماء الناقص عن الكر بمثقال الغير المتصف بالجريان من العلو إلى السفل، فهو أيضا محارب واحد كالنجس، ثمّ هذا المعنى يستفاد من أخبار ماء الحمام أيضا المشترطة في طهارته الاتّصال بالمادّة من غير تقييد بكون ما في الخزينة أو المجموع منه و من العمود و ممّا في الحوض الصغير كرا.

و الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- و إن ادّعى الانصراف إلى صورة كرّية ما في الخزينة لكنّه غير مسلم، بل يمكن دعوى ظهور الرواية في عدم اشتراط الكرّية، إذ لو كان شرطا لكان حقّ التعبير ان [يقال:] إذا كانت له مادة كر،

فحيث لم يذكر إلّا المادة علم أنّه لا يشترط إلّا نفس المادة، فمعنى الرواية على هذا أنّه: لا بأس بما في الحياض إذا كان له مادة، أي كان له ممد يمده على النجاسة و هو الجزء العالي من العمود الوارد على الحياض، فإنّه غير متأثر بملاقاة السافل، فيكون ممدا للجزء الملاقي، و المادّة في ماء البئر و إن لم يكن من سنخ المادّة هنا لكنّه أيضا شبيه له، فإنّ الاستعداد القائم بأجزاء الأرض يكون عند الشارع بمنزلة الماء الموجود فعلا، و المفروض عدم تأثّره بملاقاة البئر، فيكون ممدا للملاقي، فيكون الماء أكثر من القذر و مشتدّ الظهر بالمادة.

و هذا المعنى لا يستفاد ما يخالفه من أخبار الباب، فانّ المستفاد من أخبار انفعال الماء القليل سواء كان واردا أم مورودا على تقدير وجود هذا الدليل، أنّ الماء القليل من حيث إنّه ماء قليل ينجس بالملاقاة من غير فرق بين الأنحاء الثلاثة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 220

و مفاد هذا الخبر و أخبار الحمام ليس ذلك، بل علّق و علّل عدم التنجس بالأكثرية و بالمادة كما في خبر البئر، لا على كونه ماء قليلا.

و لكن هذا لا يقول به قائل لعدم اتحاده مع ما يقوله القائل بطهارة الغسالة، بل بينهما عموم من وجه و لا مع ما يقوله السيد القائل بطهارة الماء الوارد، بل بينهما عموم مطلق، كما أنّ بين طهارة الغسالة و بين طهارة الوارد أيضا هذه النسبة، فمورد الاجتماع للثلاثة الماء الوارد على اليد المتنجسة مثلا لأجل تطهيره، و مورد افتراق هذا عن ماء الغسالة الماء الوارد على يد الكافر، و مورد افتراق ماء الغسالة عن هذا الماء الوارد على الثوب المتنجس و أمثاله لأجل

التطهير، فإنّ ما ذكرنا لا يشمل هذا الماء، و ذلك لأنه يبقى منه في أجزاء الثوب و يمكث، فينجس هذا الباقي الماكث المتخلل في أجزاء الثوب عند انفصال الماء و انقطاعه و انتفاء مدده، فهذا الماء المتخلّل طاهر على القول بطهارة الغسالة، و كذا على القول بطهارة الماء الوارد، و غير طاهر على ما ذكرنا، و مورد افتراق الماء الوارد عن هذا و عن الغسالة القطرة الواردة على النجس، أو الماء الجاري من العلو على النجس بعد قطع جريانه و اجتماعه مع وجود عين النجاسة فيه بعد الانقطاع، فإنّهما بناء على طهارة الوارد طاهران و على الآخرين غير طاهرين.

و إذن فما استفدناه في غاية القوّة من الأدلّة لكن لم يقل به أحد و هو و إن كان خلاف الظاهر من قوله: «لأنّ الماء أكثر» فإنّ الظاهر من الأكثرية الكمية و لا أقلّ من الوصفيّة، لكن بعد ما عرفت من عدم إمكان إرادتهما كان المتعيّن هو الأكثرية الحزبيّة.

لا يقال: إنّ الغالب في ماء الاستنجاء اشتماله على الأجزاء الصغار من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 221

النجاسة، و حينئذ لا إشكال في تنجسه، فيكون الحكم بالطهارة كما هو مدلول الرواية على خلاف الغالب، و لو قيل بما ذكر من التوجيه فإنّه مخصوص بصورة عدم بقاء عين النجاسة في الماء إلى ما بعد انقطاع الجريان و عدم وصول نجاسة إليه بعد ذلك من الخارج.

فإنّه يقال: لو جمع ماء الاستنجاء في إناء، تمّ ما ذكر من الغلبة لا على ما هو المتداول من وقوعه على الأرض فإنّه يبتلع الأرض عند وقوع الماء عليها بعض الماء و ما تبقى منه خال عن عين النجاسة في الغالب.

و منها: ما ورد في

غسالة الحمام التي لا ينفك عن المستعمل في إزالة الخبث مثل مرسلة الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن- عليه السّلام- أنّه سئل عن مجمع الماء في الحمام من غسالة الناس؟ قال: لا بأس.

و فيه: أنّ من المحتمل أنّ المسئول عنه هو الماء المجتمع في الحوض الصغير عند اتصاله بالخزينة بواسطة العمود من الماء، لا الماء الذي يخرج من الحوض، أو المراد هو الأعم لكن المقصود عدم البأس ما لم يعلم بالنجاسة.

و منها: ما ورد من صبّ الماء على الثوب من بول الصبي.

و فيه: أنّ الخارج من الثوب لا يدل هذا على طهارته، و الباقي فيه و إن كان يدل على طهارته، لكن الشارع نزّله منزلة المتخلّف بعد انفصال الغسالة، و لا كلام في طهارته.

و منها: ما ورد من أمر النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله بتطهير المسجد من بول الأعرابي بصب ذنوب من الماء عليه؟ قال في الخلاف: و النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيسا فيلزم أن يكون الماء باقيا على طهارته.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 222

و فيه: مضافا إلى القدح في سنده فإنّها رواية أبي هريرة على ما حكي عن المعتبر عن الخلاف أنّه مجرد حكاية الفعل و هو لا يدل على المطلوب، إذ من المحتمل أنّه كان أرض المسجد صلبة لا ينفذ فيها الماء، و كان من داخل المسجد ثقب إلى خارجه، فكانت الغسالة خارجة من هذا الثقب إلى الخارج، و أمّا حمل الذنوب و هو الدلو العظيم- على ما في مجمع البحرين- على ما يشتمل على الكرّ فبعيد، و كذا الحمل على أنّه لم يقصد التطهير بنفس صب الذنوب بل قصد

به بلّ الأرض التي وقع البول عليها لتجفّفها الشمس فيطهر بذلك، و ذلك لأنّ الظاهر من أمره صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم حصول الطهارة بنفس الصب.

و منها: قوله- عليه السّلام- في صحيحة محمد بن مسلم في غسل الثوب:

«اغسله في المركن مرتين و إن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة». و لعلّ وجه الدلالة أنّ نجاسة الغسالة يوجب نجاسة المركن في الغسلة الأولى فلا يحصل الطهارة بالغسلة الثانية.

و فيه: أنّا نلتزم بأنّ حال المركن إمّا حال الغسالة في النجاسة، و إمّا حال الثوب في الطهارة.

و منها: ما ورد عن الثوب يصله البول فينفذ إلى الجانب الآخر، و عن الفرو و ما فيه من الحشو قال: اغسل ما أصاب منه و مسّ جانبه الآخر، فإن أصبت شيئا منه فاغسله و إلّا فانضحه.

لم يعلم وجه دلالته، فإن أريد من جهة النضح ففيه أنّه ليس لأجل الاحتياط، بل هو تنظيف صوري تعبّدي كالرش مع جفاف المتلاقيين.

و منها: ما دلّ على نفي العسر، فإنّ التحرّز عن الغسالة حرج في كثير من المقامات من جهة جريانها إلى غير محلّ النجاسة قيل: بل لو اتّفق أنّ بعض الناس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 223

صبّ على فمه و بقي يهزّ رأسه لقطع الغسالة المتخلفة في شعر شاربه و لحيته و منخره لعدّوه من المجانين.

و فيه: منع لزوم الحرج، فهذه أدلة الطهارة مطلقا و قد عرفت جوابها.

و أمّا القول بالتفصيل بين الغسلة المطهرة و غيرها كما هو نص الدّرّة المنظومة حيث قال:

و طهر ما تعقبه طهر المحل عندي قوي و على المنع العمل

فمستنده في نجاسة الغسلة الأولى الأدلّة المتقدمة للنجاسة بقول مطلق و في طهارة الغسلة الثانية عدم شمول تلك

الأدلة إيّاها.

أمّا رواية العيص فلا إطلاق لها بالنسبة إلى صورة وقوع غسالة الغسلة الثانية فقط في الطشت حتى يكون دليلا على النجاسة فيها، بل هو محمول على صورة اجتماع الغسالتين فيه كما هو الغالب، و حينئذ فلا دلالة لها على نجاسة الغسالة في الغسلة الثانية، بل نقول الغالب اجتماع جميع الغسلات فيه حتّى الغسلة المزيلة.

و أمّا مفهوم «الماء إذا كان ..» على تقدير استفادة قيد الملاقاة من لفظ:

«لا ينجسه» و «ينجسه» حتى يكون المفهوم: أنّ الماء إذا لم يكن كرّا ينجسه شي ء بالملاقاة، فهو أيضا لا عموم له بالنسبة إلى الغسلة المطهرة، فإنّ العرف إذا عرض عليهم هذه القضية و عرض أيضا عليهم أنّ المحل يصير بهذه الغسلة طاهرا، و ملاقاة هذه الغسلة للمحل يوجب انقلاب موضوع النجس إلى موضوع الطاهر، يفهم من تلك القضية أنّ الملاقاة المؤثرة في نجاسة الماء هي ما كانت نجاسة النجس الملاقي في ظرفها محفوظة، و لا يشمل ملاقاة الغسلة المذكورة المزيلة لنجاسة المحلّ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 224

و بالجملة: الملاقاة منصرفة إلى غير ما كانت سببا لارتفاع النجاسة، فإنّ الانفصال ليس شرطا في تحقق مفهوم الغسل، فالغسل يتحقّق بمجرّد ملاقاة الماء في الغسلة الثانية، و لزوم العصر في الثياب بين الغسلتين إنّما هو لتوقف تحقّق تعدّد الغسل عليه، و هو غير مرتبط بما نحن بصدده من الغسلة الأخيرة، فهي سبب لطهارة المحل بنفس الملاقاة بدون العصر و الانفصال، فليست هذه الملاقاة مشمولة للمفهوم المذكور.

هذا مضافا إلى أنّه لو سلّمنا عدم الانصراف و أنّه يصدق على الغسالة في هذه الغسلة أيضا أنّه ماء قليل لاقى نجسا، فيدخل تحت قوله: ينجسه، لكن لا إشكال في أنّ هنا لا بدّ من

ارتكاب تخصيص في هذا العموم بالنسبة إلى ما يتخلف من ماء هذه الغسالة بعد انفصال ما ينفصل عن المحلّ غالبا، فإنّ الماء المتخلّف في الثوب بعد العصر، و كذا في البدن و نحوه بعد انفصال ما يعتبر انفصاله يصدق عليه اسم الماء القليل مع أنّه لاقى النجس بالفرض و هو طاهر بالإجماع، فهو خارج عن عموم المفهوم على تقديره بهذا الإجماع.

فنقول: لو استلزم القول بطهارة تمام الغسالة في الغسلة الأخيرة تخصيصا زائدا في هذا العموم بأن كان تخصيص فرد علاوة على تخصيص فرد اقتضاه الإجماع في المختلف لقام على إبطاله أصالة عدم التخصيص لهذا العموم، و أمّا لو كان التخصيص على أيّ حال، يعني سواء قلنا بأنّ ماء الغسلة الثانية بتمامه من أوّل الأمر طاهر أم قلنا بأنّه نجس من أوّل الأمر، ثمّ عند انقطاع القطرات المنقطعة يكون ما يتخلف من مائها طاهرا، يكون بالنسبة إلى فرد واحد، فلا ينهض على نفيه هذا الأصل.

فنقول الاعتبار في وحدة الماء الملاقي للنجس و تعدّده على حال ملاقاته

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 225

للنجس، فإن كان في هذا الحال واحدا، فالقول بطهارته تخصيص فرد واحد و إن جعل بعد ذلك قطعات كثيرة، و إن كان في هذا الحين متعددا كان طهارته تخصيصا لأزيد من واحد و إن صار بعد ذلك مجتمعا في محلّ واحد، و لا إشكال أنّ الماء في الغسلة الثانية يكون عند الملاقاة للمحل تمامه من قطراته المتواصلة المتقاطرة و ممّا يكون منه في المحلّ ماء واحدا، فإن ارتكبنا التخصيص الذي لا بدّ منه في هذا الحين لزم طهارة الغسالة و لا يلزم تخصيص أزيد من فرد واحد، و إن ارتكبناه عند انقطاع القطرات المنقطعة

غالبا بالنسبة إلى المتخلف كان أيضا تخصيصا واحدا و لزم نجاسة الغسالة، غاية الأمر أنّ الفرد الخارج من العموم على الأوّل فرد أعظم و الخارج على الثاني فرد أحقر، و أصالة عدم التخصيص عند الدوران بين خروج الأكبر و الأصغر، لا تقضي بتعيين الأصغر فلا تقضي عند دوران الأمر بين أن يكون الخارج من أفراد الإنسان رجلا طويلا و أن يكون رجلا قصيرا بتعيين الرجل القصير.

و إذن فأصالة عدم التخصيص غير جارية بالنسبة إلى الغسلة المطهرة.

إلّا أن يقال: إنّ الأمر ليس دائرا بين تخصيص الأقل و الأكثر، لكنّه دائر بين التخصيص و التخصّص، فإنّه لو قلنا بأنّ المتخلّف كان من أوّل الأمر طاهرا، كان هذا تخصيصا لعموم نجاسة الماء القليل الملاقي للنجس، و إن قلنا بأنّه كان من الأوّل نجسا و لكن صار بعد انفصال بقية الماء طاهرا، فالانفصال صار هنا مطهرا، فهذا تخصص للعموم المذكور كما هو واضح.

فإن قلت: إنّ الإجماع القائم على طهارة المتخلّف ليس قائما على عنوان المتخلّف بما هو كذلك الذي من شرط حصوله انفصال البقية حتى يصير معناه أنّه قبل صيرورته ماء متخلّفا نجس، و بعد صيرورته متخلفا صار طاهرا، كيف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 226

و لو كان لسان الإجماع ناطقا بذلك لكان قائما على أمرين: طهارة المتخلّف، و نجاسة الغسالة في الغسلة الأخيرة، و من المعلوم خلافه، فما قام عليه الإجماع هو طهارة الماء الباقي لا بهذا العنوان، و هو قابل لأن يكون من أوّل الأمر فيكون التخصيص واحدا و الفرد أكبر، و لأن يكون من ما بعد الانفصال فيكون التخصيص أيضا واحدا و الفرد أصغر، فمورد الإجماع دائر بين معنيين أحدهما موجب لتخصيص الفرد الأكبر و

الآخر لتخصيص الفرد الأصغر، و ليس مورده مقيدا بعنوان التخلّف حتّى يكون ملازما للتخصّص.

قلت: نعم، و لكن الجمع بين أصالة العموم في عموم نجاسة الماء القليل بالملاقاة و بين هذا الإجماع مقتضاه ذلك، أعني: مطهرية الانفصال.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا أيضا تخصيص في قاعدة أخرى، أعني قاعدة عدم طهارة الماء المتنجس بغير الكرّ و المطر و الجاري.

و محصل الكلام: أنّه ربّما يتمسك لطهارة الغسالة المطهرة، باستبعاد العرف نجاستها لو عرض عليهم كونها مؤثرة بمجرّد ملاقاتها في تطهير المحل، بل بعد قطعهم بالثاني كما هو المفروض يقطعون بطهارة هذه الغسالة أيضا، و كذا يستبعدون أن يكون نقص بعض من ماء متنجس مؤثّرا في تطهير باقية، فمجموع الغسالة الأخيرة نجاستها بأجمعها من أوّل الأمر، ثمّ طهارة المتخلّف منها بسبب انفصال بعضها بعيد في نظير العرف كمال البعد، و الإنصاف أنّ عدّ مثل ذلك دليلا على الحكم الشرعي ليس في المحل، بل لا بدّ من إثباته بحسب القواعد، فإن كان مقتضاها الطهارة فلا بأس بعد مثل ذلك من المؤيدات.

و أمّا التمسك في ذلك بانصراف عمومات الانفعال كما تمسّك به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، بتقريب أنّ الملاقاة فيها منصرف إلى ما كان النجاسة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 227

حينها باقية، و لا يشمل الملاقاة المزيلة، ففيه بعد تسليم الانصراف أنّ العمومات قد عرفت أنّها طائفتان: فطائفة منها هو المفهوم في قوله: إذا كان الماء إلخ. فهذه الطائفة يمكن دعوى الانصراف فيها.

و أمّا الطائفة الأخرى و هي ما دلّ على أنّ الماء الذي يغسل به الثوب لا يرفع حدثا بضميمة عكس النقيض لقاعدة: أنّ كلّ ماء طاهر يرفع الحدث، على تقدير القول بصحّة مثل هذا التمسك، فلا يمكن

هذه الدعوى فيها، فإنّ الماء الذي يغسل به الثوب يعمّ قطعا لماء الغسلة الأخيرة، فيحكم بمقتضى عموم عكس النقيض المذكور بنجاسته، فلا بدّ من التكلّم في مقتضى القاعدة على وجه كان نسبته إلى الطائفتين على السواء.

فنقول: إنّه لا بدّ هنا من التصرف في قاعدة و الوقوع في مخالفة قاعدة على أيّ حال، و لا مفر من ذلك، و من المقرر أنّه إذا دار الأمر بين مخالفة قاعدة و مخالفة قاعدة أخرى فكلتاهما ساقطتان عن الحجية و يرجع إلى الأصل.

بيان ذلك: أنّ لنا في المقام قاعدتين: الأولى: قاعدة انفعال الماء القليل، و الثانية: عدم طهارة الماء المتنجس بغير الكرّ و المطر و الجاري، و الدليل على هذه القاعدة عموم قوله- عليه السّلام- في رواية السكوني: «الماء يطهّر و لا يطهر»، و لا يشكل بكونها مجملة فإنها محتملة لمعنيين:

الأوّل: انّ الماء ليس كالأجسام الأخر، حيث إنّها قد يطرأ عليها النجاسة ثمّ تصير طاهرة مع بقاء صورتها الأصلية، و أمّا الماء فإذا تنجس فلا محيص عن انعدام صورتها الأصلية بجعله جزء من ماء عاصم و مختلطا معه، حتى إنّ الماء الذي طهر بوقوع المطر عليه يصير بعد الامتزاج به متبدّلا و متغيّرا عمّا كان عليه من الصورة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 228

و الحاصل: أنّ هذه القضيّة بمنزلة ما يقال في الفارسية:

هر چه بگندد نمكش مى زنند چاره چه باشد چو بگندد نمك

يعني أنّ كلّ شي ء إذا تعفن فالحيلة لزوال تعفنه إلقاء الملح عليه، و أمّا لو تعفّن الملح فالحيلة منحصرة في إدخاله في ملح كثير بحيث صار منعدما و مستهلكا في جنب ذلك الملح الكثير.

الثاني: أنّ الماء يطهر غيره، و لكن لا يطهر الماء بغير الماء، ثمّ

إنّ المعنيين مشتركان في نفي المطهرية للماء عن غير الماء.

ثمّ نقول: إنّا نقطع بأنّ ما يبقى و يتخلّف في المحلّ المغسول بعد ذهاب الغسالة طاهر، و ليس المتخلّف خارجا عن اسم الماء و داخلا في الأعراض لكونه مجرّد الرطوبة، فإنّه على القول باعتبار العصر و انفصال الغسالة لا يعتبر إلّا إخراج غالب الماء لإتمامه.

و إذن فالمتخلف في الثوب بعد العصر و في غيره بعد الفصل يكون ماء قطعا، بمعنى أنّه لو جمع ما فيه من الماء في محلّ واحد بعصر و نحوه لكان المجموع داخلا في اسم الماء، بل لو كان الثوب كبيرا لكان الخارج منه بالعصر ثانيا بعد إخراج غسالته بالعصر المتعارف ماء كثيرا، ثمّ زمان القطع بالطهارة و إن كان بعد انفصال الغسالة، لكن يحتمل أن يكون ماء الغسالة من الأوّل طاهرا بأجمعه، و هذا تخصيص واحد في عمومات الانفعال، و أن يكون الطاهر هو ما يتخلّف من ماء الغسالة في علم اللّٰه من الأوّل، و هذا أيضا تخصيص واحد لتلك العمومات.

و لا يشكل بأنّ هذا خرق للإجماع المركب، فانّ الفقهاء بين قائل بالطهارة في ماء الغسلة الأخيرة بأجمعه، و بين قائل بنجاسته بأجمعه، فالتفكيك بين أجزائه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 229

قول ثالث، و ذلك لأنّه ليس قول القائل بالنجاسة صريحا في نجاسته بأجمعه، إذ لعلّه يخصّصه بخصوص ما ينفصل عن المحل مع كون الباقي المتخلف في علم اللّٰه طاهرا، و يحتمل أيضا أن يكون الماء بأجمعه نجسا من الأوّل و يكون الانفصال مطهّرا لما يتخلف بعده، و هذا تخصيص لعموم قوله: الماء يطهر و لا يطهر، إذ يلزم أن يكون غير الماء مطهرا للماء.

فالأمر دائر بين تخصيص هذا العموم و

بين تخصيص عموم الانفعال بأحد النحوين الأوّلين و لا ترجيح لأحد الأنحاء، إذ ليس أحدها تخصيصا لفرد واحد و الآخر لفردين، بل كلّها تخصيص لفرد واحد، و ليس أحد العمومين أقوى و أظهر من الآخر حتّى يكون هو المقدّم و قرينة على تخصيص الآخر فيتساقطان.

فيكون المرجع هو الأصل و هو الطهارة بمقتضى استصحاب الحالة السابقة في الماء قبل ملاقاتها للمحل، و لا يتوهم تقدّم عموم الانفعال على عموم الآخر رتبة في شمول المقام، بمعنى أنّه عند ملاقاة الماء للمحل يكون عموم الانفعال سليما عن المعارض، و بعد العمل به يتعيّن تخصيص الآخر، فإنّ نسبة العمومين بالنسبة إلى حكم هذا الماء على السواء.

بقي الكلام في الغسلة المزيلة للعين، هل تكون داخلة في محلّ الكلام أو لا؟

فنقول: لا إشكال في خروج ما ينفصل عن المحلّ و يكون مزيلا لبعض العين مع بقاء بعضها الآخر في المحلّ عن محلّ الكلام في الغسالة، فإنّ الكلام هنا بعد الفراغ عن انفعال القليل و بعد الفراغ عن عدم اختصاصه بورود النجاسة واقع في غسالة الغسل الذي يكون مؤثرا في طهارة المحلّ إمّا أعدادا و إمّا إيجابا، كما يدلّ على ذلك استدلال السيّد على الطهارة بأنّها لو كانت نجسة لما أفادت طهارة المحلّ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 230

و أمّا رواية الصبّ على بول الصبي، فلا يدلّ على دخول الغسلة المزيلة مطلقا في محل الكلام، فإنّها في خصوص هذا المورد مفيدة لطهارة المحل فيكون داخلا فيه، فلا يدلّ على دخول مثل هذه الغسلة، أعني: ما يبقى في المحلّ بعد انفصاله شي ء من عين النجاسة، فإنّ المحلّ لا يتفاوت حاله طهارة و نجاسة و لو أعدادا قبل هذه الغسلة و بعدها، فلم يفد

في المحلّ شيئا، و مجرّد إزالة بعض العين يحصل بالماء النجس و المضاف و الجسم الآخر الطاهر أو النجس.

و أمّا الغسلة التي تكون مزيلة لتمام العين، فإن قلنا بأنّها معدودة من الغسلتين المعتبرتين في الثوب و البدن من البول، فيكون معدّا للمحل لأن يصير طاهرا بالغسلة الأخرى فيكون من محلّ الكلام، و إن قلنا بأنّها غير محسوبة منهما، بل الغسلتان تعتبران بعد تمام هذه الغسلة فهي أيضا خارجة عن محلّ الكلام، كما أنّها في الموارد التي تعتبر غسلة واحدة خارجة أيضا لاعتبار الغسلة المطهرة بعدها.

و الأقوى: أنّه على القول بالنجاسة في الغسلة المطهرة تكون القطرات العالقة على المحل المحتاجة في الانفصال إلى نفض اليد و نحوه طاهرة، و ذلك لإطلاق دليل اعتبار الصب أو الغسل و عدم تقييدهما بالنفض و نحوه، فيعلم حصول الطهارة بمجرّد حصول الغسل و الصب و انّ ما يبقى في المحل من تلك القطرات يكون من المتخلف الطاهر بلا كلام.

و أمّا ماء الاستنجاء الذي حكم المشهور بطهارته فما ذكروا له من الشروط:

1- من عدم تعدّي النجاسة المحل المعتاد.

2- و عدم استصحابه أجزاء صغارا من النجاسة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 231

3- و عدم إصابة نجاسة من الخارج إليه.

4- و عدم تغير أوصافه بالنجاسة.

5- و عدم إصابة نجاسة من الداخل كالدم و المتنجس الخارجين مع الغائط.

بل ربما يعتبر سبق اليد في الوصول إلى المحل، بل يزاد اتصال الغسلة و عدم فصلها في الأثناء، فهي غير مذكورة في الروايات لكن بعضها منقّح للموضوع، فعدم التعدّي إنّما هو لأجل أنّ التعدّي يوجب الخروج عن المصداقية، فإنّ الاستنجاء عبارة عن غسل النجو عن الموضع المخصوص لا عن الألية مثلا، و بعضها قد اعتبر من باب

الأخذ بالقدر المتيقّن. فانّ الحكم بالطهارة لما كان على خلاف الأصل من انفعال القليل بالملاقاة اقتصروا على المتيقن، فمن المتيقن سبق الماء اليد، و سبق اليد و مقارنته غير متيقّنين، و كذا عدم فصل الماء و إجرائه من الأول إلى الآخر بإجراء واحد.

و كيف كان فالأولى ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب تيمّنا و تبرّكا فنقول:

منها: حسنة الأحول: أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في الماء الذي استنجيت به؟ قال: «لا بأس به». و رواها في العلل بزيادة قوله- عليه السّلام-:

«أ تدري لم صار لا بأس به»؟ قلت: لا و اللّٰه، قال: «لأنّ الماء أكثر من القذر» «1» و منها: رواية محمّد بن النعمان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب؟ فقال: «لا بأس» «2»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 13، من أبواب الماء المضاف، ص 160، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 161، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 232

و منها: رواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي يستنجي به أ ينجّس ذلك ثوبه؟ قال: «لا» «1». و لا إشكال في ظهور الماء الذي استنجيت أو يستنجي به في الماء القليل، فإنّه لو كان كثيرا لعبّر بالماء الذي استنجيت فيه.

ثمّ هذه الروايات صريحة في طهارة الثوب و عدم تنجّسه بالوقوع على ماء الاستنجاء مع أنّ الغالب عدم انفكاكه عن الأجزاء الصغار، و كذا يشمل بإطلاقه ما إذا تعدّى عن المحل فاحشا، لكن غسل المتعدي في موضع آخر، و غسل المقدار الغير المتعدي بغسل آخر في موضع آخر، فيشمل إطلاق الرواية ماء الغسل

الثاني.

و كونه على خلاف المتعارف لا يوجب الانصراف إلى ما عداه، فإنّ الغلبة في الوجود الخارجي لا يصير منشأ للانصراف ما لم يكن في البين أنس الذهن، فلو قيل: يطهر القدم إذا تنجّس بالمشي، فلا ينصرف إلى ما هو المتعارف من المشي على القدمين، بل يشمل المشي على قدم واحد أيضا، مع أنّ الأوّل غالب الوجود و الثاني نادرة، و ذلك لعدم أنس الذهن من لفظ المشي بخصوص القسم الأوّل، بل كلاهما فيه على السواء.

و كيف كان: فليست الرواية بصريحة في طهارة نفس الماء، فيحتمل أن يكون متنجّسا لكن لم تؤثر ملاقاته في نجاسة الثوب كما هو القول بالعفو.

و بعبارة أخرى: يدور الأمر في ماء الاستنجاء بعد العلم بطهارة ملاقيه بين أن يكون غير منفعل بملاقاة النجاسة، و يكون هذا الموضع مستثنى من عموم

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 13، من أبواب الماء المضاف، ص 161، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 233

انفعال القليل بالملاقاة، و بين أن يكون هو باقيا تحت هذا الأصل، لكن كان هذا الموضع من حيث طهارة ملاقي هذا الماء مستثنى من قاعدة كل متنجس منجس، و تظهر الثمرة بين الوجهين في ما سوى نجاسة الملاقي من آثار النجاسة، فعلى الأوّل لا يترتب شي ء منها، و على الثاني يترتب ما سوى ذلك إن اعتبر العفو بالنسبة إلى خصوصه، و أمّا لو اعتبر بالنسبة إلى جميع الآثار من حرمة الشرب و عدم رفع الخبث و الحدث و نحو ذلك فلا ثمرة بينهما.

و إذن فيدور الأمر بين تخصيص عموم الانفعال و بين تخصيص تنجيس كل متنجس.

و يمكن استظهار الأوّل من التعليل المذكور في بعض تلك الروايات من قوله: «أ تدري لم صار

لا بأس به، لأنّ الماء أكثر من القذر» فإنّ التعليل و إن كان لا يفهم، لكن يفهم منه أنّه يكون لطهارة الماء لا لطهارة الملاقي، فإنّ أكثرية الماء من القذر إنّما يناسب في ذهن العرف مع عدم تأثّره بملاقاة القذر، لا لعدم تنجّس الثوب بعد فرض تنجس الماء، فإنّ الماء في هذا الفرض يكون كعين النجاسة، فإذا كان الماء عشرة أمنان و القذر مثقالا مثلا، فكأنّما يكون القذر عشرة أمنان و مثقالا، فلا يتفاوت الحال في نجاسة الثوب و طهارته بين كثرة الماء و قلّته بعد الفرض المزبور.

فإن قلت: يمكن استظهار الثاني بهذا التعليل بأن يكون الضمير في قوله:

«أ تدري لم صار لا بأس به» راجعا إلى الثواب لا إلى ماء الاستنجاء، كما ربما يؤيده كون المسئول عنه في صدر الرواية هو الثوب لا نفس الماء، و حينئذ فيكون معنى التعليل أنّ أكثرية الماء من القذر، يوجب الظن بملاقاة الثوب للماء دون القذر، أو عدم العلم بملاقاة القذر، و المفروض أنّ الماء و إن كان متنجسا لكنّه معفو عنه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 234

و غير منجس، فالأكثرية علّة منقحة للموضوع لهذا الحكم الشخصي، و لا يكون لنفس الحكم الكلي الشرعي من طهارة الماء أو طهارة ملاقيه، و على هذا فيخرج التعليل عن محذور الإجمال الذي كان فيه على تقدير جعله علّة للحكم الشرعي.

قلت: مضافا إلى أنّ الظاهر من الرواية كون التعليل علّة لعدم البأس من حيث كونه حكما كليا شرعيا لا لتنقيح الموضوع بالنسبة إلى عدم البأس المتعلّق بهذا الموضوع، أنّ الظاهر من الرواية كون عدم البأس معلّلا بلا واسطة بأكثرية الماء، و على التقدير يكون علّة لما هو علّة لعدم البأس، فإنّ

علّة عدم البأس بلا واسطة على هذا هو عدم العلم بوصول الثوب إلى جزء النجاسة، و علّة عدم هذا العلم أنّ الماء أكثر من القذر، فكان المناسب تعليل عدم البأس بعدم العلم، و تعليل عدم العلم بأكثرية الماء، فحيث جعل الأكثرية علّة بلا واسطة لعدم البأس علم أنّه علّة لعدم البأس الذي هو حكم شرعي، و قد عرفت أنّه لا يناسب إلّا لطهارة الماء دون طهارة الثوب.

ثمّ الظاهر من الرواية الوسطى «1»: أنّه كان بدن المستنجي ملوّثا بنجاسة المني، و إلّا لكان التقييد بقوله: و أنا جنب، أجنبيا، مثل أن يقول: و أنا طويل، و على هذا فالحكم بعدم البأس يكون على خلاف القاعدة من هذه الجهة أيضا.

______________________________

(1)- بل هذه الرواية الوسطى ممّا ينبغي عدّه من أدلّة طهارة مطلق الغسالة في تطهير الأخباث، و إن لم يذكره فيها أحد، و قد نقل الأستاذ- دام علاه- أنّه قد نبّه على ذلك أستاده الجليل السيّد محمّد الأصفهاني، ثمّ بعده المولى الجليل الشريعة الأصفهاني ظانا أنّه لم يسبقه إلى ذلك أحد، و ليس في طريق الرواية من يتكلّم فيه سوى عليّ بن الحكم، فإنّه مشترك بين الكوفي الثقة، و الأنباري، و اختلف في اتّحادهما- بناء على أنّ الأنبار اسم محلّة بالكوفة- و اختلافهما، و لكن حيث إنّ المرويّ عنه له في هذه الرواية أبان بن عثمان، و قد ذكر في رجال أبي علي أنّ الراوي عنه عليّ بن الحكم الكوفي فلا بدّ أن لا يتأمّل من جهته أيضا. لمحرّره عفي عنه و عن والديه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 235

و ربما يتمسّك للقول بالعفو بما أشار إليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في كتاب الطهارة، و حاصله: أنّ قاعدة:

كل متنجس منجس، ليست قاعدة مستقلة، بل هي راجعة إلى قاعدة كل نجس منجس.

و بيان ذلك: أنّ كيفية التأثير و الاستقذار عند العرف هو أنّ ملاقاة القذر مؤثرة في تنفر الطبع عن ملاقيه، ثمّ إذا لاقى ملاقيه شيئا آخر يتنفرون عن هذا الشي ء الثاني أيضا، و إن كان الشي ء الأوّل خاليا عن عين القذر مثلا لو مات الجعل في ماء إناء فالعرف يتنفر و يستقذر من هذا الماء، و لو ألقي الجعل من الإناء إلى خارجه ثمّ ألقي ماءه إلى ماء آخر يتنفرون من هذا الماء أيضا. و هذه الطريقة التي قد ارتكزت في ذهن العرف لم يرد من الشرع تخطئتها، فتكون قاعدة متبعة و يحمل تنجيس القذرات الشرعية أيضا عليها، فإنّ كيفية التأثير في التنجيس لم يرد في الشرع، و إنّما أعلم الشرع قذارة ما لا يدرك العرف لو لا إعلام الشرع قذارته كالطفل الأمرد اليهودي.

فإذا علم العرف انّ الشي ء الفلاني قذر عند الشارع يعلم أنّ تأثيره في الاستقذار على نحو ما هو قذر عنده، فكما أنّ القذارات عنده يؤثر في تنجيس الملاقي بلا واسطة، و كذلك يؤثر في الملاقي للملاقي أيضا، فكذا القذارات الشرعيّة، و في الحقيقة يكون الاستقذار في الملاقي المتأخر بالغا ما بلغ مستندا إلى ملاقاة القذر في الأوّل، و يكون هذا الاستقذار استقذارا منه لا أن يكون الملاقي مؤثرا في ذلك و مستقذرا منه ذاتا.

فعلم من ذلك أنّ تنجيس المتنجس يكون من باب تنجيس النجس، و لهذا قد حملنا كلمة الشي ء في قوله «لا ينجسه شي ء» على خصوص أعيان النجاسات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 236

دون المتنجسات أو الأعم، فلهذا حملنا قوله: إلّا أن تغير إلخ على التغيّر بأوصاف

النجس، و مع ذلك قلنا: إنّ المتنجس أيضا منجس و أنّه مستفاد من قوله: ينجسه النجس، فإنّ تنجيس النجس طريقه موكول إلى العرف، و عنده يكون ساريا إلى ملاقي الملاقي فصاعدا، فكذا عند الشرع.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ القاعدة المتحقّقة في المقام هي أنّ كلّ نجس منجّس لا كلّ متنجس نجس، و إن كان الثاني مشمولا للأوّل و من أفراده.

و حينئذ فنقول: إنّه بعد أنّ الثوب مقطوع الطهارة و الماء مشكوك التنجس في المقام نقطع بأنّ هذه القاعدة قد ورد عليها التخصيص بأحد الفردين من الماء أو الثوب، فإنّ مقتضاها أن يكون الماء نجسا بسبب ملاقاة عين القذر، و أن يكون الثوب أيضا نجسا بسبب ملاقاة الماء الملاقي للقذر.

و لا بدّ في المقام إمّا من القول بأنّه مخصص بالنسبة إلى الماء، و حينئذ لا يكون الثوب خارجا و إن كان له نتيجة الخروج و هو الطهارة، لكن بعد الحكم بطهارة الماء يخرج الثوب من أفراد القاعدة، لعدم كونه ملاقيا للنجس، بل للطاهر، فيكون تخصصا لا تخصيصا، و إمّا من القول بكونه مخصصا بالنسبة إلى الثوب دون الماء يعني أنّه شامل للماء دون الثوب.

و بعبارة أخرى لا بدّ إمّا من تخصيص هذه القاعدة باعتبار اشتمالها على تنجيس عين النجس، و إمّا من تخصيصها باعتبار جزئها الآخر، أعني: تنجيس المتنجس، فتكون القاعدة ساقطة بالنسبة إلى كلا الفردين، نظير ما لو علم بعد ورود: أكرم العلماء و أهن الفساق بأنّه إمّا لا يجب إكرام زيد الذي من العلماء، أو لا يجب إهانة عمرو الذي من الفساق، حيث تسقط أصالة العموم في كلا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 237

العمومين عن الحجية بالنسبة إلى الفردين، فبعد سقوط القاعدة

بذلك يرجع إلى عموم آخر في المقام و هو أخص من هذه القاعدة و هو عمومات الانفعال المختصة بباب المياه، و من المعلوم عدم التعارض بينها و بين أخبار عدم البأس بماء الاستنجاء، فيكون الجمع بينهما بنجاسة الماء و كونه معفوا عن تأثيره في نجاسة الملاقي.

فإن قلت: لا إشكال في أنّ شمول القاعدة المذكورة للثوب يكون في طول شمولها للماء و مترتّبا عليه، فإنّ الثوب الملاقي للماء إنّما يكون من أفراد الملاقي للمتنجس الذي هو أحد الصنفين المندرجين تحت القاعدة إذا كان الماء متنجسا بملاقاة القذر في المحل بحكم كونه من أفراد الملاقي للنجس الذي هو الصنف الآخر.

و بالجملة: لا بدّ أوّلا من عموم هذه القاعدة للماء، و الحكم بنجاسته بمقتضى هذه القاعدة، و بعد ذلك يصير الثوب مندرجا تحت الجزء الآخر لهذه القاعدة.

و حينئذ فنقول: إنّ أصالة العموم لهذه القاعدة بالنسبة إلى الماء، جارية من الابتداء، إذ لا معارض لها في هذه المرتبة، فإنّ الثوب في هذه المرتبة ليس بفرد، و بعد شمول العموم للماء فالثوب و إن كان يصير فردا لكنّه مقطوع التخصيص، فالثوب في رتبة شمول العموم للماء غير فرد، و في رتبة بعده مقطوع التخصيص، فليست القاعدة بكلا جزئية ساقطة لا يتمسك بها في الماء و الثوب، بل يتعيّن العمل بها في الماء و تخصيصها في الثوب، هذا بناء على عدم كون تنجيس المتنجس قاعدة مستقلة دلّ عليها دليل مستقل وراء ما دلّ على تنجيس النجس.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 238

و أمّا بناء على كونها قاعدة مستقلّة مستفادة من دليل خاص، فالكلام ما تقدّم أيضا، فإنّه حينئذ يكون شمول قاعدة: كل متنجس منجس، للثوب «1» متأخرة رتبة عن شمول قاعدة:

كل نجس منجس، للماء «2»، فليست أصالة العموم في إحديهما معارضة بأصالة العموم في الأخرى، بل يعمل بها في الثانية بالنسبة إلى الماء و لا يعمل بها في الأولى بالنسبة إلى الثوب.

و حينئذ فلا وجه لما ذكرت من أنّه بعد سقوط أوسع العمومين الموجودين في المقام، و هو كلّ نجس منجس، بسبب العلم الإجمالي بتخصيصه بأحد فرديه، يكون المرجع أخصهما و هو عموم الانفعال في الماء القليل، بل يعمل بكلا العمومين في الفرد الأوّل، أعني: الماء، و يتعيّن تخصيص الأوسع في الفرد الثاني كما عرفت.

قلت: ما ذكرت من عدم جواز الأخذ بالعموم بالنسبة إلى الفرد الطولي المتأخر، في عرض الأخذ به بالنسبة إلى الفرد الطولي المتقدّم، مبنيّ على أنّ أصالة العموم في العمومات حجة بعد إحراز موضوعها و الشكّ في الحكم.

و أمّا على القول الآخر: فقد عرفت أنّه قد يحرز بأصالة العموم في العام الموضوع المشكوك و يعيّن في عنوان خاص، كما لو علم بعدم وجوب إكرام زيد و لم يعلم أنّه عالم أو جاهل، فيحكم بالثاني لأجل تحفظ عموم: أكرم العلماء عن التخصيص.

و بالجملة فعلى هذا يكون حفظ العموم عن ورود التخصيص عليه مطلقا مقتضى الأصل، سواء كان الموضوع محرزا أم لا، و على هذا فيعمل بأصالة العموم

______________________________

(1)- متعلق بالشمول. منه. رحمة اللّٰه عليه.

(2)- متعلق بالشمول. منه. رحمة اللّٰه عليه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 239

بالنسبة إلى فرد يكون فرديته معلّقة على تقدير قبل تحقق هذا التقدير و في عرضه، و حينئذ فكما يعمل بأصالة العموم في قاعدة: كل نجس منجس، بالنسبة إلى عين النجس، فيحكم بتنجس الماء، فكذا لا بدّ أن يعمل بأصالة العموم في هذه القاعدة بالنسبة إلى المتنجس الذي هو

الماء فيحكم بتنجس الثوب في عرض الأصالة الأولى، و حيث لا يمكن العمل بكليهما فكلاهما ساقطان، فانّ حفظ العموم الأوّل يكون بتخصيص العموم الثاني، و حفظ الثاني يكون بتخصّصه و تخصيص الأوّل، فإنّه لو عملنا بالأوّل و قلنا بنجاسة الماء يلزم تخصيص الثاني في الثوب فإنّه مقطوع الطهارة.

و إن عملنا بالثاني بأن قلنا: إنّ الثوب و إن كان مقطوع الطهارة لكن ليس ملاقيا للمتنجس، يعني حكمنا بطهارة الماء ليكون طهارة الثوب تخصصا لهذا العموم لا تخصيصا فيلزم التخصيص في العموم الأوّل بالنسبة إلى الماء.

و بالجملة فالفردان و إن كانا طوليين لكن أصالة العموم يلاحظ بالنسبة إليهما في عرض واحد فيلزم تساقط كليهما، فيكون المرجع العموم الأضيق.

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- من جعل عموم انفعال الماء القليل مرجعا بعد تساقط العموم الأوسع المذكور بالنسبة إلى الفردين، مبنيّ على فهم الخصوصية من أدلّة انفعال الماء القليل، بأن كان المأخوذ في موضوع تلك الأدلّة حيث المائية في قبال سائر الموضوعات من الثوب و الخشب و نحوهما، فيكون في الماء علاوة على تنجيس النجس كل شي ء، الشامل للماء خصوصية يقتضي تنجيس النجس إيّاه، إذ حينئذ يرجع بعد سقوط دليل التنجيس العام عن الحجية إلى دليل التنجيس الخاص لسلامته عن المعارض، و لكنّه خلاف التحقيق.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 240

و التحقيق أنّ هذه الأدلّة ناظرة إلى حيث الماء القليل في قبال الكر و الجاري، حيث إنّه ينجس و غيره لا ينجس.

و أمّا كيفيّة نجاسة هذا فعلى نحو سائر الأشياء، فمفاد الأدلّة بالنسبة إلى الماء القليل مفاد قاعدة: كل نجس منجس، فالكر و نحوه له موضوعيّة في عدم التنجّس، لكن القليل لا موضوعية له في التنجّس، و «خلق اللّٰه الماء

طهورا لا ينجسه شي ء»، دال على امتيازه عن سائر الأشياء في عدم التنجيس لا في التنجيس.

و الدليل على ذلك: أنّ أدلّة عدم انفعال الماء بين طائفتين:

فمنها: ما يكون مفاده مانعية الكرّية عن التنجيس، و من المعلوم أنّ هذا ناظر إلى الامتياز من جهة مانعية الكرّية، و أمّا ما دون الكرّ فليس لجهة مائيّته خصوصية في تنجسه، بل هو على نسق سائر الأشياء.

و منها: الأخبار الخاصّة المشتملة على السؤالات عن الموارد الخاصة و ليس حال هذه إلّا حال أخبار الثوب و نحوه، فكما لا تستفاد الخصوصية من الثانية فلا يعد عموم انفعال الثوب عموما وراء عموم كل نجس منجس فكذا الأولى، فلا بدّ أن لا يعد عموم انفعال الماء أيضا عموما وراء عموم كلّ نجس منجس.

و إذن فبعد التساقط يكون المرجع في الماء هو الأصل و هو الطهارة، فعلم أنّ مقتضى الأصل طهارة ماء الاستنجاء، هذا مع تأيّد هذا الأصل بما عرفت من التعليل بأكثرية ماء الاستنجاء من القذر، فإنّه و إن لم نتجاوز عن مورد التعليل و خصصناه بغسالة الاستنجاء و لم نحمله على الأكثرية المطلقة و إن لم يكن في هذا الباب حتّى يكون دليلا على قول العماني بطهارة الماء القليل مطلقا، لكنّه مع ذلك إنّما يناسب لأن يكون تعليلا لطهارة الماء لا لطهارة الثوب، لما عرفت من أنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 241

حينئذ يصير بمنزلة جعل كثرة النجاسة و قلّتها متفاوتين في طهارة الثوب و نجاسته.

فعلم أنّ القول بالطهارة كما هو المشهور يساعده القواعد مع أنّ القول الآخر بالعفو لم يعلم مراد قائله، فإن أراد العفو مطلقا و بالنسبة إلى جميع الآثار، فلا يظهر له ثمرة. و إن أراد العفو في

خصوص عدم التأثير في نجاسة الملاقي دون سائر الآثار من حرمة الشرب و عدم جواز رفع الحدث و الخبث و غير ذلك فالثمرة واضحة.

بقي هنا أمور:
الأوّل: على القول بطهارة غسالة الاستنجاء هل يجوز الوضوء و الغسل به مطلقا أو لا يجوز مطلقا، أو يفصل بين الرافع منهما و غير الرافع؟

الحق هو الأوسط، و ذلك لقوله في رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة: الماء الذي يغسل به الثوب لا تتوضأ منه، و أشباهه، فإنّ غسل الثوب من باب المثال و المقصود مطلق إزالة الخبث، فيشمل غسالة الاستنجاء، و الغسل إمّا معلوم من رجوع ضمير «و أشباهه» إلى الوضوء الذي تضمّنه قوله: لا تتوضأ، و إمّا بطريق الأولوية. ثمّ إتمام الدعوى في غير الرافع من الوضوء و الغسل يمكن بوجهين:

الأوّل: بالإطلاق فإنّ الوضوء الغير الرافع كوضوء الحائض داخل في إطلاق لفظ الوضوء، فيشمله: لا تتوضأ، و كذا الغسل.

و الثاني: أنّ أدلة تلك الوضوءات و الأغسال الغير الرافعة مصبّها هو الوضوء على نحو الوضوء المقصود به رفع الحدث من جميع الجهات من حيث الأجزاء و من حيث الشرائط، فكما لا يجوز الوضوء الرافع بماء المضاف فكذا في ما هو مصب هذه الأدلّة.

و بالجملة: معلوم من هذه الأدلّة أنّ تفاوت هذا الوضوء و هذا الغسل من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 242

الوضوء و الغسل الآخرين إنّما هو في مجرد أنّ غيرهما يرفع الحدث و هذان لا يرفعانه لأجل مانع، و ليس بينهما تفاوت في غير ذلك، بل و لو قلنا بأنّ لفظ الوضوء و الغسل مستعمل فيهما مجازا، و المقصود في هذه الموارد صورة الوضوء لا حقيقته، فيلزم أيضا الاتحاد في الأجزاء و الشرائط، فإنّ الصورة الوضوئية لا تتحقق إلّا باجتماع الجميع.

الثاني: الاستنجاء، سواء كان لغة أعم من البولي و من الغائطي، أم كان مختصا بالثاني

لا يفرق الحال في شمول الحكم بالطهارة على القول بها لكليهما، و ذلك أنّه على تقدير الاختصاص بالثاني لو كان الطهارة أيضا مخصوصة به فعند قول السائل: «فوقع ثوبي في الماء الذي استنجيت به» لزم الاستفصال من الإمام- عليه السّلام-، بأن يستفصل من السائل بأنّ

غسالة البول انصبت أيضا في هذا المحل الذي وقع الثوب فيه، أو أنّها انصبت في مكان آخر و ماء الاستنجاء في مكان آخر؟

و الحاصل: لو اختلط الماءان فالحكم النجاسة، و لو افترقا و لم يجتمعا في المكان فغسالة الاستنجاء طاهرة، فحيث حكم بالطهارة و عدم البأس بدون هذا الاستفصال كان دليلا على عموم الحكم لكلا الغسالتين، و تخصيص الحكم بصورة انفراد كل من الغسالتين في مكان تخصيص بفرد نادر، إذ الغالب اجتماع غسل الموضعين و اجتماع غسالتهما في مكان واحد.

الثالث: قد اشترط في طهارة ماء الاستنجاء على القول بها أمور:

منها: عدم التعدي الفاحش، نعم لا يضر التعدّي قليلا إلى أطراف الموضع الحاصل في الغالب بحيث لا يضر بصدق الاستنجاء، و أمّا الفاحش فمضر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 243

بصدقه، إذ لا يصدق أنّه غسل لموضع النجو بل له و للفخذ مثلا.

و منها: عدم استصحاب الماء أجزاء صغارا محسوسة من عين الغائط، و يشكل الحال في هذا الشرط، فإنّ الغالب عدم خلو الماء عن الاجزاء المرئيّة، فالتخصيص بصورة الخلو تخصيص بفرد نادر، إلّا أن يدعى أنّ الغالب في زماننا كذلك و أمّا في زمان الشارع فلا، بل كان المرسوم في تلك الأزمنة تأخير الاستنجاء عن زمان التخلّي إلى زمان الوضوء، و لا محالة يمسحون النجاسة عن المحل تحفّظا للثوب عن ملاقاتها، فكان ماء غسالتهم خاليا من الأجزاء غالبا.

و الحاصل أن نمنع الإطلاق بالنسبة إلى الصورة المذكورة، و الأصل في ذلك أنّ الحكم المعلّق على عنوان لو علم أنّه متعلق بنفسه من دون شرط، فلو علم أنّ أفراده في زمان الشارع كانت بنحو و في زماننا بنحو آخر، فالإطلاق موجود كما علم من مبغوضية الخمر، و أمّا لو علم أنّ أفراده في زمان الشارع و

في زماننا مختلفة في خصوصية و احتملنا دخل هذه الخصوصية في الحكم بأن يكون الموضوع هو العنوان مع هذه الخصوصية و كان الاستناد في عدم التقييد في اللفظ إلى وجودها في الخارج، فالإطلاق حينئذ ممنوع كما في جواز السجود على القرطاس، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

و منها: عدم التغير بأوصاف النجاسة و هذا أيضا مشكل، لغلبة حصول التغيير في الجزء الأوّل من الماء بحيث لو أخذ هذا الجزء عند انفصاله عن المحل فلا أقل من وجود رائحة الغائط فيه، فينجس الأرض إذا وقع عليها، ثمّ الأجزاء اللاحقة تنجس بوقوعها على الأرض النجسة، فيلزم نجاسة الماء أيضا في الغالب، فلا بدّ من الالتزام بأنّ هذا النحو من التغيّر غير مضر و خارج عن عموم التنجس بالتغير صونا لدليل طهارة ماء الاستنجاء عن اللغوية و الاختصاص بالفرد النادر،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 244

إلّا أن نمنع الإطلاق أيضا بالدعوى المتقدمة.

و أمّا تغيّر مجموع الماء، فلا إشكال في عدم لزوم اللغوية على تقدير إخراجها عن مدلول الرواية لعدم كونه غالبيا، فيقع التعارض بين إطلاق أدلة طهارة ماء الاستنجاء، و إطلاق أدلة تنجّس الماء بالتغير، و بين مضمونيهما عموم من وجه، لشمول الأوّل صورة عدم التغير و شمول الثاني لغير ماء الاستنجاء، و مورد التعارض ماء الاستنجاء المتغيّر، و قاعدة التعارض بالعموم من وجه هو الرجوع إلى الأظهر لو كان، و على تقدير عدمه فإلى الأصل.

و في المقام حيث لا أظهرية لشي ء من الدليلين فالمرجع أصالة طهارة الماء، و ليس المرجع بعد التساقط عموم انفعال الماء بدعوى أنّ هذا الفرد كان من الأوّل خارجا من أدلّة طهارة ماء الاستنجاء فيكون داخلا تحت عموم انفعال القليل، و ذلك

لأنّ المفروض هو العلم بأنّ مجرّد الملاقاة غير مؤثرة في ماء الاستنجاء، فعموم الانفعال بالملاقاة مخصص بالنسبة إلى هذا الماء قطعا.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ التعليل بالأكثريّة يجعل أخبار الاستنجاء أخص من أدلّة التغيّر، فإنّ المراد بالأكثرية بعد عدم إمكان حملها على العموم كما هو الظاهر من التعليل يكون الأكثرية في خصوص هذا المورد، لا أنّه يصير مجملا بين أمور، فإذا قيل: أكرم زيدا لأنّه عالم فالظاهر الأوّلي من التعليل انّ المناط لوجوب الإكرام هو العلم، و خصوصيّة زيد المستفاد من الضمير في «لأنّه» غير دخيلة، لكن لو علم أنّ هذه العلّة ليست بمتعدية عن زيد فلا يصير مجملا بل يتعيّن حمله على العلم القائم بزيد، و كذا في ما نحن فيه الظاهر الأوّلي من قوله: لأنّ الماء أكثر من القذر، أنّ أكثرية الماء بحسب الوصف سبب لعدم الانفعال و إن لم تكن قائمة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 245

بماء الاستنجاء، أمّا بعد ما علمنا بإلغاء هذه العلّة في سائر المياه القليلة فلا بدّ من أن نحملها على الأكثرية القائمة بماء الاستنجاء، لا أنّه يصير حينئذ مجملا. نعم يرد حينئذ أنّ فائدة التعليل حينئذ ما ذا؟

و يمكن الجواب بأنّ فائدته بتقريب الحكم إلى ذهن السائل، فإنّه ربما يستبعد الحكم بالطهارة في ماء الاستنجاء و بعد تنبّهه على غلبة وصف الماء يرتفع استبعاده، إلى غير ذلك من المصالح.

فحينئذ فمورد الأخبار يصير بواسطة هذا التعليل الذي هو بمنزلة التقييد مختصا بماء الاستنجاء الغير المتغير، فتبقى أدلّة التغير في الفرد المتغير سليمة عن المعارض، و إن أبيت إلّا عن إجمال التعليل المذكور يمكن التمسّك على النجاسة في صورة التغير بالإجماع، فإنّ الإجماع واقع على أنّ التغير موجب

لنجاسة الماء من غير فرق بين ماء الاستنجاء و غيره، خرج منه ما إذا تغير الجزء الأوّل من ماء الاستنجاء، و أمّا ما إذا تغيّر جميعه فداخل في معقد الإجماع.

الرابع: على القول بطهارة ماء الاستنجاء، هل يخص ذلك بما إذا كان خروج البول أو الغائط من المخرج الطبيعي المتعارف في غالب الناس، أو يشمل الخارج من غير الطبيعي أيضا مطلقا

سواء كان معتادا أصليا أو عارضيا أو اتّفاقيا، أو يفصل بين المعتاد بقسميه و الاتفاقي؟ قد يقال: بأنّ الأدلّة مطلقة شاملة لجميع الأقسام حتّى الاتّفاقي، فإنّ غسل موضع النجو شامل لما إذا حدث بالرمح ثقب في البدن و خرج منه الغائط مثلا، و دعوى الانصراف لو تمت لم يدخل المعتاد من غير الطبيعي في الإطلاق أيضا، فإنّ الانصراف على تقدير تسليمه ثابت في خصوص الطبيعي، و الحقّ هو القول بالتفصيل بين المعتاد و إن كان عارضيا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 246

لا خلقيّا أصليا و بين الاتّفاقي.

و الدليل على ذلك: أنّ دليل الاستنجاء عام لكلّ شخص فهو في قوّة أن يقال: غسالة مواضع نجوكم طاهرة، فكلّ مكلّف مخاطب به مستقلا و كما أنّ الأفراد التي موضع النجو فيها هو الموضع المعتاد لغالب الناس إذا قيل لهم غسالة موضع نجوكم طاهرة، لا يفهم من هذا إلّا ما يخرج عن الموضع المعهود و هو منصرف عمّا لو خرج النجو عن موضع الجرح اتّفاقا، إذ لا يصدق عليه أنه موضع نجو هذا الشخص بالإضافة إليه و إن صدق أنّه موضع النجو بدون الإضافة، فكذا نقول في حقّ الأشخاص الذين جرت عادتهم بخروج النجو عن غير الموضع الطبيعي بالأصل أو بالعارض، فلا يصحّ إطلاق موضع نجوك خطابا إلى هؤلاء إلّا على ما جرت عادتهم على الخروج منه دون غيره.

و هذا نظير الدقة التي صدرت من رئيس أهل الدقة أستاذ الكلّ في الكلّ الميرزا محمّد حسن الشيرازي- أعلى اللّٰه

مقامه- في مسألة الوضوء حيث ذكر الأصحاب- قدس اللّٰه أرواحهم- في حدّ ما يغسل من الوجه بأنّه ما بين الإبهام و الوسطى إذا وضعا على طرفي الوجه عرضا، و عينوا لذلك ميزانا حتى يرجع صغير اليد أو الوجه أو كبيرهما إليه و هو أوسط الناس، و عدل عن ذلك هو- قدّس سرّه- و جعل الميزان في كلّ شخص ما يناسبه، فالشخص الصغير الوجه و اليد بحيث ناسب صغير يده صغر وجهه لا بدّ أن يرجع بمقتضى كلامهم إلى أوسط الناس و لا يرجع إلى غيره بمقتضى كلامه، و وجهه أيضا هو أنّ الخطاب بغسل الوجه بما بين الإصبعين متوجه إلى كلّ أحد.

فحال هذا الخطاب إذا توجه إلى من خرج وجهه و يده عن المعتاد في الصغر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 247

و حاله إذا توجه إلى من خرج عضواه عن المتعارف في الكبر على السواء، فالأوّل مكلّف بالغسل بيده على ما هي عليه من الصغر، و الثاني أيضا بالغسل بيده بما هي عليه من الكبر من دون رجوع أحدهما إلى غيره.

فالخطاب إذا توجّه إلى كلّ شخص فهو ينصرف إلى ما يناسب وجه هذا الشخص دون غيره، و من المعلوم اختلاف الأشخاص في ذلك، و كذا في ما نحن فيه ليس المنصرف من النص أمرا واحدا، بل هو مختلف بالنسبة إلى الأشخاص فموضع النجو لكل أحد ينصرف إلى ما هو معتاد به و إن كان مخالفا لما اعتاد به الغالب، فكأنّه قيل لكل أحد: غسالة موضع نجوك أو بولك طاهرة.

و الحاصل: أنّ موضع النجو إذا أضيف إلى كلّ أحد ينصرف إلى معتاد هذا الأحد أيّا ما كان، و مجرد الاتّفاق لا يصحح الإضافة، و أمّا

بدون الإضافة فيصح الإطلاق على المعتاد و غيره، لكن لما يكون الخطاب إلى كل واحد واحد فهذا ملازم للإضافة، و ليس هذا من باب الاستعمال في الأكثر من معنى واحد، فانّ اللفظ مستعمل في معنى واحد، و مصاديق هذا المعنى الواحد تختلف بالإضافة إلى الأشخاص، فخطاب: لا بأس بما يستنجى به الرجل، يعني يغسل به موضع نجوه مستعمل في معنى واحد عام، لكن في مورد زيد ينصرف إلى موضع و في مورد عمرو إلى موضع آخر و في مورد ثالث إلى ثالث، فهذا نظير الحكم بناقضية البول أو الغائط للوضوء، فإنّه لو قيل: الخارج من أحد السبيلين ناقض للوضوء، ينصرف إلى الفرد المتعارف منهما، و أمّا لو قيل: الخارج من أحد سبيلي كل أحد ناقض لوضوئه فلا شكّ في أنّه يشمل المعتاد في حقّ كل أحد، و نظيره أيضا لو قيل:

البستان حكمه كذا، فإن كان هناك فرد كامل جيّد ربما كان هذا اللفظ منصرفا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 248

إليه، و هذا بخلاف ما لو قيل: يجب على كلّ أحد أن يخرج خراج بستانه، فانّ هذا لا إشكال في شموله لكلّ بستان حتّى ما كان أردى أفراد البساتين، فإنّ بستان صاحبه ليس إلّا هذا الأردى.

[حكم الشك في ماء أنه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات]

قوله- دام ظله-: «مسألة 7: إذا شكّ في ماء أنّه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات، يحكم عليه بالطهارة و إن كان الأحوط الاجتناب».

تفصيل الكلام: أمّا على القول بطهارة ماء الاستنجاء و نجاسة سائر الغسلات فلا يجوز التمسّك على النجاسة بعمومات انفعال الماء القليل بتقريب أنّه قد ثبت بالعمومات أنّ كل ماء قليل لاقى نجسا ينجس، خرج من هذا العموم ماء الاستنجاء، فالفرد المشكوك كونه غسالة استنجاء أو غسالة

نجس آخر، يعلم بدخوله في العموم و يشك في خروجه للشك في كونه من أفراد المخصص، أعني: ماء الاستنجاء، فيكون المرجع فيه أصالة العموم.

و وجه عدم الجواز أنّ هذه الشبهة مصداقيّة و لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة على ما هو المشهور، و قد حقّق ذلك في الأصول، فلا محالة يكون المرجع هو الأصل العملي، و هو استصحاب الطهارة في هذا الماء لو كان قبل الملاقاة مقطوع الطهارة فيشك في أنّه صار بسبب الملاقاة متنجسا أم لا بواسطة الشكّ في كون ملاقاة هو النجس الغائطي حتى لا يؤثر ملاقاته في النجاسة، أو غيره حتّى يكون متنجسا بملاقاته، فيستصحب طهارته السابقة المعلومة.

و لا يشكل بأنه إن كان في الواقع غسالة الاستنجاء فطاهر قطعا، و إن كان غسالة أخرى فنجس قطعا، إذ مثل ذلك موجود في كل استصحاب مثل ما لو شكّ في أصل ملاقاة الماء مع النجس الغير الغائطي، فإنّ الملاقاة لو كانت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 249

حاصلة واقعا فالنجاسة معلومة و إلّا فالطهارة متيقنة، و أمّا لو لم يكن مسبوقا بالطهارة المتيقنة كما لو كان قبل استعماله في إزالة الخبث محرز الطهارة بأصلها، فالمرجع هو أصل الطهارة كما في السابق، لعدم حصول غايته و هو العلم بالنجاسة، هذا بناء على القول بالطهارة في ماء الاستنجاء.

و أمّا على العفو فله احتمالات أربعة:

أحدها: أن يكون العفو حكمة للحكم بالطهارة، و هذا هو عين القول بالطهارة مع زيادة جعل الحكمة في جعلها هو العفو، فالكلام فيه هو الكلام هناك.

و ثانيها: العفو المطلق بالنسبة إلى جميع الآثار المترتبة على موضوع النجس من تنجيس الملاقي، و حرمة تلوث المسجد به، و وجوب إزالته عنه، و حرمة شربه،

و كون حمله في الصلاة مبطلا لها، لا بالنسبة إلى ما يترتب على موضوع الطاهر، مثل إزالة الحدث و الخبث، فإنّها مشروطة بالطهارة، و هذا الماء نجس بالفرض.

و ثالثها: العفو المطلق حتّى بالنسبة إلى آثار الطاهر فلا يترتب عليه آثار النجس و يترتب عليه آثار الطاهر إلّا أنّه نجس.

و رابعها: العفو عن خصوص تأثيره في نجاسة الملاقي مع بقاء سائر الآثار.

فعلى هذه الوجوه الثلاثة استصحاب الطهارة و قاعدتها في نفس الماء غير جاريتين لفرض العلم بأصل النجاسة على كلّ تقدير.

فيبقى الكلام في الآثار، فعلى الوجه الأخير لا كلام في الآثار الأخر ممّا سوى تنجيس الملاقي لتيقّنها على كلّ تقدير أيضا، و أمّا بالنسبة إليه فيرجع فيه إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 250

استصحاب الطهارة في نفس الملاقي- بالكسر- مع إمكانه في الملاقي- بالفتح- أيضا، بأن يقال: إنّ هذا الماء لم يكن قبل الاستعمال منجسا لملاقيه و شكّ فيه بعد الاستعمال فيستصحب حالته السابقة، و لا يشكل بأنّه في السابق كان طاهرا و الآن صار نجسا بالفرض، فالموضوع قد تعدّد فانّ الموضوع متحد عرفا، و إنّما انقلب من حالة إلى حالة، و لو كان مثل ذلك مضرا باتحاد الموضوع لزم سدّ باب الاستصحاب رأسا، إذ لا ينفكّ عن مثل هذه الاختلافات في الموضوع، كيف و لو لم يحدث فيه اختلاف أصلا و من جهة من الجهات، فلا يعقل الشكّ في حكمه.

و أمّا الكلام بالنسبة إلى الآثار الأخر على تقدير عموم العفو لها كما على الوجهين المتوسطين، فالحال فيها أيضا هو الحال في الأثر المذكور فيجري الاستصحاب فيها أيضا لتيقنها سابقا على الاستعمال.

نعم لو قلنا بأنّ مثل هذا الاختلاف، أعني: خروج الماء من حالة الطهارة إلى

حالة النجاسة مضر بوحدة الموضوع، يلزم التفكيك في الآثار بحسب الأصل، فيكون ملاقيه طاهرا- كما ذكرنا- للأصل في نفس الملاقي- بالكسر- و يجوز شربه لأصالة البراءة عن حرمته.

و أمّا حمله في الصلاة قبل جفافه، فمحل الإشكال فيه من جهتين: الأولى:

من جهة نجاسة الثوب بملاقاته، و يشترط في الصلاة طهارته، و قد فرغنا من هذه الجهة و قلنا بطهارته بحسب الأصل.

و الأخرى: من جهة نفس الرطوبة النجسة، فيحتمل كونها نجسة غير معفو عنها فيكون حملها مبطلا للصلاة، فالكلام من هذه الجهة مبتن على الخلاف في الشبهة المصداقية الماهوتية، فإن قلنا فيها بالاشتغال نقول به هنا أيضا، و تقريبه في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 251

المقامين أن يقال: إنّ المكلّف به مفهوم متبيّن، و إنّما الشكّ في تطبيق هذا المفهوم المتبيّن على المأتي به، فالأمر متعلق بالصلاة في غير الجزء من الغير المأكول و يشكّ في انطباق هذا المفهوم على الصلاة في الماهوت.

و كذا الأمر متوجه بالصلاة الخالية عن حمل النجس الغير المعفو و يشك في انطباق هذا العنوان على الصلاة مع وجود مثل الرطوبة المذكورة على البدن أو اللباس، فيحكم في الصورتين بالبطلان، فيلزم التفكيك في الموضوع المشكوك من الغسالتين بحسب الآثار، فحمله في الصلاة مبطل، و يجوز شربه و لا ينجس ملاقيه مع عدم تفكيكها في المعلوم منهما، فإمّا يحكم بإبطال الحمل و حرمة الشرب و نجاسة الملاقي، و إمّا يحكم بجواز الحمل و إباحة الشرب و طهارة الملاقي، و إن قلنا هناك بالبراءة نقول بها في المقام أيضا، فلا يلزم حينئذ تفكيك بالنسبة إلى الآثار المذكورة.

[في حكم الشك في وصول النجاسة من الخارج أو مع الغائط]

قوله- دام ظلّه-: «مسألة 9: إذا شكّ في وصول نجاسة من الخارج أو مع الغائط يبنى على

العدم».

لا بدّ أوّلا من التكلّم في أصل اشتراط عدم وصول النجاسة الخارجية في طهارة ماء الاستنجاء، ثمّ الكلام في مورد شكّه لعدم سبق الكلام فيه في ما تقدّم.

فنقول: مبنى الاشتراط يكون واحدا من أمرين: الأوّل: منع الإطلاق و أنّه يقتصر في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين، مع تسليم أنّ وصول النجاسة الخارجية غير مضرّ بصدق اسم الاستنجاء و إن كان ذلك مخدوشا بأنّ الأخذ بالمتيقن لا يصحّ مع وجود الإطلاق كما هو الواقع، إذ مع صدق الموضوع و بقاء الاسم كما هو المفروض يتعين الرجوع إلى الإطلاق.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 252

و الثاني: انّ ذلك مضر ببقاء الاسم فلا يصدق أنّه ماء غسل به الغائط، بل هو ماء غسل به الغائط مع نجس آخر.

و كيف كان فإن قلنا بالأوّل فالمرجع عند الشك في الوصول هو استصحاب عدمه، فإنّ الموضوع على هذا مركّب من أمرين: ماء الاستنجاء و عدم وصول نجاسة أخرى، و أحد الجزءين محرز بالوجدان، و الثاني محرز بالأصل، و ليس هذا الأصل مثبتا، إذ العرف لا يفهم في أمثال المقام كون الموضوع هو الهيئة البسيطة التقييدية الحاصلة بعد حصول الجزءين، بل يفهم أنّه شيئان متعددان منضمّان كما في «الكرّ الطاهر مطهر» فيفهم أنّ الكرّية و الطهارة إذا اجتمعتا في الماء يصير موضوعا للمطهرية، فلهذا لو كان واحدة منهما معلومة و الأخرى مشكوكة أو كلتاهما مشكوكة يحرز بالأصل في المشكوكة موضوع الكرّ الطاهر.

و بالجملة: فالموضوع في المقام مركّب من أمرين: أحدهما أمر حادث وجودي، و الآخر عدمي، فإذا شكّ في الثاني بأن احتمل حدوث النجاسة الأخرى مقارنا لحدوث موضوع الاستنجاء، فالأصل يقتضي عدم حدوثه.

و إن قلنا بالثاني، فلا مجرى حينئذ للأصل الموضوعي،

إذ الشك واقع في أنّه هل حدث النجاسة الخارجة حتى لا يكون موضوع الاستنجاء متحققا، أو لم يحدث حتى يكون متحققا، فلا يمكن إثبات تحقّق الموضوع بأصالة عدم الحدوث إلّا على حجية الأصل المثبت، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الحكمي و هو استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 253

[القسم السادس في الماء المشكوك نجاسته]
اشارة

فصل «الماء المشكوك نجاسته طاهر إلّا مع العلم بنجاسته سابقا و المشكوك إطلاقه لا يجرى عليه حكم المطلق إلّا مع سبق إطلاقه، و المشكوك إباحته محكوم بالإباحة إلّا مع سبق ملكيّة الغير، أو كونه في يد الغير المحتمل كونه له».

و الفرق أنّ في باب الطهارة و النجاسة لنا أصل على الطهارة فعند العلم بالطهارة السابقة نستصحب الطهارة، و مع العلم بالنجاسة السابقة نستصحب النجاسة، و مع عدم العلم بالسابق محكوم بالطهارة بقاعدتها.

و أمّا المشكوك الإطلاق و الإضافة، فإن كانت إحداهما معلومة في السابق نستصحب فإنّه موضوع له أثر شرعي، فالماء المطلق يحرز أحد جزئية بالوجدان و الآخر، أعني الإطلاق بالأصل. و كذا الماء المضاف، و ليس هنا أصل يقتضي ثبوت إحدى الحالتين عند عدم العلم بالسابق، فبحسب الشرب مقتضى البراءة إباحته لو كان مرددا بين المطلق و المضاف المحرّم شربه كماء الطين، و من حيث إزالة الخبث مقتضى الاستصحاب بقاء الخبث، و من حيث رفع الحدث مقتضى الاستصحاب بقائه أيضا إن كان المكلّف عالما بسبق الحدث، و لو لم يكن عالما بسبقه فمقتضى الاشتغال عدم أجزاء الوضوء بهذا المائع و عدم إجزاء الصلاة بهذا الوضوء.

و هذا كلّه واضح إنّما الكلام في المشكوك إباحته و غصبيته، و الكلام فيه في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 254

مقامين:

الأوّل: في أنّ الأصل الجاري هنا في

إحراز الإباحة ليس على حذو الأصل الجاري في السابقين لإحراز الطهارة أو الإطلاق.

و الثاني: أنّ الأصل الإباحة المستفادة من قوله: كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم الحرام، هل هي جارية في الشبهات الموضوعية في الأموال أو لا.

أمّا الأوّل: فنقول: القيدان السابقان، أعني الطهارة و الإطلاق، قيدان شرعيان فإذا أحرزا بالأصل كان المحرز بالأصل هو القيد الشرعي للموضوع الشرعي، و أمّا الإباحة فليست شرطا شرعيا، بل هي شرط عقلي، و ذلك لما قرر في الأصول في مبحث اجتماع الأمر و النهي من أنّه لا تعارض بين مدلولي الدليلين و ليس أحدهما تقييدا للآخر، بل نقطع بوجود كلا الملاكين. و إنّما الكلام في أمر عقلي و هو إمكان جمع الأمر مع الحرمة الفعلية في موضوع واحد، يعني يلزم من إبقائهما ذلك أو لا يلزم، فإن قلنا بالأوّل فيجب تقييد الأمر بحكم العقل فهذا تقييد عقلي لا شرعي.

و تظهر الثمرة في أنّه بعد جريان الأصل لو انكشف كون الماء نجسا أو مضافا يحكم ببطلان الوضوء و الصلاة، و لكن لو تبيّن بعد إجراء الأصل لإحراز الإباحة كون الماء مغصوبا يحكم بالصحة، و وجه ذلك أنّ المانع الواقعي لوجود الأمر هو النهي المنجّز الموجب للعقاب على المخالفة بوصف كونه كذلك لا مجرد وجوده واقعا، و إن لم يكن بهذا الوصف فإنّ جهة المنع امتناع تحقّق القرب من قبل فعل يوجب الدخول في العذاب، فلو تجرد الفعل من وصف سببيّته للبعد و العقاب بواسطة الأصل المقتضي للإباحة ظاهرا فلا مانع من الأمر واقعا، إذ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 255

الفرض عدم نقصان من جهة الأمر، فبالأصل يحرز عدم المانع من مجي ء الأمر واقعا، فيتحقق الأمر قهرا لكونه مقتضيا بلا

مانع واقعا و إن فرض وجود النهي واقعا و كون الأصل على خلاف الواقع، و هذا بخلاف الأصل الجاري في المقامين السابقين فعند تبيّن خطائه انكشف كون المأتي به فاقدا للشرط الشرعي واقعا فيحكم بعدم اجزائه.

أمّا المقام الثاني: فالحق عدم جريان أصل الإباحة في باب الشبهة في الأموال كما في الفروج و الأعراض و النفوس كما يجري في أبواب أخر، فلو شكّ أنّ المرأة المعلومة زوجته أو أجنبيّة، فليس له وطيها إلّا بعد إحراز زوجيتها و ليس له قبل ذلك وطئها بإجراء أصالة الحلية في الشي ء المشكوك كما يجريه في ما لو شكّ أنّ المائع خمر أو ماء فيحل له شربه بهذا الأصل، و لا يلزم إحراز مائيته أو عدم خمريته، و كذلك لو شكّ في أنّ الرجل المعلوم محقون الدم أو مهدورة فليس له قتله إلّا بعد إحراز الثاني، و كذا لو تردد المرئي من بعيد أنّه إنسان أو ذئب مثلا.

و كذلك لو شكّ في مال أنّه مال نفسه أو مال غيره أو قطع بكونه مال الغير لكن شكّ في أنّ هذا الغير راض بتصرفه في ماله أو لا، فليس له في شي ء من الصورتين التصرّف في المشكوك إلّا بعد إحراز ماليته لنفسه أو إحراز إذن مالكه و طيب نفسه، و ليس ذلك لأجل اشتراط حلّ مال الغير بطيب نفسه في قوله: لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه و طيب النفس لا يحصل إلّا بإحرازه- فإن العلم به متوقف على إحرازه و لا يحتاج إليه، إذ مع العلم به لا كلام و مع عدم العلم به و بعدمه فهذا من قبيل المائع المشكوك الخمرية، فيحتمل أن يكون مالا للغير الحاصل فيه الطيب ليكون

حلالا، و يحتمل كونه مال الغير الغير الحاصل فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 256

الطيب حتى يكون حراما، فالأصل يقتضي حليّته- و إنّما ذلك لأجل أنّ الحلية المنفية في قوله: لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه، أعم منه الواقعيّة و الظاهرية فيكون مفاده حصر سبب الحل ظاهرا و واقعا في طيب النفس، فلو كان في حال الشك حلالا لزم حلّيته في مرحلة الظاهر لا بسبب الطيب، بل بسبب الشكّ فانّ الطيب ليس معلوما عند الشاكّ فليس في يد الشاكّ إلّا الشكّ دون الطيب فجعل الحلّية في حقّه مناف للحصر المذكور.

و الفرق بين مال الغير على هذا المعنى للحديث و بين الخمر: أنّ الحرمة في الخمر متعلّق بنفس واقع الخمر، و الحلّية مجعولة في الخمر المشكوك بعنوان كونه مشكوكا، فلا تنافي بينهما، و دليل الحرمة في مال الغير لا يخصصها بنفس واقعة، بل يعمّ مرحلة الظاهر أيضا فهو في مرحلة الظاهر و الواقع حرام و ليس في عالم خاليا عن الحرمة حتّى يجعل الحلّية فيه في هذا العالم.

فإن قلت: إنّ ما ذكرت إنّما يتم في ما إذا أحرز كون المال مالا للغير و شكّ في طيب نفسه، لا في ما إذا شكّ في كونه مال نفسه أو مال غيره، فانّ موضوع عدم الحلّية في العموم المذكور عنوان «مال امرء» فلا يجوز التمسّك بعموم الحكم قبل إحراز الموضوع، لما تقرّر في الأصول من عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

قلت: ليس ما نحن بصدده من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة فإنّا لا نريد إثبات الحرمة في الموضوع المشكوك بعموم هذا الخبر حتّى يرد ما ذكر، بل نقول: إنّ دليل جعل الحلّية في موضع الشك

من قوله: «كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال» لا يمكن أن يشمل المقام بعد عموم الحلّية المنفيّة في هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 257

الحديث للظاهرية و الواقعية.

بيانه أنّ مدلول هذا الدليل أنّ الموضوع الذي يشك فيه أنّه داخل في العنوان المحرّم أو في العنوان المحلّل، فهو لك حلال يعني بأيّ تقدير سواء كان في الواقع من أفراد المحرم أو من أفراد المحلّل، فالمائع الذي يحتمل كونه خمرا مفاد أصالة الحلية فيه أنّه حلال و إن كان في الواقع خمرا، فلو كان واقعا خمرا، فالشارع رفع اليد عن تحريم هذا الفرد من الخمر و جعله حلالا للشاك.

فنقول: هذا المعنى لا يمكن جريانه في المقام، فانّ جريانه متوقّف على كون المورد على كل تقدير و من أفراد أيّ المحتملين كان، كان قابلا لجعل الحلّية، و قد فرضنا أنّ المشكوك كونه من مال الغير الغير الحاصل فيه الطيب على تقدير أن يكون واقعا من أفراد مال الغير فسبب حلّيته أعم من الظاهرية و الواقعية منحصر في الطيب، و لا إشكال أنّ هذا مناف لما هو مدلول لدليل جعل الحلّية من أنّه حلال سواء كان واقعا من أفراد مال الغير أم لا، إذ على هذا يلزم صيرورة مال الغير حلالا بالحلّية الظاهرية بسبب الشكّ، و قد كان مفاد الحديث انحصار سبب مطلق حليته في الطيب.

و بالجملة: هذا الحديث ناظر إلى مدلول تلك القاعدة و له حكومة عليها هذا هو الكلام في البراءة الشرعية من قوله: رفع ما لا يعلمون، و كلّ شي ء لك حلال، و كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه النهي.

و أمّا البراءة العقلية فلا مجرى لها في مثل باب الأموال و الأعراض

و النفوس و الفروج ممّا علم عظمة أمره و شدّة الاهتمام به في نظر الشارع، فانّ الضرر المحتمل ليس له في مثل ذلك مؤمن تطمئن به النفس، فيجب دفعه بحكم العقل و لو فرض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 258

عدم وجود الحديث المذكور، و هذا بخلاف البراءة الشرعية فإنّ المقام و إن كان ممّا يشتد اهتمام الشارع به و يكون عظيما عنده إلى الغاية، لكن إذا ورد من الشارع الترخيص فيه يجوز عمله و ارتكابه بلا إشكال، فعلم أنّه لو لم يكن الحديث بالمعنى الذي ذكرنا في البين، و إن كان لم يكن مجرى للبراءة العقلية في المقام و أمثاله، إلّا أنّه كان البراءة الشرعية فيه مجرى بلا كلام، و بعد حكومة الحديث بالبيان المذكور تكون البراءة الشرعية أيضا ساقطة، اللّٰهمّ إلّا أن يدّعى أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الحديث، بل الظاهر من قوله: لا يحل، هو الحلّية الواقعية، و على هذا يصير حال مال الغير حال الخمر في كون مشكوكه مجرى لقاعدة الحلّية و البراءة الشرعية بمعنى عدم المانع من جريانها من هذه الجهة.

لا يقال: في ما إذا قطع بكون المال للغير و شكّ في طيب نفس هذا الغير بالتصرف بعد العلم به سابقا لا إشكال في رفع هذا الشكّ في الزمان اللاحق باستصحاب الطيب الحاصل في الزمان السابق، فيلزم حصول الإباحة بواسطة الشكّ و بغير سبب الطيب، و هذا مناف لما ذكرت من استفادة حصر سبب الحلّية الأعم من الظاهرية و الواقعية في الطيب من الحديث.

لأنّا نقول: هذا أصل موضوعي يحرز به موضوع الطيب و هو حاكم على مفاد الحديث، و مثله أيضا استصحاب الملكية في ما لو شكّ انتقال المال من

المالك الذي أجاز التصرف إلى غيره و نظيره الأمارة القائمة على كون المال ملكا لمن يعلم برضاه مثل ثبوت يد هذا الشخص على المال المشكوك، إذ بهذه الأمارة يثبت كونه مالا لهذا الغير، و المفروض إحراز طيبه.

و بالجملة: فكل موضع أريد إجراء الأصل في نفس الإباحة من دون أن يرجع إلى أصل موضوعي، و بعبارة أخرى قصد إثبات حكم الإباحة بنفس الشكّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 259

من دون إحراز طيب نفس المالك إمّا بالوجدان أو بالأصل، فهذا ينفيه مفاد الحديث على ما قرّرنا، من غير فرق بين صورة كون الشبهة في تحقّق طيب النفس مع معلوميّة كونه مال الغير، و بين صورة كون الشبهة في كونه مالا لنفسه أو لغيره.

اللّٰهمّ إلّا أن يدّعى أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الحديث، بل الظاهر من قوله: «لا يحل» نفي الحلّية الواقعيّة و جنس الحليّة إذا نفيت نفي جميع أفرادها و ينافي مع ثبوت فرد يصدق عليه هذا الجنس.

[في حكم الماء المشتبه أو المغصوب في محصور]

مسألة 1: «إذا اشتبه نجس أو مغصوب في محصور كإناء في عشرة يجب الاجتناب عن الجميع و إن اشتبه في غير المحصور كواحد في ألف مثلا لا يجب الاجتناب عن شي ء منه».

المناط في الشبهة المحصورة اشتباه القليل في القليل كالواحد في الاثنين أو الثلاثة أو اشتباه العدد الكثير في الكثير كالمائة في الألف، أو الألف في عشرة آلاف فإنّهما مثل الواحد في العشرة، ففي صورة اشتباه المغصوب في انائين لا يجوز التوضي بشي ء منهما و لا غيره من التصرّفات و إن فرض أنّه على تقدير عدم العلم الإجمالي و كون الشبهة بدوية كان كلاهما جائز الاستعمال، إمّا لكونهما مجرى لأصل الإباحة لو قلنا بجريانه في الشبهة الموضوعية في

الأموال، أو لكونهما تحت يد من أجاز استعمالهما لكون يده حينئذ أمارة على ملكيته، لكن إذا حصل العلم الإجمالي سقط هذا الأصل و هذه الأمارة عن الحجية.

و أمّا صورة اشتباه الماء النجس في المحصور فلا يجوز التوضّؤ و الاستعمال المشروط بالطهارة بشي ء منهما أيضا بناء على القول بأنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّز للتكليف، فلا يجوز المخالفة القطعية بحكم العقل، و المخالفة الاحتمالية أيضا لا يجوز، لمعارضة الأصلين في الطرفين بسبب العلم الإجمالي و تساقطهما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 260

بالمعارضة، فيبقى ترجيح أحد الطرفين بلا مرجح، فيتعيّن الاجتناب عن كليهما و هو الموافقة القطعية.

تفصيل ذلك أنّه لو كان الأصل في أحد الطرفين مثبتا للتكليف و في الآخر نافيا له بأن يكون في أحدهما استصحاب النجاسة و في الآخر استصحاب الطهارة أو قاعدتها ينحل العلم الإجمالي فتعيّن النجس في الأوّل و الطاهر في الثاني، و كذا ينحل لو قامت أمارة كالبيّنة على أحد الطرفين بالطهارة أو النجاسة.

و وجه ذلك أنّ طهارة أحد الإناءين ملزوم لنجاسة الآخر بمقتضى العلم الإجمالي، و كذا نجاسة أحدهما ملزوم لطهارة الآخر، و الأمارة على الملزوم أمارة على اللازم، و بعبارة أخرى إذا أخبر البيّنة بطهارة هذا الإناء مثلا فمدلوله المطابقي طهارة هذا، و مدلوله الالتزامي أنّ ذاك نجس، و كما يؤخذ بالخبر في مدلوله المطابقي، فكذا في الالتزامي، فيلزم انحلال العلم الإجمالي، و هذا بخلاف الأصل فإنّه غير متعرّض إلّا لطهارة هذا أو نجاسته و ساكت عن ذاك، و لا يوجب في الطرف الآخر أثرا و حكما لقصور الأصول عن إثبات اللوازم العقلية.

و إن كان الأصل في كلا الطرفين نافيا للتكليف، بأن كان مقتضاه في كليهما الطهارة تعارضا بملاحظة العلم

الإجمالي و تساقطا، و إن كان الأصل في أحدهما الاستصحاب و في الآخر قاعدة الطهارة و قلنا بحكومة الاستصحاب على سائر الأصول و تقدّمه عليها، لكنّه مع ذلك يكون الاستصحاب في أحد الطرفين معارضا بالقاعدة في الآخر، و ذلك لأنّ الحكومة إنّما هي في مورد واحد، يعني لو اجتمع الاستصحاب و القاعدة في مورد واحد كان الاستصحاب مقدّما، و أمّا لو كان الاستصحاب في مورد و القاعدة في مورد آخر فلا يكون الاستصحاب في ذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 261

المورد حاكما على القاعدة في هذا المورد، و ذلك لما عرفت من أنّ الاستصحاب و غيره من الأصول إذا جرى في أحد طرفي العلم الإجمالي فهو ساكت عن الطرف الآخر، إذ إثبات الحكم فيه لا يتم إلّا على حجية الأصل المثبت.

و أمّا لو كان الأصلان مثبتين للتكليف بأن يكون كلا الإناءين مستصحب النجاسة فيعمل بكليهما، إذ لا يلزم من العمل بهما مخالفة قطعية عمليّة للتكليف المعلوم إجمالا، و المخالفة الالتزامية غير مضرة، ففي ما إذا كان أمارة على أحد الطرفين أو كان الأصلان مثبتين للتكليف أو أحدهما مثبتا له و الآخر نافيا فلا كلام، و أمّا إن كان كلاهما نافيين للتكليف فلا يجوز استعمالهما في غير الوضوء ممّا يشترط فيه الطهارة، و أمّا الاستعمال الوضوئي بهما فيختلف باختلاف الصور فإنّ هنا ثلاث صور:

الأولى: أن لا يسع كل من الإناءين إلّا لوضوء واحد بأن كان المجموع وافيا لوضوئين فقط، ففي هذه لا يجوز استعمالهما في الوضوء، إذ المكلّف يكون بعد استعمالهما محكوما ببقاء حدثه بالاستصحاب و مبتلى بنجاسة البدن قطعا، إذ لو كان الأوّل طاهرا ارتفع حدثه به، لكن ينجس بدنه بالثاني، و إن كان

الثاني طاهرا لم يرتفع حدثه لنجاسة المحلّ حين ملاقاة الثاني و ينجس بدنه أيضا، فالنجاسة قطعية و الحدث محتمل الارتفاع و مستصحب البقاء، فلا فائدة في استعمالهما حينئذ.

الثانية: أن يسعا لأن يتوضّأ من أحدهما ثمّ يطهر مواضع الملاقاة بالآخر ثمّ يتوضّأ به، فالاستعمال على هذا النحو حيلة لتحصيل الطهارة الحدثية بهذين الماءين و لا يشكل بعدم تمشي قصد القربة حالهما، إذ حرمة الاستعمال للماء النجس ليست ذاتية، بل هي بمعنى عدم الفائدة فيمكن أن يقصد القربة بمجموع هذين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 262

الفعلين باعتبار اشتمالهما على ما يصلح لأن يتقرب به.

نعم لا يمكن قصد الوجه و كذا التميز حينئذ، و الحق عدم اعتبارهما كما قرّر في محلّه هذا بحسب الحدث.

و أمّا من حيث الخبث فلا يمكن استصحاب طهارة البدن سابقا على استعمال الماءين للعلم، بارتفاعها باستعمالهما. نعم طهارة البدن عند الفراغ من الغسلة الثانية بالماء الطاهر مقطوعة، و يشك في ارتفاعها، فإن كان الماء الطاهر هو الأوّل كان المحلّ في جميع غسلاته و بعدها طاهرا، و إن كان الثاني فهو و إن كان في الغسلة الأولى بل الثانية منه نجسا لكن بعد الفراغ منه صار طاهرا، فالقدر المعلوم هو كون المحل واجدا للطهارة بعد الفراغ من الغسلة الثانية بالماء الطاهر، و كذلك نجاسة المحلّ عند صبّ الماء الثاني في الغسلة الأولى مقطوعة، لأنّ الماء النجس إن كان الأوّل فلم تزل النجاسة في حال الغسلة الأولى بالماء الثاني، و إن كان الثاني فقد حدثت النجاسة بسبب صب الماء الثاني، فالنجاسة في حال صبّ الماء الثاني في الغسلة الأولى مقطوعة على أي حال.

فإن قلنا في الاستصحاب بعدم اشتراط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كان الاستصحابان

متعارضين و يرجع بعد تعارضهما إلى قاعدة الطهارة فيحكم بطهارة المحلّ عن الخبث، كما حكم بالطهارة عن الحدث، و أمّا إن اشترطنا فيه ذلك كما اخترناه في الأصول و إن كان ببيان آخر لازمة ذلك، فاستصحاب الطهارة فاقد لهذا الشرط، و استصحاب النجاسة واجد له، و ذلك لأنّا إذا لاحظنا زمان الشكّ في الطهارة و هو بعد الفراغ عن استعمال الماءين و رجعنا قهقرى إلى سابق هذا الزمان، فلا نجد يقينا إلى أن وصلنا إلى زمان صبّ الماء الثاني في الغسلة الأولى فهو زمان نقطع فيه بنجاسة المحلّ، و الأزمنة بعده نشك فيها في الطهارة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 263

و النجاسة، فقد اتّصل زمان الشكّ في النجاسة بزمان اليقين بها، و أمّا زمان الشكّ في الطهارة فلم يعلم اتّصاله بزمان القطع بها، إذ لو كان الماء الطاهر هو الأوّل كان متّصلا بزمان القطع بالنجاسة، و إن كان الماء الثاني كان متّصلا بزمان القطع بالطهارة، فاستصحاب الطهارة ليس جاريا، و استصحاب النجاسة جار بلا معارض.

و حينئذ فيحصل من استعمال الماءين بالنحو المذكور الطهارة من الحدث قطعا و الابتلاء بالنجاسة المستصحبة و هي أيضا كالنجاسة المقطوعة، فيصير الأمر مع انحصار الماء بهذين دائرا بين طرح الطهارة الخبثية رأسا و حفظ الطهارة الحدثية المائية، و بين طرح الثانية إلى بدلها من الطهارة التّرابية و التيمم و حفظ الأولى.

فقد يقال بتعيّن الثاني مستندا إلى أنّ الطهارة المائية الحدثيّة لها بدل و هو التيمّم، و الطهارة الخبثية بلا بدل، و إذا دار الأمر بين حفظ ذي البدل و حفظ ما لا بدل له يقدّم الثاني، لإمكان حفظ الأوّل ببدله، و هو مخدوش، فإنّ التيمّم بدل اضطراري للوضوء، و

مجرّد كون الشي ء ذا بدل عند الاضطرار لا يوجب تقدّم غيره الذي لا بدل له عليه عند الدوران، فاللازم ملاحظة أنّ الأهمّ بنظر الشارع أيّ من الطهارة المائية و الطهارة الخبثية، فمن استفاد أهميّة الثاني يتعيّن عنده التيمّم في هذه الصورة، كما أنّ من استفاد أهميّة الأولى يتعيّن عنده الوضوء بهذا النحو، و أمّا من احتاط بالوضوء المذكور و ضمّ التيمّم إليه فيمكن أن يكون نظره- في ضمّ التيمّم- إلى وجهين:

الأوّل: لمجرّد التعبّد من الشرع حيث ورد الأمر بالتيمّم في هذه الصورة بقوله: فليهريقهما و ليتيمّم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 264

و الثاني: لأنّ الوضوء يحتمل أن لا يكون عبادة، إذ يحتمل أن يكون الأهمّ بنظر الشارع حفظ البدن عن النجاسة دون الطهارة الحدثية المائية، إذ حينئذ لا يصلح الوضوء بالطريق المذكور للعبادية، لعدم كونه موافقا للقانون الشرعي.

و الصورة الثالثة: أن يتوضّأ بالأوّل ثمّ يطهّر المحل بالثاني و يتوضّأ منه ثمّ يطهّر المحل بالماء الأوّل ثالثا، فالطهارة الحدثية قد حصلت بلا كلام، و أمّا من حيث النجاسة فقد يقال بأنّ هذه أيضا كالصورة الثانية في كون المحلّ مستصحب النجاسة دون الطهارة، و ذلك لأنّ النجاسة في حال صبّ الماء الأوّل في المرتبة الثالثة مقطوعة، فالشكّ في النجاسة متّصل بالقطع بها بخلاف الشكّ في الطهارة.

و لكن يمكن أن يقال بعدم جريان استصحاب النجاسة هنا كاستصحاب الطهارة، و ذلك لأنّه بعد الاستعمال الثالث للماء الأوّل يعلم بتحقّق نجاسة مقطوعة الارتفاع، لأنّه إمّا أن يكون الماء الأوّل نجسا، فصار المحلّ بالاستعمال الأوّل نجسا و زالت هذه النجاسة بالاستعمال الثاني، و إمّا أن يكون الماء الثاني نجسا فصار المحلّ عند الاستعمال الثاني نجسا و زالت هذه النجاسة بالاستعمال الثالث،

فالنجاسة المقطوعة في حال الصبّ من الاستعمال الثالث لا يعلم أنّ نقضها نقض باليقين أو نقض بالشكّ، فإنّ النجاسة المقطوع الارتفاع إن كانت هذه بأن كان الماء الثاني نجسا فيكون نقضها نقضا باليقين، و إن كان النجاسة المقطوعة الارتفاع ما كانت عند الصبّ من الاستعمال الثاني بأن كان الماء الأوّل نجسا فنقض هذه النجاسة، أعني: ما يكون عند الصبّ من الاستعمال الثالث نقض بالشكّ، فيكون شبهة مصداقيّة لقوله: لا تنقض اليقين بالشكّ، و هذا بخلاف الصورة الثانية فإنّ النجاسة المقطوعة الزوال لم يكن في البين فيها، إذ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 265

يحتمل أن يكون الماء الثاني نجسا، و على هذا التقدير كانت النجاسة باقية. نعم على تقدير كون النجس هو الماء الأوّل كانت النجاسة الحادثة به مرتفعة بالماء الثاني.

و بالجملة النجاسة المقطوعة فيها و هي ما كانت عند الصبّ من الاستعمال الثاني لم يكن نقضها مردّدا بين النقض باليقين و النقض بالشك، بل هو نقض بالشك قطعا.

و من هنا يعلم اندفاع توهّم «1» جريان استصحاب النجاسة في مقام رفع الخبث بالمائين المشتبهين بأنّ غسل البدن أو الثوب النجس بأحدهما مرّتين ثمّ بالآخر كذلك.

بيان التوهّم أنّ استصحاب الطهارة و هو بأن يستصحب الطهارة الحادثة بعد الفراغ من الغسلة الثانية بالماء الطاهر غير جار، لعدم إحراز اتصال زمان الشك فيه بزمان اليقين، إذ لو كان الماء الأوّل نجسا كان زمان الشك متصلا، و إن كان الماء الثاني نجسا كان منفصلا، و أمّا استصحاب النجاسة فالاتصال فيه محرز و ذلك لأنّ النجاسة عند الصب من الغسلة الأولى بالماء الثاني مقطوعة تفصيلا على أيّ حال، إذ لو كان الثاني نجسا فواضح، و لو كان الأوّل نجسا فالنجاسة

الكائنة في المحلّ لم ترتفع بسبب الأوّل و يحتاج رفعها إلى الغسلتين بالماء الطاهر، فعند الصبّ من الغسلة الأولى بالماء الثاني نجاسة المغسول إمّا بالنجاسة الحادثة بالثاني و إمّا بالنجاسة السابقة الغير المرتفعة متيقّنة فزمان الشكّ، أعني: بعد الفراغ من الغسلتين بالماء الثاني يتصل بطريق القهقرى بزمان اليقين فيكون استصحاب النجاسة جاريا بلا معارض.

و بيان اندفاعه أنّا بعد إتمام الغسلتين بالماء الثاني نعلم أنّ النجاسة السابقة

______________________________

(1)- المتوهّم هو المحقّق الجليل المولى محمد كاظم الخراساني في حاشية نجاة العباد. منه عفي عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 266

الكائنة في المحلّ قد ارتفعت إمّا بالأوّل أو بالثاني و نشكّ في حدوث نجاسة أخرى غيرها على المحلّ، و النجاسة في حال الصبّ من الغسلة الأولى بالماء الثاني و إن كانت مقطوعة إلّا أنّا لا نعلم أنّها نجاسة حادثة بعد ارتفاع النجاسة الأولى بالماء الأوّل، أو أنّها هي النجاسة الأولى و بقيت إلى الحال لكون الماء الأوّل نجسا، ثمّ بعد الغسلة الثانية بالماء الثاني نعلم أنّ النجاسة التي كانت في المحل قبل استعمال الماءين قد ارتفعت، و يحتمل أن تكون هذه النجاسة التي قطعنا بثبوتها حال الصب من الغسلة الأولى بالماء الثاني تلك النجاسة التي قطعنا بارتفاعها عن المحلّ، إذ لو كان الماء الأوّل نجسا فالنجاسة الأولى لم ترتفع إلّا بالغسلة الثانية بالماء الثاني، و هذه هي نجاسة المحل التي كانت فيه، و يحتمل أن تكون النجاسة المقطوع ارتفاعها هي الثابتة في المحلّ عند صبّ الغسلة الأولى من الماء الأوّل و يكون ارتفاعها بالغسلة الثانية بهذا الماء.

فإن كان الأوّل كان نقض النجاسة الثابتة في حال صبّ الغسلة الأولى بالماء الثاني نقضا باليقين، و إن كان الثاني كان نقضها

نقضا بالشكّ، فتكون شبهة مصداقية لنقض اليقين بالشك، فلا يمكن فيه التمسك بعموم «لا تنقض»، و بهذا قطع في رسالة نجاة العباد حيث قال في الماءين المشتبهين من حيث النجاسة بعد الحكم بعدم ارتفاع الحدث بهما بالكيفيّة الثانية ما لفظه: بل الأحوط ذلك أيضا في رفع الخبث و إن كان هو الأقوى، فيجب تطهير الثوب و البدن به للصلاة مع الانحصار، انتهى. و إن أفتى بخلافه المحشي الطوسي- قدّس سرّه- في حاشيته على هذا الكلام.

و من هنا تبيّن أيضا أنّه لو كان محال الوضوء عند ارادة الوضوء بالانائين نجسة فلا يحتاج إلى ما ذكرنا في الصورة الثالثة من الرجوع ثالثا إلى الماء الأوّل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 267

و تطهير محال الوضوء به، بل يكفي تطهير المحال أوّلا بالماء الأوّل ثمّ التوضّي به، ثمّ تطهيرها ثانيا بالماء الثاني، ثمّ التوضّي به أيضا فإنّه لا يجري استصحاب النجاسة لعين ما ذكرناه آنفا، و أمّا لو كان محال الوضوء قبل الاستعمال طاهرة، فيحتاج في عدم جريان الاستصحاب بالوجه المذكور إلى الغسل ثالثا بالماء الأوّل حتّى يحدث في البين نجاسة مقطوعة الارتفاع محتملة الانطباق على النجاسة المستصحبة، إذ لو لم يغسل ثالثا فأصل النجاسة و إن كانت مقطوعة إلّا أنّ ارتفاعها غير معلوم، فعلم أنّ مصحّح الطهارة من الخبث عند رفع الحدث بالمائين المشتبهين من حيث النجاسة إمّا نجاسة المحال قبل الاستعمال، و إمّا الغسل الثالث لها بالماء الأوّل بعد الغسل و التوضّي بالماء الثاني فتدبّر.

و على هذا ففي ما نحن فيه من الصورة الثالثة لا مجرى لاستصحاب الطهارة لعدم إحراز اتصال زمان شكّه بزمان قطعه، و لا لاستصحاب النجاسة، لكونه شبهة مصداقية، فلا يجوز التمسّك فيها

بعموم لا تنقض، فيكون المرجع قاعدة الطهارة، فتحصل الطهارة الحدثية و الخبثية بالاستعمال على هذا النحو.

و أمّا النص الدالّ بإهراق الماءين و التيمّم فيمكن أن يمنع إطلاقه بالنسبة إلى هذه الصورة و دعوى انصرافها إلى ما إذا لم يسع كل من الإناءين إلّا لوضوء واحد، كما هو الصورة الأولى، و ذلك لندرة كون الإناءين بحيث أمكن التوضؤ بأحدهما أوّلا ثمّ تطهير المحال بالماء الثاني ثمّ التوضي به ثانيا ثمّ تطهير المحال بالماء الأوّل ثانيا، ثمّ لا ينفك التوضي غالبا عن وصول جزء من الماء ببعض من الثياب و سائر البدن فيلزم بعد ذلك كلّه تطهير كل ما علم وصول الماءين إليه من الثياب و سائر البدن بكلّ من الماءين متعاقبا، و قلّ أن يتفق إناءان كانا واسعين لجميع ذلك فتكون هذه الصورة خارجة عمّا هو المنصرف إليه النص فتكون باقية تحت القاعدة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 268

[في حكم اشتباه الماء المضاف بالمحصور إن أراد الوضوء أو الغسل به]

«مسألة 2: لو اشتبه مضاف في محصور يجوز أن يكرر الوضوء أو الغسل إلى عدد يعلم استعمال مطلق في ضمنه، فإذا كانا اثنين يتوضّأ بهما، و إن كانت ثلاثة أو أزيد يكفي التوضّي باثنين إذا كان المضاف واحدا، و إن كان المضاف اثنين في الثلاثة يجب استعمال الكل، و إن كان اثنين في أربعة يكفي الثلاثة، و المعيار أن يزاد على عدد المضاف المعلوم بواحد».

ليس هذا كلّه محلا للكلام و الإشكال، و إنّما الكلام في الفرع الآخر و هو صورة الاشتباه في غير المحصور التي أشار إليها بقوله- دام ظلّه- «و إن اشتبه في غير المحصور جاز استعمال كلّ منهما كما إذا كان المضاف واحدا في ألف، و المعيار أن لا يعد العلم الإجمالي علما و يجعل

المضاف المشتبه بحكم العدم فلا يجري عليه حكم الشبهة البدوية أيضا و لكن الاحتياط أولى».

أقول: معيار الشبهة الغير المحصورة و إن كان غير خارج من اشتباه القليل في الكثير إلّا أنّه ليس كل اشتباه قليل في الكثير من قبيله، كما لو علم بنجاسة ورد واحد من ألف ورد القالي الواحد، فهذا اشتباه الواحد في الألف و مع ذلك ليس بغير المحصور، و هكذا لو كانت ألف خشخاشة مجتمعة في ظرف واحد و علم بمسمومية واحدة منها يجتنبون عن جميعها، و من هنا علم أنّ عدم تسمية عدد خاص في مقام تعيين معيار غير المحصور أولى، كالواحد في الألف، إذ لعلّه لم يكن هذا العدد في مورد من غير المحصور.

ثمّ قد يجعل المعيار لزوم الحرج من الاجتناب عن جميع الأطراف، و فيه: أنّ هذا لا يوجب العنوان المستقل لغير المحصور، إذ ربما لم يكن في غير المحصور حرج، كما لو علم بنجاسة واحد من مخيضات «1» مدينة عظيمة، فإنّه لا حرج في

______________________________

(1)- المخيض و الممخوض اللبن الذي قد مخض و أخذه زبدة- مجمع البحرين.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 269

اجتناب جميع مخيضات هذه المدينة في أيّام، و ربما يكون الحرج في المحصور أيضا.

و دعوى أنّ المناط الحرج النوعي و لا اعتبار بالحرج الشخصي فالاجتناب عن الجميع في المحصورة غير موجب للحرج نوعا و إن صار موجبا له بالنسبة إلى شخص، إلّا أنّ الحكم دائر مدار الحرج النوعي، و في غير المحصورة موجب للحرج نوعا و إن كان أحيانا غير موجب له شخصا.

مدفوعة بأنّ قوله: لا ضرر، مفاده نفي الحكم الضرري في كلّ شخص باستقلاله، فموضوعه من كان متضررا، و هذا ظاهر في الفعلية، فكل من

كان واجدا لهذا العنوان فالحكم عنه مرفوع، و من ليس له واجدا فالحكم عليه ثابت كما هو الحال في سائر العناوين، فيكون نفي الضرر على هذا دائرا مدار الضرر الشخصي فلا يوجب ثبوت الضرر نوعا رفع الحكم عن شخص لا يتحقّق في حقّه ضرر، و لا انتفاء الضرر نوعا ثبوت الحكم في حقّ شخص ثبت الضرر في حقّه اتّفاقا.

و قد يجعل المناط أن تكون الأطراف متفرّقة إلى حدّ يكون بعضها خارجا عن محلّ ابتلاء المكلّف.

و فيه أنّه أيضا لا يوجب عنوانا مستقلا لغير المحصور، إذ ربما يكون غير المحصور صادقا و جميع الأطراف محلا للابتلاء، و ربما تكون الشبهة محصورة و يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّه، فانّ المعيار في الدخول و الخروج عن محلّ الابتلاء كون التكليف بالنسبة إلى كلّ طرف على فرض وجود الموضوع فيه هجنا، كما لو علم بطرو النجاسة على واحد من إنائه و من الإناء الموجود في واحد من بلاد الفرنك، فانّ التكليف الفعلي بالاجتناب عن الإناء الموجود في الفرنك على فرض كونه هو النجس هجن، لأنّه قبل هذا الأمر كان منتركا فهذا الأمر لا يفيد فائدة،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 270

و ليس المعيار عدم القدرة، بل يمكن أن يكون مقدورا و خارجا عن محلّ الابتلاء لكون التكليف هجنا، مثل ما لو كان الفعل مقدورا و لكن النوع خال عن الداعي إليه، مثل عض رأس المنارة، فإنّ وضع السن على رأس المنارة بقوة مقدور، و لكن النهي عنه مستهجن، لأنّه منترك بنفسه، فلا يحتاج إلى التوصل إلى تركه بالنهي.

و الحاصل أنّ هذا المعنى أعني استهجان التكليف الفعلي في بعض الأطراف كما يمكن في غير المحصور يمكن في المحصور، كما

أنّه قد يكون التكليف في الغير المحصورة في جميع أطرافها صحيحا و غير هجن.

و الذي يمكن أن يجعل معيارا أن تكون كثرة الأطراف و سعتها بالغة إلى حيث صار احتمال كون المعلوم في ضمن كلّ واحد واحد موهوما لا يعتني به العقلاء فيما يجتنبون عنه كالسم، مثلا لو علم بأنّ في ظروف بلدة الاسلامبول ظرفا واحدا مسموما فلا يجتنب كلّ أحد من أهل هذه البلدة بمجرّد هذا العلم عن الظرف الموضوع بين يديه، و وجهه أنّ احتمال كون المسموم المعلوم هذا موهوم، و مقابله أعني عدم كون المعلوم هذا مورد الاطمئنان، فعلى العدم قام طريق عقلي و هو الاطمئنان، و هكذا الحال في كلّ واحد من الأطراف، و وجه عدم الاجتناب هو وجود الطريق العقلي الذي هو الاطمئنان على عدم وجود المعلوم فيه و يكون العلم كلا علم، يعني يعاملون مع الأطراف بعد العلم بانضمام واحد إليها معاملتهم معها قبل هذا العلم، و من هنا يعلم أنّ الأطراف في غير المحصورة حالها أقوى من الشبهة البدوية.

فإنّه قد يقال بأنّ العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة منجّز للتكليف و يوجب سقوط الأصل النافي للتكليف عن جميع الأطراف، و لكن في الشبهة الغير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 271

المحصورة لا ينجّز التكليف، فيكون الحال في الأطراف حال الشبهة البدوية، فيكون الأصل فيها محفوظا، و ما ذكرنا أقوى من هذا، إذ على ما ذكرنا هنا طريق عقلي قام على العدم في كلّ من الأطراف، و العلم الطارئ بمنزلة العدم.

و الحاصل أنّ الحال هو الحال قبل العلم بلا فرق فلو كان هنا مائة آلاف ظرف و علم بطهارة الجميع ثمّ علم بإضافة واحد إليها، و علم بأنّ هذا الواحد

نجس و اشتبه بين الجميع فيعامل مع الجميع معاملة معلوم الطهارة، و لو كانت الظروف قبل العلم المذكور مختلفة بأن كان بعضها معلوم الطهارة، و بعضها محكوما بالطهارة للأمارة، و بعضها محكوما بها للأصل، فحال كل من الأصناف الثلاثة لا يتغيّر بعد العلم المذكور.

و يظهر ثمرة ما قلناه و ما ذكر في ما لم يكن للمورد على تقدير كونه شبهة بدوية أصل كمشكوك الإضافة و الإطلاق، أو مشكوك الإباحة و الغصبية على ما اخترناه، فلو علم بوجود المضاف أو المغصوب الواحد في خمسمائة ألف إناء فإن قلنا بأنّ هذا العلم لا ينجز التكليف، و لكن يجعل كلا من أطرافه في حكم الشبهة البدوية، فلا يجوز التوضي من واحد من الإناءات لعدم جريان أصل الإطلاق أو الإباحة في شي ء منها.

فان قلنا كما اخترناه بانّ هذا العلم كالعدم فلا بدّ من ملاحظة الحال في كلّ واحد من هذه الإناءات قبل حصول هذا العلم و إن كان مقطوع الإطلاق أو الإباحة، فيعامل بعد العلم معه معاملتهما، و إن كان موردا للأمارة على الإطلاق أو الإمارة، فيعمل على وفق الأمارة بعد العلم أيضا، و إن كان مشكوكا بالشك البدوي فلا يجري فيه الأصلان بعد العلم كما قبله.

و بالجملة لا يصير شي ء من الأطراف من جهة هذا العلم شبهة بدوية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 272

فلا يؤثر هذا العلم فيها تغيير حال أصلا.

ثمّ هل يجوز المخالفة القطعية في غير المحصورة كما لو وفّق بارتكاب الجميع أو لا يجوز، بيان ذلك موكول إلى محلّه، فإن قلنا بأنّ العلم فيها كلا علم مطلقا حتّى بالنسبة إلى جواز المخالفة القطعية جاز ارتكاب الجميع لو صار موفّقا لذلك اتّفاقا، و إن قلنا بأنّه

كلا علم بالنسبة إلى خصوص عدم لزوم الموافقة القطعية لم يجز ارتكاب الجميع، بل يرتكب كلا من الأطراف حتّى إذا انتهى إلى حدّ بقي واحد فقط يلزم ترك هذا الواحد.

[في حكم الماء المشكوك إطلاقه و إضافته و لم تعلم حالته السابقة بأنه كان مطلقا]

«مسألة 3: إذا لم يكن عنده إلّا ماء مشكوك إطلاقه و إضافته و لم يتيقّن أنّه كان في السابق مطلقا يتيمّم للصلاة و نحوها، و الأولى الجمع بين التيمّم و الوضوء به».

لا إشكال أنّه لو كان متمكّنا من ماء آخر معلوم الإطلاق كان المتعيّن الوضوء من ذلك الماء، و كان الوضوء بهذا الماء غير رافع بقاعدة استصحاب بقاء الحدث إن كان محدثا حين الوضوء، و إلّا فبقاعدة الاشتغال، لأنّ الوضوء بالماء المشكوك الإطلاق غير محرز أنّه واجد للشرط الشرعي، فيكون مقتضى الاشتغال عدم إجزائه، لكن لو انحصر الماء بهذا المشكوك فهل يتعيّن عليه التيمّم أو يتعيّن الاحتياط بالجمع بينه و بين الوضوء بهذا الماء؟ الحكم في ذلك مبتن على أنّ الشرط في جواز التيمم، هل هو فقدان الماء أو عدم وجدانه، و المستظهر من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً* أي من المعنيين فهل المراد عدم وجود الماء و التعبير بلم يجدوا من باب كونه طريقا إلى عدم الوجود، أو أنّ الموضوع هو عدم الوجدان؟ فلو لم تجد الماء و تيمّم ثمّ انكشف وجود الماء، فعلى الأوّل يحكم ببطلان التيمّم و على الثاني يحكم بصحّته، و تظهر الثمرة بينهما في ما نحن فيه أيضا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 273

فإن قلنا بأنّ الموضوع هو الفقدان و عدم الوجود ففي المقام يعلم إجمالا بتوجّه أحد التكليفين، إمّا بأنّه مكلّف بالوضوء بهذا الماء و إمّا بالتيمّم، فمقتضى القاعدة العقلية في العلم الإجمالي هو الامتثال القطعي بالجمع بينهما، فإنّه

يعلم بأنّ المشكوك إمّا يكون في الواقع ماء أو يكون شيئا آخر غير الماء، فإنّ الإضافة ليست وصفا طارئا على الماء، فيكون المضاف ماء مع شي ء آخر، بل هو أمر مباين للماء، فلا يعلم أنّه داخل في فاقد الماء أو في واجده.

و إن قلنا بأنّ الموضوع عدم الوجدان فيتعين عليه في المقام التيمّم، إذ يصدق عدم الوجدان و إن كان لا يصدق عدم الوجود، فالمناط فهم أنّ الظاهر من الآية المباركة ما ذا، و لا يخفى أنّ الظاهر منها هو الأوّل، أعني: كون عدم الوجدان مأخوذا أمارة و طريقا إلى عدم الوجود، فالموضوع في الحقيقة لجواز التيمّم عدم الوجود، و على هذا فيتعيّن في المقام الجمع.

[حكم الماء إذا علم إجمالا أنه نجس أو مضاف]

«مسألة 4: إذا علم إجمالا أنّ هذا الماء نجس أو مضاف يجوز شربه، و لكن لا يجوز التوضّي به، و كذا إذا علم أنّه مضاف أو مغصوب، و إذا علم أنّه إمّا نجس أو مغصوب فلا يجوز شربه أيضا، كما لا يجوز التوضي به، و القول بأنّه يجوز التوضي به ضعيف جدا».

قد يقال في الماء المردّد بين النجس و المغصوب بالتفكيك بين آثار أصالة الطهارة و أصالة الإباحة، فما هو القدر المشترك و يكون مترتبا على عنوان النجس و عنوان الغصب مثل حرمة الشرب فإنّه كما هو حكم للنجس الواقعي حكم للمغصوب الواقعي أيضا، فنقطع تفصيلا بترتبه و عدم جريان الأصل فيه فنقطع تفصيلا بعدم جواز شرب هذا الماء، و أمّا ما يخصّ بأحدهما مثل حرمة سائر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 274

التصرّفات مطلقا فإنّها حكم للغصب الواقعي و ليس أثرا للنجس الواقعي، فأصالة الإباحة بالنسبة إلى هذا الأثر المختص بعنوان الغصب قاصدا بها رفع هذا الأثر لا

يعارضها أصالة الطهارة، فغسل الثوب بهذا الماء جائز بالجواز التكليفي و ما هو من مختصّات النجس دون الغصب كتنجيس الملاقي و عدم جواز رفع الخبث وضعا، ففي هذا تكون أصالة الطهارة بلا معارض.

و أمّا جواز التوضّي و عدمه فيمكن أن يقال أيضا بجوازه، لأنّ عدم جواز التوضّي ليس كحرمة الشرب، فإنّه و إن كان من آثار النجس الواقعي إلّا أنّه ليس من آثار الغصب الواقعي، لإمكان صحّة الوضوء بالمغصوب الواقعي، نعم هو من آثار تنجّز الغصب الواقعي، فبأصالة الإباحة يرفع تنجّز الغصب فيرتفع المانع من الصحّة من هذه الجهة و أمّا من جهة النجاسة فيحكم بأصالة الطهارة.

و بالجملة ينحلّ الآثار المترتّبة على هذين الأصلين إلى ما هو معلوم عدم ترتّبه و إلى ما هو ممكن الترتّب، و ليس على كل تقدير معلوم العدم، فنطرح الأصلين بالنسبة إلى الأوّل و نأخذ بهما بالنسبة إلى الثاني، فجواز الشرب معلوم العدم على أيّ حال فنطرح الأصل بالنسبة إليه.

و أمّا الجواز التكليفي بالنسبة إلى سائر التصرّفات فليس على أيّ حال مقطوع العدم، لإمكان أن يكون نجسا في الواقع، فلا يكون التصرّفات الأخر محرّما تكليفيّا، فأصالة حليّة هذه التصرّفات جارية، و كذا الجواز الوضعي لإزالة الخبث ليس معلوما على كلّ حال، لإمكان أن يكون مغصوبا في الواقع، فأصالة الطهارة بالنسبة إلى هذا الأثر بلا مانع، و كذا جواز التوضّي، فإنّه أيضا ليس مقطوع العدم على أيّ حال، لجواز أن يكون مغصوبا واقعيّا غير منجّز و غير نجس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 275

فعدم جواز التوضّي من آثار نفس النجس الواقعي و من آثار تنجّز الغصب الواقعي لا من آثار نفسه فلا يكون مقطوعا، فأصالة الطهارة و أصالة الإباحة بالنسبة

إلى هذا الأثر يمكن أن تجريان و ليس على خلافهما القطع، فنقتصر في طرح الأصلين على القدر المتيقّن عدم ترتبه من الآثار و نأخذ بهما في باقي الآثار.

و بعبارة أخرى للغصب آثار و القدر المتيقّن منها حرمة الشرب، و سائر الآثار من حرمة سائر التصرفات التي من جملتها التصرّف الوضوئي مشكوك، و كذا للنجس آثار و القدر المتيقّن منها حرمة الشرب، و سائر الآثار من عدم جواز التوضّي به وضعا و عدم جواز رفع الخبث به وضعا مشكوك، فالحال في كلّ طرف مثل الحال في مورد دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر حيث يحكم بالأقل لكونه المعلوم و يرفع الأكثر بالأصل، فيؤخذ في المقام الأثر المتيقّن من كلّ جانب و هو حرمة الشرب، و بالنسبة إلى غيره من الآثار المشكوكة يؤخذ في رفعها بأصالة الإباحة في جانب الغصب و بأصالة الطهارة في جانب النجس، فإنّ المقصود من الأصل الموضوعي ترتيب الآثار، فالأصل الموضوعي في كلّ جانب و إن كان لم يمكن جريانه بالنسبة إلى حرمة الشرب للزوم المخالفة العمليّة و لكنّه يجري في كليهما بالنسبة إلى الآثار المشكوكة.

و حينئذ فيلزم صحّة الوضوء بالماء المذكور، إذ المانع منه أحد أمرين إمّا حرمة الاستعمال الوضوئي لكونه تصرّفا في الغصب، و قد فرغنا من هذه الجهة بالتمسّك بأصالة الحلّ و البراءة في جوازه تكليفا، و إمّا نجاسة الماء و عدم جواز التوضّي منه وضعا، و قد فرغنا من هذه الجهة أيضا بالتمسّك بأصالة الطهارة من حيث جواز التوضّي به وضعا، و ليعلم أنّ هذا كلّه على فرض التنزّل و تسليم جريان أصل البراءة و الحلّ في الشبهات الموضوعيّة لمال الغير.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 276

هذا غاية ما

يقال في تقريب هذا القول و قد نقل الأستاذ- دام عمره- إصرار الشيخ الجليل الشيخ محمّد طه على هذا القول، و لكنّه مخدوش بأنّه و إن كان عدم جواز التوضّي كما ذكره ليس كعدم جواز الشرب مقطوعا تفصيلا- لما ذكر من أنّ إباحة الماء ليس كطهارته و إطلاقه شرطا شرعيّا، و إنّما اللازم من تنجّز تحريم الغصب عقلا عدم صحّة الوضوء لسقوط الفعل عن قابليّة التقرّب به إلى المولى، و لهذا لو ظهر مخالفة الطريق أو الأصل المعمولين لإحراز الإطلاق و الطهارة للواقع نحكم ببطلان الوضوء لانكشاف فقدان الشرط، و لكن لو علم بمخالفة الطريق أو الأصل القائمين على إباحة الماء للواقع لم نحكم ببطلان الوضوء- إلّا انّا نعلم إجمالا بأنّ في التوضي بهذا الماء المردّد بين النجس و المغصوب و الاكتفاء به في الصلاة خلافا للشرع إمّا من جهة الدخول في الصلاة بوضوء باطل لفقدان شرط صحّته، و إمّا من جهة الإتيان بالعبادة الوضوئيّة في الفعل المحرّم الغير القابل للقرب به إلى المولى، و مع وجود هذا العلم الإجمالي لا مجرى لأصلي الطهارة و البراءة، إذ يلزم من العمل بهما جميعا مخالفة عمليّة للمعلوم الإجمالي، و عند هذا يصير بطلان الوضوء مقطوعا تفصيليّا، إذ الغصب الغير الموجب لبطلان الوضوء إنّما هو الغصب الواقعيّ الذي وقع في مرحلة الظاهر مجرى لأصالة البراءة، و أمّا ما لا مجرى فيه لأصالة البراءة فهو موجب للبطلان، و قد ذكرنا عدم جريانها في المقام لوجود الطرف لها و هو أصالة الطهارة، فيعلم بذلك أنّ الماء إمّا نجس و إمّا غصب لا مجرى فيه للبراءة، و على أيّ حال يكون الوضوء به باطلا.

و المثال الواقعي لما ذكره هذا القائل ما

إذا علم بأنّ هذا إمّا مال لزيد و إمّا مال لعمرو و كان زيد نهى عن الشرب و أجاز سائر التصرّفات، و عمرو نهى عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 277

التصرّف في ماله مطلقا، و قلنا بأنّ أصالة الحلّ و البراءة جارية في الشبهة الموضوعيّة لمال الغير، فإنّ أصالة الحلّ حينئذ تكون جارية بالنسبة إلى سائر التصرّفات ممّا عدا الشرب لمشكوكيّتها و لا مجرى لها فيه لمقطوعيّة حرمته، فهذا مثال لدوران الأمر بين حرمة خصوص الشرب و حرمة جميع التصرّفات، فأصالة الحلّ و الإباحة على القول به محفوظة بالنسبة إلى كلّ ما شكّ فيه، و يقتصر في مخالفته على المقدار المعلوم من حرمة الشرب.

و الفرق بينه و بين ما نحن فيه أنّ أصالة الحلّ ليس لها في المثال طرف، و لكن لها في المقام طرف و هو أصالة الطهارة، و العمل بها و بطرفها مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي، فلهذا لا تكون هي و لا طرفها جاريتين، و بالجملة ففي كلّ موضع ليس لهذا الأصل طرف يعمل به و كلّما كان له طرف لا يعمل به.

[حكم الوضوء بأحد الإناءين المشتبهين من حيث النجاسة أو الغصبيّة و قد أريق الآخر]

«مسألة 5: لو أريق أحد الإناءين المشتبهين من حيث النجاسة أو الغصبيّة لا يجوز التوضّي بالآخر و إن زال العلم الإجمالي و لو أريق أحد المشتبهين من حيث الإضافة لا يكفي الوضوء بالآخر، بل على الأحوط الجمع بينه و بين التيمّم».

قد يتوهّم جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي بعد زواله إمّا بمعدوميّة الطرف الآخر أو بخروجه عن محلّ الابتلاء و إن كان غير جار فيه حال بقاء العلم، و ذلك أنّه بعد البناء على حكم العقل بتنجيز التكليف في مورد العلم الإجمالي بمعنى أنّه لا يبقى عذر للعبد

في المخالفة حتّى الاحتماليّة، فالعقل ينجّز التكليف عليه في جميع الأطراف، فيسقط حينئذ البراءة العقليّة، و أمّا البراءة الشرعيّة فكذلك، لعدم إمكان شمول دليلها لمورد العلم الإجمالي بعد التنجيز العقلي.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 278

بيان ذلك: أنّ التنجيز العقلي من حيث المخالفة القطعيّة حكم لا يقبل الرفع، و من حيث المخالفة الاحتماليّة قابل للرفع بوجود المؤمّن، فدليل عموم ترخيص الشرع مثل قوله: «كلّ شي ء حلال حتّى تعلم أنّه حرام» و قوله: «كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» شامل لكلا الطرفين، فإنّ الشي ء يصدق على كلّ من الطرفين و الغاية غير حاصلة، فإنّ الضمير في قوله: حتّى تعلم أنّه حرام أو قذر راجع إلى الشي ء، و من المعلوم انتفاء العلم بالنسبة إلى كلّ واحد من الطرفين.

و حينئذ فإن عملنا بهذا العموم في كلا الطرفين يلزم الإذن في المخالفة القطعيّة و هو مخالف لحكم العقل بقبحها و تنجيز تركها و قلنا إنّه حكم لا ينفك، و إن عملنا به في أحد الطرفين معيّنا لزم الترخيص في المخالفة الاحتماليّة و هذا غير مخالف لحكم العقل، فإنّ حكمه بقبحها معلّق على عدم المؤمّن، فيجوز للشارع الترخيص في الواحد المعيّن و إن لم يجز في الجميع إلّا أنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح، لأنّ نسبة هذا العموم إلى كلا الطرفين على السواء فلا وجه للأخذ به في أحدهما دون الآخر، فيتعيّن طرحه في كليهما.

و أمّا الترخيص في واحد على التخيير فهو و إن كان سالما من الإشكال إلّا أنّه خلاف مفاد الأدلّة، فإنّ مفادها حليّة الأشياء أو طهارتها على التعيين، و هذا بخلاف ما بعد زوال العلم الإجمالي بإراقة أحدهما أو خروجه عن محلّ الابتلاء، فإنّ الطرف الآخر لا

يمكن حينئذ شمول العموم له، لعدم الموضوع له، أو لعدم كونه قابلا للتكليف، فيتعيّن الطرف الآخر لأخذ العموم فيه و لا يلزم شي ء من المحذورين الكائنين حال بقاء العلم و هما الترخيص في المخالفة القطعيّة و الترجيح بلا مرجّح، لما ذكرنا من عدم قابليّة الطرف الآخر لتوجّه الخطاب إليه و عمومه له فيؤخذ به في الطرف الآخر، إذ لا وجه لرفع اليد عن العموم بعد رفع المانع عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 279

و بالجملة: فيصير الحال في هذا الطرف مثله في صورة خرج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء أو أريق، و بعد ذلك حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما أو غصبيّته، فكما لا مانع من التمسّك بهذه العمومات لإحراز الحليّة و الطهارة في الطرف الباقي في هذه الصورة بلا إشكال، فكذا في ما نحن فيه، و مجرّد كون العلم هنا سابقا و في المثال لاحقا لا يوجب فرقا، فإنّ الملاك و هو عدم إمكان إجراء العموم بالنسبة إلى الطرف الآخر مشترك بينهما.

و بعبارة أخرى كما أنّ أصل الطهارة أو الحليّة كان في الأوّل جاريا بلا معارض فكذا في الثاني، لأنّ المفروض عدم المعارض له، فإنّ المعارض هو الأصل في الطرف الآخر، فما دام كان الطرف الآخر قابلا لجريان الأصل من غير جهة المعارضة لم يكن الأصل في هذا الطرف أيضا جاريا للمعارضة، و أمّا بعد زوال المعارض فيصير الحال في هذا الطرف بعينه هو الحال فيه في صورة لحوق العلم و حصوله بعد خروج الآخر عن محلّ الابتلاء أو إراقته، فبحسب الأصل الشرعي لا فرق بين الصورتين أصلا، نعم يظهر الفرق بينهما بحسب الأصل العقلي، فإنّه في صورة لحوق العلم جار و في صورة سبقه

غير جار، و الوجه أنّ الشك في الأوّل في أصل حدوث التكليف فيكون مجرى للبراءة العقليّة، و في الثاني في سقوطه بعد العلم بأصل حدوثه، فإنّ في حال وجود الطرف الآخر و كونه في محلّ الابتلاء حصل العلم بأصل التكليف و نشك بعد خروجه عن محلّ الابتلاء أو انعدامه أنّ التكليف المذكور باق أو لا؟ فحكم العقل لو لا ترخيص الشرع كان هو التنجيز هنا و البراءة في السابق، و أمّا حكم الشرع فلا فرق بينهما من جهته أصلا كما بيّناه.

هذا ما توهّمه المتوهّم و هو المولى محمّد كاظم الخراساني- قدّس سرّه- في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 280

مجلس درسه على ما حكى الأستاذ- دام ظلّه- و ذكر رجوعه عن ذلك بسبب عرض الأستاذ الجواب المذكور في المتن عليه و حكى الأستاذ- دام ظلّه- أنّه عدّ في مجلس بحثه خلاف ذلك بل خلافه الصادر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من سقطاته.

و لكنّه مخدوش بأنّ من المسلّم في باب العلم الإجمالي أنّه لو دار الأمر بين الأقلّ و الأكثر كما لو علم إجمالا بتكليف واحد أو عشرة تكاليف مثل ما لو علم بأنّه إمّا مكلّف بالتكليف الصلاتي فقط أو به و بالتكليف النفسي الصومي و الزكوي و الخمسي و الحجّي إلى عشرة فلا يجري البراءة لا في الطرف الذي هو تكليف واحد و لا في طرف التكليفات لا في جميعها و لا في واحد منها، أمّا في طرف التكليف الواحد و في طرف التكاليف في جميعها فواضح، و أمّا في واحد واحد منها حيث إنّ كلّ واحد منها مورد للبراءة مستقلا فلأنّ البراءة في كلّ واحد معارضة بالبراءة في سائر التكاليف الموجودة في هذا الطرف

و بالبراءة في الطرف الآخر الذي هو تكليف واحد.

و حينئذ فنقول في الإناءين: لو علمنا من الأوّل بأنّ أحدهما يمكث ساعة واحدة و الآخر يمكث عشر ساعات، فإنّا نقول: بأنّ التكليف بالاجتناب عن النجس بالنسبة إلى كلّ فرد من النجس تكليف واحد مستمر في أزمنة عمره و مكثه أو تكاليف متعدّدة بعدد الأزمنة القابلة للتكليف، فينحلّ التكليف في ما يبقى ساعة بعشرة تكاليف مثلا و في ما يبقى عشر ساعات بمائة تكليف.

فإن قلنا باتحاد التكليف فلا إشكال أنّه كما يكون ترخيص المولى بارتكاب كلّ من الإناءين في ساعة وجود كليهما ترخيصا في المخالفة القطعيّة، فكذلك لو رخّص في ارتكاب ما يبقى ساعة في ساعة و في ارتكاب ما تبقى عشر ساعات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 281

بعد مضيّ الساعة الأولى فهذا أيضا ترخيص في المخالفة القطعيّة، و كلّ اثنين كان الترخيص في جميعهما ترخيصا في المخالفة القطعيّة فالترخيص في أحدهما ترجيح بلا مرجّح، فلو لم يرخّص في شي ء من الإناءين في ساعة وجود كليهما و رخّص بعد مضيّ هذه الساعة و إراقة الآخر في ارتكاب الباقي، فهذا ترجيح بلا مرجّح يعني أنّ الرجوع في مقام الإثبات و الدلالة إلى عموم دليل البراءة أو الطهارة بالنسبة إلى هذه القطعة من الزمان في الإناء الطويل العمر معارض بهذا العموم بالنسبة إلى القطعة السابقة عليها في نفس هذا الإناء و في الإناء الآخر القصير عمره، فلا يمكن التمسّك به في شي ء منها.

و هكذا الكلام، إن قلنا بتعدّد التكليف، فيكون الأمر مردّدا بين عشرة تكاليف و مائة تكليف فإنّه لا إشكال أنّه كما لو رخّص في ترك عشرة تكاليف في الساعة الأولى بالنسبة إلى كلّ من الإناءين كان

ترخيصا في المخالفة القطعيّة، كذلك لو رخّص في ترك التكليف الواحد من هذه العشرة بالنسبة إلى الإناء القصير العمر، و في ترك واحد معيّن من تكاليف ما بعد الساعة في الإناء الآخر يكون هذا أيضا ترخيصا في المخالفة القطعيّة، و قد علم أنّ كلّ اثنين فرض كون ترخيص جميعهما ترخيصا للمخالفة القطعيّة، فترخيص واحد منهما في مقام الإثبات و الدلالة ترجيح بلا مرجّح، فكما أنّ التكليف الواحد الكائن في ما بعد الساعة في الإناء الطويل مع التكليف الواحد الكائن في الساعة في الإناء القصير كان ترخيص تركهما ترخيصا في المخالفة القطعيّة، فكذلك ترخيص الثاني منهما بالخصوص ترجيح بلا مرجّح و معارض بالترخيص في الأوّل و في كلّ من سائر التكاليف، سواء في الإناء القصير أو الطويل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 282

[في حكم ملاقي الشبهة المحصورة]

«مسألة 6: ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، لكنّ الأحوط الاجتناب».

لا شكّ أنّ الشكّ المسبّب من أحد طرفي الشبهة المحصورة لا مجرى فيه للأصل لو كان الأصل في هذا الطرف جاريا، لأنّ الأصل إذا جرى في السبب يرتفع موضوع الأصل في المسبّب، فيكون الأصل السببي مقدّما على المسبّبي لحكومته عليه، كما أنّه لو لم يجر الأصل في السبب لمعارضته و نحوها كان الأصل في المسبّب بلا حاكم و مانع، فيكون جاريا لا محالة.

و من فروع ذلك هو ملاقي الشبهة المحصورة، فلو كان هنا إناءان معلوما النجاسة إجمالا و لاقى أحدهما إناء ثالث فهنا صورتان: إمّا أن يحصل العلم بنجاسة أحد من الملاقي أو طرفه أوّلا، ثمّ تحصل الملاقاة، و إمّا أن تحصل الملاقاة أوّلا ثمّ يحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما حال الملاقاة.

فالمولى الجليل المحقّق الخراساني- قدس سرّه- فرّق بين هاتين الصورتين فحكم

بطهارة الملاقي في الأولى دون الثانية، و الصورة الثانية و هي حصول الملاقاة قبل العلم له فرض آخر و هو أن يحصل الملاقاة و لم يحصل العلم بها، ثمّ يحصل العلم بنجاسة أحد الإناءين ثمّ يعلم بالملاقاة السابقة على العلم الكائنة في حال نجاسة أحدهما، فهل هذه الصورة ملحقة بالأولى أو بالثانية؟ لو قلنا بالطهارة في الثانية تكون هذه محكومة بالطهارة بطريق أولى، فالعمدة هو التكلّم في الصورتين.

فالصورة الأولى قد سلّم المدعي فيها كلام المشهور و قال بجريان الأصل في الملاقي، و وجهه أنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة قد أثّر أثره و هو التنجيز بالنسبة إلى طرفيه، فالقدر المتيقّن من التكليف هو التكليفان اللذان جاءا من قبل العلم الإجمالي في طرفيه، فالزائد عليه مشكوك، و التكليف في الملاقي على تقدير وجوده

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 283

تكليف زائد، فيكون شبهة بدويّة منفيّة بالأصل، و هذا واضح.

إنّما الكلام في الصورة الثانية التي توهّم المتوهّم فيها النجاسة على خلاف المشهور، و حاصل تقريب شبهته أن يقال: إنّ طرفي العلم الإجمالي حينئذ تكليف واحد في صاحب الملاقي أو تكليفان في طرف الملاقي و الملاقي، فأحد الطرفين قليل و الآخر كثير، و الأصل كما هو غير جار بمقتضى العلم الإجمالي في الطرف القليل، فكذا في كلّ من جزئي الطرف الكثير، و القول بأنّ التكليف في الملاقي تكليف زائد على ما علم به إجمالا ممنوع أوّلا: لأنّ أحد الطرفين تكليفان و الآخر تكليف واحد، و ثانيا: كلّ من الملاقي و الملاقي إذا انضمّ إلى الطرف الآخر كان التكليف في صاحبه زائدا، فملاحظة الملاقي مع الطرف و جعل تكليف الملاقي زائدا ترجيح بلا مرجّح، لإمكان جعل الملاقي طرفا للعلم

و جعل تكليف الملاقي زائدا، و مسبّبية الملاقي عن الملاقي غير مضرّة فإنّا نلتزم بأنّ كلّ موضع وقع المسبّب و السبب فيه في أحد طرفي العلم الإجمالي مثل هذه الصورة أثر العلم في سقوط الأصل عن كليهما، هذا حاصل الشبهة.

و جوابه أنّه لا شكّ أنّ الشكّ المسبّب إذا جرى الأصل في السبب فلا موضوع له، فحياة الأصل المسببي موضوعا و حكما بموت الأصل السببي و سقوطه، و هذا واضح، و لا يعقل أن يكون الشي ء الذي يكون حدوثه بانعدام شي ء آخر معارضا مع هذا الشي ء الآخر، و هذا أيضا واضح، فإذا فرضنا أنّ هنا إناءين كلّ منهما مشكوك بدوي من حيث الطهارة و النجاسة ثمّ لاقى إناء ثالث أحدهما فلا إشكال أنّ الأصل الجاري في البين ليس إلّا أصلان، فإنّ الإناء الثالث لا مجرى فيه للأصل بعد وجود الأصل في ملاقاة و هذا أيضا واضح، فإذا حصل العلم الإجمالي بأنّ أحدا من الإناءين أعني الملاقي أو صاحبه نجس فهذا العلم إنّما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 284

يوجب سقوط كلّ أصل هو موجود في هذا الحال، و قد فرض أنّه أصلان فيكون هما المتعيّنين للسقوط بسبب العلم.

و حينئذ يصير الأصل في الإناء الثالث جاريا، لأنّ موضوع الشكّ فيه موجود قطعا، فإنّه تكليف زائد على ما نجزّه العلم الإجمالي مشكوك، و قد فرض عدم المانع و المعارض له لعدم معقوليّة معارضة الأصل الميّت مع الأصل الحيّ فيكون جاريا بلا كلام، هذا هو الكلام في الأصل الشرعي اللفظي الذي يتأتّى فيه الحكومة.

و أمّا الأصل العقلي فهل هو جار في الشكّ المسبّب عن أحد طرفي الشبهة المحصورة؟ أو أنّه كما لا يجري في السبب فكذا في المسبّب؟ الحقّ

الأوّل، و بيانه إجمالا أنّه لو علمنا إجمالا بأنّ هذا حرام أو ذاك حرام و كان هنا شي ء آخر كان حرمته مستتبعة من حرمة أحد الأوّلين و متولّدة منها، فلا شكّ أنّه يتولّد من العلم بأنّ هذا أو ذاك حرام الشكّ في حرمة هذا الثالث، و هذا الشكّ معلول لهذا العلم، فيكون رتبة وجوده متأخّرة عن رتبة وجود العلم لا محالة، و العلم إنّما ينافي البراءة في رتبة وجود نفسه، فكلّ براءة كانت في هذه الرتبة فهذا العلم يوجب سقوطها، و أمّا رتبة الشكّ فالمفروض عدم العلم في هذه الرتبة بل الموجود هو الشكّ المحض، و العلم السابق لا يؤثّر في الرتبة المتأخّرة، فلهذا تكون البراءة في رتبة الشكّ سليمة و جارية.

و من هنا يظهر أنّه لو قلنا في الأصل الشرعي بعدم جريانه أصلا في مورد العلم الإجمالي لا الجريان و السقوط بالمعارضة بأن اخترنا أنّ المراد بالعلم المجعول غاية للحكم بالطهارة في قوله- عليه السّلام- «كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 285

أعمّ من العلم التفصيلي و الإجمالي، فلا يشمل هذا العموم مورد العلم الإجمالي أصلا، فحينئذ أيضا يكون الأصل الشرعي في الشكّ المسبّب عن أحد الطرفين جاريا بلا معارض لا بالمبنى المتقدّم بل بمبنى آخر و هو أنّ الشكّ المسبّب عن أحد الطرفين مسبّب متولد عن العلم الحاصل في الطرفين، فالعلم إنّما يؤثّر في عدم قابليّة جريان الأصل في رتبة وجوده فيكون في الطرفين موجبا بحكم الغاية المذكورة لعدم الحكم بالطهارة، و ليس مؤثّرا في عدم جريان الأصل في رتبة معلوله، فلو سلّمنا شمول «حتّى تعلم» لنفس الطرفين فلا نسلّم شموله لما يتسبّب من أحدهما.

هذا بيان هذا

المطلب بطريق الإجمال، و لكنّا حيث إنّ الأقوى عندنا أنّ قوله: «حتّى تعلم» مختص بالعلم التفصيلي، و على هذا فالجواب واضح كما ذكرنا، و الكلام أيضا في المشتبهين من حيث الطهارة و النجاسة، و ليس فيهما مجرى للأصل العقلي فلا نحتاج إلى بسط الكلام في توضيح هذا المبنى و تشريحه و إن كان هو أيضا مطلبا مسلّما في محلّه، ثمّ يعلم من ذلك الحال في الصورة الثالثة أيضا فإنّها ليست بأعظم من الثانية قطعا، فيكون الأقوى على هذا طهارة ملاقي الشبهة المحصورة مطلقا كما هو المشهور.

و ينبغي التعرّض هنا لصورة خروج الملاقي عن محلّ الابتلاء، فنقول: قد يخرج الملاقي عن محلّ الابتلاء بعد العلم الإجمالي سواء حدث الملاقاة قبل العلم أم بعده و قد يخرج قبل العلم الإجمالي.

ففي الصورة الأولى أعني خروجه بعد العلم مطلقا فأصالة الطهارة في الملاقي سليمة عن المانع، بناء ما تقدّم بيانه من أنّ خروج أحد طرفي الشبهة عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 286

محلّ الابتلاء أو انعدامه لا يوجب جريان الأصل في الطرف الآخر بل هو باق على ما كان من سقوط أصله و وجوب اجتنابه.

و بعبارة أخرى العلم الإجمالي أسقط الأصل عن كل من الطرفين ما دام زمان قابليّة كلّ منهما لجريان الأصل، و حينئذ فبعد خروج الملاقي و إن كان يصير الملاقي طرفا للشبهة يعني يعلم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر، كما أنّ هذا العلم كان في حال بقاء الملاقي في محلّ الابتلاء أيضا، إلّا أنّ أصله جار لسلامته عن معارضة الأصل في طرفه و هذا واضح.

إنّما الكلام في الصورة الثانية، فقد يقال فيها بأنّ الملاقي و إن كان ما دام موجودا في محلّ الابتلاء و

كان شبهة بدويّة مع صاحبه كان هو و صاحبه مجريين لأصل الطهارة و لم يكن لملاقيه أصل لمحكوميّته لأصل الملاقي، لكن بعد خروج الملاقي عن محلّ الابتلاء سقط أصله، فإنّه في هذا الحال ليس قابلا لإنشاء حكم عملي فيه أصلا لاستهجانه، فلا يصحّ في موضوع يكون في البلاد البعيدة مثلا جعل حكم الإباحة أيضا، و حيث لم يجر الأصل فيه صار الأصل في الملاقي سالما عن الحاكم و كان محكوما من هذا الحين بالطهارة من جهة الأصل في نفسه لا في ملاقاة، و حينئذ فصار الملاقي و صاحب الملاقي مجريين للأصل دون الملاقي، و لا ريب أنّ العلم الإجمالي متى حصل إنّما يوجب سقوط الأصل الموجود في حال حصوله فيكون الأصلان في الملاقي و صاحب ملاقاة ساقطين، للزوم الإذن في المخالفة القطعيّة أو الترجيح بلا مرجّح، فيتعيّن الاجتناب عن كليهما، هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الموضوع الذي خرج عن محلّ الابتلاء إن كان له أثر محلّ للابتلاء و كان له أصل موضوعي يثبت به هذا الأثر المبتلى به فهذا الأصل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 287

لا مانع من جريانه، مثلا ترك صلوات الأب موضوع لوجوب القضاء على الولد.

فإذا شككنا في جملة صلوات أنّ الأب تركها حتّى يجب على الولد قضائها أو لم يتركها حتّى لا يجب قضائها عليه، فاستصحاب تركها و عدم فعلها الذي هو أصل موضوعي ليرتّب عليه وجوب القضاء على الولد الحيّ ليس مستهجنا قبيحا، نعم إجراء هذا الأصل الموضوعي مقصودا به ترتيب وجوب القضاء على الشخص الميّت قبيح مستهجن.

و كذلك لو شككنا في هذا المثال في بعض الصلوات التي صلاها الأب أنّها صحيحة أو لا، فأصالة صحّتها لأجل أن يرتّب

عليها عدم وجوب قضائها على الولد خالية عن الاستهجان و إن كانت بقصد سقوط القضاء عن نفس الميّت مستهجنة.

و حينئذ فنقول: الإناء الذي خرج عن محلّ الابتلاء لطهارته آثار من جواز الشرب و جواز التوضّي به و غيرهما، و من جملتها طهارة ملاقيه الذي هو مبتلى به، فأصالة الطهارة و إن كانت لا تجري فيه لأجل ترتيب جواز شربه و جواز التوضّي به، و كذا كلّ أثر كان موضوعه نفس الملاقي، لكن لا مانع منها بالنسبة إلى الأثر المترتّب على الملاقي، أعني: طهارته.

و حينئذ فأصالة الطهارة في هذا الإناء من جهة هذا الأثر، أعني: طهارة الملاقي لم يفرق فيها بين حال الخروج عن محلّ الابتلاء و قبله، فكما كانت جارية قبل خروج الإناء فكذا تكون جارية بعده، و حينئذ فإذا حصل العلم الإجمالي بعد خروجه عن محل الابتلاء بنجاسة واحد من هذا الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء و صاحبه فيسقط بهذا العلم هذا الأصل عن هذا الإناء و أصل الطهارة الجاري في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 288

صاحبه، لمعارضتهما، و بعد سقوط هذين الأصلين يجب الاجتناب عن صاحب الملاقي الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي، و لا يجب عن طرفه الآخر الذي هو الملاقي لبقاء الأصل فيه بلا معارض.

و بالجملة بعد حصول العلم يكون أحد طرفيه هو الملاقي و الآخر صاحب الملاقي، لكن أحد طرفي العلم الإجمالي و هو الملاقي يكون قبل حصوله ذا أصلين، أحدهما فعلي و هو أصل الطهارة في ملاقاة، و الآخر استعدادي و هو أصل الطهارة في نفسه، فيكون لطهارته أصلان طوليّان، فإذا حصل العلم الإجمالي سقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف، أحد أصليه، و هو أصل الطهارة في ملاقاة،

فإنّه الموجود مع الأصل في الطرف قبل العلم و القابل لمعارضته بعده، و يحصل له حينئذ مجرى لأصله الآخر الذي هو أصل الطهارة في نفسه، فيكون محكوما بالطهارة بهذا الأصل و إن سقط أصله الآخر عن البين.

إن قلت: إن جعلنا الطهارة و النجاسة أمرين واقعيين لا حكمين شرعيين، فأصالة الطهارة في الملاقي- بالفتح- الخارج عن محلّ الابتلاء يقصد بها إثبات الطهارة التي هي أمر واقعي في الملاقي- بالكسر- ليرتّب على هذا الموضوع الواقعي أثره من جواز الشرب و نحوه، و بالجملة يقصد بهذا الأصل ترتيب أثر شرعي مع واسطة غير شرعيّة، فيكون مثبتا.

قلت: و إن جعلنا الطهارة أمرا واقعيّا، لكنّه لا إشكال أنّه موضوع كشف عنه الشرع، و كلّ أمر كان الكشف عنه وظيفة للشرع و إن لم يكن حكما فيمكن الاستصحاب بلحاظه و قصد ترتّبه، مثل استصحاب الخمريّة ليرتّب عليها النجاسة فيحكم عليه بحرمة الشرب.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 289

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني- قدّس سرّه- في الكفاية جعل أقسام ملاقي الشبهة المحصورة ثلاثة:

الأوّل: أن يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي و هو في ما إذا حصل العلم قبل الملاقاة.

و الثاني: أن يجب الاجتناب عنهما معا، و هذا في ما إذا حصل الملاقاة قبل العلم، و قد مرّ الكلام معه في هذين فوافقناه في الأوّل، لأنّه إذا اجتنب عن كلا الطرفين فقد اجتنب عن النجس في البين قطعا و إن لم يجتنب عن الملاقي، إذ هو على تقدير نجاسته فرد آخر مشكوك كشي ء آخر شكّ في نجاسته بسبب آخر، و لا شكّ أنّه مجرى الأصل و لكن خالفناه في الثاني.

و الثالث: أن يجب الاجتناب عن الملاقي- بالكسر- دون الملاقي- بالفتح- و مثّل له بمثالين:

الأوّل:

ما مرّ الكلام فيه أيضا ممّا إذا خرج الملاقي بعد الملاقاة عن محلّ الابتلاء ثمّ حدث العلم بنجاسته أو طرفه، ثمّ عاد إلى محلّ الابتلاء ثانيا، فهذا هو الذي قد تكلّمنا فيه آنفا و قلنا بأنّ الأصل في الملاقي الخارج عن محلّ الابتلاء جار بملاحظة الأثر المترتّب على ملاقيه، فما يسقط بالتعارض أصله، و بعد سقوط أصله يحدث الموضوع للأصل في نفس الملاقي، و من الواضح أنّه على هذا لو رجع الملاقي إلى محلّ الابتلاء حصل بين آثاره التفكيك بحسب الأصل، فمن حيث طهارة ملاقيه قد سقط أصله بالمعارضة، و من حيث الآثار المترتّبة على نفسه يكون أصله بلا معارض كما هو واضح، فعلى هذا لا يجب الاجتناب في فرض العود و الرجوع لا عن الملاقي و لا عن الملاقي.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 290

و المثال الثاني: ما إذا علم بنجاسة إناء أو شي ء آخر إجمالا ثمّ حدث العلم بملاقاة هذا الإناء مع إناء آخر و علم بنجاسة هذا الإناء الآخر أو ذاك الشي ء إجمالا بعلم إجمالي آخر، فالإناء الأوّل هو الملاقي- بالكسر- و يجب الاجتناب عنه، و الإناء الآخر هو الملاقي- بالفتح- و لا يجب الاجتناب عنه، و وجه ذلك أنّ العلم الإجمالي الأوّل الحاصل بين الملاقي و الشي ء الآخر قد أثّر أثره و نجّز التكليف بالنسبة إلى طرفيه، و العلم الإجمالي الثاني الحاصل بين الإناء الآخر و الشي ء الآخر ليس علما بتكليف آخر بل يحتمل أن يكون بعينه هو التكليف المعلوم في العلم الأوّل بأن يكون ذاك الشي ء نجسا واقعا و كان الملاقي بالفتح و الملاقي- بالكسر- طاهرين واقعا.

و بالجملة: فبعد تنجّز التكليف في الملاقي- بالكسر- و ذاك الشي ء بمقتضى العلم الإجمالي

الأوّل يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي- بالفتح- الذي هو طرف للعلم الإجمالي الثاني مشكوكا بدويّا، فلو اجتنب عن الملاقي- بالكسر- و ذاك الشي ء، فقد اجتنب عن النجس المعلوم قطعا و إن لم يجتنب عن الملاقي- بالفتح- فإنّه على تقدير نجاسته فرد آخر، فيكون مشكوكا بدويّا غير معلوم النجاسة لا إجمالا و لا تفصيلا، هذا محصّل مرامه- قدّس سرّه.

و فيه: أنّ كلّ شيئين حصل الملاقاة بينهما يمكن اعتبار كلّ منهما ملاقيا و ملاقي، فالمراد بالملاقي- بالكسر- في هذا الباب الذي يقال إنّ شكّه مسبّب عن الشكّ في الملاقي- بالفتح- هو واحد من الشيئين المتلاقيين الذي علم بأنّه غير مؤثّر في الآخر و احتمل كونه متأثّرا منه، و بعبارة أخرى: لم يكن لهذا الواحد إمكان التأثير في الآخر، و كان للآخر إمكان التأثير في هذا الواحد، مثل الثوب المعلوم الطهارة إذا لاقى أحد الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالا، فإنّ الثوب يقطع بأنّه ما أثّر في الإناء شيئا، إذ لو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 291

كان الإناء أيضا طاهرا فلم يؤثر شي ء منهما في الآخر، و إن كان هو نجسا فلم يحدث من الثوب أيضا أثر فيه، و لكنّ الإناء يحتمل تأثيره في الثوب، إذ لو كان نجسا فيؤثّر في نجاسة الثوب، و لو لم يكن الحال في الملاقي و الملاقي كذلك لم يكن الشكّ في الملاقي- بالكسر- مسبّبا عن الشكّ في الملاقي- بالفتح- بل كانا في عرض واحد بأن احتمل التأثير في كلّ من الطرفين على حدّ سواء.

و كان المحتملات أربعة: أن يكون من باب ملاقاة شيئين طاهرين، و أن يكون من ملاقاة شيئين نجسين، و أن يكون هذا نجسا و ذاك طاهرا فيكون التأثير من

جانب هذا، و أن يكون عكس ذلك فيكون التأثير من جانب ذاك، و من المعلوم حينئذ أنّه بعد تنجيز العلم الإجمالي للتكليف بين الملاقي- بالكسر- و الشي ء الآخر يكون الملاقي- بالفتح- مشكوكا بدويّا لاحتمال اتّحاد التكليفين بأن يكون النجس الواقعي هو الشي ء الآخر فقط، فيكون غير واجب الاجتناب بمقتضى الأصل بخلاف الملاقي- بالكسر- فإنّه يجب الاجتناب عنه، لسقوط أصله بالمعارضة، و المفروض أنّ الشكّ فيه أيضا ليس مسبّبا عن الشك في الملاقي- بالفتح.

فعلم أنّ جعل هذا المثال من مصاديق الملاقي و الملاقي في الشبهة المحصورة إنّما يحصل بأن تكون الملاقاة المعلومة هي الملاقاة السابقة يعني علم بأنّ هذا الإناء لاقى ذاك الإناء في السابق و بأن يعلم أنّ هذا الإناء الذي علم إجمالا بنجاسته أو الشي ء الآخر لو كان نجسا واقعا فإنّما جاءت نجاسته من جهة ملاقاته مع ذاك الإناء، و إلّا فإن احتمل نجاسته بسبب آخر خرج من مصاديق الملاقي و الملاقي، لكن بعد العلم بملاقاته السابقة و العلم بأنّه على تقدير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 292

النجاسة فقد تنجّس بسبب هذه الملاقاة تصير من المصاديق، لكن حكمه- قدّس سرّه- حينئذ بوجوب الاجتناب عن الملاقي- بالكسر- دون الملاقي- بالفتح- محلّ نظر، بل التحقيق عدم وجوب الاجتناب عن شي ء منهما، أمّا في الملاقي- بالفتح- فلما ذكره- قدّس سرّه- من كونه شبهة بدويّة، و أمّا في الملاقي- بالكسر- فلأنّه و إن كان طرفا للعلم الإجمالي بينه و بين الشي ء الآخر و أثر العلم الإجمالي تنجيز التكليف و سقوط الأصل في الطرفين لكنّ الساقط بسبب العلم عن الملاقي- بالكسر- ليس إلّا الأصل الجاري في نفسه، فإنّه المعارض مع الأصل الجاري في الشي ء الآخر فيسقط بالمعارضة.

و أمّا

الأصل الجاري في ملاقاة الذي أثره طهارة الملاقي- بالفتح- و الملاقي- بالكسر- معا فلم يسقط لعدم كون الملاقي- بالفتح- طرفا لهذا العلم، و إنّما هو طرف لعلم آخر، و لكن يكون مشكوكا بدويا كما ذكرنا، فيكون فيه مجرى لأصالة الطهارة بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على نفسه قطعا.

و أمّا بالنسبة إلى الأثر المترتّب على الملاقي- بالكسر- فهو و إن أمكن عدم جريانه بالنسبة إليه لكنّه رفع لليد عن الأصل من دون جهة، فإنّ إجراء الأصل في موضوع آخر الذي يكون أثره طهارة أحد الأطراف ليس ترجيحا بلا مرجّح و لا إذنا في المخالفة القطعيّة، فلا مانع من شمول عموم قوله: «كلّ شي ء إلخ» له، فيكون هذا الأصل بمنزلة الطريق الذي قام بعد سقوط الأصل عن الطرفين بالطهارة في واحد معيّن منهما، فكما يكون هذا الطريق معمولا به فكذا هذا الأصل أيضا و لا يعارضه الأصل في الشي ء الآخر، لأنّ أصله قد سقط و انعدم بالمعارضة مع الأصل الجاري في نفس موضوع الملاقي- بالكسر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 293

و على هذا فيكون أحد طرفي العلم و هو الملاقي- بالكسر- محكوما بعدم وجوب الاجتناب بمقتضى الأصل في الملاقي- بالفتح- و طرفه الآخر و هو الشي ء الآخر محكوما بوجوبه، لما مرّ سابقا من أنّ سقوط التكليف في أحد الطرفين بواسطة خروجه عن محلّ الابتلاء أو فقدانه لا يوجب كون الطرف الباقي شبهة بدويّة و مجرى للأصل كما تقدّم بيانه، و ليس من هذه الجهة فرق بين سقوط التكليف عن أحد الطرفين لواحد من المذكورين و سقوطه عنه من جهة الأصل أو الطريق، فإنّ هذا أيضا بمنزلة انعدامه و خروجه عن الابتلاء في الحكم.

فكما قلنا هناك بأنّ الأصل في

تمام أزمنة الطويل المكث معارض من الأوّل بالأصل في المدّة القصيرة للقصير المكث فكذلك نقول هنا أيضا بأن الأصل في الشي ء الآخر إلى آخر أزمنة مكثه قد عورض من أوّل الأمر بالأصل في الملاقي- بالكسر- ما دام كان لأصله محلّ و قابليّة للجريان، و لازم هذا أنّه بعد انتفاء المحلّ و القابليّة لأصله بواسطة جريان أصل حاكم عليه في موضوع آخر أو قيام طريق على طهارة الملاقي- بالكسر- يكون الملاقي- بالكسر- غير واجب الاجتناب كالملاقى- بالفتح- و يكون الشي ء الآخر واجب الاجتناب.

و من هنا يعلم الحال في المثال الأوّل أيضا، فإنّه يقال: بأنّ الملاقي- بالكسر- على مبناكم كان قبل عود الملاقي- بالفتح- إلى محلّ الابتلاء واجب الاجتناب لعدم جريان الأصل فيه و لا في الملاقي- بالفتح-، و أمّا بعد عود الملاقي- بالفتح- فيكون الأصل في الملاقي- بالفتح- جاريا، و من المعلوم أنّ أثره طهارة ملاقيه، فيكون الملاقي- بالكسر- من هذا الحين محكوما بعدم وجوب الاجتناب لوضوح أنّ الأصل الساقط بمعارضة الأصل في الطرف إنّما هو الأصل في نفس الملاقي-

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 294

بالكسر-، و أمّا بعد سقوط كلا المتعارضين فلا يعقل أن يصير الأصل الجاري بعد ذلك في الملاقي- بالفتح- معارضا بالنسبة إلى أثر طهارة الملاقي- بالكسر- بالأصل الساقط الفائت في طرف الملاقي- بالكسر-، إذ لا يعقل معارضة الساقط مع الموجود.

فرع: على القول بعدم وجوب الاجتناب عن ملاقي الشبهة في كلّ موضع كما اخترناه و القول بعدم الوجوب فيه في بعض المواضع لو اشتبه الملاقي- بالكسر- في موضع لا يجب الاجتناب عنه بما يجب عنه الاجتناب من أطراف الشبهة كلا أو بعضا فله صورتان.

الأولى: أن يكون الكلّ أو البعض من الأطراف و الملاقي-

بالكسر- جميعا موجودا و اشتبه بعضها ببعض، كما لو كان هنا ثلاثة إناءات علمنا بأنّ اثنين منها طرفان للشبهة، و واحدة منها ملاقي لأحد الطرفين و لم يتميّز الملاقي بالكسر عن الطرفين أو كان أطراف الشبهة ثلاثة إناءات ثمّ لاقى إناء رابع مع أحدها فصارت أربعة، ففقد من الأربعة واحدة لم يعلم أيّها هي؟ ففي هذه الصورة لا إشكال في وجوب الاجتناب عن جميع الإناءات، إذ كما أنّ الطاهر الواقعي لو تردّد بين أمور نجسة واقعيّة وجب الاجتناب عن الجميع، فكذا لو اشتبه الطاهر الظاهري في أمور نجسة ظاهريّة أيضا يجب الاجتناب عن الجميع، و لا يوجب مجرّد الواقعيّة و الظاهريّة فرقا في ذلك و هذا واضح، و هكذا الكلام في كلّ غير ذي طرف اشتبه بذي طرف كالإناء المعلوم الطهارة إذا اشتبه بأطراف الشبهة.

إنّما الكلام في الصورة الأخرى و هي ما إذا فقد جميع الإناءات من أطراف الشبهة و الملاقي لأحدها و بقي من الجميع واحد فقط لم يعلم أنّه من الأطراف حتّى يكون واجب الاجتناب، أو أنّه هو الواحد الملاقي حتّى لا يجب الاجتناب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 295

عنه، فربّما يقال بأن الأصل جار في هذا الموضوع المشكوك، فإنّه لا يعلم أنّه طاهر ظاهري أو نجس ظاهري فيكون مشمولا لقوله- عليه السّلام-: «كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

فيشكل عليه بأنّه قد خصّص هذا العموم قطعا بأطراف العلم الإجمالي، و الموضوع المشكوك في المقام مردّد بين أن يكون من أفراد هذا المخصّص أو من أفراد العام الغير المخصّصة، فيكون من باب الشبهة المصداقيّة، و تحقّق في الأصول أنّ العموم ليس مرجعا في الشبهة المصداقيّة.

فيجاب بأنّ المخصّص لو كان لفظيا كان الأمر

كما ذكرت و لكنّه عقليّ، فإنّ الحاكم بخروج أطراف العلم عن هذه الكليّة هو العقل الحاكم بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة و الترجيح بلا مرجّح، ففي كلّ موضع كان العقل مستقلا بعدم جريان الترخيص لأحد المحذورين حكمنا بخروجه عن العموم، و كلّ موضع ليس للعقل هذا الحكم- كما في الموضوع المشكوك في ما نحن فيه- فلا مانع من الأخذ بالعموم، و بعبارة أخرى القدر المتيقّن من التخصيص هو الأفراد التي كانت المعارضة فيها معلومة، حيث إنّ العقل حاكم بعدم إمكان دخوله في العموم، و أمّا إذا كانت المعارضة مشكوكة فلم يعلم أنّه خارج عن العموم أو لا، فيكون ظهور العموم فيه مأخوذا بلا مانع.

و بعبارة أخرى: المخصّص إذا كان لفظيّا فهو يعنون العام، فإذا ورد: «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفساق» فالجمع بين الدليلين يقتضي حمل الأوّل على العالم الغير الفاسق، فكأنّه قال من الأوّل: أكرم العالم الغير الفاسق، فكما لو قال هكذا فالفرد المعلوم العلم المشكوك الفسق لم يصح التمسّك فيه بالعموم بلا إشكال، فكذا في حال قال: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم الفساق، و أمّا المخصص اللبيّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 296

فلا يجعل دائرة العموم ضيّقة بل هو باق بعنوان العام بحاله في غير ما خرج بالقطع، فالأفراد المشكوكة يكون العموم فيها حجّة. هذا ما قيل.

و فيه نظر، و وجهه أنّ اللفظ لا يمكن أن يكون حاله أعلى من القطع، فكيف إذا قطع بحرمة إكرام الفاسق بواسطة قوله يورث ذلك تقييد عنوان العام، و أمّا إذا قطعنا بأنّه لا يجب إكرام الفاسق و قال: أكرم العلماء لا يوجب هذا القطع تقييد هذا العام؟ فالإنصاف عدم الفرق بين اللبيّ و اللفظي

في هذه الجهة.

نعم هنا أمر آخر يدور مداره جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وجودا و عدما و هو احتمال أن يكون المتكلّم ساق العام بعد الفحص و التتبع عن حال الأفراد و عدم وجدان فرد من المخصّص بينها، فلهذا ساق العام و نظر إلى التشخيص و جعل الحكم في كلّ فرد بشخصه، فعند هذا يكون العموم حجّة سواء كان المخصّص مستفادا من اللفظ أو اللب.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده و قال له: اذهب إلى هذا البيت- و أشار إلى بيت مملوّ من البطيخ- و كلّ بطيخ مسّه يدك جئني به، و كان هذا العبد قاطعا و عالما من حال هذا المولى أنّه لا يطلب البطيخ الفاسد، و احتمل عند قوله هذا أنّه تتبّع تمام البطيخات و وجد تمامها سالما فلهذا ساق العموم، أ فترى عند ذلك لو وصل يده إلى بطيخ من البطيخات في البيت و شكّ في كونه فاسدا أنّه يتأمّل في إتيانه عند مولاه بمجرّد هذا الشك؟ أو يدفع هذا الشك عن نفسه بعكس النقيض؟ و يقول: كلّ بطيخ هذا المكان مطلوبه بمقتضى هذا العموم، و هو لا يحبّ البطيخ الفاسد، فيعلم أنّ جميع هذه صحيحة فهذا صحيح.

و أمّا لو علمنا بأنّه لم يسق العموم على هذا الوجه إمّا للعلم بأنّه لم يستقص

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 297

الأفراد كما لو علم العبد في المثال بأنّ المولى حاله حال نفسه في عدم الاطّلاع على حال البطيخات، و من المعلوم أنّه عند ذلك لا يتمسّك بالعموم في المشكوك، أو علمنا بأنّ حال الأفراد عنده واضح مكشوف و أنّه عالم بتمام أحوالها كما في الشارع العالم بالغيب، لكن علمنا بأنّه في

هذه القضيّة لم يتكلّم بانيا على علمه بالغيب بل على النحو المتعارف فإنّه عند ذلك لا يجوز التمسّك قطعا من غير فرق بين المخصّص اللبّي و اللفظي.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 297

فالعمومات في كلام الشارع إن احتملنا أنّه كان تكلّمه بها لعلمه بالغيب و بانيا عليه جاز التمسّك بها في المشكوك، كما في قوله: «لعن اللّٰه بني أميّة قاطبة»! فإنّا نعلم بأنّه لا يحبّ لعن المؤمن و سبّه باللبّ و اللفظ، و لكن يحتمل أنّ قوله: لعن اللّٰه بني أمية قاطبة كان بنظره العلم بالغيب يعني نظر في هذه الشجرة إلى يوم القيامة فلم يجد أحدا من أهل هذه الشجرة الخبيثة مؤمنا فلهذا ساق العموم المذكور، و بمجرّد هذا الاحتمال يؤخذ بالعموم في كلّ مشكوك الإيمان من أهلها، فنقول أنّه من بني أميّة، و كلّ من كان كذلك فهو جائز اللعن، و كلّ مؤمن لا يجوز لعنه، فينتج أنّ هذا المشكوك الحال ليس بمؤمن.

و بالجملة: إن كان احتمال استقصاء الأفراد و سوق العموم لأجله و بالبناء عليه موجودا في العام جاز التمسّك به في المشكوك من المصاديق سواء كان المخصّص لبيا أم لفظيّا، نعم لا يجري هذا في ما إذا كان المخصّص اللفظي خاصّا مطلقا كما إذا ورد: أكرم العلماء ثمّ لا تكرم الفسّاق من العلماء، فإنّه لا يحتمل حينئذ أن يكون العام مسوقا بالنحو المزبور، إذ لو فحص و لم يجد بين العلماء فاسقا كان قوله: لا تكرم الفسّاق من العلماء لغوا لعدم الموضوع له، فقوله ذلك يكشف عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 298

أنّه إمّا تفحّص و وجد الفاسق بينهم، أو لا أقلّ من أنّه احتمل وجوده بينهم، و على أيّ حال فلم يكن عمومه مبنيّا على الاستقصاء فلا يجوز التمسّك به حينئذ في الفرد المشكوك، و كذلك لو علم بأنّه لم يستقص الأفراد إمّا لعدم تمكّنه من استقصائها أو تمكّنه لعلمه بالغيب لكن عدم كون كلامه مبنيّا على العلم بالغيب، فلا يجوز حينئذ التمسّك بالعام مطلقا سواء كان المخصّص لبيّا أم لفظيّا.

إذا عرفت ذلك ففي المقام لا إشكال أنّه لا يحتمل ذلك في عامنا و هو «كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، لأنّا نعلم أنّ الشارع لم يقل هذا الكلام لأجل أنّه تفحّص في الشكوك فلم يجد بينها شكوكا كانت أطرافا للعلم الإجمالي فساق العموم بانيا على هذا العلم و الفحص، فلهذا لا يجوز في الإناء المشكوك كونه من الأطراف أو بدويّا التمسّك بهذا العموم و إن كان المخصّص لبيا، هذا.

و لكن يمكن أن يقال: المانع و المخصّص لجريان عموم «كل شي ء إلخ» في جميع الأطراف بعد القطع باستحالة الإذن في المخالفة القطعية هو معارضته في كلّ طرف مع نفسه في الطرف الآخر، فإذا كان وجود المعارض في قبال هذا العموم معلوما يرفع اليد عنه، و متى لم يكن معلوما فلا يرفع عنه اليد.

و بالجملة للعلم هنا دخل في المخصّصيّة، فالمخصّص إنّما هو المعارضة بوصف كونها معلومة لا هي بوجودها الواقعي، فنقول: هذا الإناء المشكوك و إن كان يحتمل أن يكون في الواقع طرفا للشبهة و كان للقاعدة فيه معارضا في الواقع، لكنّ المعارض بوجوده الواقعي لا يضرّ بالعام، إذ كما يحتمل وجوده يحتمل أيضا عدمه من أوّل الأمر.

لا يقال: لو كان هذا الإناء في الواقع

طرفا فلا إشكال أنّ القاعدة فيه قد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 299

فاتت و ماتت، و قد مرّ سابقا أنّ القاعدة إذا انعدمت عن المورد لا يجري فيه ثانيا و لو بعد انعدام الطرف الآخر، فلا يعلم أنّ هذا الإناء يكون فيه مجرى للقاعدة أو لا.

لأنّا نقول: لو كان في الواقع طرفا فلا إشكال أنّ حال العموم في شموله له لم يتفاوت فيه، فهو في حال معلوميّة طرفيّته و حال مشكوكيّته سيّان في شموله له، لكنّ الفرق في وجود المعارض و عدمه، فإنّ المعارض في حال معلوميّة الطرفيّة معلومة حتّى بعد انعدام الطرف الآخر، إذ نعلم بأنّ القاعدة فيه معارضة بالقاعدة في الطرف الآخر في الزمان السابق، فالقاعدة في الطرف المعدوم أزمنة وجوده معارضة للقاعدة في هذا الطرف إلى الأبد، و لكن بعد المشكوكيّة ليس المعارض معلوم الوجود و لو بوجوده السابق، بل يحتمل أنّه كان من أوّل أمره بلا معارض.

بل ما ذكرنا لا يختصّ بالمقام بل بالحال في كلّ دليل و عام و حجّة هو ذلك، فإنّه لا يرفع اليد و لا يسقط عن الحجيّة خبر الثقة مثلا بمجرّد وجود خبر الأوثق في الواقع خلافه بل المعارض لا يصير معارضا حتّى يصير معلوما، فالعلم بوجوده دخيل في كونه معارضا، فيكون عموم كلّ شي ء إلخ جاريا في المقام و المعارض غير معلوم، و على تقدير وجوده واقعا غير معارض، و الفرق بين المقام و بين ما إذا كان جميع الأطراف موجودا و كان الملاقي مشتبها بينها الذي هو الفرع المتقدّم وجود الطرف هناك دون المقام، فالمعارضة هناك معلومة في الحال و في المقام غير معلومة لا في الحال و لا من السابق كما عرفت.

هذا

هو الكلام في الأصل الشرعي المستفاد من العموم المذكور، و أمّا الأصل العقلي فلا يخفى أنّه هنا الاحتياط لا البراءة، و وجهه أنّ المكلّف قد اشتغل ذمّته بالاجتناب عن النجس الواقعي الموجود في الطرفين حال وجودهما و صار هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 300

التكليف منجّزا عليه و ثابتا على عنقه بحكم العقل، و لا إشكال أنّ الخروج من هذا التكليف المعلوم بطريق القطع يتوقّف على الاجتناب من الإناء المشتبه بعد إراقة سائر الإناءات، إذ لو لم يجتنب عنه ثمّ قال له المولى: هل اجتنبت من النجس الواقعي الموجود في الإناءين الذي أمرتك باجتنابه أو لا؟ فلا يتمكّن من الجواب ب نعم قد اجتنبت، إذ هو يحتمل أن يكون هو هذا الإناء الذي ما اجتنب عنه.

و بالجملة بعد صيرورة التكليف الكلي ب اجتنب عن النجس موجبا لاشتغال الذمّة بواسطة تحقّق صغراه يجب الخروج عنه، فإنّ التكاليف الكليّة مثل لا تشرب الخمر و اجتنب عن النجس يكون مثل التكاليف المشروطة، فهي مشروطة بتقدير وجود متعلقاتها مثل الخمر و النجس في محلّ ابتلاء المكلّف، فمع عدمه هذا التكليف الكلّي موجود و لم يوجب اشتغال الذمّة، و لكن بعد الوجود و صيرورته قابلا لوصول اليد يكون هو صغرى و التكليف الكلّي كبرى، فيقال هذا نجس، و كلّ نجس يجب الاجتناب عنه، فينتج اشتغال الذمّة بهذا النجس الشخصي.

ففي المقام قد صار العلم الإجمالي بوجود النجس في الإناءين موجبا لاشتغال الذمّة بالاجتناب عن النجس الشخصي، و يحتمل أن يكون الإناء الباقي هو هذا الشخص المأمور باجتنابه، فيجب عنه الاجتناب خروجا عن عهدة التكليف المعلوم بحكم العقل، و الشكّ في وجود هذا التكليف في هذا الآن ليس ساريا أيضا إلى

السابق بل العلم السابق باق بحاله، و لا شكّ أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط.

و على هذا فيصير الإناء المشكوك المذكور شبهة بدويّة بحسب الأصل الشرعي و من أطراف العلم بحسب الأصل العقلي و لا ضير في التزام ذلك، و من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 301

المعلوم أنّ الأصل الشرعي مقدّم على العقلي، لأنّ حكم العقل بالاحتياط من باب دفع الضرر و الأصل الشرعي مؤمّن عن الضرر.

فإن قلت: قاعدة الطهارة بعد كون التكليف من السابق معلوما و يشكّ في ارتفاعه معارضة بالاستصحاب الذي هو أصل شرعي.

قلت: إن أردت بالاستصحاب استصحاب حكم العقل باشتغال الذمّة بمعنى كون العنق في قيد التكليف فهذا ليس مشكوكا، إذ لا نشكّ في حكم العقل بذلك، بل نقطع بحكمه بذلك في الحال كما عرفت آنفا، و إن أردت استصحاب حكم الشرع بوجوب الاجتناب عن النجس الشخصي فالموضوع في هذا الاستصحاب غير محرز، لعدم العلم بكون هذا الإناء هو النجس الواقعي، و إن أردت استصحاب حكم الشرع بوجوب الاجتناب عن النجس الكلّي فهذا ممكن، لكن لا يفيد فائدة إلّا بضميمة حكم العقل بالاحتياط إليه، إذ بعد الاستصحاب المذكور لا يمكن الحكم بتطبيق الكلي على هذا الموجود، إذ يصير مثبتا، بل لا بدّ بعد إثبات وجوب الاجتناب عن النجس الكلّي بالاستصحاب و احتمال أنّه كان هذا الإناء الموجود من حكم العقل بوجوب الاحتياط، فيكون الاستصحاب لغوا، فالعمدة هو حكم العقل بالاحتياط و قد عرفت ورود القاعدة عليه، هذا.

و من هنا يعلم الحال في فرع آخر يكون الكلام فيه بعينه هو الكلام في الإناء المذكور، و هو ما إذا كان هنا إناء معلوم الطهارة تفصيلا و إناء آخر معلوم النجاسة كذلك و كانا متميّزين،

ثمّ أريق أحدهما و بقي الآخر و لم يعلم أنّ الباقي هو معلوم الطهارة أو معلوم النجاسة، فإنّه لا إشكال في كونه موضوعا مشكوكا بشكّ بدوي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 302

فيشمله عموم «كل شي ء إلخ» و لكنّه في حكم طرف الشبهة بحسب الأصل العقلي، لأنّه يعلم بكونه مشتغل الذمّة بامتثال تكليف اجتنب عن هذا النجس، و يحتمل أن يكون هذا بعينه هو ذاك، فلا يخرج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم إلّا بالاحتياط و الاجتناب عنه، و هذا واضح.

ثمّ إنّ هنا فرعا آخر، و هو أنّه لو كان هنا ثلاثة إناءات علم بوجود النجس الواقعي بينها، و كان هنا إناء رابع و حصل العلم بسبب من الأسباب بأنّه لو كان هذا الإناء المعيّن من الإناءات الثلاثة طاهرا لكان هذا الإناء الرابع نجسا، فإن كان العلم الثاني بعد تنجيز العلم الإجمالي التكليف في الإناءات الثلاثة كان الإناء الرابع شبهة بدويّة، فيجري فيه أصالة الطهارة بناء على كون التنجيز العقلي في العلم الإجمالي السابق مورثا لانحلال العلم الإجمالي اللاحق كما تقرّر تحقيق الكلام فيه في محلّه.

و أمّا إن كان العلمان متقارنين فهل يصير هذا الإناء الرابع أيضا واحدا من الأطراف فيكون هنا علم إجمالي واحد ذو أطراف أربعة؟ أو يكون في البين علمان إجماليّان؟ الظاهر هو الثاني، فإنّه يعلم بأنّ هذا الإناء المعيّن من الإناءات الثلاثة لو كان طاهرا فيكون الإناء الرابع نجسا، و لازم ذلك أنّه يلزم من العلم بطهارة كلّ من هذين العلم بنجاسة الآخر، إذ نعلم بأنّ كليهما لا يكونان طاهرين، فإمّا أن يكون مجموعهما نجسا، أو يكون واحد منهما نجسا و الآخر طاهرا، فهذا علم إجمالي يكون له طرفان وراء العلم الإجمالي

الحاصل بين ثلاثة إناءات، فيكون الإناء المعيّن من الثلاثة طرفا لكلّ من العلمين، و على هذا فيجب الاجتناب عن جميع الإناءات الأربعة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 303

[في حكم الإناء المشترك و قد أذن أحدهما بالتصرف في ماله]

«مسألة 9: إذا كان هناك إناء لا يعلم أنّه لزيد أو لعمرو، و المفروض أنّه مأذون من قبل زيد فقط في التصرّف في ماله لا يجوز له استعماله، و كذا إذا علم أنّه لزيد مثلا لكن لا يعلم أنّه مأذون من قبله أو من قبل عمرو».

لو بنينا في قوله: «لا يحلّ مال امرء إلّا بطيب نفسه» على ما حملناه عليه من نفي جنس الحلّية أعمّ من الظاهريّة و الواقعيّة فليس مجرى للأصل الشرعي و لا العقلي، سواء كانت الشبهة في أصل الماليّة للغير بأن شكّ أنّه مال نفسه أو غيره، أو كانت في الطيب و عدمه بعد معلوميّة الماليّة للغير، و قد بيّنا وجه ذلك في ما تقدّم، و يحتمل أن يكون المراد نفي الحليّة الواقعيّة مخصوصا، و لكن كان المراد بذيله هو السببيّة و الاستناد، بأن كان المراد أنّ مال الغير لا يحلّ واقعا التصرّف فيه إلّا إذا كان التصرّف مستندا إلى طيب نفس صاحبه، فإذا لم يكن التصرّف مسببا و مستندا إليه سواء كان الرضى و الطيب موجودا واقعا و لكن لم يكن معلوما أو لم يكن، يكون التصرّف حراما واقعا لعدم سبب الحليّة و هو الاستناد إلى الطيب واقعا، فإنّ من المعلوم توقّف تحقق الاستناد إلى الالتفات و العلم بوجود الطيب فيكون نظير قوله تعالى قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ «1» على ما حمله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عليه مستدلا به، على حرمة العمل بالظن الذي لا دليل على حجيته من

أنّ المراد و اللّٰه العالم أنّه هل يكون هذا الذي تقولون من أنّ هذا حلال و هذا حرام بإذن اللّٰه يعني معتمدا عليه و متّكلا إليه أو لا؟ و هذا الشقّ يحتمل وجهين:

الأوّل: أن لا يكون الإذن موجودا، و الثاني: أن يكون موجودا واقعا و لم يبلغ إليهم، فأطلق على كليهما الافتراء، فاستدلّ بذلك على أنّ الظن الذي لا دليل على

______________________________

(1)- يونس/ 59.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 304

حجيّته يحرم التعبّد به و معاملة الحجّة معه و إن كان واقعا حجّة و لم يصل إلينا، إذ هو حينئذ يكون افتراء على اللّٰه تعالى بمقتضى الآية.

و بالجملة فيكون على هذا مفاد الخبر اعتبار أمرين في حليّة التصرّف في مال الغير، الأوّل: وجود الرضى في الواقع، و الثاني: استناد التصرّف إليه و لا محالة لا يتحقّق إلّا مع العلم به، فعلى هذا الحمل يخرج ما نحن فيه أعني ما إذا علم الماليّة للغير و كانت الشبهة في الطيب و عدمه عن كونه شبهة تحريميّة، بل يكون مبيّن الحرمة، للعلم بانتفاء سبب الحليّة و هو الاستناد، نعم على هذا تكون الصورة الأخرى أعني ما إذا كانت الشبهة في الماليّة للغير من باب الشبهة التحريميّة فيكون مجرى للأصل الشرعي و إن لم يجر فيه الأصل العقلي.

و أمّا لو لم يحمل الصدر على جنس الحليّة كما هو الوجه الأوّل و لا الذيل على السببيّة و الاستناد كما هو الوجه الثاني، بل حملنا الصدر على الحليّة الواقعيّة و الذيل على مطلق وجود الرضى واقعا و إن لم يكن سببا، يكون كلتا الصورتين داخلة في الشبهة، و بعد سقوط الأصل العقلي في كلتيهما يكون المرجع في صورة الشبهة في أصل الماليّة

للغير هو أصالة الحلّ، و أمّا صورة الشبهة في الطيب فإمّا أن يكون فيها حالة سابقة للطيب وجودا أو عدما أو لا.

فالأوّل: كما لو علم بأنّ زيدا و عمروا كانا جميعا راضيين بالتصرّف في مالهما إلى الأمس و نشكّ بعده، أنّ عمروا باق على الرضى أو لا، و شككنا في المال أنّه لزيد أو لعمرو، فنستصحب حينئذ وجود الطيب، أو علم بعدم رضا كليهما إلى الأمس و علم برضى زيد من الأمس و شكّ في رضى عمرو و كون المال لأيّ منهما فحينئذ نستصحب عدم الطيب.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 305

و الثاني: كما لو علم بأنّ الثمر على الشجر من أوّل وجوده إمّا يكون لزيد أو لعمرو، و على الأوّل نقطع برضى زيد بالتصرّف من الأوّل، و على الثاني نقطع بعدم رضى عمرو به من الأوّل، فإنّ استصحاب وجود الطيب لا يمكن، لعدم العلم به سابقا و استصحاب العدم المتعلّق بالموضوع.

و بعبارة أخرى سلب الطيب عن موضوع الثمر الموجود أيضا ليس له حالة سابقة، نعم عدم الطيب المطلق و لو بعدم الموضوع معلوم سابقا، إذ قبل وجود الثمر يصدق أنّ نسبة الطيب إلى الثمر لم تكن موجودة، و لكن استصحابه أعني:

استصحاب العدم الأزلي إنّما يفيد لو جعلنا موضوع الحرمة أمرين، مال الغير و العدم المطلق الشامل للعدم بعدم الموضوع، فإنّ أحد الجزءين حينئذ و هو كونه مالا للغير موجود بالقطع و الآخر و هو عدم الطيب متحقّق بالأصل.

و أمّا لو جعلنا الموضوع هو الماليّة للغير و العدم الخاص، أعني: العدم الثابت الموضوع، فاستصحاب العدم الأزلي إنّما يثبت عدم طيب مستمرّ من الأزل إلى زمان الشكّ، و أمّا ارتباط هذا العدم بالمال الموجود حال الشكّ

حتّى يحكم بأنّ هذا الثمر الموجود ليس فيه طيب النفس، فإثباته بهذا الاستصحاب لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت.

و بالجملة كلّما كان العدم الخاص جزء للموضوع يختلف فيه الاستصحاب، فمع ثبوت الحالة السابقة للعدم الخاص أو الوجود الخاص يستصحب الحالة السابقة، و مع عدمها لا يمكن استصحاب العدم الأزلي، فلا بدّ من الرجوع إلى أصالة الحلّ، و كلّما كان العدم المطلق جزء للموضوع فالاستصحاب جار في جميع الموارد، و هذان الاحتمالان في طرف الحرمة ناشئان من مثلهما في جانب الحليّة، بمعنى أنّ شرط الحليّة و سببها هل هو الطيب المطلق، فيكون موضوع الحليّة أمران

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 306

مال الغير و وجود الطيب مقارنا لوجود مال الغير؟ أو هو الطيب الخاص، فالموضوع هو مال الغير المتحقّق فيه الطيب.

فإن كان الموضوع هو مال الغير و وجود الطيب كان موضوع الحرمة مال الغير و عدم الطيب و لو بعدم موضوعه، و إن كان الموضوع هو مال الغير المتحقّق فيه الطيب فيكون موضوع الحرمة مال الغير، الغير المتحقّق فيه الطيب، و يمكن استظهار الأوّل من قوله: لا يحلّ مال امرء إلّا بطيب نفسه، إذ الظاهر من اعتبار طيب النفس بعد الفراغ من وجود مال امرء، فكلّ منهما قد اعتبر بوجود على حدّه.

فتحصّل أنّ هنا ثلاثة أوجه، على أحدها يكون المتعيّن هو الاحتياط في الشبهة الماليّة بقسميها، و على الآخر يكون أحد قسميها شبهة و يكون مجرى لأصالة الحلّ، و الآخر لا يكون شبهة، بل يكون معلوم الحرمة، و على الثالث يكون القسمان من باب الشبهة، و يكون المرجع في أحدهما أصالة الحلّ و في الآخر يكون هو الاستصحاب في كلّ مورد إن اعتبر العدم المطلق و

في بعض الموارد مع الرجوع في بعض آخر إلى أصالة الحلّ إن اعتبر العدم الخاص، و قد استظهرنا العدم المطلق.

و من هنا يظهر الكلام في الفرع الآخر، و هو ما إذا علم أنّ المال لزيد و علم أنّ واحدا من زيد و عمرو أذن له في التصرّف في مطلق أمواله و شكّ أنّه زيد أو عمرو فإنّ الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع المتقدّم بلا فرق.

[حكم الماءين توضّأ بأحدهما أو اغتسل، و بعد الفراغ حصل له العلم بأنّ أحدهما كان نجسا]

«مسألة 11: إذا كان هناك ماءان توضّأ بأحدهما أو اغتسل، و بعد الفراغ حصل له العلم بأنّ أحدهما كان نجسا، و لا يدري أنّه هو الذي توضّأ به أو غيره، ففي صحّة وضوئه أو غسله إشكال، إذ جريان قاعدة الفراغ هنا محلّ إشكال، و أمّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 307

إذا علم بنجاسة أحدهما المعيّن و طهارة الآخر فتوضّأ و بعد الفراغ شكّ في أنّه توضّأ من الطاهر أو من النجس، فالظاهر صحّة وضوئه لقاعدة الفراغ، نعم لو علم أنّه كان حين التوضّي غافلا عن نجاسة أحدهما يشكل جريانها».

قد يقال في الفرع الأوّل بأنّه إذا كان الماء الذي توضّأ به مشكوك الطهارة فلا شكّ أنّه كان محرز الطهارة بالأصل حين وضوئه، و بعده لم ينكشف كون أصله مخالفا للواقع، فإنّ العلم الإجمالي اللاحق لا يوجب سقوط الأصل السابق، و أمّا في اللاحق فليس للماء المتوضّأ به موضوع حتّى يكون مجرى للأصل ثمّ يسقط أصله بالمعارضة.

و بالجملة هذا الماء ما دام وجوده كان محكوما بالطهارة بمقتضى الأصل، و بعد انعدامه لم يظهر مخالفته للواقع، فلا مانع من الحكم بصحّة الوضوء في هذا الفرض و إن قلنا بعدم كونه من باب الشكّ بعد الفراغ، نعم العلم الإجمالي الحاصل لاحقا

يوجب تطهير البدن يعني مواضع ملاقاته مع الماء المتوضّأ به، و وجوب الاجتناب عن الماء الآخر للعلم بنجاسة هذه المواضع أو ذاك الماء.

و يشكل عليه بما مرّ سابقا من أنّ الموضوع الذي انعدم أو خرج عن محلّ الابتلاء إذا كان للأصل فيه أثر مبتلى به لا مانع من جريان الأصل فيه بلحاظ ترتيب هذا الأثر، كما في استصحاب ترك صلوات الأب الموجب لوجوب القضاء على الولد الأكبر، فالماء المتوضّأ به هنا و إن كان منعدما، لكن لأصالة الطهارة أثر مبتلى به و هو طهارة مواضع ملاقاته من البدن و صحّة التوضّي به، فلا مانع من هذا الأصل بعد انعدامه بلحاظ هذين الأثرين، و إذن فبعد العلم الإجمالي يقع التعارض بين هذا الأصل و أصل الطهارة في الماء الآخر فيتساقطان.

و حينئذ لا يعتنى بالأصل الموجود قبل حصول العلم في الماء المتوضّأ به، فإنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 308

في ذاك الزمان و إن كان سليما عن المعارض و لم ينكشف بعد مخالفته للواقع، و لكن بعد سقوط الأصل فيه للمعارضة في الحال لا يعتنى بذاك الأصل مع تحقّقه واقعا.

كما أنّه في صورة انكشاف مخالفة الأصل السابق للواقع لا يعتنى بذاك الأصل، مع أنّه زمان وجوده كان حكما واقعيّا في موضوعه سليما عن المعارض، و مع ذلك يرفع عنه اليد بواسطة سقوطه في زمان اليقين، و بالجملة الأصل بمجرّد سقوطه في زمان، لا يعتنى به بالنسبة إلى الآثار السابقة المبتلي بها في اللاحق و لو كان جاريا في الأزمنة السابقة المتطاولة.

ثمّ بعد ارتفاع الأصل بواسطة العلم الإجمالي عن البين يكون مقتضى الأصل من حيث صحّة الوضوء و عدمها هو عدم الصحة، فيبتني حينئذ صحّتها على شمول

أخبار الشكّ بعد الفراغ للمقام.

و قد يقال بعدم الشمول نظرا إلى ما اشتمل عليه بعض هذه الأخبار الواردة في باب الوضوء ممّا هو بمنزلة التعليل، لعدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ من قوله- عليه السّلام-: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك» فإنّ الظاهر من هذا التعليل اختصاص الحكم بما إذا كان وقوع العمل صحيحا من العامل حين العمل مشكوكا بعد فراغه من جهة احتمال الإخلال بجزء من العمل أو شرط له لغفلة أو نسيان، فحكم في مثل هذا الفرض أنّه لا بدّ أن لا يعتنى بهذا الاحتمال. أعني:

احتمال الغفلة و النسيان و الإخلال من جهتهما بل يبنى على عدم وقوعهما و صدور العمل صحيحا تامّ الأجزاء و الشرائط، لأنّ العامل حين العمل أكثر تذكّرا منه بعد الفراغ.

و من المعلوم أنّ هذا مخصوص بما إذا كان التفات العامل إلى حيث وجود الشرط أو المانع محتملا، و إلّا فإن علم بعدم التفاته و غفلته حين العمل عنه بالمرّة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 309

فكيف يبني على أنّه راعى وجود الشرط و عدم المانع و أوقع العمل صحيحا من الجهة المشكوكة؟

مثلا لو علم بأنّه حين الوضوء كان غافلا عن تخليل الخاتم الذي كان في يده ليصل الماء إلى البشرة تحته، و لكن مع ذلك يشكّ في صحّة وضوئه و فساده بعد الفراغ لاحتمال أن كان الماء دخل بنفسه تحت الخاتم و وصل إلى البشرة، فإنّ الأذكريّة في هذا الفرض لا تتأتى كما هو واضح، فلا يشمله الحكم بالصحّة، و من قبيله المقام، فإنّ الماء المتوضّأ به بعد ما كان مشكوكا حين التوضّي به و اتّكل في طهارته بالأصل ثمّ صار معلوم النجاسة بالعلم الإجمالي بينه و بين

ماء آخر، فالمتوضّي قاطع بأنّه حين التوضّي لم يكن ملتفتا إلى الجهة التي شكّ في صحّة وضوئه من جهتها حتّى يبني على أنّه صار بصدد الإصلاح من هذه الجهة، و هي احتمال كون النجس المعلوم في الماء المتوضأ به، فيقطع بأنّه حين التوضّي كان غافلا عن هذا الاحتمال، فلا يجري في حقّه التعليل بالأذكريّة، فكذا المعلّل به من صحّة الوضوء فيحكم ببطلان الوضوء.

و من هنا يظهر الحال في الفرض الآخر لهذا الفرع و هو: ما إذا كان الماء المتوضّأ به حين التوضّي معلوم الطهارة تفصيلا، بل الحال فيه أوضح، فإنّه بعد العلم الإجمالي لم يكن في الماء المتوضّأ به أصل و لو من الأوّل حتى يتوهّم صحّة الوضوء من جهة هذا الأصل، ففي زمان وجوده لم يكن فيه مجرى للأصل لمكان العلم، و بعد انعدامه و حصول العلم الإجمالي و إن كان فيه مجرى للأصل من حيث الأثر المبتلى به، لكنّه يسقط بالمعارضة مع الأصل في الماء الآخر كما ذكر، فيبتني صحّة الوضوء فيه على شمول قاعدة الفراغ له، و هي غير شاملة لهذا الفرض أيضا، إذ الفرض أنّه كان قاطعا بطهارة الماء و لم يحتمل وجود النجس فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 310

أصلا فضلا عن النجس المعلوم إجمالا، فعدم دخوله تحت الأخبار أوضح.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأنّ ما ذكر من قوله: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ليس تعليلا للحكم بل هو إمّا حكمه لا يلزم اطّرادها و يمكن تخلّفها، و إمّا مسوق لأجل التقريب إلى ذهن السامع.

و بالجملة لو استفيد عدم الدخل له في الحكم فلا إشكال في شمول تلك الأخبار بإطلاقها لجميع هذه المواضع و أمثالها، فيكون الحكم في

كلّ موضع شكّ بعد الفراغ من الوضوء في صحّته من جهة من الجهات هو البناء على وقوعه صحيحا و إن علم بأنّه حين العمل لم يكن ملتفتا إلى هذه الجهة.

و أمّا الفرع الآخر و هو ما إذا كان هناك ماء معلوم الطهارة و ماء آخر معلوم النجاسة و كانا متميزين فتوضّأ، و بعد الفراغ شكّ في أنّه توضّأ بالطاهر أو بالنجس، فدخوله تحت تلك الأخبار واضح، و لو قلنا بعليّة الأذكريّة للحكم، فإنّ الأذكريّة تتأتّى هنا بلا إشكال، إذ الفرض أنّه حين التوضّي كان عالما بكون أحد الماءين طاهرا و الآخر نجسا، و يحتمل بعد الفراغ أنّه غفل عن هذا العلم و توضّأ بالنجس غفلة، فلا بدّ أن لا يعتني بهذا الاحتمال.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 311

في كيفيّة التطهير بالماء:

اشارة

اعلم أنّ الأصل في المقام واضح أنّه استصحاب النجاسة، فكلّما شككنا في دخله و عدم دخله في ارتفاع النجاسة لا بدّ من الإتيان به حتى يحصل القطع بارتفاع النجاسة، و هذا واضح. لكن الشأن في ملاحظة الأدلّة و الكلام في مقامات:

الأوّل: في لزوم العدد في الغسل و عدمه

قد يدّعى الإطلاق من تضاعيف الأخبار، بتقريب أنّ مثل أمر التطهير الذي هو محل ابتلاء العامّة في كل يوم و ليلة كيف يمكن اعتبار ذلك فيه، و مع ذلك أهمل عن ذكره في الاخبار، بل كان الواجب اهتمام الشارع في إبلاغه و لا أقل من أن يرد فيه خبر واحد، فحيث لم يصل علم بعدم اعتباره.

و فيه: أنه يمكن كون ذلك من المذهب و لا ينافيه عدم ورود الأخبار فيه، إذ لا ملازمة بين كون شي ء من أحكام المذهب و عدم ورود النص، فنقول: كثير من الأمور لم يرد نص فيها و مع ذلك حكمنا بأنّها من المذهب يعمل عامة المتدينين به، فيمكن أن يكون المقام من هذا القبيل فاكتفى فيه بالعمل عن النص.

نعم يمكن ان يقال انّ أوامر الغسل مثل قوله: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه و نحوه، و إن كانت ليست في مقام بيان علاج التطهير بعد مفروغية أصل النجاسة و أصل لزوم الغسل، بل هي إمّا في مقام بيان الحاجة إلى أصل الغسل في مقابل عدم لزوم شي ء أصلا و كونه طاهرا، و إمّا في مقام بيان أنّه بعد إزالة النجاسة يجوز الدخول في الصلاة في قبال عدم جوازه قبله و نحو ذلك، و لكن نقول: إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 312

مادة الغسل و إن كان لم يعتبر فيه إزالة الوسخ، بحيث لو لم يكن في

المحل وسخ و لا كان فيه توهّم الوسخ، و مع ذلك صبّ عليه الماء و دلك باليد يسمّى غسلا، غاية الأمر ما لم يكن له غرض عقلائي، و لو لم يكن إزالة الوسخ كإزالة شي ء آخر يعد لغوا، و ذلك نظير كنس البيت فلو لم يكن فيه كناسة أصلا عدّ لغوا، لا أنّه ليس بكنس، و لكن الإنصاف أنّه لو ذكر شي ء كالمني، و البول، و العذرة، و نحوها و أصابتها بثوب و نحوه، ثمّ عقب بغسل ذلك عن الثوب، كما إذا قيل: إذا أصاب ثوبك بول فاغسله، يتبادر منه عرفا أنّ ذلك لأجل إذهاب هذه الأعيان عن الثوب بالماء.

فإن قلت: لا كلام لنا في لزوم أصل الإذهاب، إنّما الكلام في أنّه هل يجب شي ء زائد عليه أو لا من التكرار؟ فيحتمل أن يكون المعتبر في إذهاب النجاسة و هي أمر معنوي كشف عنها الشارع، و يكون عنده بمنزلة الوسخ بل عينه إذهابا بالماء على وجه مخصوص و كمّ مخصوص، فإنّا إنّما نشاهد زوال العين و لا نشاهد زوال الأثر، و لا ملازمة بين زوال الأوّل و زوال الثاني، و لهذا لو جفّ البول و لم يبق من عينه شي ء يجب الغسل لإزالة الأثر الذي هو النجاسة.

و الحاصل و إن سلّمنا أنّ المتبادر من الغسل في المقام المخصوص هو الإذهاب بالماء، و لكن حيث عرفت أن ليس لنا إطلاقات نتمسّك بها و ما ورد ليس في مقام البيان، فيحتمل أن يكون الدخيل في التطهير إذهاب مخصوص.

فالمتبادر من قوله: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» و إن كان إذهاب عين البول، لكن لما أنّ هذا الكلام ليس إلّا في مقام بيان أصل لزوم الغسل،

فلا يمكن الحكم بأنّه يستفاد منه الحكم بالطهارة عقيبه، إذ لعلّ الطهارة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 313

كانت متوقّفة على كيفية خاصّة و كمية كذلك، و ليس الكلام في مقام بيانها.

قلت: إنّ للعرف في غسل أوساخهم و قذارتهم من الثياب و البدن و غير ذلك طريقا متعارفا لا إبهام فيه عندهم، و ليس يعتبر فيه عندهم سوى إزالة أعيان الوسخ، و تحصل النظافة بعد الزوال من دون حاجة إلى غسل آخر، و على هذا لو ورد عليهم من الشارع أنّه إذا أصاب البول الثوب يجب الغسل و إن كان في مقام [بيان] أصل النجاسة، لكن لا يتردّدون و لا يتوقفون عند ذلك و لا يحتملون أنّه كان شي ء آخر- دخيلا- بل يحسبون البول كالأوساخ الأخر عندهم، فيفهمون من الكلام أنّه لا يحتاج تطهير المحل إلى أزيد من زوال البول بالماء.

و الحاصل في المطلقات الواردة في كلام الشارع الواردة في مقام الإهمال انّما لا نأخذ بالإطلاق لو لم يكن لها متعارف عند العرف، كما لو قال: إذا كان كذا فأعتق رقبة، فحيث إنّه ليس للعتق عندهم شي ء متداول، كان هذا محل التردّد و التوقف و أنّه لعل المعتبر رقبة خاصة و نحو ذلك، و لكن لو كان متعارفا بينهم كما لو قال:

إذا كان كذا فأقتل فلانا و كان في مقام تعداد موارد وجوب القتل من دون بيان التفصيل، فلا إجمال عندهم في معنى القتل و لا يحتملون أن يكون المعتبر سكّينا مخصوصا و آله خاصة و نحو ذلك، بل ينصرف عندهم إلى ما هو المتعارف لديهم من مطلوبية نفس الإزهاق بأيّ نحو كان.

فكذا في المقام لا يتأمّلون بمحض عدم كون المقام مقام التفصيل في أنّ

الغسل لعلّه كان وراء ما هو متداول بينهم، بل يفهمون أنّ بعد إزالة العين يزول الأثر و لا يحتاج إلى أمر آخر، فإذا ثبت ذلك في النجاسة العينية يثبت في غيرها كالبول الجاف أيضا، لعدم القول بالفصل، و على هذا فيكون الأصل في أبواب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 314

النجاسة كلية هو الاكتفاء بالغسل المزيل للعين، و يحتاج في كل موضع إلى ورود التعبّد من الشرع خاصة، ففي كل موضع ورد بخلاف ذلك تعبّد نقول به و لا نتعدّى عنه إلى موضع آخر.

فإن قلت: كلّما ذكرت حقّ لو لم يكن هنا رواية عمّار الساباطي فإنّها شاهدة بخلاف ما ذكر، فإنّ صدرها سأل الراوي عن الدن الذي فيه الخمر أ يصلح أن يجعل فيه الماء و شي ء آخر، فيجيب الإمام بأنّه لا بأس بعد الغسل، و يسأل ثانيا عن الكوز و شبهه كان فيه الخمر أ يصلح أن يجعل محلا لشي ء طاهر؟ يجيب بمثل ذلك أيضا، ثمّ يسأل ثالثا عن الإناء و القدح كان فيه الخمر، يجيب بأنّه يغسله ثلاثا، فانظر انّه لما كان السؤالان الأوّلان عن أصل صلاحية الإناء الذي كان ظرفا للخمر بعد ذلك بظرفية شي ء آخر، فلم يكن المقام مقام بيان التطهير، أجمل في البيان، فقال بعد الغسل جائز، و في السؤال لما كان بصدد مقام علاج التطهير صرّح الإمام بالتثليث، فعلم أنّ حال أخبار الباب كلّها الواردة في غير مقام البيان يكون كصدر هذه الرواية لا يمكن التمسك بها، و بذلك تمسّك شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أيضا على عدم إمكان التمسّك بأوامر الغسل الواردة في الأخبار.

قلت: يمكن إبداء الفرق بين الأمر في هذه الرواية و الأوامر الواردة في سائر الأخبار بأن

نقول: المرتكز و المقرّر لدى العرف أنّ الإناء الذي كان في مدّة مديدة ظرفا للغائط و البول، و كان محلا للتخلية في سنين عديدة ليس قابلا للانتفاع به لغير هذا العمل بعد ذلك، فلا بد إمّا من إعماله فيه أو من طرحه و الإعراض عنه فيرونه غير قابل للطهارة، و كذا الإناء الذي كان معدّا و محلا للخمر، و معنى ذلك أنّه كان كذلك في أزمنة كثيرة فلا يدخل في أذهان العرف قبول بعد ذلك للطهارة،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 315

فلهذا لو حكم هنا الشارع بأنّه بالغسل قابل للانتفاع، فحيث إنّ هذا أمر غير متعارف لديهم، إذ ليس لمثله غسل عندهم حصل لهم التردّد و التوقّف و لا يكتفون بهذا الكلام الوارد في مقام الإهمال، و يصير حاله حال عتق الرقبة، و هذا بخلاف الأوامر الأخر حيث عرفت ثبوت المتعارف للعرف في مواردها، بحيث لا يحصل لهم التوقّف و التأمّل في الحمل عليه و لو كان الكلام في مقام الإهمال.

و بعبارة أخرى يكون الكلام منصرفا إلى ما هو المعلوم الواضح عندهم، و المنصرف إليه الكلام يكون كالمذكور في الكلام، و إن كان في غير مقام البيان.

و بعبارة أخرى نفس الكلام و إن كان في غير مقام البيان، لكن المنصرف إليه منه يكون له فائدة مقام البيان و يقوم مقامه، إذ يحصل به اتضاح الحال و ارتفاع الإجمال.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ في خصوص البول قد ورد عدّة من الأخبار، فطائفة فصلت بين القليل و الجاري و لم يتعرض للكثير، و هو قوله: «اغسله في المركن مرّتين و في الماء الجاري مرّة واحدة» و طائفة أطلقت اعتبار المرّتين و هو قوله: «إذا أصاب ثوبك بول

فاغسل مرتين» و بعضها أطلقت من حيث المرّة و التكرار، و من حيث القليل و الكثير و الجاري، و هي أيضا بين ما يختصّ مورده بالبول و بين ما يتعرّض لكلّي النجاسات الشامل بعمومه للبول أيضا، فقد يقال: إنّه بعد تقييد الطائفة الثانية بغير الجاري بالرواية الأولى، حيث إنّ نسبتها الإطلاق و التقييد، و تقييد الثالثة أيضا بواسطة هذه الرواية لهذه الجهة بغير القليل، يبقى التعارض بين أنفسهما، أعني: بين الطائفة الثانية و الثالثة في الكثير، فمقتضى الأولى اعتبار المرّتين، و مقتضى الثانية كفاية المرّة، و حيث إنّ دلالة الثانية على الكفاية إنّما هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 316

بالإطلاق لا بالتنصيص فلا بدّ من تقييدها بالطائفة الأولى، و القول باعتبار المرتين في الكثير أيضا.

و ليعلم أنّ هذا كلّه بعد الإغماض عن الخدشة في اخبار المرّتين بعدم ظهورها أوّلا في الموضوعية و التعبّد، فلو أجرى الماء على المحلّ و لو سنة لم يفد المحل طهارة، بل المفهوم منها عرفا ازالة البول، و المرّتان من باب المثال لا من باب المدخلية، و الفرق بين الجاري و المركن باعتبار قلّة الماء و كثرته، و وضوح احتياج الإزالة في القليل بأزيد ممّا يحتاج إليه في الكثير، و عدم ظهورها ثانيا في الوجوب بعد تسليم دلالتها على الموضوعية.

و بعبارة بعد هذا لتسليم ما الدليل على تقييد مادة الإطلاقات؟ بل الأولى هو التصرّف في هيئة المقيد، و ذلك لما تقرّر في محلّه من أنّ استعمال الهيئة في الندب شاع بمثابة صار من المجازات الراجحة، حتى أنكر صاحب المعالم دلالتها على الوجوب رأسا، فالكلام في هذا المقام بعد طي كلا هذين المقامين، و أنّ المستفاد هو الموضوعية و التعبدية لا

المثالية، و كذلك الأرجح التصرّف في مادة المطلقات و حفظ ظهور الهيئة في الوجوب.

فإن قلت: ما ذكرت من التمسّك في تقييد الإطلاقات بإطلاقات المرتين فيه ما لا يخفى: من جهة عدم تعارف غسل الثوب في تلك الأزمنة و تلك البلاد بغير الماء القليل، لقلّة الجاري و الكثير فيها، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى غير القليل حتى يقيّد به الإطلاقات الأول في خصوص الكثير.

قلت: من المعلوم ورود كلا الإطلاقين في محل واحد، فإن كان مورد الثاني القليل، فلا محالة يكون مورد الأوّل أيضا القليل بعين تلك الجهة، و إن كان مورد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 317

الثاني الأعم كان مورد الأوّل أيضا كذلك، لوضوح عدم الفرق. و على أي حال يخرج الكثير عن الإطلاقات إمّا بالتقييد أو بالتقيّد، هذا غاية ما نتمسك.

و فيه مجال المنع الواسع، و توضيحه: أنّ التعارف لدى العرف ربّما يصل إلى حدّ يوجب صرف اللفظ عن ظاهره اللغوي، و صيرورته منصرفا إلى المتعارف العرفي، و هذا كما ادّعيناه آنفا في أوامر الغسل، و ربّما لا يصل إلى هذا الحدّ بل المتحقّق مجرّد الغلبة الوجودية من دون تحقّق أنس الذهن بالمعنى الخاص، و هذا هو المتحقّق في المقام، فلا يمكن دعوى التعارف بحدّ يوجب صرف إطلاق غسل الثوب إلى الغسل بالماء القليل في ذلك الزمان و المكان.

و بعبارة أخرى كما لم يكن لفظ الماء منصرفا عندهم إلى القليل، مع عدم وجود غيره عندهم غالبا كذلك غسل الثوب بالماء، و لكن هذا المقدار من التعارف أيضا له أثر فيما إذا ورد من الشارع مطلق و كان في مقام البيان، فلا يمكن إجراء المقدّمات فيه لنفي القيد المتعارف لو كان بحسب المتعارف الغالب واجدا

لقيد، إذ مبنى نفي القيد و الحكم بالإطلاق بعد فرض المتكلّم في مقام البيان هو أنّه ليس للمتكلّم لبّا مراد علاوة على ما أفاده لفظا، و إلّا لذكره، إذ لو لم يذكره كان ذلك نقضا لغرضه، إذ غرضه الافهام و البيان و الوصول إلى غرضه، و على هذا من كون القيد متعارفا لا تجري هذه المقدمة، إذ يمكن أن يعتمد المتكلّم الحكيم في حصول غرضه بكون القيد متعارفا، و عدم جري المخاطب إلّا على طبقه، فلا يفوت منه المقصود، ثمّ هذا أيضا مخصوص بمورد كان القيد المتعارف محتمل الدخل، فإن كان مقطوعا عدم دخالته فلا يضرّ بالإطلاق كما هو واضح.

و حينئذ نقول: تعارف غسل الثوب بالماء القليل و غلبته توجب القدح في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 318

إطلاق اغسل مرّتين، و لا توجب قدحا في إطلاق اغسل، و وجهه انّ من المحتمل أن يكون للقليل مدخلية في الغسل مرتين فلا يحتاج غيره إلى التعدّد، و أمّا الثاني فله إطلاق من حيث المرة و التكرار، و إطلاق من حيث القليل و غيره، فمن حيث الأوّل يقيّد جواز الاكتفاء بالمرّة، و من حيث الثاني يفيد عدم الفرق في هذا الحكم بين القليل و غيره، و غلبة القليل و ندرة غيره في الخارج لا يوجب القدح في إطلاقه من حيث الثاني، فإنّ حكم جواز الاكتفاء بالمرّة ممّا لا يحتمل أن يكون مختصا بالقليل، و كان غيره محتاجا إلى التعدّد، فإطلاقه بالنسبة إلى الكثير محفوظ بخلاف الأوّل فلا إطلاق له بالنسبة إلى الكثير.

فإن قلت: لو عرض على العرف هذان الكلامان، أعني: إذا أصاب ثوبك بول فاغسله مرّتين، و إذا أصاب ثوبك بول فاغسله يفهم أنّ الكلام الثاني كان

في مقام بيان أصل وجوب الغسل، و الكلام الأوّل كان علاوة على ذلك في مقام بيان الكمية و الكيفية أيضا، و على ما ذكرت من حفظ إطلاق فاغسله بالنسبة إلى غير القليل يستلزم اجتماع اللحاظين في كلام واحد، إذ يلزم أن يكون المتكلّم بالنسبة إلى القليل في مقام الإجمال، و بالنسبة إلى غيره في مقام التفصيل.

قلت: ما ذكرت وارد لو كان المدّعى كون اغسله في مقام البيان لو لا اغسله مرّتين، و كان مبنى التمسّك بكونه في مقام البيان، و قد عرفت أنّا مع تسليم عدم كونه في مقام البيان تمسّكنا به من باب الانصراف الناشئ عن التعارف.

و على هذا فنأخذ بهذا الظهور في كل مقام لم يرد فيه التعبّد على خلافه، و لا يضر ورود التعبّد في بعض موارده، فإنّه يسقطه عن الحجية بالنسبة إلى خصوص هذا المورد مع بقائها بحالها بالنسبة إلى غيره، و ليس التقييد بالمنفصل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 319

مانعا عن أصل انعقاد الظهور حتى يلزم من تفكيكه بالنسبة إلى المورد اجتماع اللحاظين، فإنّ هذا شأن القيود المتّصلة، و أمّا المنفصل فلا يوجب إلّا تقييد الحجية بعد انعقاد أصل الظهور.

المقام الثاني: في لزوم العصر في غسل ما ينفذ فيه الماء

و يقبل العصر كالثياب و نحوها و عدمه، فقد يتمسّك في هذا المقام بدخول العصر في مفهوم الغسل فيما إذا كان المغسول ما يقبل العصر، و لا ضير في اختلاف مفهوم واحد فيما يعتبر فيه باختلاف المحال، فإنّ هذا راجع إلى الاختلاف في المحققات، و قد يستشهد على ذلك أيضا بالأخبار التي جعل الغسل فيها مقابلا للصب.

و فيه أنّ الظاهر منه اعتبار الدلك في الغسل دون الصب فلا ربط له بالعصر، و قد يقال: إنّ العصر و إن كان

خارجا عن مفهوم الغسل و لكن يكون من لوازمه مثل فصل الثوب في الخياطة، و لكن الإنصاف أنّ كل ذلك على خلاف الواقع، فإنّ من أجرى الماء على الثوب و أزال منه الوسخ بالدلك و الفرك و نحوه، ثمّ لم يخرج منه الغسالة بالعصر لا شبهة في صدق أنّه غسل الثوب، و كذلك في دعوى كون العصر من لوازم الغسل بحيث يكون الأمر بالغسل أمرا بالعصر أيضا، فإنّ فيه أيضا أنّ تخليل ليّ الثوب و طرحه على محل تشرف عليه الشمس حتى يجفّ أيضا يكون من اللوازم الغير المنفكة عن غسل الثياب في العرف، و قد يتمسّك بتوقّف إزالة النجاسة التي هي كالوسخ بنظر الشارع، فيختلف إزالته حسب اختلاف المحال صلابة و رخاوة على العصر.

و فيه: أنه يمكن إخراج الوسخ الراسب في الجوف بغير العصر مثل الدلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 320

و الفرك أيضا، و لا اختصاص له بالعصر فلا وجه للتوقف.

و الذي يمكن أن يقال: عدم لزوم العصر فيما يغسل مرة واحدة، و كذلك فيما يغسل مرتين بعدهما و لزومه فيما بين الغسلتين.

امّا عدم اللزوم في الأوّل فلإطلاقات حصول الطهارة بعد الغسل، فإنّ سؤال السائلين إنّما هو عن علاج أمكن معه المعاملة مع الثوب و البدن معاملة الطهارة، فيكون الظاهر أنّ هذا يصير جائزا بلا انتظار شي ء آخر بعد الغسل، فإذا فرض تحقّق الغسل بمجرد إزالة العين و لو لم يخرج الغسالة الراسبة، فالإطلاق مقتض لجواز جميع معاملات الطهارة مع هذا الثوب.

و على هذا فتكون المياه الداخلة في الثوب طاهرة، فتكون أدلّة انفعال القليل مخصّصة بهذه الأدلّة، إذ النسبة بينهما عموم مطلق، فإنّ قوله: اغسله في المركن ناص في القليل، فيكون أخص

مطلقا من أدلّة انفعال القليل، هذا ما دام باقيا على الثوب، و أمّا بعد التقاطر و الانفصال فلا يدخل في أذهان العرف تحقّق النجاسة حينئذ حتى يكون الانفصال من جملة المنجسات، و إلّا أمكن القول بالنجاسة حينئذ بالعمومات.

و أمّا لزوم العصر فيما بين الغسلتين فيما يحتاج إلى الغسلتين فيحتاج بيانه إلى مقدمة: و هي أنّ التعدّد في الفعل قد يلاحظ باعتبار تعدّد المتعلّق كما يقال: ضربه بثلاثة أسواط إذا كانت الآلة متعدّدة و لو مع كون الضربة واحدة، و قد يلاحظ بتعدّد نفسه، كما إذا قيل هذا الكلام و أريد تعدّد الضربات و لو بسوط واحد، و الظاهر من الكلام المذكور هو الثاني.

و حينئذ نقول الغسلتان إذا كانتا بالماء القليل فالظاهر تجدّد الماء، فإنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 321

الإبريق مثلا يفرغ مرّة على اليد مثلا ثمّ يقطع ماءه و يفرغ ثانيا، فيكون هذا ماء جديدا بخلاف الغسلتان في الكثير و الجاري، فلا يعتبر فيه تعدّد الماء و كون الغسل الثاني بحوض آخر، أو نهر آخر غير الحوض أو النهر الذي حصل به الغسلة الأولى.

و إذن فإذا قيل يجب في القليل غسل الثوب مرّتين نفهم منه أن تكون الغسلة الثانية بماء جديد، و لا يتحقق ذلك إلّا بإخراج ما بقي في الثوب من ماء الغسلة الأولى، و إلّا تكون الغسلة الثانية بالمجموع من الماء الجديد و العتيق، و قد فهم من الدليل كونها بالماء الجديد.

ألا ترى أنّ المسح ببلة اليد في الوضوء يفهم منه عدم رطوبة في المحل حتى يكون تمام المسح ببلّة اليد، فكذلك هنا فانّ المتكلّم قد لاحظ الثوب مع اشتماله على الرطوبة البولية أو ما هو مثلها كالماء المتنجّس مثلا، ثمّ

حكم في هذا الموضوع بإيراد الغسلتين عليه و لا يتعدّد نظره بالنسبة إلى الغسلة الأولى و الثانية، و على هذا فيكون المغسول بنظره الثوب، و المزال بنظره الرطوبة الكائنة في المحل قبل إيراد الغسلتين عليه، فالباقي من الغسلة الأولى في الثوب خارج عن المزال فيتحد خارجا لا محالة مع المزيل، و قد فرض أنّه اعتبر في المزيل كونه ماء جديدا فقط و هذا متركّب من جزءين.

و أمّا صيرورته جزءا من المزال فيحتاج إلى اعتبار زائد، و قد فرض أنّه لم يلاحظ إلّا الثوب برطوبته الكائنة فيه في أوّل الأمر، و لم يلاحظ ما يتجدّد فيه بالغسلة الأولى، فالمزال في نظره ليس إلّا الرطوبة الأولى.

هذا و لكن يبقى بعد ذلك سؤال أنّه سلمنا الاحتياج إلى إخراج ماء الغسلة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 322

الثانية، و لكن ما الدليل على لزوم كونه بالعصر متّصلا بالغسلة الأولى، و لم لا يجوز بغيره كالتجفيف أو العصر بعد ساعة، و يمكن إثبات ذلك بعمومات انفعال القليل و أدلّة انفعال الملاقي للمتنجّس، حيث إنّ المتيقّن خروجه من هذا العموم أو تلك الأدلّة صورة الاتصال، و أمّا صورة الانفصال فغسالة الغسلة الأولى باقية تحت عمومات الانفعال، فتصير نجسة بملاقاة المحل، ثمّ بعد إيراد الغسلة الثانية يصير حال المحل لمكان هذا الماء النجس فيه كما لو انصب عليه حال إيراد الغسلة الثانية من الخارج نجاسة، فيخرج المحل بذلك عن قابلية الطهارة بالغسلة الثانية، و وجه ما ذكر من كون الصورة الأولى متيقّنة الخروج، بخلاف الثانية هو انصراف أدلّة الغسل مرّتين إلى الصورة الأولى، لأنّها المتعارف الذي ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق و ينسبق إليه أذهان العرف، فلا ينسبق إلى الذهن من قول

اغسل هذا الشي ء مرّتين إلّا إيراد غسلتين متعاقبتين متواليتين متصلتين عليه، لا إيراد غسلة ثمّ الصبر ساعة أو يوما ثم إيراد الغسلة الأخرى، فلا إطلاق في هذه الأدلّة حتى يتقيد و يتخصّص بسببه عموم أدلّة القاعدتين المذكورتين.

و بعبارة أخرى الغسلة الأولى و إن كان من أثرها إعداد المحل لأن يصير طاهرا بالغسلة الثانية، و لكن ليس الأمر بها في الاخبار إلّا منضمّا بالأمر بالغسلة الثانية، و بقوله: اغسل مرّتين، فليس حالها حال الغسلة الثانية.

نعم لو كان الأمر بالغسلة الأولى مستقلا كان حالها حال الغسلة الثانية، فصحّ أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الدليل أنّه يحصل الاعداد بمجرّد تحقّق الغسل الغير المتوقف على العصر من دون انتظار شي ء آخر، فيخصّص بذلك أدلّة أنّ ملاقاة المحل للنجس بعد الغسلة الأولى يخرجه عن قابلية الطهارة بالمرة الثانية،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 323

و يقال: إنّ هذا الفرد من النجس، أعني: غسالة الغسلة الأولى الباقية في المحل قد خرج عن هذه الأدلّة، و لكن حيث جمعهما لفظ واحد و هو قوله: اغسل مرّتين و المتعارف في الخارج من الغسلتين أيضا هو الاتصال، فيكون محل الأمر منصرفا إليه و يبقى غيره و هو ما إذا انفصلت الغسلتان خارجا عن المتعارف، و عن مورد الأمر، و عن مورد الحكم بإفادة الغسلة الأولى للمحل إعداد الطهارة، فيشمله لا محالة عموم الأدلّة المذكورة.

المقام الثالث: في اعتبار الورود
اشارة

أعني ورود الماء على النجاسة فيما إذا غسل بالقليل و عدمه .. «1».

مسألة: طريق تطهير المضاف النجس جعله متحدا مع ماء عاصم

فلو ألقى في ماء كر و لم يجعله مضافا صار طاهرا و هذا لا إشكال فيه، و أمّا لو صيّر الكر مضافا و أخرجه عن الإطلاق، فهل يصير طاهرا، غاية الأمر لا يكون طهورا كما نسب إلى العلّامة، أو لا يكون طاهرا و يبقى على النجاسة، أو هنا تفصيل بين الصور؟ تحقيق المقام يبتنى على تقديم مقدّمات، لأنّ ذلك أي صيرورة الكر بملاقاة المضاف مضافا يكون له ثلاث صور: الأولى:

أن ينقلب الماء عن المائية و يدخل تحت عنوان نفس هذا المضاف، كما لو ألقى الدبس الكثير النجس في مثله من الماء فصار دبسا أكثر ميعانا.

و الثانية: أن يحصل بين المضاف و المطلق كسر و انكسار: بأن حصل التأثير و التأثّر في كل من الجانبين فزال عنوان المضاف بتأثير الماء، و عنوان الماء بتأثير المضاف و حدث عنوان ثالث، و هذا على نحوين:

______________________________

(1)- بياض في الأصل بمقدار صفحة تقريبا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 324

- و مرادنا بالصورة الثانية- النحو الأوّل، و هو أن يكون عين المضاف بالمرة معدوما و فانيا بنظر العرف و يكون حاله كحال القند المحلول في الماء، حيث إنّ موضوعه يفنى و ينعدم و يبقى عرضه، و إن كان الماء أيضا زال عنوانه فيطلق عليه ماء القند و الشربت.

و النحو الثاني:- و هو المراد بالصورة الثالثة- أن يكون عين المضاف باقيا بنظر العرف و حصل العنوان من التركيب و المزج و الاختلاط، كالدبس المحلول في الماء لا على وجه ذهبت أجزاءه بالمرّة، بل بحيث أطلق عليه العرف (آب شيره)، أو الطين المخلوط في الماء كذلك بحيث قيل له (گلاب).

الثانية:

لا يخفى أنّ في تنجيس المياه و المائعات يكفي بقاء الملاقاة السابقة و لا يلزم حدوث الملاقاة، فلو وقعت عين نجسة في ماء كر فهو من أوّل وقوعه الذي هو زمان حدوث الملاقاة لا يؤثّر التنجيس، لفرض الكرّية، و لكن لو بقي في الماء حتى صار أقل من كر لا شك أنّه حينئذ ينجسه، لأنّه قليل لاقى نجسا. و السر أنّه إذا قيل: الماء القليل ينجس بملاقاة النجاسة فلا يفرّق العرف بين الملاقاة الحادثة، و بين ما إذا كان ملاقاة القليل بقاء للملاقاة السابقة، و هذا واضح لا شبهة فيه.

الثالثة: الدليل المتعرّض لمطهرية الكر و كذلك الدليل المتكفّل لعدم انفعاله منطوقا و مفهوما، يكون المنسبق منه عرفا لزوم صدق عنوان كونه ماء كرّا في حال يحمل عليه الحكم، فقولك: ماء الكر لا ينفعل بالملاقاة، لا بد أن يكون هذا العنوان محفوظا حتى يحكم بعدم انفعاله، حتى كان عدم الانفعال عارضا على هذا العنوان، فلو تبدّل العنوان لا يحمل عليه عدم الانفعال بمجرد وجود هذا العنوان فيه سابقا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 325

و كذلك الحال في الماء القليل و الحكم بانفعاله بالملاقاة، فلا بدّ أن يكون في ظرف هذا الحكم ماء قليلا لا شيئا آخر، و كذلك الحال في ظرف التطهير، فقوله:

«مشيرا إلى غدير: أنّ «هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره» لا يفهم منه العرف موضعا صار الماء بمحض الإصابة و بحيث لم يفصل زمان شيئا آخر غير الماء، و إن كان فرق بين التطهير و التنجيس من حيث إنّ الماء هنا في رتبة الإصابة ماء، فيمكن أن يؤثّر التطهير، فتكون الإصابة مؤثّرة في شيئين: أحدهما: الإضافة، و الآخر: التطهير، فيكون التطهير و الإضافة في

عرض واحد، فيصدق أنّ الماء صار مطهرا كما يصدق أنّ الماء صار مضافا، إلّا أنّه يمكن دعوى انصراف الكلام عند العرف فيما إذا بقي عنوان مائية الكر في حال التطهير و بعده.

و بعبارة أخرى كان بين الإضافة و التطهير فصل بالزمان لا بمجرد البعدية الرتبية و لا أقل من التوقّف و عدم إمكان الجزم بالإطلاق.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا صورة تأثير المضاف في الماء و تبديل عنوان الماء إلى عنوان المضاف فلا يمكن بمقتضى المقدمة الثالثة القول بتطهير الكرّ إيّاه، فإنّه في زمان من الأزمنة لم يبق على وصف المائية بعد الملاقاة. و قد عرفت عدم انفهامه من الدليل للانصراف، أو لعدم الجزم بالإطلاق، و كذلك لا يمكن التمسّك بدليل عدم انفعال الكثير بعد صيرورته مضافا، كما لا يمكن بدليل انفعال القليل، لما عرفت من أنّ كلا منهما يقتضي بقاء المائية في حال الحكم.

و أمّا المضاف فلا مانع من استصحاب نجاسته، و توهّم تبدل الموضوع لأنّه صار ضعف ما كان في السابق ضعيف، لأنّ هذا إنّما يتم لو كان المراد استصحاب النجاسة في مجموع الأجزاء سواء الحاصلة من اختلاط المضاف، أم الحاصلة من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 326

اختلاط الماء، لا في ما أريد استصحاب النجاسة في خصوص الأجزاء المشتبهة من المضاف في أجزاء الماء. و حينئذ يصير المضاف الجديد الذي كان ماء نجسا لأنّه مضاف لاقى نجسا، فإنّه قلنا: يكفي في تنجيس المائعات بقاء الملاقاة السابقة، فوجود الملاقاة في الزمان الثاني الذي يعبّر عنه بالبقاء ينطبق عليه ملاقاة المضاف، و عرفت في المقدمة الثانية انفهام ذلك من أدلّة تنجيس المائعات.

فبعد الاستصحاب في المضاف الأصل يحكم بالنجاسة في الأصل و الفرع معا، أمّا في

الأصل فبالاستصحاب، و أمّا في الفرع فللملاقاة الوجدانية. و لا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب الطهارة في الفرع لا من جهة عدم بقاء الموضوع، فإنّ المتبدل هو الاسم، و لا ينافي أن تكون الوحدة الموضوعية باقية عند العرف مع ذلك، بل لأجل أنّ هذا الاستصحاب مع الاستصحاب الأوّل من قبيل الحاكم و المحكوم، و الأصل السببي و المسببي، لأنّ من آثار نجاسة المضاف الأصلي شرعا نجاسة المضاف العارضي، فالأصل المحرز للأوّل رافع للشك في الثاني.

و أمّا طهارة المضاف العارضي ليس من أثره الشرعي طهارة المضاف الأصلي، بل من جهة القطع بعدم اجتماع طهارته مع نجاسته يكشف طهارته عن طهارته. و بالجملة لو أجرى الأصل في ظرف المضاف الأصلي فهو يرفع شكّنا في العارضي، و لكن لو أجريناه في العارضي فلا بدّ من التمسّك في الأصلي بمقدّمة خارجية من الإجماع. و ليس هذا الأصل كافيا له.

و أمّا الصورة الثانية:

و هي صورة الكسر و الانكسار و حدوث الطبيعة الثالثة مع انعدام عين المضاف، ففي هذه الصورة أيضا دليل التطهير قاصر، و لا مجرى أيضا لدليل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 327

الانفعال و عدم الانفعال، لأنّ حال الملاقاة لا يشك في طهارته لأنّه كان ماء كرا، و حال الشك المفروض عدم بقاء موضوع المضاف النجس عرفا و ارتفاع حقيقته من البين رأسا، ففي حال المضافية ليس في البين شي ء نجس حتى يقال ينجس ببقاء الملاقاة السابقة.

و بالجملة و إن كان في رتبة الملاقاة المائية و المضافية محفوظتين، و لكن بالملاقاة خرج الماء عن المائية و انعدم المضاف فيبقى التطهير بلا محل، و لا يعقل حصول التطهير و انعدام الموضوع في عرض واحد، و كذلك اضافة الماء و انعدام

المضاف يكونان في عرض واحد، فليس في ما بعد رتبة الإضافة من المضاف عين حتى ينجّس المضاف العارضي.

و حينئذ لا يبقى إلّا استصحاب طهارة الماء بعد انّ الموضوع باق عرفا، و إنّما الاختلاف في الاعراض و ليس في هذا الفرض للمضاف الأصلي عين في البين، حتى يكون محلا للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة، و هذا الفرض بعيد جدا، و لا يبعد أن يكون مجرّد فرض و إن كان له في الجوامد واقعية.

و أمّا الصورة الثالثة:

و هي صورة التأثير و التأثّر من الجانبين مع التركب المزجي و بقاء موضوع المضاف عرفا، فيبني الكلام فيها على شمول أدلّة تطهير الكرّ للمقام و عدمه، فربّما يقال: إنّ العرف و إن كان لا يفهم موضعا لا يكون في الماء تأثير أصلا، لكن لو كان له تأثير في المضاف و لو كان من المضاف أيضا تأثير في الماء فهو داخل في الكلام.

و لكن هذه الدعوى بعيدة، فلو لم يدع الانصراف إلى صورة كان مائية الماء حال الملاقاة و بعدها بالبعدية الزمانية محفوظة و لو في جزء يسير من الزمان، فلا أقل من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 328

الترديد و عدم إمكان الجزم باستفادة الإطلاق من الكلام.

و كيف كان فإن قلنا: بالإطلاق فلا إشكال حيث إنّه يحكم بالطهارة بالدليل الاجتهادي، و إن قلنا: بالانصراف أو عدم الإطلاق فالكلام في هذه هو الكلام في الصورة الأولى حرفا بحرف، فإنّه بعد عدم الإمكان إجراء حكم التطهير، و عدم الانفعال في الماء الكثير، أمّا الأوّل فلأنّه الفرض، و أمّا الثاني فلما تقدّم سابقا في الصورة الأولى من أنّه حين الحكم بعدم الانفعال، أعني: بعد الإضافة قد خرج عن عنوان كونه ماء كثيرا، لا مناص

عن استصحاب نجاسة المضاف الأصلي، فإنّه باق عرفا على ما هو المفروض غاية الأمر تبدّل عنوانه، لكنّه غير قادح في الاستصحاب مع صدق الوحدة عرفا، و بعد هذا الاستصحاب لا مجرى لاستصحاب الطهارة في الماء لما تقدّم من حديث الحكومة، هذا حاصل الكلام في هذه الصور.

و لشيخنا المرتضى هنا كلام لا يخلو عن الاغتشاش أمّا أوّلا: فلأنّه يظهر منه الفرق بين حصول الإضافة في الماء تدريجا أو دفعة و لا يخفى اتحاد الملاك في كليهما، فإنّه في صورة التدريج أيضا يقال: بأنّ أوّل جزء من الماء الذي صار مضافا في أوّل زمان من الملاقاة لم تطهر الجزء الذي لاقاه من المضاف، بل هو تأثّر منه فإنّه مضاف لاقى المضاف النجس، و هكذا يرتقي في الحكم بالنجاسة على التدريج إلى أن يبقى من الماء أقل من الكر، فيحكم بنجاسة المجموع دفعة.

و أمّا ثانيا فلأنّه في صورة الاستهلاك و الإضافة معا حكم بالطهارة و لم نعلم ما أراد، فإن أراد الاستهلاك بمعنى الانعدام كان الحكم بالطهارة صحيحا، لكن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 329

ينافيه ما ذكره في السطر الآخر في مقام توجيه الحكم بالطهارة من التمسّك بالدليل الاجتهادي، لأنّه قال: الاختلاط سبب للتطهّر و الإضافة معا، و ظاهر انّه أراد إثبات الطهارة بدليل مطهرية الكر، فإن أراد الاستهلاك بمعنى التركّب المزجي كما هو المتراءى من لفظ الاختلاط و الامتزاج في كلامه، و حينئذ فصريح كلامه اختيار شمول أدلّة التطهير و عدم الانفعال للمقام، لأنّه قال: أمكن أن يقال: إنّ المضاف لم يلاق نجسا بل الكثير بتلاشيه فيه صار مضافا، و المفروض حدوث الطهارة بنفس التلاشي لأنّ الكثير لا ينفعل، فالاختلاط سبب للتطهّر و الإضافة معا، انتهى.

و

عرفت أنّ الحكم بالطهارة على هذا المبنى لا محيص عنه، لكن لا يلائم ما ذكره عقيب ذلك في فرض الشك في طهارة المضاف و نجاسة الماء من أنّ الاستصحابين متعارضان فيتساقطان ثمّ يرجع إلى قاعدة الطهارة، لأنّك عرفت أنّ المقام ليس مقام التعارض بل مقام حكومة استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة، ثمّ لو شكّ بعد العلم بالإضافة و الاستهلاك أنّه من الصورة الثانية التي قد انعدم الموضوع عرفا حتى يحكم بالطهارة، أو من الثالثة التي لم ينعدم حتى يحكم بالنجاسة، فلا مجرى لشي ء من استصحابي النجاسة و الطهارة، فالمرجع قاعدة الطهارة و لم يمكن استصحاب بقاء موضوع المضاف على حاله، لأنّه ليس له أثر وجداني مقطوع، و المعتبر في استصحاب الموضوع أن يكون له على تقدير البقاء أثر مقطوع و هنا مشكوك الحال.

نعم على تقدير البقاء هو مستصحب الطهارة، و نحن و لو سلّمنا أنّ استصحاب الموضوع بلحاظ الأثر الذي هو استصحاب حكمه، و بعبارة أخرى كون الاستصحاب ناظرا إلى نفسه ممكن، لكن نقول هذا الأثر ثابت لهذا الموضوع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 330

عقلا لا شرعا، فإنّه لم يحكم الشارع في دليل من الأدلّة بأنّ الإبقاء لا بدّ له من موضوع، بل ذلك حكم العقل فترتيب حكم أبق حكمه على وجود الموضوع مستفاد من العقل فتأمل جيدا، فإنّ للكلام في ذلك مقاما آخر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 331

[في النجاسات و أحكامها]

[أما أعدادها]

[الأول و الثاني البول و الغائط]
اشارة

قال في العروة الوثقى: «النجاسات اثني عشرة: الأوّل و الثاني: البول و الغائط من الحيوان الّذي لا يؤكل لحمه، إنسانا أو غيره برّيّا أو بحريّا، صغيرا أو كبيرا، بشرط أن يكون له دم سائل حين الذبح، نعم في الطيور المحرّمة الأقوى عدم النجاسة، لكنّ

الأحوط فيها أيضا الاجتناب، خصوصا الخفّاش، و خصوصا بوله، و لا فرق في غير المأكول بين أن يكون أصليّا كالسباع و نحوها، أو عارضيّا كالجلّال و موطوء الإنسان، و الغنم الّذي شرب لبن خنزيرة، و أمّا البول و الغائط من حلال اللحم فطاهر، حتّى الحمار و البغل و الخيل، و كذا من حرام اللحم الذي ليس له دم سائل كالسمك المحرّم و نحوه».

أمّا التقييد في نجاستهما من غير المأكول بكونه ذا نفس سائلة فلم يرد في خبر من الأخبار، و مثل الحيّة و الأفعى و السمك الحرام اللحم ممّا ليس له نفس سائلة داخل في عموم ما لا يؤكل لحمه و ليس منصرفا إلى غيرها، و لهذا نقول بكون استصحاب أجزائها في الصلاة مبطلا مع كون الإبطال مخصوصا بأجزاء غير مأكول اللحم.

نعم مثل البق و البراغيث ممّا ليس له لحم خارج عن مقسم المأكول لحمه و غير المأكول لحمه، فنرجع في طهارة فضلته إلى الأصل، و أمّا مثل الحيّة فيشمله العمومات الدالّة على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه و خرئه مع عدم وجود مخصّص صريح بل و لا ظاهر لها، و ما وقع من المحقّق في وجه طهارته من طهارة ميّته و منيّه و لعابه فاشتبهت فضلاته عصارة النبات يكون من العجائب صدور مثل هذا القياس من علماء الشيعة، و بالجملة فالعمدة هو الإجماع لو تمّ و إلّا فالعموم محكّم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 332

ثمّ إنّ هنا تكلّما من حيثيتين أخريين، الأولى: هل المراد بالمأكول لحمه ما يجوز أكل لحمه شرعا حتّى يشمل الفرس و البغال و الحمير أو هو خصوص ما خلق لأجل أن يؤكل لحمه، فيكون هذه داخلة في غير مأكول

اللحم، فإنّها خلقت لأجل الركوب و الزينة لقوله تعالى لِتَرْكَبُوهٰا وَ زِينَةً «1» و في بعض الأخبار أيضا دلالة على ذلك كما عن زرارة عن أحدهما- عليهما السّلام- في أبوال الدواب يصيب الثوب فكرهه، فقلت: أ ليس لحومها حلالا؟ فقال: بلى و لكن ليس ممّا جعله اللّٰه للأكل» «2» فيكون هذا الخبر تفسيرا لعنوان ما أكل لحمه الواقع في الأخبار الأخر.

و الثانية: أنّ الطيور هل هي خارجة عن عموم ما لا يؤكل لحمه فيكون خرؤها و بولها- لو كان لبعضها بول كما في الخفاش على ما نقل- طاهرين، أو هنا تفصيل بين المأكول منها و غير المأكول؟ و قبل التكلّم في ذلك لا بدّ من التيمّن بذكر أخبار الباب و بيان ما يستفاد منها و وجه الجمع ما يتراءى التنافي بينه منها، فنقول و باللّه التوفيق و منه الاستعانة:

منها: رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». «3»

و منها: رواية أبي الأعز النحاس قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إنّي أعالج الدواب فربّما خرجت بالليل و قد بالت و راثت فيضرب أحدها برجله أو يده فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه؟ فقال: «ليس عليك شي ء» «4»

______________________________

(1)- النحل/ 8.

(2)- الوسائل: ج 2، ب 9، من أبواب النجاسات، ص 1010، ح 7.

(3)- المصدر نفسه: ص 1008، ح 2.

(4)- المصدر نفسه: ص 1009 ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 333

و منها: رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن ألبان الإبل و البقر و الغنم و أبوالها و لحومها؟ فقال: لا تتوضّأ منه إن أصابك منه شي ء أو ثوبا

لك فلا تغسله إلّا أن تنظف». «1» المراد بقوله: لا تتوضّأ منه يعني لا يلزم التطهير منه يعني أنّه طاهر.

و منها: موثّقة زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث قال: «إن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ». «2» التقييد بقوله: إذا علمت إلخ قيد لكلّ شي ء، فإنّه يشمل اللحم و الجلد أيضا و يعتبر في جواز الصلاة فيهما العلم بالتّذكية.

و كيف كان منطوق هذا الخبر يدلّ على الطهارة في جانب مأكول اللحم، إذ جواز الصلاة في المذكورات بعد العلم بعدم جواز الصلاة في المحمول النجس، و العلم بعدم العفو دليل على طهارتها، و أمّا المفهوم أعني عدم جواز الصلاة في كلّ شي ء من غير المأكول الذي منه بوله و خرؤه فلا يلازم النجاسة، إذ عدم جواز الصلاة فيهما أعمّ من كون المانع كونهما نجسين أو كونهما من أجزاء غير المأكول كما في الوبر و الشعر.

و منها: موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». «3» لا إشكال في كون ما يخرج منه كناية عن خصوص البول و الغائط فلا يشمل المني و الدم، و يجري الكلام المتقدّم هنا أيضا، فنفي البأس بقول

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 9، من أبواب النجاسات، ص 1010، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ص 1010، ح 6.

(3)- المصدر نفسه: ص 1011، ح 12.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 334

مطلق الشامل لجواز كلّ تصرّف حتى الصلاة فيه في جانب المنطوق ملازم للطهارة كما عرفت، و أمّا في جانب المفهوم فحيث إنّه موجبة

جزئيّة، و إثبات البأس في الجملة الصادق على عدم جواز الصلاة فيه من جهة كونه من غير مأكول اللحم مع كونه طاهرا فلا يلازم النجاسة.

إلّا أن يقال: إنّ إثبات البأس و إن كان يجتمع كونه من جهة واحدة ككون الصلاة فيه ممنوعة و معيوبة، و هذا لا يدلّ على النجاسة لكن يمكن إثبات نجاسته من إطلاق هذا البأس الجزئي لجميع التقادير، أعني: تقدير وجوده في بدن المصلّي و ثوبه حال الصلاة و تقدير ملاقاته مع أحدهما قبل الصلاة و زوال عينه حال الصلاة، فالبأس و إن كان من جهته واحدة و يمكن أن تكون هي الصلاة فيه، لكن البأس من جهة الواحدة عام للتقديرين، و لا إشكال أنّ عموم البأس لهذين التقديرين ملازم للنجاسة، فإنّ المنع عن الصلاة في جزء غير مأكول اللحم إنّما هو مشروط ببقائه و وجوده على البدن أو الثوب حال الصلاة، إذ بدونه لا يصدق أنّ الصلاة وقعت فيه، و أمّا مانعيّة النجاسة فلا فرق فيها بين الصورتين.

هذا مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر من سياق الكلام رفع التوهّم في البول و الغائط من حيث الطهارة و النجاسة، و إلّا فحيثيّة عدم جواز الصلاة لكونهما من غير المأكول فلا اختصاص لها بخصوص ما يخرج من أحد السبيلين، فعدم البأس في المنطوق بمعنى الطهارة، و ثبوته في المفهوم بمعنى النجاسة، و لكن يقع الكلام في عموم المفهوم.

و بالجملة فإنّا نسلّم ثبوت دلالة الوصف في المقام على المفهوم بمعنى أنّه ليس ممّا ذكر فيه الوصف، لا لأجل دخله في الحكم و ارتباط الحكم، بل أتي به

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 335

لنكتة أخرى كما في رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1» بل نقطع

بكونه ممّا يناط به الحكم بقرينة ورود الكلام في مقام بيان الضابط و المعيار، و لا يخفى ظهور الوصف بل نصوصيّته في هذا المقام في الدخالة في الحكم كما في الوصف في مقام الحدّ و التعريف.

و لكن مع ذلك نقول: إنّ القدر المتيقّن من كون الوصف المذكور ضابطا للطهارة هو ثبوت النجاسة في الجملة في غير المأكول في قبال طهارة جميع أفراده، فإنّه مناف لدخالة مأكوليّة اللحم في الطهارة، فالثابت هو ثبوت النجاسة و لو في بعض أصناف غير المأكول، و ذلك لأنّ إثبات الضابطيّة للطهارة لوصف المأكوليّة لا يدلّ على انحصار ضابط الطهارة به، بل إنّما يدلّ على أنّه ضابط، و لا ينافي أن يكون هنا عنوان آخر أيضا سببا و ضابطا للطهارة كعنوان الطائريّة، فيكون للطهارة سببان: مأكوليّة اللحم و الطائريّة.

و بالجملة فمع تسليم الدلالة على المفهوم و أنّ ثبوت البأس في المفهوم يدلّ على النجاسة لا يدلّ على النجاسة في كلّ ما لا يؤكل على نحو العموم، هذا.

و أمّا ما ورد في عنوان الطير فخبران، أحدهما: ما وصفه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بالصحّة و هو رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-، قال «كل شي ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه». «2»

و الثاني: مصحّحة عليّ بن جعفر عن أخيه- عليه السّلام- «عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير هل يحكّه و هو في الصلاة؟ قال: لا بأس». «3»

______________________________

(1)- النساء/ 23.

(2)- الوسائل: ج 2، 10، من أبواب النجاسات، ص 1013، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ج 2 ص 1013، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 336

و معارضة هذين الخبرين مع ما تقدّم قد يلاحظ في خصوص البول و قد يلاحظ في

خصوص الخرء، أمّا الأوّل فهو من هذا الحيث إنّما يعارض الخبر الأوّل أعني قوله: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و النسبة بينهما عموم من وجه، و مورد التصادق الطائر الغير المأكول لحمه مع كونه ذا بول كالخفاش، و القاعدة في المتعارضين بالعموم من وجه مع عدم أظهريّة أحد الطرفين هو الرجوع إلى الأصل و من الواضح أنّه هنا الطهارة، مع إمكان أن يقال بتقديم خبر الطير، و ذلك لأنّه لو قدّم الخبر الآخر و خصّص خبر الطير بالمأكول اللحم لزم أن لا يكون للطير عنوان مستقلّ للطهارة، بل كان العنوان هو المأكول اللحم، و من الواضح ظهور الخبر في ثبوت العنوان للطير في هذا الباب، و هذا بخلاف ما لو خصّصنا غير المأكول بغير الطائر، فإنّه لا يلزم لغويّة عنوانه رأسا، و ذلك لمحفوظيّة عنوانه في غير الطائر، فيكون الجمع العرفي على هذا تقديم خبر الطير و جعله قرينة صارفة على تخصيص الآخر.

و أمّا الثاني فهو من هذا الحيث سليم عن المعارض، فإنّ ما يتوهّم معارضته له هو الخبر الأخير و هو قوله: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه، و قد عرفت أنّه لا دلالة له على العموم في جانب المفهوم فلا يدلّ على نجاسة خرء كلّ ما لم يؤكل لحمه، نعم يدلّ على نجاسة خرء بعض غير المأكول، و لا تنافي بين ذلك و بين طهارة خرء كلّ طائر كما هو واضح، فيكون للطهارة ضابطان، مأكوليّة اللحم و الطائريّة.

بقي الكلام في ما ورد في بول الخشاشيف من الخبرين المتعارضين على وجه التباين الكلّي، أحدهما: رواية داود الرقي قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 1، ص: 337

بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه فلا أجده فقال: «اغسل ثوبك» «1»، و الثاني: رواية غياث عن جعفر- عليه السّلام- عن أبيه- عليه السّلام- قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «2»، و لا يخفى ثبوت الجمع الدلالي بينهما، فإنّ ملاحظة لا بأس في جنب اغسل يكون عرفا قرينة على كون الأمر للاستحباب لأجل النظافة لا للوجوب لأجل النجاسة، و وجهه أنّ «لا بأس» صريح في الطهارة و الأمر ظاهر في الوجوب، فنرفع اليد عن الظاهر لأجل الصريح، هذا بحسب الدلالة.

و أمّا بحسب السند فهذه مع رواية داود كلاهما موثّقة، و لا رجحان لأحدهما على الآخر، و ذلك لأنّ في طريق الأولى موسى بن عمرو لم يرد في حقّه أزيد من التوثيق، و وجود الرواية في كتاب محمّد بن علي بن محبوب الذي هو أحد الكتب المعتبرة على ما حكاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عن محكيّ السرائر لا يفيد مع كون محمّد بن علي بن محبوب رواها عن موسى المذكور، فتكون كالرواية الثانية، فإنّ في طريقها غياث البتري و هو ممّن وثّقه العلّامة و النجاشي فتكون روايته موثّقة، و لو فرض كونه عامّيا كما ربّما يشهد بذلك تعبيره عن الصادق- صلوات اللّٰه عليه- بقوله: عن جعفر عن أبيه.

و أمّا حمل الرواية الثانية على التقيّة كما عن الشيخ فلا وجه له بعد وجود الجمع العرفي بينها و بين رواية داود، فإنّ الرجوع في الخبرين المتعارضين إلى المرجّحات السندية إنّما يكون بعد اليأس عن الجمع الدلالي العرفي، و قد عرفت وجوده هنا، ثمّ لو رفع اليد عنها لمطروحيّتها و كونها رواية شاذّة نقل الإجماع على

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، 10، من أبواب

النجاسات، ص 1013، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ص 1013، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 338

خلافها في محكيّ المختلف فلا بدّ من استثناء بول الخشّاف من عموم صحيحة أبي بصير و تخصيصها برواية داود، و أمّا خرؤه فإن كان القول بالفصل بين البول و الخرء معدوما فيلحق بالبول، و إن كان موجودا فيكون عموم الصحيحة فيه مأخوذا.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى تمسّك على طهارة خرء الطير مضافا إلى الصحيحة بمصحّحة عليّ بن جعفر عن أخيه- عليه السّلام- عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير هل يحكّه و هو في الصلاة؟ قال: «لا بأس» و لم يعلم وجهه، فإنّ الرواية غير مربوطة بالمقام، و ذلك لأنّ ظاهر سياق الرواية أنّ السؤال وقع عن حيث وقوع الحكّ الذي هو فعل خارجي في أثناء الصلاة أنّه مبطل للصلاة لكونه معدودا من الفعل الكثير أو لا؟ مع مفروغيّة طهارة الخرء إمّا من جهة كونه من الطائر المأكول أو مطلقا بناء على طهارته مطلقا، و بالجملة الظاهر أنّ مفروض السؤال في موضع الفراغ عن الطهارة و يكون واردا مورد حكم آخر فلا يصحّ التمسّك به للمقام.

ثمّ قد تجعل الصحيحة معارضة بما عن المختلف عن كتاب عمّار بن موسى عن الصادق- عليه السّلام- قال: «خرء الخطّاف لا بأس به، هو ممّا يؤكل لحمه و لكن كره أكله لأنّه استجار بك و أوى إلى منزلك و كلّ طير يستجير بك فأجره» «1» حيث إنّ ظاهره تعليل الحكم بطهارة بول الخطّاف بكونه ممّا يؤكل لحمه، فيدلّ على أنّ المعيار حليّة اللحم دون الطيران.

و لكن لا يخفى أنّه و إن كان بحسب بادي النظر ظاهرا في ذلك، إلّا أنّ ملاحظة الفقرة الأخيرة ربّما تشهد

بكون قوله: ممّا يؤكل لحمه إلخ جملة مستأنفة لا تعليلا لما تقدّمه، و لا أقلّ من أنّ الجمع العرفي بينه و بين الصحيحة يقتضي ذلك، فإنّ تقديم هذا على الصحيحة يوجب كون عنوان الطير غير دخيل أصلا و هو

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، 10، من أبواب النجاسات، ص 1012، ح 20.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 339

خلاف نصّ الصحيحة.

و إذن فعلى القاعدة لا مانع من العمل بالصحيحة و الأخذ بمضمونها لو لم يرد فيها الوهن من جهة المطروحيّة و قلّة العامل بها و حكاية الإجماعات على خلافها.

بقي الكلام في أبوال الخيل و البغال و الحمير و أرواثها، فإنّ المشهور بل لم يحك الخلاف إلّا عن جماعة منهم الإسكافي و الشيخ في النهاية هو الطهارة، و قد اختلف الأخبار، ففي مضمرة سماعة قال: سألته عن أبوال السنّور و الكلب و الحمار و الفرس؟ قال: «كأبوال الإنسان». «1»

و موثّقة عبد الرحمن بأبان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار و الفرس و البغل، و أمّا الشاة و كلّ ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «2» يظهر من مقابلة هذه الثلاثة مع ما يؤكل لحمه خروجها عن هذا العنوان، و أنّ المراد بالمأكول لحمه ما يؤكل فعلا و يكون جعله للأكل، لا مطلق حلال اللحم و إن لم يكن مأكولا بمعنى عدم مجعوليّته للأكل، فيكون شارحا كالرواية الآتية للروايات المتقدّمة الواقع فيها هذا العنوان أو عنوان ما لا يؤكل لحمه، فيكون هذان العنوانان اللذان جعلا مناطين في هذا الباب أخصّ من عنواني حلال اللحم و حرامه المجعولين مناطا في باب لباس المصلّي كما يأتي ذكر روايته،

فلهذا يعمّ الحكم بجواز الصلاة لأجزاء هذه الثلاثة و لا يعمّ الحكم بالطهارة بحسب هذا الخبر لبولها و روثها.

و في صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن أبوال الخيل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 8، من أبواب النجاسات، ص 1009، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: باب 9، ص 1011، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 340

و البغال؟ فقال: «اغسل ما أصابك منه». «1»

و في حسنة ابن مسلم «اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه، و إن شككت فانضحه». «2»

و رواية عليّ بن جعفر المرويّة عن كتابه عن أخيه قال: سألته عن الثوب يوضع في مربط الدابّة على بولها أو روثها كيف يصنع؟ قال: «إن علق به شي ء فليغسله و إن كان جافّا فلا بأس» «3»، و ما ورد في أنّ الماء الذي تبول فيه الدواب إن تغيّر بها فلا يجوز التوضّي به «4»، بل في رواية أبي بصير قال: سألته عن كرّ من ماء مررت به و أنا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان؟ قال: «لا تتوضّأ منه و لا تشرب» «5».

و رواية زرارة عن أحدهما «في أبوال الدواب يصيب الثوب فكرهه، فقلت: أ ليس لحومها حلالا فقال: «بلى و لكن ليس ممّا جعله اللّٰه للأكل» «6» و بهذا يجمع بين ما دلّ على طهارة بول الثلاثة و ما تقدّم من الأخبار بحمل ما يؤكل لحمه على ما جعله اللّٰه للأكل، و ما لا يؤكل على ما لم يجعله للأكل بل للركوب و الزينة و غيرهما.

و قد ورد في جانب الطهارة أيضا أخبار:

منها: رواية أبي الأعز النحاس إنّي أعالج الدواب فربّما خرجت بالليل و قد بالت و

راثت فيضرب أحدها برجله و يده فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه فقال: ليس عليك شي ء». «7»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 9، من أبواب النجاسات ص 1011، ح 11.

(2)- المصدر نفسه: ص 1010، ح 6.

(3)- المصدر نفسه: ص 1012، ح 21.

(4)- المصدر نفسه: 1/ 103 و 104 و 2/ 1009 و 1010.

(5)- المصدر نفسه: 1/ 103 و 104 و 2/ 1009 و 1010.

(6)- المصدر نفسه: 1/ 103 و 104 و 2/ 1009 و 1010.

(7)- المصدر نفسه: 1/ 103 و 104 و 2/ 1009 و 1010.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 341

و رواية المعلّى بن خنيس و عبد اللّٰه بن أبي يعفور: و كنّا في جنازة و قدّامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا و ثيابنا، فدخلنا على أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- فأخبرناه فقال: «ليس عليكم بأس» «1»، و منها الرواية الوارد في باب جواز الصلاة في أجزاء محلّل الأكل و بوله و روثه و كلّ شي ء منه و قد تقدّم جزء منها.

و هي رواية ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، ثمّ قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة

في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ و قد ذكّاه الذبح، و إن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله و حرّم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي ء منه فاسد ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» «2» هذه أخبار الباب و الإنصاف أنّ الجمع الدلالي بينها في غاية الإشكال.

نعم لو كان أحد الطرفين نصّا و الآخر ظاهرا كما لو كان جميع أخبار النجاسة مشتملة على الأمر بالغسل لم يكن إشكال فيه. إذ كان المتعيّن حينئذ حمل الظاهر على النصّ بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب لكون لا بأس صريحا في الطهارة، و لكن مضمرة سماعة قد قرن فيها بين بول الحمار و الفرس مع بول الكلب

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 9، من أبواب النجاسات، ص 1011، ح 14.

(2)- المصدر نفسه: ج 3، ب 2 من أبواب لباس المصلّي، ص 250، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 342

و السنّور، و حكم بكون بول الجميع كأبوال الإنسان و هذا صريح في النجاسة.

و كذلك لم يكن إشكال في الجمع العرفي لو كان الطرفان صريحين، إذ حينئذ كانا متساقطين ثمّ نرجع إلى العام الذي فوقهما من قاعدة دوران الطهارة و النجاسة مدار مأكوليّة اللحم و عدمها، أو كان هذا العام مرجّحا لأخبار الطهارة على الخلاف، لكن هذا أيضا غير ممكن لوجود رواية زرارة في أخبار النجاسة المشتملة على كراهة الإمام- عليه السّلام- عن بول هذه الثلاثة و سؤال الراوي عن حليّة لحومها و جوابه- عليه السّلام- بأنّها حلال اللحم و لكن ليست ممّا جعل للأكل، فإنّ هذا شارح للمراد من عنوان المأكول اللحم الواقع في العمومات،

و مثلها أيضا موثّقة عبد الرحمن التي وقع التقابل فيها بين بول الفرس و الحمار و البغل و بين الشاة و كلّ ما يؤكل لحمه.

و على هذا فيقع التعارض بين هاتين الروايتين و بين تلك العمومات، فالمتعيّن حينئذ- أعني عند تعذّر الجمع الدلالي- حمل أخبار النجاسة على ورودها للتقيّة، فإنّ القول بالطهارة مذهب الشافعي و أبو يوسف على ما حكاه في الجواهر، و يشهد له إعراض الأصحاب- رضي اللّٰه عنهم- عنها، فإنّه لم يحك القول بالنجاسة إلّا عن ابن الجنيد و حكي متابعة الشيخ له في النهاية، لكن حكي أنّه رجع عن هذا الفتوى في المبسوط.

ثمّ من المسلّم بينهم في هذا الباب أعني باب نجاسة البول و الغائط من غير المأكول عدم الفرق بين ما كان غير مأكول بالأصل و ما كان كذلك بالعرض كالشاة الموطوءة أو الجلّالة، و لو لا ذلك تعيّن الفرق بينهما و ذلك لأنّ المنصرف المتبادر من قولهم- عليهم السلام-: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و كلّ ما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 343

أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «1» هو ما كان كذلك بحسب أصل الجعل و الجعل الأوّلي، فكلّ ما كان مأكول اللحم بحسب ذاته فبوله و غائطه طاهر و إن صار غير مأكول بالعرض، و كذلك الكلام في غير المأكول.

و هذا نظير ما ورد في أنّ الشكّ في النافلة غير مضرّة بصحّتها بل المصلّي مخيّر بين البناء على الأقلّ و الأكثر في قبال الفريضة، و أنّ الجماعة لا يتأتّى في النافلة حيث إنّ الشكّ في الفريضة إذا كانت ثنائية أو ثلاثيّة موجب للبطلان و الجماعة أيضا آتية فيها، فإنّه لا شكّ في انصراف

ذلك إلى ما كان نافلة بحسب أصل الجعل أو كان فريضة كذلك، فلا يشمل الحكم ما كان نافلة بالطوارئ مع كونه فريضة بحسب الأصل كالصلاة المعادة، و لا ما صار فريضة كذلك كالصلاة المندوبة المنذورة، فإنّ ذلك لا يوجب صيرورة الأوّل كالنافلة في حكم الشكّ و الجماعة، و لا صيرورة الثاني كالفريضة فيهما.

و بالجملة لو لم يكن إجماع في البين تعيّن حمل المأكول على المأكول الذاتي و غير المأكول على الذاتي دون العرضيّين منهما، كما أنّ الحال كذلك في باب لباس المصلّي، فإنّه لو لم يكن إجماع هناك كما هنا نحكم بجواز الصلاة في أجزاء مأكول اللحم و إن صار جلّالا أو موطوء.

و لكنّ الشيخ المرتضى- قدّس سرّه- عمّم غير المأكول الواقع في عنوان ذلك الباب أعني باب اللباس لغير المأكول بالعرض و لم يتعرّض للتفصيل بعد ذلك، و يظهر من عروة الوثقى أنّ الحكم فيه ليس في المسلّميّة مثله هنا، فإنّ عبارته هنا هكذا: «و لا فرق في غير المأكول بين أن يكون أصليّا كالسباع و نحوها أو عارضيّا كالجلّال و موطوء الإنسان و الغنم الذي شرب لبن خنزيرة» و عبارته في باب

______________________________

(1) الوسائل ج 2، باب 9 من أبواب النجاسات، ص 1011، ح 12

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 344

اللباس هكذا: «الظاهر عدم الفرق بين ما يحرم أكله بالأصالة أو بالعرض كالموطوء و الجلّال و إن كان لا يخلو عن إشكال» انتهى.

ثمّ على تقدير القول بعموم العنوانين لما دخل فيهما بالعرض فلا إشكال في عدم شمول عنوان مأكول اللحم لفرد غير مأكول ذاتا و لكن صار جائز الأكل بسبب الاضطرار، و لا غير المأكول لما يكون مأكولا ذاتا و لكن حرّم من

جهة النذر، و الفرق بينهما و بين الموطوء و الجلّال أنّهما صارا حرام اللحم على عامّة الناس، و لكنّ التحريم في المنذور ترك أكله و الجواز في المضطر إلى أكله ليسا نوعيّين بل هما حكمان شخصيّان ثابتان في حقّ شخص الناذر و شخص المضطرّ دون غيرهما، و الأوّل في هذا الحال حلال نوعا، و الثاني حرام كذلك، فالحكم يدور مدار الحرمة و الحلّية النوعيتين و إن كانتا عرضيتين.

[في أن ملاقاة الغائط في الباطن لا توجب النجاسة]

«مسألة 1: ملاقاة الغائط في الباطن لا توجب النجاسة كالنوى الخارج من الإنسان أو الدود الخارج منه، إذا لم يكن معها شي ء من الغائط و إن كان ملاقيا له في الباطن، نعم لو أدخل من الخارج شيئا فلاقى الغائط في الباطن كشيشة الاحتقان إن علم ملاقاتها له فالأحوط الاجتناب عنه، و أمّا إذا شكّ في ملاقاته فلا يحكم عليه بالنجاسة، فلو خرج ماء الاحتقان و لم يعلم خلطه بالغائط و لا ملاقاته له لا يحكم بنجاسته».

الحكم بعدم نجاسة الشي ء الباطني الملاقي للنجس الباطني في الباطن من المسلّميات و لا إشكال فيه، و إنّما الإشكال في الشي ء الخارجي الملاقي له في الباطن كالإبرة التي أدخلت في البدن و علم ملاقاتها الدم و لكن خرجت نقيّة، و كماء الاحتقان إذا رجع و لم يكن فيه أجزاء الغائط و علم ملاقاته له في الباطن.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 345

و وجه الإشكال عدم الدليل على نجاسة مثل البول و الغائط ما دام يكون في الباطن، فإنّ المنصرف إليه من قوله: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» هو مطلق ما يلاقي البول من الثوب و البدن و غيرهما إذا كانا في الخارج، و المفروض عدم دليل غيره، فيبقى البول

الموجود في المثانة باقيا على مقتضى القاعدة من الطهارة، و كذا الكلام في غيره، فإنّه ليس فيها ما يدلّ على نجاسة هذه المفاهيم بقول مطلق حتّى يؤخذ بإطلاقه، و إنّما هو منحصر في الأمر بغسل مثل الثوب و البدن ممّا يلاقيها في الخارج و هو غير شامل لملاقيها في الباطن فلا يكون دليلا على نجاستها فيه.

مع أنّه لو سلّم وجود الإطلاق الدالّ على نجاسة ما كان منها موجودا في الباطن حال وجوده فيه لكن نقول: إنّه حال وجوده فيه نجس لا يؤثّر في تنجيس ما يلاقيه سواء كان الشي ء الداخلي أو الخارجي.

و وجه ذلك أنّ الدليل الدالّ على تأثير ملاقاة النجس في تنجيس ملاقيه لا يخلو من حالين، إمّا يكون دليلا لفظيّا مذكورا فيه لفظ الملاقاة أو ما هو كالمذكور، أو ليس له دليل لفظي، بل يكون مستنده الارتكاز العرفي، فإن كان الأوّل فلا إشكال أنّ المتبادر من ملاقاة شي ء مع هذه الأشياء هو خصوص ما كان منها بين هذه الأشياء و بين غيرها في الخارج، و إن كان الثاني فلا إشكال أيضا أنّ الملاقاة التي يراها العرف سببا للتنجيس هو خصوص القسم الذي وقع بين القذر و الشي ء الآخر في الخارج، و لا يتنفّر ممّا لاقى الغائط أو البول في الجوف و إن كان يستقذر منه إذا كان الملاقاة في الخارج، و هذا نظير استقذاره من البصاق و الخلط الخارجين عن الفم فلا يبلعهما ثانيا، و عدم استقذاره إذا كانا في محلّهما فيبلعهما،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 346

و أمّا استقذاره من الحصاة و الدود و النوى الخارجة من الدبر إذا لم تتلوّث بشي ء من الغائط فليس من جهة كونها ملاقية للغائط في الباطن،

و إنّما هو من جهة كونها خارجة عن هذا السبيل، و قد ألقى الشارع استقذاره من هذا الحيث. هذا كلّه هو الكلام في الباطن الذي هو الجوف أو مثله في عدم كونه مرئيّا.

و أمّا مثل مطبق الشفتين و داخل العين و الأنف ممّا يرى و لكن عدّ من الباطن في باب الغسل و لم يلزم غسله، فالظاهر أنّ ملاقاة النجس مثل الدم الكائن في أحد هذه المحالّ موجب للنجاسة، إذ هو مثل الملاقاة الواقعة في الخارج في عدم انصراف دليل تنجيس الملاقاة عنه و ثبوت الاستقذار العرفي فيه، و إذن فيفرق بين هذين القسمين من الباطن في الملاقي الخارجي فيحكم بالطهارة في الأوّل و بالنجاسة في الثاني.

و أمّا في الملاقي الداخلي الذي قلنا إنّ الحكم فيه مسلّم فيبتني الكلام فيه من حيث هذا التفصيل على ملاحظة معقد الإجماع و كلام المجمعين هل هي صريحة في الطهارة حتّى في القسم الثاني من الباطن، أو ليس كذلك بل المتيقّن منها القسم الأوّل، فعلى الأول لا سبيل إلى التفصيل و على الثاني يتعيّن.

و ينبغي التعرّض هنا لكلام شيخنا المرتضى المذكور في باب المطهّرات في عنوان انتقال النجاسة إلى البواطن الذي جعله ابن فهد في موجزه عنوانا من المطهّرات ممّا يناسب المقام مع شرحه فنقول: قال- قدّس سرّه- «1»: «و توضيح الحال في البواطن أنّ الكلام يقع تارة في حكم النجاسة الكائنة في البواطن، و أخرى في تأثّر البواطن بها، و ثالثة في تأثر ما يحدث فيها من الرطوبات، و رابعة في تأثّر ما يدخل من الخارج إليها»، و الدود داخل في القسم الثالث أعني ما يحدث

______________________________

(1)- جعلنا كلام الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- بين «»، و خارجها كلام

المصنّف- دام ظلّه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 347

في الباطن، و النوى و الحصاة في القسم الرابع «و الكلام في كلّ تارة يقع في النجاسة الحادثة في البواطن و أخرى في النجاسة الداخلة إليها من الخارج» فهذه ثمانية أقسام «فنقول: أمّا النجاسة الكائنة في البواطن فإن كانت عينيّة حادثة فيها كالدم الحادث في الفم و جوف الأنف فالظاهر أنّه لا حكم لها فيجوز معها الصلاة و دخول المساجد و إن منعنا عن حمل النجاسة في الصلاة و إدخالها في المسجد مطلقا».

ظاهر العبارة أنّ هذا الدم نجس و لكن لا حكم له، و لكن ظهر ممّا قدّمناه أنّه يمكن الحكم بعدم كونه نجسا، و يكون حاله عند الشارع حال خلط الصدر عند العرف لا يكون مستقذرا ما دام في الباطن، و إذا القي في الخارج يصير مستقذرا و ليس لازم الدميّة النجاسة كما في ما يبقى من دم المذبوح بعد خروج الدم المعتاد، فإنّه و إن كان تعبير الفقهاء فيه أنّ خروجه مطهّر لما يتخلّف و لكن يمكن القول بكونه مع دميّته طاهرا، «و يدلّ عليه بعد ظهور الإجماع إطلاق ما دلّ على أنّه لا يجب غسل ما عدا ظاهر الأنف».

و المحصّل أنّه لو قلنا بأنّ الصلاة مع النجاسة ممنوعة و إدخال النجاسة في المسجد محرّم، فالدم الحادث في الباطن لا يحكم عليه بهذا الحكم، أمّا ما كان منه في الجوف و نحوه فلأنّه من المعلوم عدم التكليف في هذه الشريعة بشقّ بطن من حدث في بطنه نجاسة و إزالتها للصلاة و جواز الدخول في المسجد، و أما في ما كان في مقدم الأنف و الفم فلإطلاق ما دلّ على أنّ من رعف لا يجب عليه

إلّا غسل ظاهر الأنف و لا يجب تعاهد داخل الأنف و غسله، و ما دلّ على أنّ المستنجي لا يجب عليه إلّا غسل ظاهر المقعد و لا يجب إدخال الإصبع في حلقة الدبر، كما يحكى إدخال المسواك فيها عن العامّة، فإنّهما بإطلاقهما يشملان ما إذا كان من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 348

عين الدم و الغائط في داخل الأنف و الدبر باقيا، و مع ذلك جوّز فيهما الدخول في الصلاة و المسجد و لم يوجب الإزالة.

«و إن كانت عينا خارجيّة دخلت فيه أو متنجّسا مطلقا» يعني سواء كان متنجّسا بالنجس الخارجي أم بالداخلي، فالأوّل واضح، و الثاني كالخرقة الموضوعة في الأنف فيصله دم الأنف، فيقع الكلام في هذه الخرقة إذا دخلت في الجوف و إذا كانت في هذا المحلّ من حيث متنجسيّته لا من حيث أصل النجاسة، لا يقال: إنّا إذا حكمنا في النجاسة الباطنيّة بعدم الحكم لها فكذا يكون الملاقي لها.

فإنّه يقال: لا إشكال في كون نفي الحكم على خلاف القاعدة فيقتصر فيه على نفس النجاسة، و يكون المتنجس به داخلا تحت القاعدة من ممنوعيّة الصلاة معه و حرمة إدخاله في المسجد على القول بها.

«فالظاهر ثبوت حكم النجاسة إذا كان في مثل الفم و الأنف و نحوهما ممّا يمكن تطهيره دون مثل الجوف و الدماغ و نحوهما، فلو أكل نجسا أو متنجّسا فبقيت أجزاؤه في الفم لم يجز له الصلاة و دخول المساجد على القول بالمنع عن الصلاة مع النجاسة و إدخالها في المسجد، لعموم أدلّة المنع عنهما على القول بهما خرج ما كان منها في مثل الجوف بالإجماع و السيرة و بعض الأخبار».

و المحصّل أنّ الدليل على ثبوت الحكم في مثل ما

إذا كان النجاسة الخارجة موضوعة في الفم أو في جوف الأنف، أو وضع متنجّس فيهما هو عموم أدلة المنع عن الصلاة مع النجاسة و تحريم إدخالها في المسجد على القول بهما، و الإطلاق المتقدّم ليس هنا، فإنّ مورده دم الرعاف و الغائط، فلا يشمل النجاسة الخارجيّة، بل يؤخذ فيها بالعموم، و أمّا إذا دخلت النجاسة الخارجيّة أو المتنجّس في الجوف فقد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 349

خرج عن هذا العموم بالإجماع و السيرة الكاشفين عن عدم وجوب شقّ البطن لإزالتهما عنه للصلاة و دخول المساجد.

«قال في الموجز: لو وضع في جيبه درهما نجسا اخرج للصلاة و تبعه شارحه بانيا له على منع حمل النجاسة في الصلاة».

هكذا يكون في النسخ و المتعيّن أن يكون بدل جيبه «فمه»، فإنّ الكلام في المتنجّس المحمول في الباطن دون الخارج، و هذا الكلام مذكور في مقام تأييد المقام، و هذا واضح.

«و أمّا حكم تأثّر البواطن و ما يحدث فيها فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم تنجّس البواطن و ما يحدث فيها من الرطوبات بالنجاسة المتكوّنة فيها أو الداخلة من الخارج إليها، و يدلّ عليه مضافا إلى ظهور عدم الخلاف- كما يظهر من شارح الروضة- ظهور انصراف دليل تأثّر ملاقي النجس إلى غير البواطن لو كان إطلاقا لفظيّا- كما عرفت سابقا- كيف و ليس الدليل إلّا الإجماع المفقود في المقام، بل لا يبعد دعواه على العكس كما يظهر من الوحيد في شرح المفاتيح حيث قال: إنّه لا إجماع على تنجّس البواطن لو لم نقل بالإجماع على العدم، لكنّ الإنصاف أنّ منع شمول معاقد إجماعهم على تأثّر الملاقي لمثل الفم و مقدّم الأنف و نحوهما مكابرة».

و وجه الجمع بين هذا و

الإجماع المنقول على عدم التنجيس في البواطن لو كان هو أنّ الثاني إجماع على الفرع، و الأوّل إجماع على تنجّس الملاقي قاعدة و قانونا بمعنى أنّ تنجّس الملاقي قاعدة مسلّمة مجمع عليها و يكون كعمومات الكتاب أو السنّة فيكون قابلا للتخصيص، و وجه ذلك أنّا نرى الأصحاب- رضي اللّٰه عنهم- متى يحكمون في مورد بعدم تنجّس الملاقي كما في ملاقي ماء الاستنجاء يلتمسون في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 350

إثبات ذلك الدليل و يتشبّثون به، و من هذا نعلم أنّ إجماعهم وقع على القاعدة بما هي قاعدة قابلة للتخصيص، و أنّهم كانوا يتلقون هذه العبارة أعني: كلّ ملاق للنجس ينجس أو مرادفها من المعصوم و على هذا فيحتاج الخروج عنها إلى دليل مخرج، فإن كان هنا إجماع آخر على الفرع كان هو مخرجا، و لكنّه لكونه منقولا ليس قابلا للمخرجيّة، بل المخرج للبواطن عن هذه القاعدة المجمع عليها هو الصحيح الذي ذكره بقوله: «فالأولى التمسّك بعد ظهور عدم الخلاف بما في الصحيح عن صفوان عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ قال: «لا بأس به» «1» كلمه «من» في من بصاقه تبعيضيّة، يعني:

فأصاب ثوبي بعض من بصاقه.

و كيف كان فالاستدلال بهذه الرواية للمقام يبتني على حمل قوله: «يشرب» على أنّه حين الاشتغال بالشرب يلقى البصاق و يكون مع زوال العين لا محالة- إذ الخمر كالماء ينتقل بسرعة إلى الجوف و لا يمكث، و احتمال جمع مقدار من الخمر في طرف من الفم و إلقاء البصاق من الطرف الآخر بعيد في الغاية- و خاليا عن الأجزاء المتميّزة المحسوسة من الخمر لوجهين،

الأوّل: أنّه ليس السؤال عن حكم الخمر، فالسائل يعلم نجاسة الخمر و أنّه لا يصير بمجرد الانتقال إلى الفم طاهرا، فيكون مورد سؤاله ما إذا لم يكن مخلوطا بالخمر المحسوس، و الثاني: أنّ لفظ البصاق يكون بحسب اللغة عبارة عمّا يطلق عليه هذا اللفظ، و هو لا يكون إلّا مع الخلوص عن الامتزاج بالخمر، نعم لا يضرّ وجود الأجزاء الصغيرة الدقيقة العقليّة، فإنّها مستهلكة و خرجت عن اسم الخمريّة و دخلت في اسم البصاقيّة.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 39، من أبواب النجاسات، ص 1058، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 351

و بالجملة فالبصاق الملقى في حال الشرب لا يخلو من الملاقي للخمر، لأنّه إمّا بتمامه، ملاق له، و إمّا مخلوط بما قد لاقاه، فيكون الحكم بعدم البأس في هذا الموضوع شاهدا على المدّعى من عدم تنجّس البواطن و رطوباتها بالنجاسة الخارجة و الداخلة.

و لكن قد يقال: إنّ الرواية مجملة، لتردّدها بين هذا المعنى و بين معنيين آخرين لا شاهد عليهما فيها على المدّعى، الأوّل: أن يكون المراد ب «يشرب» أنّ فعله شرب الخمر لا أنّه في الحال مشتغل به، و توهّم السائل نجاسة الفم بواسطة شرب الخمر، فلهذا توهّم نجاسة الرطوبات الحادثة في الفم و لو بعد مضيّ مدّة طويلة عن شربه بواسطة نجاسة الفم.

و الثاني: أن يكون المراد ذلك و كان توهّم السائل أنّ الفم بعد شرب الخمر يتنجّس و يحتاج إلى التطهير، فشكّ في طهارة البصاقات المتأخّرة عن زمان الشرب لأجل الشكّ في تطهير الشارب لفمه، و من المعلوم أنّهما أجنبيان عن المقام، فإنّ الكلام في الرطوبة الملاقية للنجس و الرطوبات الحادثة بعد زوال العين طاهرة بلا إشكال.

و الجواب أنّ الرواية ظاهرة

في الفعليّة و الاشتغال الحالي بالشرب لمكان الفاء في قوله: «فبصق» الدال على ترتيب البصاق على الشرب و تعقيبه له، فيكون شاهدا على المدّعى.

«لكنّ الرواية و عدم ظهور الخلاف غايتهما عدم ثبوت حكم النجاسة بعد زوال العين، فلعلّه مطهّر كما صرّح به الشهيدان حيث ذكرا أنّ البواطن يطهر بزوال العين» فإنّ البصاق المذكور لا محالة يكون بعد زوال عين الخمر عن الفم بانتقاله إلى الجوف، فإنّه مائع كالماء ينتقل إلى الجوف بسرعة، و أمّا إمساك مقدار منه في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 352

طرف من الفم، و إرسال البصاق من الطرف الآخر فرض نادر غير داخل في مدلول الرواية قطعا، و على هذا فهو أعمّ من أن يكون لعدم تنجّسه بملاقاة الخمر في الفم كما هو المدّعى، و من تنجّسه به و بقائه على النجاسة ما دام بقاء الخمر في الفم و صيرورته بزواله عن الفم طاهرا، بل مقتضى الجمع بين قاعدة تأثّر الملاقي و هذه الرواية تعيّن الثاني، فيكون الزوال مطهّرا للبواطن، و هذا ليس تخصيصا في عام، إذ ليس في غير باب المياه ما يدلّ على انحصار المطهر في شي ء خاص.

و يتفرّع على الوجهين الحال في فرع، و هو ما إذا كان في جوف الأنف دم يابس و خرج ماء الأنف الجاري من أعلى هذا الدم حتّى يسيل إلى الخارج و لم يكن فيه شي ء من الدم، فإن قلنا بعدم التأثّر أصلا فهذا الماء طاهر، و إن قلنا بمطهّرية الزوال يكون نجسا، إذ الفرض بقاء عين الدم في جوف الأنف و عدم زواله، فليس مثل البصاق للشارب الخمر، فإنّه كما ذكرنا يكون بعد الزوال لعدم مكث الخمر في الفم و نزوله إلى

الجوف بسرعة، و لم يبق منه إلّا الأجزاء الصغار العقليّة المستهلكة في البصاق.

ثمّ قال- قدّس سرّه- بعد كلام: «إنّ البواطن كالجوف و نحوه ممّا لا تظهر أصلا لا دليل على تأثّره بالنجاسة لانصراف عموم قاعدة الملاقاة إلى غيرها، و أمّا البواطن الظاهرة كالأنف و العين و الأذن فقد عرفت أنّ دعوى الانصراف إلى غيرها خلاف الإنصاف، فمقتضى الجمع بين الأدلّة هو الحكم بالنجاسة مع طهرها بزوال العين».

و لكن يمكن أن يقال بأنّه لو كان قاعدة تأثر الملاقي عموما تعبديّا كان ما ذكر من أنّ مقتضى الجمع هو النجاسة مع مطهّريّة زوال العين تامّا، إذ حينئذ كان الأخذ به لازما ما لم يظهر الدليل على الخلاف، و لكن يمكن أن يكون استناد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 353

المجمعين إلى الارتكاز العرفي، حيث إنّ ما يلاقي القذر عندهم يصير مستقذرا.

و على هذا التقدير نقول: لا شكّ أنّه لو عرض على العرف أنّ بول الخفاش إذا وقع على الثوب جاز الصلاة مع هذا الثوب، فهو لا بدّ له من رفع اليد عن مرتكزه و الأخذ بالتعبّد من إحدى الحيثيتين، إمّا من حيث أنّ القذر لم يؤثّر في قذارة ملاقيه في هذا المقام، و إمّا من حيث إنّه أثر في ملاقيه و لكن مضيّ الزمان طهّره، فإنّ المرتكز عند العرف بقاء ملاقي القذر على قذارته و عدم زواله بنفسه بل بعلاج، فكما أنّ عدم حدوث قذارته رأسا بالملاقاة مع القذر خلاف ارتكازه كذلك حدوث القذارة فيه بسببها و زوالها بلا علاج بمجرد مضيّ الزمان، و ليس أحد هذين عنده مرجّحا على الآخر، بل يمكن أن يقال: بأنّه بمجرّد سماعه مثل هذا الحكم ينتقل إلى عدم التأثّر رأسا، و

أمّا احتمال التأثّر و زواله بزوال العين احتمال علمي لا يكاد يلتفت إليه عامّة الناس.

و بالجملة بعد ورود التعبّد من الشرع بعدم نجاسة ماء الأنف الملاقي للدم في باطن الأنف مع خروجه بعد زوال عين الدم عن الباطن يدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الشيئين المرتكزين عند العرف، أعني: التأثر بالملاقاة و عدم زواله إلّا بعلاج، فإن كان الأقرب بنظر العرف هو رفع اليد عن الأوّل بحيث صار الكلام عنده ظاهرا في الأوّل فبها، و إلّا فلا أقلّ من التساوي، و معه لا دليل على التنجيس و هو كاف في عدمه، و الطهارة بحكم الأصل، و على هذا فيكون مثل ماء الأنف الملاقي للدم في الباطن طاهرا حتّى مع خروجه قبل زوال الدم عن الباطن.

«و هنا قسم ثالث من البواطن يعامل معها من حيث الخبث معاملة الظواهر- كما صرّح به كاشف الغطاء- و هي ما يعدّ باطنا في باب الغسل من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 354

الجنابة و غيرها كثقب الأنف و الأذن- يعني الثقب الذي يحدثونه فيهما- و باطن السرّة و موضع تطبيق الشفتين و الجفنين حيث إنّ الظاهر من تجويز الارتماس مع عدم وصول الماء غالبا بمجرّده إلى المذكورات عدّها من البواطن، مضافا إلى صدق الباطن عليها عرفا، فيشملها ما دلّ على اختصاص الجنابة بالظاهر و لا يجنب الباطن، و لم يصل مثل هذا الإطلاق في باب النجاسة، و إنّما حكم بما حكم هنا من جهة بعض الأخبار، أو من جهة الإجماع و السيرة، أو من جهة انصراف أدلّة أحكام النجاسة إلى غير المقام، و إلّا فليس هنا إطلاق يعتدّ به علّق الحكم فيه على الباطن.

نعم في الأخبار دلالة على حصر

ما يجب غسله عند الرعاف و الاستنجاء في ما ظهر من الأنف و المقعد، و لا يلزم من عدم وجوب غسل باطنهما عدم وجوب غسل كلّ ما يعدّ باطنا عرفا، و المسألة محلّ إشكال في باب الحدث و الخبث فتأمّل».

و المحصّل أنّ قاعدة الملاقاة سواء كان تعبّديّة شرعيّة أم ارتكازيّة عرفيّة شاملة لمثل هذا الباطن قطعا و لا يكون منصرفا عنه، و ليس في باب النجاسة إطلاق علّق فيه الحكم على الباطن حتّى يؤخذ بإطلاقه و يحكم بعدم التنجّس في مثل ذلك أيضا، و على هذا فيكون كالظاهر في التنجّس بالملاقاة و عدم الزوال إلّا بالتطهير، سواء في ذلك النجاسة الحادثة في نفس هذا الباطن و النجاسة الداخلة فيه من الخارج، هذا من حيث الخبث.

و أمّا من حيث الحدث فوجه الإشكال فيه أنّ لفظ الباطن و إن كان مذكورا في الأخبار هنا، و لكنّه مطلق ليس نسبته إلى جميع هذه الأقسام الثلاثة على السواء و بنحو التواطي، بل يكون منصرفا إلى بعضها و هو ما عدا القسم الثالث.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 355

و يمكن رفع الإشكال من هذا الحيث أيضا بأنّ تجويز الارتماس من غير تقييد له بفتح الفم و العين ليصل الماء إلى مطبقهما دليل على عدم وجوب غسلهما و إلّا وجب التنبيه عليه خصوصا، مع كون الغالب المتعارف غمض العين و ضمّ الشفتين عند الارتماس، و معهما لا يصل الماء إلى المطبقين، و يمكن أن يكون الأمر بالتأمّل إشارة إلى هذا.

«و أمّا ما يدخل من الخارج إلى البواطن فمقتضى قاعدة الملاقاة هو تأثّره بالنجاسة المتكوّنة في البواطن و الداخلة إليها من الخارج، فينجس الطعام بالدم في الفم و لا يطهر بزوال العين-

كما صرّح به في الروضة و شرحها- و قد عرفت من الموجز و شرحه الحكم بتنجّس الدرهم بملاقاته النجس في الفم، لكنّ الأقوى التفصيل بين ما لا يظهر للحسّ من البواطن كالجوف و نحوه و بين ما يظهر كالفم و العين و نحوهما».

و الحاصل أن الجسم الخارجي الملاقي للنجس في الباطن الذي مثل الجوف يكون قاعدة الملاقاة منصرفة عنه تعبّديّة كانت أم ارتكازيّة، و إن لاقاه في أحد القسمين الآخرين فليست منصرفة عنه، بل شاملة له و لا مخرج عنها هنا، فيحكم بالتنجّس و عدم زواله إلّا بالتطهير.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الملاقي في الباطن الذي كالجوف خارج عن قاعدة الملاقاة قطعا، سواء كان خارجيّا كماء الاحتقان أم داخليّا، و سواء في ذلك النجاسة المتكونة في الباطن و الخارجة الداخلة إليه، و الملاقي في مثل مقدّم الأنف و داخل الأذن و الفم إن كان داخليّا فقد خرج بالنصّ، سواء في ذلك النجاسة الداخليّة و الخارجيّة، و الحقّ كما عرفت عدم تنجّسه رأسا دون تنجّسه و طهره بزوال العين.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 356

و إن كان خارجيّا فمشمول للقاعدة من دون مخرج له عنها، سواء في ذلك النجاسة الداخليّة و الخارجيّة، و الملاقي في مثل الثقب المجعول في الأنف و الأذن للحلقة و باطن السرّة و مطبق الشفتين و مطبق الجفنين، فلا يكون القاعدة منصرفة عنها قطعا، ألا ترى أنّه لو لاقى اليد قذرا فكما يغسل العرف ظاهر بشرتها كذلك يغسل ما بين الجلود المجتمعة في رءوس مفاصل الأصابع و ما بين الظفر و البشرة و لا مخصّص لها من غير فرق بين الملاقي الداخلي و الخارجي و النجاسة الداخليّة و الخارجيّة «1».

[في حكم بيع البول و الغائط و سائر المنافع]

«مسألة

2: لا مانع من بيع البول و الغائط من مأكول اللحم، و أمّا بيعهما من غير المأكول فلا يجوز، نعم يجوز الانتفاع بهما في التسميد و نحوه».

لو قلنا بأنّ بول غير المأكول و غائطه يحرم جميع الانتفاع بهما حتى التسميد و نحوه فلا إشكال في عدم صحّة بيعهما على القاعدة، إذ هما حينئذ مسلوب الماليّة عند الشرع، و إن كانا مالين عند العرف، و أمّا إن قلنا بجواز الانتفاع بهما ببعض المنافع كالتسميد فحينئذ هل لا يصحّ بيعهما مطلقا أو هنا تفصيل؟ فإن قصد بالبيع صرفهما في المنفعة المحرّمة فغير صحيح، و إن قصد الصرف في المنفعة المحلّلة فصحيح.

توضيح الحال في ذلك مبنيّ على ملاحظة الفقرة الواردة في تفسير التجارات من رواية تحف العقول و هي قوله- عليه السّلام- فيها: و أمّا تفسير التجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع يعني عليها أي على الوجوه- ممّا لا يجوز له و كذلك المشتري- يجوز بالكسر على صيغة اسم الفاعل و بالفتح على صيغة اسم المفعول- الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز فكلّ مأمور به-

______________________________

(1)- إلى هنا تمّ كلام الشيخ الأعظم الأنصاري- قدّس سرّه- و شرح المصنّف- رحمة اللّٰه عليه- لكلامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 357

يحتمل أن يكون المراد المرخّص فيه في قبال المنهيّ عنه، و يمكن أن يكون المراد الأعمّ من الندب و الوجوب، فإنّ بعض المذكورات واجب لكن بحسب السنخ، مثلا سنخ المأكول لا بدل له و يكون واجبا، و كذلك المشروب بحسب سنخه لا شي ء آخر يقوم مقامه و يكون واجبا، و أمّا النكاح فيكون مستحبّا.

ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم

في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- يعني بحسب السنخ كما ذكرنا- ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون بمعنى يطئون و المقصود شراء الجارية و بيعها، و يملكون، و المراد به مطلق ما كان رأس المال للمعاش من وجه النقد و غيره ممّا يمضي المعاش بسببه، فإنّ الإنسان لا بدّ له من ذلك، و يستعملون، مثل الدار و أثاث البيت، من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، دلّ على جواز بيع ما يشتمل على المنفعة المحلّلة و المحرّمة، فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.

و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد، ظاهره الأوّلي حرمة بيع الشي ء الذي فيه منفعة محرّمة و إن لم يكن بقصد استيفاء هذه المنفعة عنه، لكن بعد ملاحظة ما تقدّم في تفسير وجوه الحلال من قوله: و كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات يكون مقتضى الجمع حمل ذاك على البيع للصلاح و حمل هذا على البيع للفساد، ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه، فيحرم بيعه للأكل و الشرب، أو كسبه، فبيعه لأجل هذا الكسب حرام، و هذا كبيع الحمار و شرائه لأجل حمل الخمر به، أو بيع العنب لأجل أن يصنعه خمرا و يبيع الخمر الحاصل منه، و بيع مادّة آلات اللهو ليصنعها و يبيعها، فهذا كلّه من قبيل بيع شي ء يكون كسبه الخاص حراما، فبيعه لأجل هذا الكسب حرام.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 358

أو نكاحه يشكل هذا في العمودين، فإنّهما يحرم نكاحهما و يجوز شراؤهما، غاية

الأمر ينعتقان على المشتري، إلّا أن يراد شراؤها بانيا على حصول الملك المستقرّ بسببه، أو ملكه، كما في المال الموقوف فإنّه ليس بملك، فبيعه لأجل أن يصير ملكا حرام.

أو إمساكه، كالصور المجسّمة و أواني الذهب و الفضّة بناء على حرمة اقتنائها، أو هبته، يمكن أن يكون المقصود إثبات الملازمة بين حرمتها و حرمة البيع بمعنى أنّ كلّ شي ء يحرم هبته يحرم بيعه و كذلك الكلام في قوله: أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، الفرق بين هذا و قوله: فكلّ أمر يكون فيه الفساد هو أنّ الفساد في الأوّل في ذات المبيع و في الثاني في نفس البيع، فالمراد بالشي ء ذات المبيع يعني: شي ء يكون فيه من جهة نفس بيعه وجه من وجوه الفساد و يؤيّده التمثيل بعد ذلك بقوله: نظير البيع بالربا أو بيع الميتة أو الدم إلى قوله: أو شي ء من وجوه النجس.

إلى هنا حصل قسمان لمحرّم البيع، أحدهما: ما يكون بيعه حراما لمفسدة في نفسه فيكون بيعه لأجل ترتيب هذه المفسدة حراما، و الثاني: ما يكون حراما من جهة المفسدة في نفس بيعه، فشي ء من وجوه النجس لا يخلو إمّا أن لا يكون فيه مصلحة أصلا و على هذا فالأمر واضح، و إمّا أن يكون ممّا فيه الصلاح و الفساد، فمن حيث صلاحه يكون بمقتضى الفقرة المتقدّمة بيعه لأجل هذا الصلاح حلالا، و من حيث فساده يكون بمقتضى قوله: كلّ أمر يكون فيه الفساد، بيعه لأجل فساده محرّما.

لكن على هذا كان اللازم تقييد قوله: «شي ء من وجوه النجس» بما إذا قصد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 359

بيعه لأجل فساده، فحيث عدّه مطلقا من الأمثلة يمكن أن يكون ما

إذا قصد صلاحه ببيعه كما لو بيع بقصد التسميد به- لو قلنا بجواز التسميد- داخلا في صور حرمة البيع من جهة مفسدة نفس البيع لا من جهة مفسدة المبيع، فيكون بيع النجس كبيع الربا من حيث عنوان كونه بيع النجس حراما، فإن قصد به المنفعة المحرّمة كان حراما من جهتين و داخلا في القسمين، و إن قصد به المنفعة المحلّلة كالتسميد فهو و إن كان خارجا عن القسم الأوّل لكنّه داخل في القسم الثاني.

فإن قلت: التعليل الذي ذكره بقوله: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه إلخ» يدلّ على أنّ المذكورات من قبيل القسم الأوّل فيكون بيع النجس حراما من جهة أنّه منهيّ عن أكله و شربه، فبيعه لأجل منفعته المحرّمة محرّم، و أمّا من جهة منفعته المحلّلة فحلال.

قلت: الظاهر أنّ جميع الأمثلة من قوله: نظير البيع بالربا إلى قوله: أو شي ء من وجوه النجس أمثلة للقسم الثاني، و أنّ القسم الأوّل لم يذكر له مثال.

فإن قلت: فكيف يتمّ التعليل في البيع الربوي، فإنّه لا شكّ أنّ حرمة بيعه ليست بناشئة عن حرمة أكله بل الأمر بالعكس، فأكل منّين من الحنطة ليس بحرام في حدّ نفسه بل بواسطة جعلهما مقابلين في البيع لمنّ واحد و كون هذا البيع حراما.

قلت: نعم بحسب مقام الإثبات الأمر كذلك فيستكشف من حرمة البيع حرمة أكل العوضين، و هذا جار في حقّنا، فنحن نستدلّ بحرمة البيع على حرمة الأكل، و لكن يمكن أن يكون الأمر عند الشارع و بحسب مقام الثبوت بالعكس، بمعنى أنّه نظر في التصرّفات المترتّبة على بيع الرّبا في أحد عوضيه فلم يجد فيها من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 360

حيث كونها تصرّفا

مرتّبا على عنوان البيع ما يكون صلاحا، فلهذا حرّم هذا البيع، و هذا الكلام أيضا جار في جميع الأمثلة.

فمناط تشريع الشارع للتحريم في بيع هذه الأشياء كون تصرّفاتها بعنوان انتقالها و صيرورتها مالا للمتصرف بالبيع فاسدة، فالتسميد بالنجس من حيث إنّه أحد المباحات جائز، و من حيث إنّه انتقل إليه بالبيع و صار مالا له بسببه حرام، فللقصد مدخل في حرمة التصرّفات، و حرمتها بهذا القصد صارت علّة لتشريع الحرمة في بيع هذه الأشياء، فالغرض من التعليل ذكر علّة أصل التشريع بحسب مقام الثبوت، يعني أنّ كلّ بيع يكون التصرّفات بعنوان هذا البيع بتمامها حراما بنظر الشارع فقد حرّم الشارع هذا البيع.

و حاصل الكلام في المقام أنّ أوّل الأمثلة لما جعل البيع الربوي، و البقيّة معطوفة عليه، و لا شكّ في أنّه ممّا يكون محرّما من جهة نفس البيع، فالظاهر أنّ ما عطف عليه ممّا ذكر بعده الذي منها وجوه النجس أيضا يكون من هذا القبيل، فيكون بيع النجس و إن كان فيه منفعة محلّلة ممّا يحرم من جهة نفس البيع، و كذا في بيع جلود السباع و إن جاز الانتفاع بها مع التذكية، و لكن بيعها غير جائز كما هو قول بعض على ما حكاه الأستاذ- دام ظلّه.

[حكم بول الحيوان و روثه إذا لم يعلم كونه مأكول اللحم أو لا]

«مسألة 3: إذا لم يعلم كون حيوان معيّن أنّه مأكول اللحم أو لا، لا يحكم بنجاسة بوله و روثه و إن كان لا يجوز أكل لحمه بمقتضى الأصل، و كذا إذا لم يعلم أنّ له دما سائلا أم لا، كما أنّه إذا شكّ في شي ء أنّه من فضلة حلال اللحم أو حرامه أو شكّ في أنّه، من الحيوان الفلاني حتّى يكون نجسا، أو من الفلاني حتّى

يكون طاهرا، كما إذا رأى شيئا لا يدري أنّه بعرة فأر أو بعرة خنفساء، ففي جميع هذه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 361

الصور يبني على طهارته».

إذا كان هنا حيوان لم يعلم حكمه من حيث حليّة اللحم و حرمته بالشبهة الحكميّة كالمتولّد من حيوانين إذا لم يدخل تحت اسم شي ء من الحيوانات فله صورتان:

الأولى: أن يعلم بقابليّته للتذكية بأن علم أنّه ليس كالكلب و الخنزير في عدم القابليّة للتذكية، فيعلم بأنّه بعد التذكية يصير جلده طاهرا، و لكن يشكّ في حليّة لحمه و حرمته، و حينئذ مقتضى الأصل هو الحليّة، فإنّ أصالة الحرمة في اللحوم ليست بأصل مستقل و إنّما هي أصالة عدم التذكية و هي غير جارية، إذ الفرض عدم الشكّ في حصوله لاجتماع شرائطه من القبلة و المسلم و التسمية مع كون الحيوان قابلا.

و أمّا الشكّ في التأثير و التأثّر يعني تأثير هذه التذكية في حليّة لحم المذبوح لاحتمال كونه من غير المأكول فهو و إن كان حاصلا، لكنّه ليس له أصل، فيكون الأصل في نفس اللحم هو الحليّة و يكون سليما عن الحاكم، و إذا ثبت حليّة أكل لحمه بالأصل يصير موضوعا لطهارة البول و الروث و جواز الصلاة في جلده، لترتّبهما على عنوان ما حلّ أكل لحمه.

و الثانية: أن يشكّ في أصل قابليّة المحلّ للتذكية حتّى من حيث الطهارة و النجاسة بأن احتمل كونه كالكلب و الخنزير في النجاسة العينيّة حتّى لا تؤثّر التذكية في طهارة جلده أيضا، فحينئذ فتجري أصالة عدم التذكية و يترتّب عليها حرمة أكل اللحم، و بعد ثبوت حرمة أكله يصير موضوعا لنجاسة بوله و روثه فيحكم بنجاستهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 362

و من هنا علم ما

في كلامه- دام ظلّه- في هذا المقام من التفرقة في حكم طهارة البول و الروث و حليّة أكل اللحم، فحكم بنجاستهما و حرمته، فإنّك عرفت عدم تماميّتها في شي ء من الصورتين إذا أخذ حكم شرعي موضوعا لحكم شرعي آخر كما هنا، حيث جعل موضوع جواز الصلاة في الجلد حليّة اللحم و موضوع عدم جوازها حرمته، فكلّ ما حلّ أكل لحمه جاز الصلاة في جلده و سائر أجزائه، و كلّ ما حرم أكل لحمه لم يجز الصلاة في أجزائه، فإجزاء الصلاة و فسادها حكمان شرعيّان موضوعهما حليّة أكل اللحم و حرمته، و هما أيضا حكمان شرعيّان.

و كذا الكلام في طهارة البول و الروث و نجاستهما، فكلّ ما حلّ أكله طهر بوله و روثه، و كلّ ما حرم أكله نجس بوله و روثه، و الطهارة و النجاسة أيضا حكمان شرعيّان موضوعهما حكمان شرعيان آخران، فلا بدّ من ملاحظة دليل الحكم الذي أخذ الحكم الشرعي موضوعه و أنّ ما ذا يستفاد منه، ففي المقام يلاحظ دليل تعليق إجزاء الصلاة في أجزاء الحيوان بحليّة أكله، و عدم الإجزاء بحرمته.

فإن كان الحليّة و الحرمة المأخوذتان موضوعين في هذا الدليل أعمّ من الواقعتين و الظاهريتين فالحليّة و الحرمة الجائيتان من قبل الأصل- كما هنا حيث حكم في الصورة الأولى بالحلّية من جهة أصالة الحلّ، و في الثانية بالحرمة من جهة أصالة عدم التذكية- مصداقان حقيقيّان لما هو الموضوع، فيحكم في الصورة الأولى بطهارة البول و الروث و إجزاء الصلاة في الأجزاء، لتحقّق موضوعهما الحقيقي أعني: حليّة الأكل الظاهريّة، و في الثانية بنجاستهما و عدم الإجزاء كذلك.

و إن كان المأخوذ في ذاك الدليل هو خصوص الحليّة الواقعيّة و الحرمة الواقعيّة، فالحال في

الحكم المجعول موضوعا هو الحال في الموضوعات الخارجيّة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 363

المجعولة موضوعا كالخمر و نحوه، فكما أنّ الحكم معلّق على واقعها و بالأمارة أو الأصل يجعل دائرة هذا الموضوع الواقعي أوسع، فكذا الحكم الواقعي المجعول موضوعا أيضا يصير بالأصل دائرته أوسع، فأصالة الحلّ في الصورة الأولى قضيّته إثبات الحلّية الواقعية بما لها من الآثار، و من جملتها إجزاء الصلاة و طهارة البول و الروث.

و كذا الكلام في الصورة الثانية، فأصالة عدم التذكية كما يثبت الحرمة كذلك يثبت آثارها من عدم إجزاء الصلاة فيه و نجاسة بوله و روثه، فإنّ الأصل كما يثبت به الآثار المترتّبة بلا واسطة، كذلك يثبت به الآثار المترتّبة معها إذا كانت الواسطة شرعيّة كما هي كذلك في المقام، و يظهر الثمرة بين الوجهين أنّه على الأوّل- و هو كون الحكم المجعول موضوعا أعمّ من الظاهري و الواقعي- لو انكشف مخالفة الأصل للواقع لا يجب إعادة الصلاة الواقعة في أجزائه و الواقعة في ملاقي بوله و روثه مع الرطوبة، و على الثاني يجب لتبيّن فساد الصلاة بسبب فقدانها الشرط الشرعي.

و لو كان هنا بعرة و لم يعلم أنّها من الثعلب حتّى تكون نجسة، أو من الشاة حتّى تكون طاهرة، فأصالة الطهارة فيه بلا مانع، إذ لا موقع هنا لأصالة عدم التذكية.

و من هنا يعلم الحال في فرع آخر و هو ما إذا كان جلد مطروحا و لم يعلم طهارته و نجاسته من جهة الشكّ في التذكية، فحكموا بنجاسته على وجه الإطلاق، و الحقّ هو التفصيل بين ما إذا لم يكن في البين إلّا حيوان واحد و لم يعلم أنّه ذكّي أو لم يذكّ، فيحكم هنا بنجاسة الجلد المطروح،

لأصالة عدم تذكية هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 364

الحيوان الذي من آثاره نجاسة جلده، و بين ما إذا كان هنا حيوانان مأكولا اللحم علم بأنّ أحدهما المعيّن ذكّي و الآخر لم يذكّ و كان هنا جلد مطروح علم كونه من أحدهما لكن لم يعلم أنّه من أيّهما، من المذكّى أو من الآخر الغير المذكّى، فإنّ الأصل حينئذ يقتضي طهارة الجلد لا نجاسته، فإنّ أصالة عدم التذكية هنا غير جارية، إذ المفروض أنّ أحد الحيوانين المعيّن معلوم التذكية، و الآخر معلوم عدم تذكيته.

و من المعلوم أنّ التذكية و عدمها إنّما يعتبران بالنسبة إلى الحيوان لا بالنسبة إلى الجلد فقط حتّى يقال: إنّها بالنسبة إلى نفس الجلد مشكوكة و إن كان بالنسبة إلى الحيوانين إمّا معلوم الوجود أو معلوم العدم، و إذا لم يجر أصالة عدم التذكية كان أصالة الطهارة في نفس الجلد المطروح بلا مانع و حاكم، و كذا الكلام بعينه في اللحم المطروح.

و لو علم بتذكية كلا الحيوانين، و لكن علم بأنّ الواحد المعيّن المميّز منهما مأكول اللحم، و الآخر غيره، فيشكّ في الجلد المطروح المشكوك كونه من أيّهما من حيث جواز الصلاة فيه و عدمه مع العلم بطهارته، فلا مجرى فيه لأصالة حليّة اللحم، إذ المفروض كون أحدهما معلوم الحليّة و الآخر معلوم الحرمة، فيكون الأصل الجاري في المسبّب، أعني: نفس الجلد بلا حاكم و هو الأصل الجاري في كلّ ما دار الأمر فيه بين الأقلّ و الأكثر في الشبهة الموضوعيّة الذي من فروعه الصلاة في اللباس المشكوك، فإن قلنا فيه بالبراءة نقول بها هنا، و إن قلنا بالاشتغال نقول به هنا.

و لو شكّ في طهارة بول و روث حيوان غير مأكول

اللحم من جهة الشكّ في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 365

أنّه ذو نفس سائلة أو غيره فحيث قد عرفت سابقا أنّه لا دليل لفظيّ هنا كان هذا القيد فيه مذكورا حتّى ينظر فيه و يستفاد أنّ هذا القيد كيف اعتبر فيه، و إنّما الدليل عليه منحصر بالإجماع، فإن كان الإجماع واقعا على واقع هذا العنوان بأن كان غير المأكول الغير ذي النفس واقعا طاهر البول، و غير المأكول ذا النفس واقعا نجسة، فحينئذ حيث إنّه لا أصل في مورد الشكّ يقتضي سائليّة دم المشكوك أو عدم سائليّته، فالأصل في المسبّب و هو طهارة البول و الروث سليم عن الحاكم و المعارض.

و أمّا إن قلنا بأنّ الإجماع واقع على طهارة بول و روث ما علم كونه غير ذي النفس فالمشكوك داخل تحت عموم قوله: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» حيث يشمل بعمومه المعلومات و المشكوكات خرج منه بالإجماع الأفراد المعلومة كونها غير ذي نفس و بقي الباقي تحته، و لكن لا يخفى أنّه ليس في البين إجماع منقول حتّى يجي ء فيه الاحتمالان، و إنّما الإجماع لو كان متحصّل من عبارات الفقهاء و ليس في عباراتهم إلّا اعتبار نفس العنوان بواقعة من دون دخل العلم فيه أصلا.

و ملخّص الكلام في الفروع السابقة على هذا الفرع أنّ أصالة الحرمة في اللحوم ليست بأصل مستقلّ دلّ عليها آية أو رواية، و إنّما الموجود هو أصالة عدم التذكية، و لا يشكل بأنّ موضوع الحرمة و سائر الأحكام هو الميتة و إثباتها بهذا الأصل لا يتم إلّا على الأصل المثبت. فإنّه يقال: إنّ الموضوع ليس أمرا وجوديّا كخصوص الموت بحتف الأنف حتّى لا يمكن إثباته بأصالة عدم

التذكية، بل هو الأعمّ من الميتة الحقيقية و ممّا هو ملحق بها حكما كما يكون فاقدا لأحد شرائط

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 366

التذكية. و بالجملة فالموضوع أمر عدميّ و هو عدم تحقّق الذبح على النهج الخاص.

و إذن فالأمر في الشبهة الحكميّة من جهة حرمة الأكل و حليّته يدور مدار جريان هذا الأصل و عدمه و هو مختلف بحسب الموارد، ففي الحيوان المتولّد من الكلب و الغنم الغير الداخل في اسمهما و لا غيرهما- حيث إنّه يشكّ في أصل قابليّته للتذكية- يجري فيه هذا الأصل فيرتّب عليه حرمة الأكل ثمّ يترتّب عليها عدم جواز الصلاة في أجزائه، و نجاسة البول و الروث.

و في الحيوان المتولّد من الدبّ و الغنم الغير الداخل تحت اسم منهما و من غيرهما- حيث إنّ قابليّته للتذكية معلومة و إنّما الشكّ في تأثير التذكية في حليّة الأكل و عدمه و هو لا أصل له- فيبقى أصالة الإباحة في نفس اللحم بلا مزاحم فيرتّب على الحليّة جواز الصلاة في الأجزاء و طهارة البول و الروث.

و لا يشكل في إثبات آثار حليّة الأكل و حرمته بواسطة الأصل بأنّ الموضوع للآثار في الأدلّة هو المأكول اللحم الواقعي و غيره كذلك و الأصل حكم في موضوع الشكّ، فلا يترتّب على الحليّة أو الحرمة الجائية من قبله ما يترتّب على الحليّة الواقعيّة و الحرمة كذلك، و بالجملة ليس حال أصالة الإباحة حال الاستصحاب، فإنّه ناظر إلى الواقع و ليس فيها نظر إلى الواقع أصلا.

فإنّه يقال: هذا ممنوع بل قد تقرّر في الأصول أنّه كما يقوم الاستصحاب مقام العلم الطريقي المحض فكذلك الأصول الشرعيّة الأخر، ألا ترى أنّه يثبت بأصالة الطهارة كلّ ما كان لموضوع الطاهر

الواقعي من الآثار، مع أنّه أيضا مثل أصالة الإباحة في كونه مجعولا في حقّ الشاكّ بالواقع.

و من هنا تبيّن الحال في مسألة الجلد المطروح و أنّه أيضا غير محكوم بالنجاسة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 367

مطلقا، و كذلك اللحم المطروح غير محكوم بالحرمة و النجاسة مطلقا، بل الحال في ذلك مختلف حسب اختلاف الموارد في قابليّتها لجريان أصالة عدم التذكية و عدم قابليتها، فإن كان المورد قابلا لها بأن كان الشكّ في أصل قابليّة الحيوان صاحب الجلد للتذكية أو علم بقابليّته، لكن شكّ في وقوع التذكية عليه على الوجه الصحيح فإنّ الأصل في كليهما عدم التذكية، و يترتب عليه النجاسة في الجلد و الحرمة و النجاسة في اللحم.

و إن كان غير قابل لهذا الأصل كما لو كان حيوانان علم بمذكّائية أحدهما المتعين و عدم مذكّائيّة الآخر، و علم أنّ الجلد المطروح من أحدهما، فإنّ الشكّ حينئذ واقع في أنّ هذا الجلد هل هو مقلوع من المذكّى حتّى يجوز الصلاة فيه و يكون طاهرا، أو مقلوع من غيره حتّى لا يجوز و يكون نجسا، و حيث لا أصل يقتضي أحدهما فأصل الطهارة في نفس الجلد بلا مزاحم، فتكون الصلاة فيه من جهة النجاسة بلا مانع، و كذلك لا مانع أيضا من جهة عدم المأكوليّة في صورة كون الحيوانين كليهما غنما، فإنّ الميتة و إن كان غير مأكول لكنّ الظاهر من عنوان غير المأكول ما كان كذلك بحسب الذات، و لهذا جعل التذكية قيدا زائدا على حليّة الأكل في خبر لباس المصلّي، حيث اعتبر فيه بعد اعتبار حليّة الأكل قوله: «إذا علمت أنّه ذكّي».

نعم لو قلنا بأنّ الميتة عنوان مستقل في باب لباس المصلّي لعدم جواز

الصلاة كعدم المأكوليّة، يصير الكلام في الصلاة في الجلد المذكور من هذا الحيث هو الكلام في الشبهة الماهوتيّة «1»، كما هو الحال أيضا لو كان أحد الحيوانين غنما

______________________________

(1)- راجع العروة الوثقى المسألة 18 من شرائط لباس المصلّي.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 368

و الآخر ثعلبا و علم بتذكية أحدهما و عدم تذكية الآخر، فإنّ الجلد المطروح يكون طاهرا بمقتضى الأصل، و جواز الصلاة فيه مبنيّ على الكلام في الشبهة الماهوتيّة.

و بالجملة: فليس الأصل في الجلد المطروح مطلقا النجاسة و لا في اللحم المطروح مطلقا الحرمة و النجاسة، لما عرفت من أنّه في المورد المذكور حيث لا مجرى لأصالة عدم التذكية لكون أحد الحيوانين معلوم التذكية و الآخر معلوم العدم، فلا مانع من إجراء أصالة الطهارة و الإباحة في نفس الجلد و اللحم.

نعم لو كان موضوع التذكية و عدمها هو نفس الجلد أو اللحم كان لأصالة عدم التذكية مجال، فإنّ التذكية في نفس اللحم و الجلد المطروحين مشكوكة و إن كان غير مشكوكة في نفس الحيوانين، فيكون الأصل عدمها في نفس الجلد و اللحم، فيترتّب عليه النجاسة و الحرمة، و لكنّ الظاهر خلافه و أنّ موضوع التذكية نفس الحيوان و لا يصحّ نسبته إلى أجزائه، فهو في الحيوان نظير الطهارة من الحدث في الإنسان، حيث لا يصحّ نسبتها إلّا إلى نفس الإنسان و لا يصحّ إلى أجزائه، و يؤيّد ذلك أيضا قوله- عليه السّلام- في الموثّقة الواردة في لباس المصلّي: «إذا علمت أنّه ذكّي» يعني: إذا علمت أنّ الحيوان مذكّى، فعلم أنّ المعتبر تذكية الحيوان لا أجزائه.

و إذن فلا مجرى لأصالة عدم التذكية، لأنّ المفروض عدم الشكّ من هذه الجهة في نفس الحيوانين، فعلم من

جميع ما ذكرنا أنّ الحكم بطهارة البول و الروث في الحيوان المشتبه الحكم من جهة الشبهة الحكميّة ليس على وجه العموم و الكلّية كما يظهر منهم، و كذا الحكم بحرمة أكله، و كذا الحكم بنجاسة الجلد المطروح و نجاسة اللحم المطروح و حرمته، فالحكم في الموارد الثلاثة ليس على وجه الكليّة كما يظهر من كلماتهم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 369

[الثالث في المني]

«الثالث: المنيّ من كلّ حيوان له دم سائل، حراما كان أو حلالا، بريا أو بحريّا، و أمّا المذي و الوذي و الودي فطاهر من كلّ حيوان إلّا نجس العين، و كذا رطوبات الفرج و الدبر ما عدا البول و الغائط».

محلّ الكلام هنا من جهتين: الأوّل: من حيث تعميم حكم النجاسة إلى كلّ حيوان من الإنسان و غيره من غير المأكول فضلا عن المأكول، مع أنّ مورد بعض الأخبار مني الإنسان و هو المنصرف إليه من مطلقاتها.

ففي رواية محمّد بن مسلم عن أحدهما- عليهما السّلام- أنّه قال في المني يصيب الثوب قال: «إن عرفت مكانه فاغسله، و إن خفي عليك فاغسله كلّه». «1»

و رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: ذكر المنيّ و شدّده و جعله أشدّ من البول ثمّ قال: «إن رأيت المنيّ قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك و كذلك البول». «2»

و في رواية عنبسة بن مصعب «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن المنيّ يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه؟ قال: «يغسله كلّه و إن علم مكانه فليغسله». «3»

و في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه-

عليه السّلام- «قال: إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه، فإن ظنّ أنّه أصابه مني و لم يستيقن و لم ير مكانه فلينضحه بالماء، و إن استيقن أنّه قد أصابه منيّ و لم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 16، من أبواب النجاسات، ص 1021، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 1022، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ص 1022، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 370

فإنّه أحسن». «1»

و في مضمرة سماعة قال: سألته عن المنيّ يصيب الثوب قال: «اغسل الثوب كلّه إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا». «2»

و في رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال: «إن عرفت مكانه فاغسله، و إن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه». «3»

و في رواية الشحّام أنّه سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتّى يبتلّ عليّ فقال: «لا بأس به». «4»

هذه أخبار الباب، و أنت خبير باختصاص مورد الأخير و الرابع منها بمنيّ الإنسان، و أمّا غيرهما فهو و إن كان لفظ المنيّ مذكورا فيه على وجه الإطلاق، لكن بضميمة فرض إصابته الثوب يصير منصرفا إلى منيّ الإنسان، و هو واضح لا إشكال فيه.

فلهذا يقع الكلام في تعدية النجاسة إلى منيّ غير المأكول فضلا عن المأكول خصوصا مع ملاحظة موثّقة عمّار «كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «5»، و كذلك قوله- عليه السّلام- في الموثّقة الواردة في لباس المصلّي: «و إن كان ممّا أكل لحمه فالصلاة في شعره و وبره و بوله و روثه و كلّ شي ء منه جائز» «6».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2،

باب 16، من أبواب النجاسات، ص 1021، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ص 1022، ح 5.

(3)- المصدر نفسه: ص 1022، ح 6.

(4)- المصدر نفسه: ص 1023، ح 7.

(5)- المصدر نفسه: ص 1011، ح 12.

(6)- المصدر نفسه: ص 1010، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 371

و محلّ الكلام الآخر أنّه بعد التنزّل و تسليم وجود الدليل على نجاسة المني من كلّ حيوان فما الدليل على التقييد بكون الحيوان ذا نفس سائلة، إذ ليس في الأدلّة اللفظيّة على تقدير عمومها ما يدلّ على هذا التقييد، و الإجماع غير معلوم لما حكي عن بعض من التردّد في هذا التقييد.

و كيف كان فالكلام في التقييد بمعنى الحكم بطهارة مني غير ذي النفس سواء كان من المأكول أم من غيره الظّاهر أنّه صاف عن الإشكال، إذ قد عرفت أنّه لا عموم في الأدلّة اللفظيّة يشمل منيّ غير الإنسان، و الإجماع أيضا غير موجود هنا، لوجود هذا التقييد في كلام المجمعين، بل لو لا المحكيّ من تردّد البعض كان الإجماع هنا على العكس أعني: الطهارة.

و الفرق بين هذا القيد هنا و بينه في ما سبق من البول و المني وجود العموم هناك و هو قوله- عليه السّلام-: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»، مع عدم وجود مخصّص صريح بل ظاهر له سوى الإجماع لو كان، بخلاف المقام، فإنّه لا عموم هنا يقتضي نجاسة المني من كلّ حيوان، لما عرفت من انصراف الأدلّة إلى منيّ الإنسان، فيبقى منيّ غير ذي النفس غير مشمول للدليل اللفظي و لا اللبيّ أعني: الإجماع، فتكون طهارته على وفق الأصل.

بقي الكلام من جهة التعميم للنجاسة إلى كلّ ما له نفس سائلة إنسانا كان أو غيره

مأكولا أو غيره، و قد عرفت عدم نهوض الأخبار بإثباته، فينحصر الدليل عليه في الإجماع، و لا يرد على إطلاق معقده ما ورد في إطلاق الأخبار من الانصراف، للعلم بإرادة العموم من لفظ المنيّ الواقع في كلمات الأصحاب مع التصريح به في بعضها. و إنّما الكلام في أصل ثبوته، و يمكن تحصيل الجزم به من جزم شيخنا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 372

المرتضى- قدّس سرّه- بالإجماع المحقّق على التعميم مع كثرة خدشاته و مناقشاته في كثير من الإجماعات و إبداء وجوه الخلل فيها، فإنّ جزمه- قدّس سرّه- مع ملاحظة ذلك يورث الاطمئنان.

[الرابع الميتة]
اشارة

«الرابع: الميتة من كلّ ما له دم سائل حلالا كان أو حراما».

هنا أيضا لا بدّ من التماس الدليل على التعميم بالنسبة إلى الإنسان و غيره حلال اللحم و حرامه، و كذلك لا بدّ من التماسه على التقييد بذي النفس، ثمّ في ميّت الإنسان أيضا جهتان من الكلام،:

الأولى: أنّ ما قبل البرد حاله في النجاسة حال ما بعده، و بعبارة أخرى يصير بمجرّد الموت نجسا و إن كانت حرارته باقية، أو أنّ النجاسة يختصّ بما بعد البرد و لا يثبت في حال الحرارة.

و الثانية: أنّ ملاقيه كملاقي سائر النجاسات لا يتنجّس إلّا إذا لاقاه بالرطوبة أو تسري النجاسة إليه و إن كان الملاقاة مع اليبوسة.

أمّا الكلام في جهة الأولى، فنقول: في صحيحة إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل يقع ثوبه على جسد الميّت؟ قال: «إن كان غسل الميّت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و إن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه يعني إذا برد الميّت». «1»

التفسير يحتمل كونه من الإمام و لا يبعّده كون

لفظ يعني بصيغة الغائب و أنّه لو كان منه ناسب أن يكون بدله «أعني» بصيغة المتكلّم، فإنّه يتعارف التفسير بهذا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 34، من أبواب النجاسات، ص 1050، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 373

اللفظ في كلام المتكلّمين، و على هذا يكون شاهدا على اختصاص النجاسة بما بعد البرد كما هو واضح. و يحتمل كونه من الراوي، و حينئذ يحتمل أنّه استنبط هذا القيد من الأمارات الموجودة في مجلس التخاطب الدالّة على إرادة الإمام المقيّد بهذا القيد، و حينئذ أيضا يسمع منه ذلك لكونه عادلا.

و يحتمل أن يكون من اجتهاده و رأيه لكونه ممّن يرى و يعتقد اختصاص النجاسة بما بعد البرد، و من الواضح أنّه على هذا لا شاهد فيه، و كيف كان فالرواية غير صالحة للاستدلال بواسطة الإجمال.

و في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميّت؟ فقال: «يغسل ما أصاب الثوب» «1»، و هذا كما ترى مطلق يشمل ما إذا كان أصابه الثوب حال حرارة جسد الميّت.

و في المروي عن الاحتجاج عن مولانا القائم- عجّل اللّٰه فرجه- ما كتب إليه الحميري روي لنا عن العالم- عليه السّلام- أنّه سئل عن إمام قوم صلّى بهم بعض صلاة و حدثت عليه حادثة فكيف يعمل من خلفه؟ فقال: «يؤخّر و يتقدّم بعضهم و يتمّ صلاتهم و يغتسل من نحّاه، التوقيع: «ليس على من مسّه إلّا غسل اليد» «2»، المراد ممّن خلفه المأمومون لا خصوص الشخص الذي خلف الإمام، و قوله: «يتمّ» يمكن أن يكون بصيغة المعلوم من باب الإفعال بإرجاع الضمير المستتر فيه إلى بعضهم في قوله: «و يتقدّم بعضهم»، و

يمكن أن يكون معلوما ثلاثيّا، و كيف كان فهذا أيضا مطلق شامل لما بعد البرد و ما قبله، فيدلّ بإطلاقه على النجاسة حتّى

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 34، من أبواب النجاسات، ص 1050، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: باب 3، من أبواب غسل المسّ، ص 932، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 374

فيما قبل البرد.

و عنه أيضا «أي عن الحميري» أنّه كتب إليه «و روي عن العالم- عليه السّلام- أنّ من مسّ ميّتا بحرارته غسل يده، و من مسّه و قد برد فعليه الغسل، و هذا الميّت في هذه الحالة لا يكون إلّا بحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو، «1» و لعلّه ينحيه بثيابه و لا يمسّه فكيف يجب عليه الغسل؟ (التوقيع): إذا مسّه على هذه الحالة لم يكن عليه إلّا غسل يده» «2»، و هذا صريح في ما قبل البرد و حال وجود الحرارة.

فتحقّق ممّا نقلنا أنّ هنا روايتين مطلقتين و هما رواية الحلبي و رواية الاحتجاج، و رواية صريحة في النجاسة حال الحرارة و هو التوقيع الأخير. بقي ما في ذيل رواية ابن ميمون من التفسير بقوله: «يعني إذا برد الميت» و هو لا يصلح للتقييد للمطلقتين و المعارضة للتوقيع، لما عرفت من احتمال كونه من الراوي و كونه صادرا عن اجتهاده دون الاستفادة من الأمارات الدالّة عرفا على إرادة الإمام له، و إذن فمقتضى الروايات عدم الفرق بين حال الحرارة و حال البرودة، هذا هو الكلام في الجهة الأولى.

و أمّا الكلام في الجهة الثانية فنقول: قوله- عليه السّلام- في صحيحة ابن ميمون: «فاغسل ما أصاب ثوبك منه» يدلّ على وجود الرطوبة في جسد الميّت و يصيب جزء منها من جسده

إلى الثوب بسبب وقوع الثوب عليه، فالمراد بالموصول هي الرطوبة التي أصابت الثوب من جسد الميّت، و الضمير في قوله:

«منه» راجع إلى الميّت، و كذا الكلام في قوله- عليه السّلام- في صحيحة الحلبي: يغسل

______________________________

(1)- يعني يكون هذا العمل على ما هو و على حاله بدون تأخير. منه عفي عنه.

(2)- المصدر نفسه: باب 3، من أبواب غسل المسّ، ص 932، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 375

ما أصاب الثوب، يعني يغسل الرطوبة التي أصابت الثوب، و بالجملة لا يمكن التمسّك بهاتين الصحيحتين على نجاسة الملاقي لميّت الإنسان مع اليبوسة.

نعم ربّما يتمسّك على ذلك بإطلاق التوقيعين، حيث إنّه يشمل ما إذا كان المسّ مع يبوسة يد الماسّ و الموضع الممسوس من بدن الميّت، بل الغالب في الإمام و المأموم ذلك، و لكن لا يمكن التمسّك بهذا الإطلاق أيضا، و وجهه أنّ قوله- عليه السّلام- في التوقيعين: «ليس على من نحّاه إلّا غسل اليد» أو «لم يكن عليه إلّا غسل يده» إنّما هو وارد في مقام بيان عدم الفرق في غسل اليد بين ما قبل البرد و ما بعده، و أنّه ليس كالغسل مختصا بما بعده، في مقابل توهّم السائل حيث توهّم الغسل و الغسل معا قبل البرد كما بعده، فدفع هذا التوهّم بقوله: «لم يكن عليه إلّا غسل اليد» يعني ليس غسل المسّ في هذا الحال، أعني: حال الحرارة ثابتا، بل الثابت هو غسل اليد فقط، و ليس في مقام بيان أنّ غسل اليد بأيّ شي ء يجب، هل يجب بمطلق المسّ أو بالمسّ مع الرطوبة؟ بل الحال في ذلك موكول على محلّه و على ما هو المرتكز في الأذهان من عدم التأثير إلّا مع الرطوبة،

و لو كان المقام مقام بيان ذلك و أنّ هذا النجس، أعني: ميّت الإنسان قد امتاز من بين النجاسات لسراية نجاسته إلى ملاقيه مع اليبوسة دونها لكان ذلك محتاجا إلى بيان أقوى من ذلك لكونه خلاف ما هو المرتكز في الأذهان.

و بالجملة إذا عرض مثل هذا السؤال و الجواب على العرف يفهم منه أنّ غرض الإمام إنّما هو نفي الغسل عمّا قبل البرد و أنّه إنّما يثبت غسل اليد فقط بشرائطه و بالسبب الذي يكون واجبا بسببه في سائر المواضع من دون خصوصيّة لهذا الموضع.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 376

و بالجملة فالتمسّك بهذا الإطلاق غير صحيح، لكونه واردا مورد الحكم الآخر، مع أنّه على تقدير ثبوت الإطلاق له يمكن تقييده بقوله- عليه السّلام-: «كلّ يابس ذكيّ»، و لكن لا يخفى أنّه لو كان له إطلاق لما أمكن تقييده بهذا أو بما هو المرتكز في الأذهان، لكونه تقييدا بالفرد النادر، لما عرفت من كون الغالب في نظير الواقعة من موت الإمام في أثناء الصلاة عدم وجود الرطوبة في شي ء من جسده و فيما يلاقيه من يد المأمومين، و يندر أن يكون إمّا في جسده رطوبة من عرق أو نحوه أو في يد من يمسّه من المأمومين، هذا كلّه في ميّت الإنسان.

و أمّا الكلام في تسرية النجاسة منه إلى ميّت غيره ممّا له دم سائل فتارة يقع من جهة التعميم، و أخرى من جهة التقييد، أمّا الأوّل فقد استدلّ له من الكتاب و السنّة بوجوه:

منها: الآية الشريفة في سورة الأنعام قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1» بناء على

كون الرجس بمعنى النجس و أنّه يرجع إلى جميع ما تقدّمه لا إلى خصوص لحم الخنزير، و الكلام في القيد و الضمير المتعقبين للجمل المتعدّدة قد حقّق في الأصول و أنّ القدر المتيقّن هو رجوعه إلى الأخير، و مع هذا يمكن دعوى ظهوره في الرجوع إلى الأخير في خصوص المقام من جهة أنّ تحريم الميتة و الدم غير محتاج إلى التعليل بشي ء، لكونهما قذرين عرفيّين، و إنّما المحتاج إليه لحم الخنزير فإنّه لا يدرك العرف خباثته بل ربّما يراه لو لا إعلام الشرع شيئا نفيسا، فلهذا نبّه في خصوصه على كونه رجسا على خلاف ما يراه العرف، هذا.

______________________________

(1)- الأنعام: 145.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 377

و يتّضح هذا غاية الإيضاح بملاحظة ما بعد ذلك و هو قوله أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ فإنّه معطوف على «ميتة» فإنّه يقرّب كون التعليل مختصّا باللحم لا راجعا إلى كلّ واحد، و إلّا لزم ذكره عقيب «فسقا» لصحّة نسبة الرجسيّة إلى الفعل المحرّم أيضا كنسبته إلى الميسر في قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ «1» فيكون بالنسبة إلى الأعيان بمعنى النجاسة، و بالنسبة إلى الأفعال بمعنى القباحة، كما لو ذكر بدله لفظ «نجس»، فعدم ذكره كذلك دليل على اختصاصه باللحم فليس دليلا على المطلوب.

و منها: قوله- عليه السّلام- في موثّقة غياث: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» «2»، فإنّ المراد بالإفساد سقوط الماء عن القابليّة للانتفاع بحسب الحكم الشرعي لا بحسب الاستعمال العرفي لحصول الكدورة فيه، فإنّه ليس أمرا كان بيانه من وظيفة الشارع، و كون المستثنى، أعني: ما كان له نفس سائلة من سنخ الحيوان يدلّ على كون المستثنى

منه حيوانا، فيكون مفاده أنّه لا يفسد الماء شي ء من الحيوانات إلّا حيوان له نفس سائلة.

و الإشكال بأنّه لو دلّ على النجاسة لدلّ على نجاسة كلّ حيوان له نفس سائلة و إن كان حيّا، لعدم ذكر قيد الموت فيه، مدفوع بأنّ الرواية إنّما هو في مقام بيان أن ما يكون من الحيوانات مفسدا للماء منحصر في ماله نفس سائلة، و أمّا غيره من سائر الحيوان فليس مفسدا، و ليس في مقام بيان كيفيّة إفساده و شروط حصوله، فليس له إطلاق من هذا الحيث، فمعناه أنّ إفساد الماء على شروطه و كيفيّته من عدم

______________________________

(1)- المائدة: 90.

(2)- الوسائل: ج 2، ب 35، من أبواب النجاسات، ص 1051، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 378

كون الماء كرّا أو تغيّره و من كون الحيوان ميتة إنّما يكون ثابتا في ماله نفس.

ألا ترى أنّه لا يمكن الأخذ بإطلاقه في لفظ الماء للحكم بالنجاسة للماء الكثير؟ و ليس إلّا لعدم كونه في مقام البيان من هذا الحيث، و أنّ مفاده أنّ الماء في موضع ينجس و الحيوان في حال يفسد و هو حال الموت، فالإفساد في هذا الموضع مختص بالحيوان ذي النفس، فيكون دليلا على نجاسة ميتة كلّ حيوان ذي نفس.

و أصرح منه من حيث ذكر قيد الموت موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس» «1» فإنّه صريح بمفهومه في نجاسة كلّ حيوان له دم.

و مثلها: صحيحة ابن مسكان «كلّ شي ء يسقط في البئر ليس له دم

مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس». «2»

و منها: الأخبار النافية لجميع الانتفاعات عن جلود الميتة، فإنّه و إن كان لا ملازمة بين عدم جواز الانتفاع و النجاسة لإمكان أن يكون بعنوان كونه ميتة لا بعنوان كونه نجسا، كعدم جواز الصلاة في جزء غير المأكول، فإنّه بعنوان كونه غير مأكول، غاية الأمر أنّه لم يجز خصوص لبسه في الصلاة بعنوانه مع جواز سائر الانتفاعات به، و أمّا الميتة فكان جميع الانتفاعات به غير جائز بعنوانه مع كونه طاهرا، و النجاسة أيضا أمر واقعيّ ليست عبارة عن الأحكام الخاصّة، و لكنّ العرف ينتقل من عدم جواز جميع الانتفاعات إلى كون ذلك من جهة النجاسة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 35، من أبواب النجاسات، ص 1051، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 1052، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 379

لا من جهة خصوص عنوان كونها ميتة، و هذا نظير استفادة النجاسة من الأمر بالغسل، و بالجملة فهذه الروايات معدودة من جملة المؤيّدات على النجاسة.

و منها: ما يدلّ على عدم جواز الاستصباح بالأليات المبانة من الغنم الأحياء معلّلا بوصولها إلى اليد و الثوب و أنّه حرام، و هي رواية الحسن بن علي «قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- فقلت: إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ قال: هي حرام، قلت: فنستصبح بها فقال: أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام» «1»، فإنّ المراد بالحرمة هنا الحرمة الوضعيّة بمعنى كونها مانعة عن الصلاة، و المتبادر عرفا من هذا التعليل كونها نجسة.

و منها: ما يدلّ على طهارة عشرة أشياء من الميتة، فإنّه يدلّ على أنّ ما سواها نجسة بقرينة العدّ و الحصر، و هي

مرسلة الصدوق «قال الصادق- عليه السّلام-: عشرة أشياء من الميتة ذكيّة، القرن و الحافر و العظم و السنّ و الإنفحة و اللبن و الشعر و الصوف و الريش و البيض» «2» قلت: إن كان لفظ «زكيّة» بالزاء المعجمة أخت الراء كانت بمعنى «طاهرة» فيدلّ على كون الباقي نجسا، و أمّا إن كان بالذال المعجمة فهو في مقابل الميتة، يعني هذه العشرة مذكّاة و ليست بميتة.

و يؤيّده ما ورد في رواية أخرى و هي رواية الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «الشعر و الصوف و الريش و كلّ نابت لا يكون ميّتا» «3» و حينئذ لا يدلّ على النجاسة، بل يدلّ على أنّ كلّ حكم اثبت للميتة فهذه الأجزاء ليس فيها هذه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة، ص 364، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ب 33، ص 366، ح 9.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 68، من أبواب النجاسات، ص 1089، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 380

الأحكام، و أمّا أنّها ما ذا فهذه ساكتة عنها و موكولة إلى محلّها.

و ممّا يدلّ على الطهارة في جلد الميتة ما رواه في أوائل الفقيه مرسلا عن الصادق- عليه الصلاة و السّلام- «أنّه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضّأ منه و تشرب و لكن لا تصلّ فيها». «1»

دلّ على جواز جعل جلود الميتة محلا للماء أو اللبن و السمن، فيدلّ على طهارتها، غاية الأمر نهي عن الصلاة فيها، فدلّ على أنّ الصلاة في جلد الميتة بعنوان

كونه جزء الميتة ممنوع مع كونه طاهرا كجزء غير المأكول، و الصدوق ذكر قبل ذلك من غير فصل يعتدّ به أنّه لم يقصد به قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، قال: بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به و أحكم بصحّته و اعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني و بين ربّي تقدّس ذكره و تعالت قدرته، و لذا جعلوا كلّ ما رواه في الفقيه صحيحا.

و أمّا حمل الجلود في هذا الخبر على جلود ما ليس له نفس سائلة مثل بعض أقسام الوزغ الكبيرة فبعيد، لكونه تقييدا بفرد نادر، فلا محيص عن الالتزام بكونه معارضا لأخبار النجاسة، بل و مع ذلك يكون معارضا مع ما يدلّ على تحاشي الإمام- عليه السّلام- عن وجود منفعة محلّلة للميتة و هو صحيحة عليّ بن أبي المغيرة «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: الميتة ينتفع منها بشي ء؟ فقال: لا، قلت: بلغنا أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم مرّ بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها، فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1051، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 381

النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ أي تذكّى». «1»

و أنت ترى كيف توهّم السائل من قول الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّه أراد الجلد حال كون الشاة ميتة، يعني ما يكون على أهلها

حيث تركوها مع جلدها و لم يقلعوا الجلد عنها لكي ينتفعوا به، فدفع الإمام هذا التوهّم بأنّه لم يكن هذا مراده صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بل مراده أنّ هذه الشاة كانت مهزولة، و من غاية هزالها لم ينتفعوا بلحمها، فما كان لهم أن تركوها حتّى ماتت و لم يذكّوها لأجل أن يصير جلدها بسبب التذكية محلّل الانتفاع و ينتفعوا به، فهذا تحاش من الإمام- عليه السّلام- عن كون منفعة محلّلة يعتدّ بها لجلد الميتة بل جميع أجزائها، و لو كان جعله محلا و ظرفا للسمن و اللبن و الماء جائزا لما كان وجه لهذا التحاشي و نفي الانتفاع بالمرّة، و بالجملة لا محيص عن جعل المرسلة واردة في التقيّة، هذا هو الكلام في التعميم.

و أمّا التقييد بذي النفس فلا بدّ أوّلا من فهم المراد من هذا القيد، قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: و المراد بها على ما نسب إلى أهل اللغة و الأصحاب الدم الذي يجتمع في العروق و يخرج عند قطعها بقوّة و دفق لا كدم السمك، انتهى.

أقول: و يظهر منهم كون المراد الدم الخارج بدفق من المسلّمات، و لم يكن محلا للتوجّه، و ليس للرجوع فيه إلى اللغة وجه، إذ المراد بلفظ النفس معلوم أنّه الدم، و كذلك المراد من لفظ السائلة معلوم و ليس للمجموع وضع على حدة حتى نرجع في تعيين ما وضع له إلى اللغة، و إذن فلا بدّ أن يكون المراد من السائلة ما من شأنه السيلان بحيث لو خلّي و طبعه يسيل و إن منع عنه مانع و هو العرق، فهو في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1080، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 382

حال كونه في العرق سائل بالطبع.

ثمّ الدليل على هذا التقييد منطوق موثّقة غياث المتقدّمة «لا يفسد الماء إلّا ما كان له نفس سائلة، و لا ينافيه موثقة عمّار و صحيحة ابن مسكان المتقدمتان اللتان اعتبر فيهما مطلق ما ليس له الدم من دون تقييد بكونه سائلا، فإنّ الحكم فيهما بالطهارة قد علّق على ما ليس له الدم، فكلّ ما لا دم له طاهر بمقتضاهما، و هذا لا كلام فيه، و أمّا الحيوان الذي له الدم فهما غير متعرّضين له، إذ لا مفهوم لهما، فنرجع في هذا القسم إلى موثّقة غياث المفصّلة بين ما له دم سائل و غيره.

«و كذا «يكون من النجاسات» أجزاؤها «أي الميتة» المبانة منها و إن كانت صغارا».

ملخص الكلام في الأجزاء المبانة عن الميّت و عن الحيّ، أمّا المبانة عن الميّت ممّا سوى المستثنيات فلا إشكال في نجاستها، و لا يحتاج في إثبات نجاستها إلى التماس دليل آخر وراء الدليل الدالّ على نجاسة نفس الميتة، و ذلك لأنّ الموت و الحياة و إن كانتا من الصفات الّتي تعرض على الحيوان و الإنسان و لا يصحّ نسبتهما إلى أجزائهما- فإذا قيل: الميتة نجسة فلا يصدق الميتة إلّا على نفس الحيوان و الإنسان الخارج عنهما الروح بتمامها فلا يشمل هذه اللفظة أجزائهما- إلّا أنّ المحمول و هو النجاسة يكون بنظر العرف من الأوصاف الّتي يستوي نسبتها إلى الكلّ و البعض.

و بعبارة أخرى: يكون مثل البياض و السواد، فكما أنّ الجسم الأبيض أو الأسود لا يفترق في اتّصاف كلّ جزء منه بالبياض أو السواد بين حالتي الاتّصال و الانفصال، فكذلك يكون حال النجاسة بنظر العرف، ألا ترى أنّه يفهم من دليل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1،

ص: 383

نجاسة الكلب نجاسة كلّ جزء منه من غير فرق بين اتّصاله و انفصاله، فكذلك يفهم من دليل نجاسة الميتة أيضا نجاسة كلّ جزء منه متّصلا كان أم منفصلا.

و أمّا الأجزاء المبانة من الحيّ الطاهر سواء كان إنسانا أم غيره التي ذكر في المدارك أنّ نجاستها مقطوع به بين الأصحاب فهي لو لم يكن على نجاستها بالخصوص دليل كان مقتضى القاعدة طهارتها، لفرض عدم شمول لفظ الميتة لها عرفا مع أنّ مقتضى الاستصحاب هو الطهارة.

و لكنّ الدليل بحيث يرفع به غائلة الإشكال في نجاستها من كلّ حي طاهر موجود- و لا نحتاج إلى التمسّك فيه بالإجماع كما يظهر من المدارك- و هو عموم التعليل في الرواية المذكورة في باب الصيد من الوسائل و هي: رواية محمّد بن قيس أبي جعفر- عليه السّلام- «قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنّه ميّت، فكلوا ممّا أدركتم حيّا و ذكرتم اسم اللّٰه عليه». «1»

و نحوه ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت، و ما أدركت من سائر جسده حيّا فذكّه ثمّ كل منه». «2»

و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «ما أخذت الحبالة فانقطع منه شي ء فهو ميّتة». «3»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 24، من كتاب الصيد و الذّبائح، ص 236، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 237، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ص 237، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 384

و رواية زرارة عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: «ما أخذت الحبائل فقطعت منه شيئا فهو

ميّت و ما أدركت من سائر جسده حيّا فذكّه ثمّ كل منه». «1» المراد بالحبالة حبل الشبكة، و المراد بقوله: «فإنّه ميّت» أنّه بحكم الميّت، إذ قد عرفت أنّه ليس بميّت حقيقة، و على هذا فيكون لهذه الروايات نظارة على ما دلّ على نجاسة الميتة، فيجعل الميتة الواقعة في ذاك الدليل أعمّ من الكلّ و البعض الذي خرج منه الروح، و الدليل هو التعليل أعني قوله: فإنّه ميّت، و لو لم يكن هذا التعليل لوجب الاقتصار على مورد النص و هو الصيد.

فالتعدّي إلى غير الصيد و الإنسان إنّما هو بعموم التعليل، فإنّه يعلم أنّه لا مدخليّة لكونه جزءا مبانا من الصيد في كونه بحكم الميتة، و إنّما المناط في ذلك هو مطلق الإبانة من كلّ حيّ و إن لم يكن صيدا، و هذه الرواية و إن كان لا يمكن التمسّك بها على نجاسة الميتة، إلّا أنّها تفيد كون الأجزاء المبانة من الحيّ محكومة بحكم الميتة، فبعد الفراغ عن إثبات نجاسة الميتة تدلّ على نجاستها، و على هذا فهذه الرواية تكفينا في تعميم الحكم بالنسبة إلى حيوان غير الصيد و إلى الإنسان.

مع أنّ هنا دليلا خاصّا على المطلب في خصوص الإنسان أيضا و هو الرواية المذكورة في باب غسل المسّ من الوسائل التي نقله الشيخ مرسلا عن سعد بن عبد اللّٰه عن أيّوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه، و جعله الكليني مرفوعة، فإنّه رواه عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أيّوب بن نوح رفعه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-، و أمّا أيّوب بن نوح فقد مدحه جمع من الأعلام منهم النجاشي و العلّامة- قدّس سرّهما- مدحا بليغا و

ذكرا أنّه كان وكيلا لأبي الحسن و أبي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 24، من كتاب الصيد و الذّبائح، ص 237، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 385

محمّد و مأمونا عندهما شديد الورع كثير العبادة، و سعد بن عبد اللّٰه من الأشعريّين القميّين و قد كان شيخ الفقهاء و رئيس الشيعة، و إذن فالرواية صحيحة.

و هي ما عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه إنسان فكلّ ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه». «1» فالرجل فيها إمّا منصرف إلى الحيّ و إمّا أعمّ منه و من الميّت، و على أيّ حال يكون دليلا على المطلب و هو كون الأجزاء المبانة من الإنسان الحيّ بحكم الميّت، و قد تقدّم الرواية الدالّة على حرمة الأليات المقطوعة من الغنم الأحياء و عدم جواز الاستصباح بها، معلّلا بأنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام، و عرفت أنّ المتبادر من التعليل عرفا هو النجاسة و كون الحرمة وضعيّة.

بقي الكلام في الجزء الميّت المتّصل بالحيّ قبل انفصاله و بعده، فقد يقال: إنّه قبل الانفصال طاهر، فإنّه جزء حيّ طاهر غير مفصول، فقضيّة ما يدلّ على طهارة الحيّ طهارته، فإنّه يدلّ على طهارة كلّ ما يعدّ جزء منه، و هو قبل الانفصال كذلك، و أمّا بعد الانفصال فلا دليل على نجاسته بعد ما عرفت من عدم صدق عنوان الميتة عليه لغة و ليس ميتة تنزيليّة أيضا.

و أمّا خبر أيّوب بن نوح الدالّ على تنزيل الشارع الجزء المقطوع من الإنسان الحيّ بمنزلة الميتة فهو منصرف إلى ما إذا كان سبب خروج

الروح عن القطعة المقطوعة هو القطع، فلا يشمل ما كان قبل القطع بلا روح، و إذن فتكون الطهارة قبل الانفصال بالدليل و بعده بالأصل.

و قد يقال بالنسبة إلى ما قبل الإبانة بالطهارة دون ما بعدها معلّلا بأنّه قبل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 2، من أبواب غسل المسّ، ص 931، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 386

الإبانة جزء من الإنسان و لا يصدق عليه الميّت حقيقة و لا تنزيلا، فإنّ المنزّل هو الجزء المبان، فلا دليل على التنزيل قبل الإبانة، و أمّا بعد الإبانة فالدليل عليه موجود و هو إطلاق مرسلة أيّوب، و دعوى انصرافها إلى ما كان خروج الروح عنه بالقطع فلا يشمل ما خرج عنه قبله ممنوعة.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته: و لا فرق في إطلاق المرسلة بين ما خرج عنه الروح بالقطع و بين ما خرج عنه قبله، و دعوى انصراف الإطلاق إلى الأوّل ممنوعة، إلّا أنّ ما خرج عنه الروح لا دليل على نجاسته مع كونه جزء من الإنسان، و قد عرفت أنّه لا يصدق عليه الميتة، لأنّ الموت لا تتصف به حقيقة إلّا الحيوان، و أمّا جعل الشارع الأجزاء المبانة من الحيّ بمنزلة الميتة فلا دليل على التنزيل قبل الإبانة، مضافا إلى رواية علي بن جعفر الآتية الشاملة لصورة موت الثؤلول أو يعمّ الجرح أو بعضها متّصلا بالبدن، مع أنّه نقل الإجماع على طهارتها حال الاتّصال شارح الوسائل، و نفي الريب في بطلان القول بنجاستها عن المعالم، و في شرح المفاتيح دعوى الضرورة على عدم التزام الناس بقطعها، فظهر ممّا ذكرنا ضعف التردّد في الأجزاء الكثيرة التي يعرض لها الموت حال الاتّصال كما عن شارح الدروس، نعم

إذا كان اتّصالها ضعيفا بحيث يعدّ منفصلا عرفا، فلا يبعد الحكم بنجاستها، انتهى كلامه- رفع في الخلد مقامه.

و فيه: أنّ عموم التعليل في قوله في رواية الصيد المتقدّمة «فإنّه ميّت» يشمل هذا الجزء حال الاتّصال أيضا، و ذلك لأنّ الظاهر من الرواية كون المناط هو خروج الروح عن الجزء بعد ثبوته من أيّ سبب كان بالقطع أم بغيره، و بعبارة أخرى يدلّ على تعميم موضوع الميتة الواقعة في الأدلّة و أنّها أعمّ من الكلّ و البعض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 387

الذي ذهب عنه الروح من غير فرق بين حال اتّصاله و انفصاله.

و دعوى أنّ التنزيل على خلاف القاعدة فيقتصر فيه على مورد النصّ و هو ما بعد الانفصال مدفوعة بأنّه: إذا جعلتم الانفصال دخيلا تعبّدا للاقتصار في ما يخالف القاعدة على مورد النص فلم تعدّيتم عن الصيد إلى غيره؟ بل اللازم الاقتصار عليه، إذ بعد البناء على التعبّد لا وجه لترجيح القسم الأوّل.

فإن قلت: التعبّد بخصوص الصيد غير ممكن، إذ يلزم خلوّ التعليل عن الفائدة.

قلت: لا يلزم ذلك، لإمكان أن يكون الإشارة إلى جهة الحكم و التنبيه عليها، و بالجملة بعد ما استظهرنا من التعليل العموم و عدم اختصاص الحكم بالصيد فالظاهر عدم الفرق بين الجزء الذاهب عنه الروح المتّصل ببدن الحيّ و المنفصل، و إذن فيمكن التمسّك بعموم التعليل على نجاسة الجزء المذكور حتّى قبل الانفصال.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ دليل طهارة بدن المسلم الحيّ يكون شاملا لهذا الجزء حال الاتّصال، فيقع التعارض بينه و بين عموم التعليل الدالّ على كون كلّ جزء ذي روح من الحيوان ذهب عنه الروح بحكم الميتة، بضميمة الدليل الدالّ على أنّ الميتة نجسة، و بينهما عموم

من وجه كما هو واضح، فنرجع بعد تساقطهما إلى أصالة الطهارة.

و لكن هذا أيضا ظاهرا مخدوش، لأنّا بعد ما فرضنا أنّ الميّت و الحيّ إنّما يقعان وصفين للحيوان دون أبعاضه فالحكم على بعض الحيوان بكونه ميّتا المشتمل عليه رواية الصيد يحتمل وجوها ثلاثة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 388

الأوّل: أن يكون على وجه التنزيل الحكمي و التعبّد الصرف، فقولك: هذا البعض ميّت بهذا المعنى بمنزلة قولك: حرام نجس، كما يقال: «الطواف بالبيت صلاة» أي واجب، و هذا مع كونه خلاف ظاهر الرواية يوجب الاقتصار على مورد النصّ أعني الصيد و عدم التخطّي عن مورده أصلا، لفرض أنّه تعبّد محض، و وجه كونه خلاف ظاهر الرواية أنّه قد علّل فيها النهي عن أكل البعض المقطوع بالحبالة بكونه ميتا، و لو كان هذا المعنى مرادا يصير الكلام بمنزلة أن يقال: إنّه حرام لأنّه حرام، فهذا المعنى غير مقصود من الرواية قطعا.

و الثاني: أن يكون من باب المجاز في الكلمة، فإنّ الظاهر من كلمة «الميّت» وضعا أو انصرافا هو خصوص الحيوان الذي ذهب عنه الروح، فاستعمل هنا في مطلق ما ذهب عنه الروح، سواء كان حيوانا أم بعضا من الحيوان بعلاقة الخاص و العام، و على هذا فيكون مضمون هذه الرواية هو الحكم بحرمة كلّ ما ذهب عنه الروح فيكون هنا عنوانان للحرمة و النجاسة، أحدهما الميّت و قد دلّ عليه أدلّته، و الثاني مطلق ما ذهب عنه الروح و دلّت عليه هذه الرواية.

و الثالث: أن يكون ناظرا لدليل الميّت و حاكما، بأنّ هذا البعض مصداق حقيقيّ للميّت الذي وقع في الأدلّة موضوعا لأحكام، فيكون هذا كاشفا عن وقوع التصرّف في ذاك الدليل، و أنّ لفظ الميّت

هناك قد استعمل في الأعمّ من الحيوان و البعض، و الظاهر من الرواية من هذين الوجهين هو الوجه الثاني.

ألا ترى أنّه لو قيل: أكرم العالم، و فرض أنّ لفظ العالم منصرف إلى خصوص الفقيه ثمّ قيل: أكرم هذا النحوي لأنّه عالم يكون القول الثاني ظاهرا في أنّ المراد بالعالم عين ما هو المراد من العالم الواقع في القول الأوّل، و هذا القول الثاني مفاده

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 389

أنّ هذا النحوي مصداق حقيقي لذاك العالم، فيستكشف من هذا أنّ لفظ العالم في الكلام الأوّل رفع اليد عمّا هو منصرف إليه ابتداء و هو خصوص الفقيه، و استعمل في الأعمّ من الفقيه و النحوي، و لا يحتمل أحد أن يكون الدليل الأوّل باقيا بحاله من كونه منصرفا إلى خصوص الفقيه، و يكون الكلام الثاني دليلا آخر مستقلا يستكشف منه الحكم على عنوان آخر أعمّ و يكون وجوب الإكرام في الأوّل معلّقا على خصوص الفقيه، و في الثاني على الأعمّ من الفقيه و النحوي و استعمل فيه لفظ العالم مجازا.

و كذلك حال الرواية، فإنّه بعد ما حكم في دليل آخر بأنّ الميّت نجس و حرام حكم في هذه الرواية بأنّ البعض المبان من الصيد حرام، لأنّه ميّت، و ظاهر هذا أنّ المقصود أنّه مصداق حقيقي للميّت الذي وقع موضوعا في الدليل الأوّل، فيستكشف منه أنّ الميّت في ذاك الدليل يراد به الأعم من الحيوان و البعض.

و حينئذ فنقول: إنّ التعارض بين هذه الرواية و بين ما دلّ على طهارة الحيوان الحي إنّما نسلّم لو كان الرواية على الوجه الثاني، إذ على هذا يكون مضمونها مع مضمون الدليل المذكور حكمين متنافيين في عرض واحد، و يكون

مورد اجتماعهما هو الجزء الذي ذهب عنه الروح المتصل بالحيوان الحيّ.

و أمّا على الوجه الثاني الذي قلنا إنّه الظاهر من الرواية فلا تعارض، بل الرواية حاكمة على دليل طهارة الحيوان الحي، و ذلك لأنّه لا تعارض بين دليل نجاسة الميّت و دليل طهارة الحيّ لكونهما متقابلين لا يجتمعان في مورد، و هذه الرواية ناظرة إلى هذين الدليلين و البعض من الحيوان، و إن قلنا إنّه ليس بميّت و لا حيّ، و لكن ذكرنا أنّه علم من الرواية أنّه قد رفع اليد عن هذا الانصراف و أنّ الموت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 390

و الحياة قد اعتبرا في الأدلّة في الأعمّ من الحيوان و بعضه، فهذه الرواية مفادها أنّ هذا البعض المتّصل بالحيّ مع ذهاب الروح عنه من أفراد الميّت الذي حكم بنجاسته و حرمته، و ليس من أفراد الحي الذي حكم بحليّته و طهارته.

فإن قلت: إنّ في المقام للفظ الميّت انصرافين، أحدهما إلى خصوص الحيوان الذي ذهب عنه الروح، و الثاني إلى الأعمّ منه و من خصوص البعض المبان الذي ذهب عنه الروح، فإذا علم من الرواية رفع اليد عن الانصراف الأوّل فيتعيّن تحفّظ الثاني، فيكون المستكشف من الرواية أنّ المراد بالميّت الواقع في الأدلّة أعمّ من نفس الحيوان و من بعضه المقطوع منه، فلا يكون البعض الذاهب عنه الروح المتّصل بالحيّ داخلا في عنوان الميّت على أيّ حال.

فالمقام نظير ما إذا قيل: أكرم العالم و كان منصرفا إلى الفقيه، ثمّ قيل: أكرم هذا النحوي لأنّه عالم و كان النحوي أيضا منصرفا إلى من كان مجتهدا مطلقا في النحو لا متجزّيا، فإنّ من الواضح أنّه بعد ورود القول الثاني و إن كان يرفع اليد

عن انصراف العالم إلى خصوص الفقيه و لكن لا يحكم بعده بأنّ المراد منه الأعمّ منه و من مطلق النحوي و إن كان متجزّيا، بل يحكم بأنّه استعمل في الأعمّ من الفقيه و النحوي الغير المتجزّي.

فكذلك الحال في رواية الصيد فإنّها حكمت بكون البعض الذي انقطع بالحبالة من الصيد ميتا فيحكم بسببه بأنّ الميّت في الأدلّة لم يرد به خصوص الحيوان بل الأعمّ منه و من البعض المنفصل من الحيوان، لا أنّه يقال: إنّ المراد به أعمّ من الحيوان و من البعض منه الذي ذهب عنه الروح، سواء كان منفصلا عن الحيوان أم متّصلا به، و إذن فالبعض المتّصل الذي ذهب عنه الروح داخل في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 391

دليل طهارة الحيّ غير داخل أصلا في دليل كون البعض من الحيوان ميتا، لما عرفت من أنّ مورده البعض المنفصل.

قلت: الانصراف الأوّل مسلّم، و قد ذكرناه أيضا، و المفروض أنّه قد رفع عنه اليد، و أمّا الانصراف الثاني الراجع إلى الفرق بين المتّصل من الجزء الذاهب عنه الروح و المنفصل في إطلاق لفظ الميّت و أنّ أنس الذهن في الثاني موجود دون الأوّل ممنوع، بل لا نجد فرقا بين المتّصل و المنفصل إلّا في مجرّد أنّ البعض الذاهب عنه الروح من الحيوان الحيّ يكون غالبا منفصلا عنه، و يندر كونه متّصلا به، و لا شكّ أنّ مجرّد الغلبة الوجوديّة و الندرة الوجوديّة لا تصير سببا للانصراف، و أمّا أنس الذهن و المناسبة لما هو المعنى الحقيقي المنصرف إليه للفظ الميّت، فلا نرى دخلا فيه إلّا لمطلق ما خرج عنه الروح من دون فرق بين الاتصال و الانفصال في ذلك أصلا.

و إذن فيشكل الحال في

المتّصل، و قد عرفت ممّا نقلناه عن شيخنا المرتضى وجود القول فيه بالنجاسة، و تردّد شارح الدروس.

و قد يتمسّك على الطهارة برواية الثؤلول حيث يسأل الراوي «عن قطعه في أثناء الصلاة، فأجاب الإمام- عليه السّلام- بأنّه إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله».

وجه التمسّك أنّه و إن لم يظهر أنّ مراد السائل هو السؤال عن حيثيّة كون القطع فعلا كثيرا أو غيرها، و لكن يمكن أن يستظهر من الجواب كون الإمام في مقام الحكم بعدم البأس الفعلي، و هذا يظهر من تعرّضه- عليه السّلام- لاشتراط عدم خوف سيلان الدم، مع أنّ نظر السائل لم يكن إلى هذه الجهة.

ثمّ يظهر من اقتصاره على هذه الجهة أنّه ليس في البين جهة أخرى للبأس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 392

و المنع و إلّا لذكره قضيّة لكونه بصدد عدم البأس الفعلي، و لو كان الثؤلول نجسا لوجب اشتراط شي ء آخر أيضا و هو أن لا تصل يده إليه برطوبة من العرق و نحوه، إذ كان هذا جهة بأس على هذا التقدير قطعا، فحيث لم يقيّده بذلك بل أطلق الحكم بعدم البأس الفعلي من هذا الحيث فيكون دليلا على طهارة الثؤلول، ثمّ إنّ الثؤلول أيضا مطلق شامل لصورة كونه في حال اتّصاله بالبدن ذاهبا عنه الروح، فالحكم بعدم البأس شامل لهذا القسم أيضا، فيكون دليلا على طهارة كلّ جزء متّصل بالبدن ذهب عنه الروح، إذ لا خصوصيّة للثؤلول.

و لكن فيه أنّه لو تمّ هذا التمسّك لكان دليلا على الطهارة في الجزء المذكور حال الانفصال أيضا، إذ الرواية بالبيان المذكور دالّة على طهارة الثؤلول في حالتي الاتّصال و الانفصال، و حينئذ

فلا بدّ من الاقتصار على مورده من الثؤلول و نحوه من الأجزاء الصغار، و عدم الفرق فيها إذا ذهب عنها الروح بين حال اتّصالها و انفصالها في طهارتها، و لا يمكن التخطّي منها إلى الأجزاء الكبار، فلا تكون الرواية دليلا على طهارتها لا حال الاتّصال و لا حال الانفصال.

و إذن فإثبات طهارة الأجزاء الكبار المتّصلة بالحيّ الذاهب عنها الروح كما في من يموت بالتدريج فيذهب الروح عن نصف بدنه أو ثلثه أو نحو ذلك و قد بقي الروح بعد في الباقي مشكل على حسب مقتضى القواعد غاية الإشكال، فينحصر وجه إثباتها بالسيرة العمليّة الكائنة بين المتشرّعة بأن يقال: بأنّ مقتضى القواعد و إن كان هو النجاسة و لكن يمكن لنا دعوى القطع بجريان دأب المتشرّعة و ديدنهم من سالف الزمان إلى هذا الزمان على عدم الاجتناب عن هذه الأجزاء، فلا يتحرزون عن ملاقاة بعض من بدنهم أو ثيابهم برطوبة مع الموضع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 393

الذي ذهب عنه الروح من بدن الميّت المذكور، و لا يغسلونه بعد الملاقاة، فيكون هذا دليلا على كونها إمّا طاهرة و إمّا نجسة لا يحكم عليها بشي ء من أحكام النجاسات.

و أمّا الأجزاء المبانة من الميتة فلا فرق بين صغارها و كبارها، فإنّ الجميع نجس

«عدا ما لا تحلّه الحياة منها، كالصوف و الشعر و الوبر و العظم و القرن و المنقار و الظفر و المخلب و الريش و الظلف و السن، و البيضة إذا اكتست القشر الأعلى، سواء كانت من الحيوان الحلال أو الحرام، و سواء أخذ ذلك بجزّ أو نتف أو غيرهما، نعم يجب غسل المنتوف من رطوبات الميتة، و يلحق بالمذكورات الإنفحة، و كذا اللبن في

الضرع، و لا ينجس بملاقاة الضرع النجس، لكنّ الأحوط في اللبن الاجتناب خصوصا إذا كان من غير مأكول اللحم، و لا بدّ من غسل ظاهر الإنفحة الملاقي للميتة، هذا في ميتة غير نجس العين، و أمّا فيها فلا يستثنى شي ء».

ربّما يستشكل في كون القرن ممّا لا تحلّه الحياة بأنّا نجد خروج الدم منه عند القطع، و هذا دليل على ثبوت الروح فيه، و الأولى بل المتعيّن أن يقال: إنّ هنا شيئين يستفاد من الأخبار طهارتهما من الميتة، الأوّل عنوان ما ليس فيه الروح و هذا لا بدّ في تشخيص مصداقه إلى التفحّص. و الثاني خصوص الأشياء المعدودة في الأخبار المحكومة بأنّها مستثنيات عن الميتة، ففيها يحكم بالطهارة تعبّدا من غير تتبّع لعلّته، فيحتمل أن يكون العلّة في بعضها كونه مصداقا لما لا روح فيه، و في بعضها شيئا آخر ككونه ممّا فيه منافع الخلق و نحو ذلك، فلا بدّ هنا من إثبات هذين القولين.

فنقول: أمّا الأوّل فيدلّ عليه عموم التعليل في الرواية المذكورة في باب لباس المصلّي من الوسائل، و هي: رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «لا بأس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 394

بالصلاة في ما كان من صوف الميتة إنّ الصوف ليس فيه روح». «1»

و كذلك الرواية المذكورة في باب النجاسات منه، و هي رواية قتيبة بن محمّد المرويّة عن مكارم الأخلاق عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و فيها «قلت له: إنّا نلبس الطيالسة البربريّة و صوفها ميّت؟ قال: ليس في الصوف روح، ألا ترى أنّه يجزّ و يباع و هو حيّ» «2» و قوله: ألا ترى استشهاد لطهارته يعني يشهد على طهارته أنّ الصوف يقطع في حال

حياة الحيوان و يباع، و لو كان المقطوع منه من الميّت نجسا لكان المقطوع منه من الحيّ أيضا كذلك، فإنّ الأجزاء المبانة من الحيّ أيضا ميتة نجسة، و الصوف ليس ميتا، و لهذا يجوز قطعه و بيعه في حال الحياة و الانتفاع به بعد الموت، و بالجملة عموم التعليلين في الروايتين للحكم بعدم الروح يقتضي طهارة كلّ جزء من الميّت لا روح فيه كالصوف و الشعر و الوبر و الريش و نحوها.

و أمّا الثاني: فينبغي ذكر الأخبار الواردة فيه تيمّنا و تبرّكا، فنقول: قد روى في الوسائل في باب الأطعمة المحرّمة، عن محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن محمّد بن علي، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر في حديث «أنّ قتادة قال له: أخبرني عن الجبن؟

فقال: لا بأس به، فقال: إنّه ربّما جعلت فيه إنفحة الميّت فقال: ليس به بأس إنّ الإنفحة ليس لها عروق، و لا فيها دم، و لا لها عظم، إنّما تخرج من بين فرث و دم، و إنّما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة، فهل تأكل تلك البيضة؟

قال قتادة: لا و لا آمر بأكلها، قال أبو جعفر: و لم؟ قال: لأنّها من الميتة، قال، فإن

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 68، من أبواب النجاسات، ص 1088، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 1089، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 395

حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أ تأكلها؟ قال: نعم، قال: فما حرّم عليك البيضة و أحلّ لك الدجاجة؟ ثمّ قال: فكذلك الإنفحة مثل البيضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلّين، و لا تسأل عنه إلّا

أن يأتيك من يخبرك عنه». «1»

قوله- عليه السّلام-: «فإن حضنت» يحتمل أن يكون بصيغة المخاطب المذكّر يعني إن حافظت البيضة و جعلتها تحت الدجاج حتّى صارت دجاجة، و يحتمل أن يكون بصيغة المغايب المؤنّث يعني إن حضنت دجاجة تلك البيضة و نامت عليها حتّى تولد فيها دجاجة.

و هنا إشكال من حيث تفريعه- عليه السّلام- قوله: «فاشتر إلخ» على الحكم بالطهارة الواقعيّة للإنفحة، و التفريع إنّما يناسب لو حكم بنجاستها الواقعيّة فكان التفريع بيانا لحكمها بحسب الظاهر، و أنّ الجبن المشتري من أسواق المسلمين من أيدي المصلّين لا بأس به و أنّه في الظاهر طاهر و إن احتمل معموليته من إنفحة الميتة إلّا أن يأتيك من يخبرك بأنّها مصنوعة من إنفحة الميتة.

إلّا أن يقال: إنّ الرواية متعرّضة لحكمين، فإنّ قتادة قد ارتكز في ذهنه أنّ إنفحة الميتة نجسة، و ارتكز أيضا أنّ الجبن المشكوك جعل إنفحة الميتة فيه أيضا نجس، فردعه الإمام من حيث الأوّل ببيان طهارة الإنفحة واقعا و من حيث الثاني بالتفريع المذكور، يعني لو سلّمنا نجاسة الإنفحة فلا يوجب أيضا الاجتناب عن الجبن المأخوذ من يد المسلم في سوق المسلمين إلّا أن يأتي من يخبر بجعل إنفحة الميت فيه، فحينئذ يجب الاجتناب عنه، و باقي الكلام في الرواية يأتي عند ذكر الإنفحة إن شاء اللّٰه تعالى.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة، ص 364، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 396

و عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عنهم قالوا: «خمسة أشياء ذكيّة ممّا فيه منافع الخلق، الإنفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر إلخ». «1»

و عنه أي عن عليّ بن إبراهيم

عن أبيه عن حمّاد عن حريز- و هذه الرواية بواسطة اشتمالها على عليّ بن إبراهيم يعبّر عنها تارة بالحسنة و أخرى بالصحيحة- «قال: قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- لزرارة و محمّد بن مسلم: اللبن و اللباء و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر و كلّ شي ء يفصل من الشاة و الدابّة فهو ذكيّ، و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله و صلّ فيه» «2» و المراد بالناب ما يسمّى بالفارسيّة ب (نيش) و هو السنّ الذي أصله ضخم و رأسه دقيق كاللتين تليان الرباعيّة عن الجانبين.

و في رواية الحسين بن زرارة قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و أبي يسأله عن السنّ من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة؟ فقال: «كلّ هذا ذكيّ، قال قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلا يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ فقال: لا بأس به». «3».

و في رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة؟ قال: إن كانت اكتست البيضة بالجلد الغليظ فلا بأس بها» «4» و ليس في غير هذه الرواية التقييد باكتساء البيضة الجلد الغليظ.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة، ص 365، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ص 365، ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 68، من أبواب النجاسات، ص 1089، ح 2 و 3.

(4)- المصدر نفسه: ج 16، ب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة، ص 365، ح 6.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1،

ص: 397

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 397

و في رواية الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: الشعر و الصوف و الريش و كلّ نابت لا يكون ميّتا، قال: و سألته عن البيضة يخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال: «تأكلها». «1»

و في مرسلة الصدوق قال: قال الصادق- عليه السّلام-: «عشرة أشياء من الميتة ذكيّة، القرن و الحافر و العظم و السن و الإنفحة و اللبن و الشعر و الصوف و الريش و البيض». «2»

و في رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيّا؟ فكتب: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب و كلّ ما كان من السخال الصوف إن جزّ و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن، و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّٰه» «3»، السخال أولاد الغنم، و المراد جواز الانتفاع بالصوف و ما بعده لا عدم الجواز، بقرينة قوله- عليه السّلام- بعدها: «و لا يتعدّى إلى غيرها» و لا يفيد هذا حصر الطاهر في هذه الخمسة، إذ المراد أنّه لا يتعدّى إلى غير هذه الخمسة و أمثالها، يعني ما لم يكن من هذا القبيل.

و عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث «قال: سأله أبي عن الرجل يسقط سنّه فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه؟ قال: لا بأس، و قال: عظام الفيل يجعل شطرنجا؟ قال: لا بأس بمسّها، و قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: العظم و الشعر و الصوف و الريش كلّ ذلك نابت لا يكون ميتا، قال: و سألته

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 68، من أبواب النجاسات،

ص 1089، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ج 16، ب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة، ص 366، ح 9.

(3)- المصدر نفسه: ص 366، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 398

عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ قال: لا بأس بأكلها» «1».

هذه روايات هذه المقام. و الظلف- بكسر الأوّل- كما في القاموس للبقر و الغنم و الظبي و شبهها كالحافر للأنعام الثلاثة، و الخفّ للبعير، و أنت ترى خلوّ الروايات عن الظلف، و ربّما يجعل داخلا في الحافر المذكور فيها، و القرن شامل بإطلاقه للقرن الظاهر و الداخل، و على هذا فلا يعتدّ بما يقال من أنّه رئي خروج الدم عن القرن الداخل فيدلّ على عدم كونه ممّا ليس فيه روح، فإنّه بعد كونه من المعدودات المنصوصات في الروايات يحكم بطهارتها تعبّدا سواء كان واقعا من أفراد ذاك العنوان أم لا، و إن أبيت إلّا عن صدق القرن على الظاهر دون الداخل فيشمله العظم.

ثمّ إنّه لم يذكر المنقار و الظفر و المخلب في شي ء من هذه الروايات، و يمكن جعلها داخلة في العظم، و إن كان منصرفا عن ذلك أو شكّ فلا أقلّ من دخولها في عنوان ما ليس فيه روح و حسّ، و إن شكّ في ذلك أيضا أو منع فيمكن إدخالها في الكليّة المستفادة من الرواية الأولى الواردة في الإنفحة من طهارة كلّ ما ليس فيه العرق و العظم و الدم، و لو شكّ في كونها كذلك أيضا فلا أقلّ من كونها شبهة مصداقيّة لا يمكن التمسّك فيها بالعمومات، و هي العمومات الدالّة على نجاسة كلّ جزء من الميتة، و قد خصّصت بكلّ ما ليس فيه روح و كلّ ما لم يشتمل على العظم

و الدم و العرق و الأشياء الخاصّة المنصوصة في الروايات.

و أمّا اللبن فقد عرفت الحكم بطهارته في مرسلة الصدوق و حسنة أو صحيحة حريز، و لكن في الاستدلال بالأخيرة نظر، وجهه أنّه لا يعلم شمول قوله:

«و إن أخذته منه بعد أن يموت» للبن و اللباء، بل يحتمل قويّا أن يكون مرتبطا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16 ص 367، ح 12.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 399

بالصوف و الشعر و نحوهما بقرينة قوله: «فاغسله و صلّ فيه».

و يدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة المرويّة عن الفقيه و التهذيب «قال: سألته عن الإنفحة يخرج من الجدي الميّت؟ قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت؟ قال: لا بأس به، قلت: و الصوف و الشعر و عظام الفيل و الجلد و البيض يخرج من الدجاجة؟ فقال: كلّ هذا لا بأس به» إلّا أنّ في رواية الصدوق قد أسقط لفظ الجلد، و قال في آخره: «كلّ هذا ذكيّ لا بأس به»، و قال في الوسائل: حكم الجلد في رواية الشيخ محمول على التقيّة مع احتمال كون إثباته سهوا من بعض النساخ. انتهى «1».

و لكن هنا رواية أخرى تدلّ على الخلاف و هي رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه أنّ عليّا سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال عليّ- عليه السّلام-: «ذلك الحرام محضا». «2» و قال في الوسائل: حمله الشيخ على التقيّة، انتهى.

و ربّما يجمع بحمل الروايات الأول على ما إذا لم يصل جزء من اللبن ظاهر بدن الميّت، كما إذا أدخل من الخارج قصب في الضرع و اخرج اللبن من سبيل القصب، و الثاني على ما إذا لاقى الظاهر.

و فيه ما لا

يخفى، إذ الروايات الأول ظاهرة كمال الظهور في الطهارة في صورة وصوله عند الحلب إلى ظاهر الضرع و إلّا كان الحكم لغوا، إذ الإخراج بنحو لم يصل إلى الظاهر بعيد عن المتعارف.

و ربّما يجمع بأنّ مدلول الثانية هو الحرمة و الأولى هو الطهارة، و لا منافاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16 ص 366، ح 10.

(2)- المصدر نفسه: ص 367، ح 11.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 400

بينهما، فإذا وصل جزء منه إلى البدن أو اللباس جاز الصلاة معه و لكن يحرم شربه، و هذا أيضا مخدوش، فإنّ مدلول الأولى عدم البأس و مفاده جواز الشرب.

و ربّما يقال بأنّ الرواية الثانية و إن كانت ضعيفة بوهب، فإنّه من أكذب البريّة لكنّها مطابقة للعمومات و القواعد الدالّة على نجاسة أجزاء الميتة و رطوباته و فضلاته، و الروايات الأول و إن كانت مشتملة على الصحيحة الاصطلاحيّة، لكنّها مخالفة للعمومات، فيطرح هذه الصحيحة فرارا عن مخالفة العمومات و يؤخذ بتلك الضعيفة حفظا للعمومات.

و فيه: أنّ مطابقة العمومات و إن كانت من المرجّحات السنديّة، و لكنّها إنّما تصير مرجّحة لو لم يكن مثلها أو أزيد منها موجودة في الرواية المخالفة، و هنا يكون المرجّح في روايات الطهارة أزيد، فإنّ هذه مطابقة للعمومات و تلك مخالفة للعامّة، مع أنّه لو سلّم كون هذه موثّقة بواسطة بعض القرائن الخارجيّة، و لكن تلك صحيحة اصطلاحيّة، فالترجيح مع الروايات الأول.

ثمّ هل المذكورات يختصّ طهارتها من ميتة مأكول اللحم أو يعمّ ميتة غير المأكول أيضا؟ فنقول: إنّ ما كان من هذه الأشياء غير ذي روح كالصوف و الشعر و الوبر و الظفر و السنّ و المنقار و المخلب و الحافر و الظلف و الريش و نحوها،

فلا فرق بين كونها من ميتة المأكول أو غيره الغير النجس العين، و ذلك لعموم التعليل بعدم الروح في رواية الحلبي المتقدّمة، و موردها و إن كان خصوص صوف المأكول بقرينة وقوع السؤال عن الصلاة فيه لتوهّم وجود المانع من جهة كونه ميتا مع مفروغيّة عدمه من غير هذه الجهة، إلّا أنّ تعليل الإمام طهارة الصوف بأنّه لا روح فيه ليس فيه إشعار بالاختصاص بالمأكول، و كذلك الكلام بعينه في التعليل بذلك في رواية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 401

الطيالسة البربريّة، فإنّه و إن كان كلام السائل منصرفا إلى صوف المأكول، فإنّ ظاهر قوله: «إنّا نلبس» هو اللبس في جميع الأحوال حتّى حال الصلاة إلّا أنّ التعليل بعدم الروح فيه يفيد العموم.

و أمّا البيضة فظاهر بعض الروايات لاشتمالها على تجويز الأكل أو الأمر به هو الاختصاص بالمأكول، لكن بعضها مطلق، و يمكن تنزيل المطلق على المقيّد، لكن يمكن أن يقال: إنّ البيضة شي ء مستقلّ غير معدود من الأجزاء كالشي ء الخارجي الموضوع في الجوف، غاية الأمر تكوّنها من أجزاء الميتة و رطوباتها، فمقتضى القاعدة أيضا طهارتها من مطلق الميتة، غاية الأمر لزوم غسل ظاهر قشرها لملاقاتها مع الرطوبة لأجزاء الميتة.

و بالجملة فلا نحتاج في الحكم بطهارة بيضة غير المأكول إلى عموم الأدلّة الخاصّة، فإنّه إنّما هو مع فرض شمول عمومات النجاسة المفروض انتفائه في المقام. و أمّا الإنفحة فموضوعها مختصّ بالجدي و الحمل و لا موضوع لها في غيرهما.

بقي الكلام في اللبن هل هو مختصّ بالمأكول أو يعمّ غيره أيضا؟

فنقول: ليس في الروايات ما حكم فيه بطهارة لبن الميتة على الإطلاق إلّا مرسلة الصدوق، و الباقي كحسنة حريز فهو بحسب الصدر. و إن كان مطلقا،

لكن ذيلها مقيّد بالشاة و الدابّة، و لفظ الدابّة منصرف إمّا إلى خصوص الفرس أو إلى الأنعام الثلاثة، و على أيّ حال لا يشمل غير الثلاثة من الحيوانات الغير المأكولة، و يتّضح ذلك غاية الإيضاح بملاحظة قوله- عليه السّلام- في ذيل هذه الرواية:

«فاغسله و صلّ فيه» الدالّ على أنّ محلّ الكلام ميتة المأكول.

و أمّا رواية الحسين بن زرارة فهي على ما نقلها شيخنا المرتضى في طهارته

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 402

و استشهد بها لطهارة اللّبن مشتملة على لفظ اللبن بعد السنّ، و عبارتها هكذا: «و أبي يسأله عن السنّ من الميتة و اللبن من الميتة إلخ» و المنقولة منها في باب الأطعمة المحرّمة من الوسائل خالية عن اللبن و مشتملة على السن، كما نقلناها منها، و في باب النجاسات منها مشتملة على اللبن دون السنّ، فهذا حال هذه الرواية.

و أمّا صحيحة زرارة فموردها لبن الشاة الميتة، و بالجملة ليس في الأخبار سوى إطلاق المرسلة، و الظاهر أنّه أيضا محمول على المأكول بقرينة الروايتين، و مقتضى القاعدة في اللبن أن يكون متنجّسا لو لم يكن نجسا بواسطة كونه غير ذي روح، فإنّه ملاق لأجزاء الميتة، بل الكلام في جميع رطوبات الميتة كذلك، و ليس في الأخبار بالنسبة إلى لبن غير المأكول الطاهر العين الميّت ما يخرجه عن هذه القاعدة.

بقي الكلام في تعيين معنى الإنفحة التي قد حكم بطهارتها، فقد اختلف اللغويّون في تفسيره، فعن الجوهري حاكيا عن أبي زيد أنّها كرش الجدي و الحمل ما لم يأكل، فإذا أكل فهي كرش، و عن القاموس أنّها شي ء يستخرج من بطن الجدي الرضيع أصفر يعصر في صوفة مبتلّة فيغلظ كالجبن، فإذا أكل الجدي فهي كرش، و

تفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو. انتهى. و عن المغرب ما يقرب من التفسير المذكور، و عن الفيّومي أنّه حكي عن بعض أنّه لا تكون الإنفحة إلّا لكلّ ذي كرش و هو شي ء يستخرج من بطنه أصفر يعصر في خرقة مبتلّة يغلظ كالجبن.

و لا تسمّى الإنفحة إلّا و هو رضيع، فإذا رعي قيل: استكرش أي صارت انفحته كرشا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 403

أقول: الكرش بالفارسيّة «شكنبه» و يقال للإنفحة «شيردان برّه و بزغاله».

ثمّ هذا النزاع و الخلاف بين أهل اللغة يحتمل وجهين، الأوّل: أن يكون نزاعهم في الموجود في جوف الجدي و الحمل أنّه هل هو ليس إلّا اللبن الخالص بدون الوعاء، ثمّ بعد الكبر و صيرورته آكل العلف يستحيل هذا اللبن إلى الكرش؟ أو أنّه من أوّل الأمر يكون اللبن في جوفه في جلدة هي وعائه؟ ففريق يقول: إنّ الكرش موجود حال الرضاعة أيضا، و آخر يقول: إنّه ليس في تلك الحال إلّا شيئا أصفر و هو اللبن و بعد الكبر يستحيل إلى الكرش.

و الثاني: أن يختلفوا بعد الاتّفاق على أنّه من أوّل الأمر يكون في الجوف شيئان- أحدهما: اللبن و الآخر: ما هو وعائه- في إطلاق اللفظ عليه، ففريق يقول: إنّ هذا الوعاء ما دام الحمل و الجدي يرتضعان يسمّى بالأنفحة، و إذا أكلا العلف فيسمّى حينئذ كرشا، فلا يطلق الكرش حال الصغر و لا الإنفحة حال الكبر، فحال هذين اللفظين حال لفظي العجل و البقر حيث إنّ الأوّل مخصوص بحال الصغر و لا يصحّ إطلاقه في حال الكبر، و الثاني بالعكس، فنسب هذا القائل السهو إلى من أطلق في حال الصغر لفظ الكرش، و آخر يقول: إنّ الكرش يطلق عليه في حال

الصغر و الكبر معا و إن كان الإنفحة لا يطلق إلّا في حال الصغر، هذا ما يحتمل من محلّ نزاعهم.

و لكن يمكن لنا استفادة أنّ الإنفحة التي قد حكم بطهارتها في رواية أبي حمزة المشتملة على سؤال قتادة عن أبي جعفر المراد منها هو المجموع من اللبن و ما هو وعائه لا خصوص اللبن فقط- كما احتمله شيخنا المرتضى في طهارته- و أنّه غير الكرش، و يستفاد هذا من مجموع السؤال و الجواب و التعليل الواقع في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 404

الجواب.

بيان ذلك: أنّه يستفاد أوّلا من السؤال أنّ الإنفحة هي التي تجعل في الجبن و يصنع الجبن منها، فخرج الكرش، فإنّه لا يصنع منه الجبن.

ثمّ إنّ تعليل الإمام بأنّه ليس للإنفحة عرق و لا فيه دم و لا لها عظم لا يلائم إلّا أن تكون الإنفحة عبارة عن مجموع اللبن و الوعاء، إذ لو كان هو نفس اللبن و كان الاستدلال لطهارة نفس اللبن، فهذا التعليل حينئذ ممّا لا يذعن العقل بصدوره من الإمام في مقام إثبات الحكم بطريق الاستدلال دون التعبّد لمثل قتادة الذي هو قاضي العامّة، إذ هو في الوهن بمكان، و لأجاب قتادة عنه نقضا ببول الميتة و لعابه و سائر رطوباته، فإنّها أيضا غير مشتملة على هذه الثلاثة. فلا بد أن يكون المراد بالأنفحة مجموع الوعاء مع ما فيه من اللبن، فإنّ الجبن يصنع من مجموعهما، و يكون الغرض من التعليل الذي ذكره- عليه السّلام- بيان انفصال الإنفحة عن الميتة و كونه شيئا مستقلا في جوفها غير معدود من أجزائها أصلا، كما يشهد لذلك تنظيرها بالبيضة، فإنّها أيضا كذلك.

و وجه تقريب هذا المطلب بعدم الاشتمال على الأشياء الثلاثة

أنّه ليس لهذه الإنفحة عرق حتّى يتّصل بعرق الميّت، و لا فيها دم حتّى يحصل لها العلاقة بالميتة بواسطة اتّصال الدم، و ليس لها عظم حتّى تكون العلاقة باتّصال العظم، و العلاقة بين شي ء مع جسد الميّت لا محالة تكون باتّصال أحد هذه الثلاثة، و هو فرع وجود أحدها في هذا الشي ء، فمع انتفائها جميعا لا علقة و لا اتّصال، بل هو مع جسد الميّت شيئان غير مرتبطين متجاورين، كما هو الحال في البيضة. و الإنفحة أيضا إمّا مثل البيضة في عدم الاتّصال بشي ء من بدن الميّت، و إمّا أنّ له اتّصال به

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 405

بواسطة جلدة رقيقة و علقة ضعيفة تعدّ كالعدم و يكون اتّصاله كلا اتّصال.

و على هذا فيكون علّة الحكم و مناطه في الحقيقة هو البينونة و الانفصال و إنّما ذكر عدم الاشتمال على الثلاثة تقريبا له و لكونه من محقّقاته، فلا يتعدّى منه إلى شي ء آخر كان فاقدا للثلاثة و لكن كان اتّصاله بالبدن قويّا كما ربّما يدّعى ذلك في الكرش.

بل نقول: لا يبتني استفادة المرام من الرواية على حمل التعليل فيها على هذا المعنى أيضا، بل هو مفيد للمرام و إن لم يعلم أنّ التعليل يكون على هذا الوجه كما يؤيّده التنظير بالبيضة، أو يكون على وجه كون الدخل لنفس عدم وجدان هذه الثلاثة، فالتعليل من هذا الحيث مجمل، و لكن نقول: إنّ التعليل بأيّ من المعنيين كان لو أتي به لنفس اللبن فهو فاسد قطعا لوجوده بأيّ معنى أخذ في البول أيضا، و هذا مناف لكونه- عليه السّلام- في مقام الاستدلال دون التعبّد، فالمستدلّ له لا بدّ و أن يكون هو المجموع منه و من

وعائه.

و أيضا لا يبتنى على إحراز أنّ ما يجعل في الجبن هو مجموع اللبن و الجلدة، بل يتمّ و إن لم يحرز أنّه اللبن فقط أو المجموع، فإنّه لو فرض أنّه اللبن فقط و الجلدة خارجة. لكن مع ذلك نقول: لا يتمّ إثبات طهارة الإنفحة التي هي اللبن بطريق الاستدلال إلّا مع طهارة الجلدة، إذ لو كانت الجلدة نجسة كان غاية ما يفيده الاستدلال طهارة اللبن من حيث الذات و لم يكن منافيا مع تنجّسه بملاقاة الجلدة، فإثبات مطلب الإمام في قبال قتادة مبنيّ على طهارة باطن الجلدة أيضا، و إن قلنا بأنّ ظاهرها بواسطة ملاقاة رطوبات الميتة يتنجّس، و لا بدّ من غسلها حتّى يطهر، إذ مع نجاسة الجلدة و عدم منجسيّتها، فإذا دار الأمر بين تخصيص

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 406

عموم أنّ كلّ أجزاء الميتة نجس و بين تخصيص عموم أنّ كلّ ما يلاقي النجس نجس، فلا ترجيح بينهما لو قلنا بأنّ أصالة العموم لا يتوقّف على إحراز المصداقيّة فنرجع إلى استصحاب الطهارة الكائنة حال الحياة.

نعم لو قلنا كبعض الأساتيذ- قدّس سرّه- بالتوقّف، فالحكم هو النجاسة و عدم المنجّسيّة، لأنّ أصالة العموم في عموم النجاسة جارية ابتداء، و أصالة العموم في عموم منجّسيّة الملاقي محتاج إلى جريان الأصالة الأولى و بعده، فهذا مقطوع التخصيص فافهم، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ الأمر هكذا و لو قلنا بأنّه يشخّص بأصالة العموم حال الموضوع كالحكم مع إحراز الموضوع بعكس النقيض، و ذلك لأنّ الشكّ في كون هذا ملاقيا للنجس مسبّب عن الشكّ في أنّ ذاك نجس أو لا، و نحن إن بنينا على أنّ وجه تقديم السببي على المسبّبي أنّ التخصّص مقدّم على التخصيص

اختصّ ذلك بالأصول، لأنّ الإمارة في المسبّب أيضا رافع الشكّ في السبب، فيدور الأمر بين التخصّصين فلا ترجيح، و لكنّ الحقّ كما هو المقرّر في محلّه أنّ الوجه هو التقدّم الرتبي للشكّ السببي على المسبّبي، فلا تعارض في رتبة السبب، فيجري بلا معارض فيتعيّن التخصّص في المسبّب. و الحال في الأمارة و إن كان على خلاف الأصل من حيث إنّ الثاني في أطراف العلم الإجمالي يجري إذا لم يلزم من العمل بالجميع مخالفة عمليّة، و ليس هكذا الأمارة، فيسقط في أطراف العلم و إن لم يلزم مخالفة عمليّة لنفس العلم الإجمالي، فإنّ المرجّح هنا هو بناء العقلاء حيث يقدّمون الأصل في السبب على المسبّب.

و تمام هذا الكلام جار في ما تقدّم من ملاقي النجاسة الباطنيّة من مثل مقدّم الأنف و الفم، فالمتعيّن في كلتا المسألتين الحكم بنجاسة الجلدة و الدم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 407

الباطني مثلا، فيقتصر في خلاف القاعدة على الملاقي الباطني كماء الفم، فالملاقي الخارجي للدم في الفم، بل الباطني أيضا كماء الأنف المار على قطعة الدم اليابسة الموجودة في مقدّم الأنف، مثلا محكوم بالنجاسة على القاعدة، لكن هذا مبنيّ على ثبوت الدليل على نجاسة الدم في الباطن، و الإنصاف عدم دليل يفيد الكليّة في باب نجاسة الدم سوى إطلاق معاقد الإجماع، و هي غير شاملة للدّم الباطني فلاحظ، و في الإنفحة نلتزم بأنّ اللبن طاهر على خلاف قاعدة أنّ ملاق النجس نجس، فافهم.

[في حكم فأرة المسك المبانة من الحي]

«مسألة 2: فأرة المسك المبانة من الحيّ طاهرة على الأقوى و إن كان الأحوط الاجتناب عنها، نعم لا إشكال في طهارة ما فيها من المسك، و أمّا المبانة من الميّت، ففيها إشكال و كذا في مسكها، نعم

إذا أخذت من يد المسلم يحكم بطهارتها و لو لم يعلم أنّها مبانة من الحيّ أو الميّت».

قسم من الفأرة و مسكها طاهر على القواعد و هو ما أخذ من المذكى بعد خروج الدم المسفوح، أمّا الفأرة فواضح، و أمّا المسك فإن قلنا إنّه استحيل صورته الدميّة إلى صورة أخرى فواضح أيضا، و إن قلنا ببقاء دميّته بعد الانجماد أيضا، فإنّه من الدم المتخلّف و هو طاهر، و أمّا سائر الأقسام يعني ما علم كونه منها أعني المبانة من الحيّ و من الميّت فمقتضى القواعد نجاستهما، فإنّ الأوّل جزء مبان من الحيّ و الثاني جزء مبان من الميّت، فيشملهما عموم دليل نجاستهما.

و لكن قد يتمسّك لطهارة هذين القسمين أيضا بإطلاق رواية على بن جعفر عن أخيه- عليه السّلام- «قال: سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلّي و هي في جيبه أو ثيابه؟ فقال: لا بأس بذلك» «1» و توهّم أنّ مورده المأخوذ من المسلم- فإنّه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 41، من أبواب لباس المصلّي، ص 314، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 408

لا إشكال في طهارته إذا شكّ فيه أنّه من المذكّى أو غيره- مدفوع بأنّه خلاف ظاهر الرواية، فإنّها ظاهرة في الحكم الواقعي دون الظاهري.

نعم قد يخدش فيها بأنّها لا تدلّ على الطهارة في غير المذكّى، إذ لعلّ القسمين كانا نجسين، و الحكم بعدم البأس كان لأجل جواز حمل النجس في الصلاة، و لا يرد أنّه لزم على هذا التقدير التنبيه على عدم وصول اليد أو الثوب إليها برطوبة، فإنّه ليس في مقام البيان إلّا من حيث مانعيّة النجاسة عن الصلاة و عدمها مع قطع النظر عن حكم آخر.

و لكن يجاب بأنّه-

و إن قلنا بجواز حمل النجس في الصلاة- دالّ على الطهارة فإنّ حمل الميتة في الصلاة غير جائز بلا إشكال، لموثقة ابن بكير حيث قيّد فيها جواز الصلاة في أجزاء مأكول اللحم بكونه مذكّى، فمفهومه أنّه لو كان ميتة لا يجوز الصلاة في أجزائه، و حملوا لفظ «فيه» على الأعمّ من اللباس و المحمول بقرينة ذكر البول و الروث و هما لا يمكن إلّا فرض محموليّتهما.

و بالجملة فأرة المسك إذا كانت من غير المذكّى فهو ميتة، و مقتضى هذا الخبر جواز الصلاة معها، و مقتضى الموثّقة عدم جواز الصلاة مع حمل الميتة، فقضيّة الجمع هو حمل الحكم بعدم البأس على الطهارة، و عدم كونها و لو أخذت من الميتة و الحيّ ميتة، فيدلّ على طهارة كلا القسمين.

و لكن يشكل الحكم مع ملاحظة التقييد بالتذكية الواقع في مكاتبة عبد اللّٰه بن جعفر «قال: كتبت إليه يعني أبا محمّد- عليه السّلام- يجوز للرجل أن يصلّي و معه فأرة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكيّا» «1»، فإنّها مقيّدة لإطلاق الأولى بصورة الأخذ من المذكّى، بناء على جعل الذكاة المنتسبة في المكاتبة إلى نفس الفأرة،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 41، من أبواب لباس المصلّي، ص 315، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 409

بمعنى ذكائها باعتبار تذكية الحيوان.

و على هذا فيكون الخارج عن الإطلاق القسمين الآخرين جميعا، و يكون الباقي خصوص المأخوذ من الظبي المذكّى.

و يحتمل أن يكون الذكاة فيها بمعنى ذكاة الفأرة باعتبار نفسها، بأن كانت نفسها ذكيّة و لو لم يكن الظبي ذكيّا، فتكون الفأرة على هذا من الأجزاء التي لا يؤثّر الموت فيها، و يكون من الميّت ذكيّة، فيكون إطلاق الذكاة هنا نظير إطلاقها

في قوله- عليه السّلام- في المرسلة المتقدّمة: «عشرة أجزاء من الميتة ذكيّة» نعم يستفاد من قوله: «إذا كان ذكيّا» أنّ للفأرة حالة ليست فيها بوصف الذكاة، و إلّا كان الاشتراط لغوا، فمن المحتمل أن تكون حالة ذكاتها حالة كونها من المذكّى أو من الحيّ، لكن مع صيرورتها بحيث تنفصل بنفسها من دون حاجة إلى القطع، و تكون حالة عدم اتّصافها بالذكاة حالة أخذها من الميّت أو من الحيّ بقوّة، بحيث لو لا القطع بقوّة لم ينقطع بنفسها.

و بالجملة يفرق بين هاتين الحالتين، ففي الأولى يكون أجنبيّا عن أجزاء الظبي و كالشي ء الخارجي و إن كان في السابق من أجزائه، نظير البيضة في الدجاجة، فإنّها كانت من الأوّل من أجزائها، و لكن صارت بعد صيرورتها بيضة كالشي ء الأجنبيّ منها الموضوع في بطنها، و كالدود المدفوع من بطن الإنسان، و أمّا في الثانية فهي لشدّة اتّصالها ببدن الظبي يعدّ من أجزائه، فلهذا يكون المقطوع منه من الحيّ أو الميّت جزءا مبانا من الحيّ و الميّت.

و على هذا فقيد الذكاة في المكاتبة مجمل مردّد مفهوما بين الأقلّ و الأكثر، و بناء المشهور في مثله الرجوع فيما سوى القدر المتيقّن- و هو الزائد المشكوك- إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 410

عموم العام و إطلاق المطلق، فيكون في المقام فرد متيقّن الدخول بمقتضى المطلق و المقيّد معا، و هو المبان من الظبي المذكّى، و فرد متيقّن الخروج لكون القيد نصّا فيه، و هو المبان من الحيّ بقوّة أو من الميّت، و فرد مشكوك الدخول و الخروج للشك في مفهوم القيد، و هو المأخوذ من الحيّ مع انفصاله عنه بنفسه بدون حاجة إلى قاطع بقوّة، ففي هذا الفرد نرجع إلى

إطلاق الرواية الأولى بناء على مذهب المشهور، من كون المطلق في غير المتيقّن من القيد المنفصل المجمل حجّة، و عدم سراية الإجمال من المقيّد إليه.

نعم على ما انتصرناه و حقّقناه في الأصول: من كون القيد المنفصل كالمتّصل في سراية إجماله إلى المطلق، لا بدّ من الاقتصار في ثبوت الحكم على الفرد المتيقّن الدخول، و هو المأخوذ من المذكّى على عكس الأوّل، فإنّه عليه يجب الاقتصار في الإخراج على الفرد المتيقّن الخروج، و هو المقطوع من الحيّ بقوّة أو من الميّت.

و محصّل الكلام في المبان عن الظبي الحيّ بانفصاله في نفسه لا بقاطع: أنّ التكلّم فيه تارة يكون على القواعد، و أخرى بالنظر إلى التعبّد. أمّا على القواعد ففأرته نجسة لعمومات نجاسة الجزء المبان من الحيّ و كونه ميتة، و لا يشكل بأنّه و إن كان جزء لكن لا تحلّه الحياة و لهذا يكون طاهرا على القاعدة، فإنّه جلد و الجلد يكون ذا روح، و أمّا ما في الفأرة من المسك فإن كان دما و لم يتبدّل صورته النوعيّة الدميّة، و يقال له عرفا إنّه دم منجمد فمقتضى القاعدة نجاسته أيضا.

و أمّا إن كان متبدّلا و زال عنه اسم الدم و يطلق عليه اسم المسك، فحينئذ تارة نتكلّم من حيث واقعه، و أخرى من حيث الشّك فيه، أمّا من حيث واقعه:

فإن كان حين ينفصل من الظبي جامعا لوصفين أحدهما المسكيّة و الآخر الجفاف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 411

فمقتضى القاعدة طهارته، و أمّا استصحاب نجاسته الثابتة حال كونه دما فمورود لدليل طهارة المسك، و أمّا ملاقاته في حال المسكيّة للجزء الميتة، أعني: الفأرة، فغير مؤثّرة لجفافه.

و إن لم يكن واجدا لهذين القيدين: و ذلك إمّا بأن

لا يكون مسكيّته حاصلة من حين انفصاله، بل كان عند الانفصال دما جافّا فصار بعده مسكا، فحكم هذا مع كونه مجرّد فرض و لا واقع له ظاهرا- فإنّ المسكيّة و إن كان يمكن حصولها بعد السقوط في حال الانفصال لكنّ الجفاف لا ينفك عنها- أنّه طاهر و هو واضح، و إمّا بأن لا يكون جفافه حاصلا حين كان ينفصل، بل كان في هذا الحين مسكا رطبا، ثمّ صار بعد ذلك جافّا و هذا حكمه النجاسة، فإنّه قد لاقى في حال مسكيّته مع الجزء الميتة في الخارج مع الرطوبة.

و إمّا بأن لا يكون وصف مسكيّته في ذلك الحين حاصلا و لا وصف جفافه، بل كان دما رطبا، ثمّ صار بالتدريج جافّا و حصل له اسم المسكيّة مقارنا لزمان حصول الجفاف. و هذا أيضا و إن كان فرضا بعيدا لكن حكمه الطهارة، و أمّا النجاسة الذاتية الثابتة له حال كونه دما فغير مضرّة، فإنّه ليس بدم بالفعل حتّى يشمله دليله.

و أمّا الاستصحاب، فمورود لدليل طهارة العنوان المستحال إليه و هو المسك، و أمّا استصحاب النجاسة العرضيّة الحاصلة بملاقاة الفأرة فغير مثمر أيضا، فإنّ المفروض كونه حال الرطوبة و الميعان دما، و هو لكونه نجس العين لا تتأثّر بملاقاة النجاسة، و إن كان لو تأثّر كما في الخشب المتنجّس الذي صار فحما، كان الاستصحاب جاريا، فإنّ دليل طهارة المستحال إليه لا يدلّ إلّا على طهارته ذاتا، و الاستصحاب لا يثبت إلّا نجاسته عرضا و هما غير متنافيين، و قد مرّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 412

تفصيل ذلك عند البحث عن الاستحالة فراجع، هذا هو الكلام بحسب الواقع.

أمّا بحسب حال الشكّ، بأن كان المسكيّة معلومة بالفعل مع الجفاف،

و لكن لم يعلم أنّهما كانا ثابتين إلى زمان الانفصال حتّى يكون المسك طاهرا، أو أنّ المسكيّة كانت ثابتة إلى ذاك الحين، و لكن الجفاف حصل بعده، بعد ما كانت الرطوبة ثابتة فيه حتّى يكون نجسا، و ذلك بأن علم على تقدير بقاء الرطوبة حال السقوط، بتحقّق فصل بين كونه دما و بين طروّ الجفاف بزمان كان فيه مع الميعان خارجا عن اسم الدم و عارضا عليه عنوان المسك.

و دعوى العلم بأنّه ما دام مائعا دم، فإذا زال ميعانه و طرأ عليه الجفاف يصير مسكا، و ليس في أحد أزمنة ميعانه واجدا لعنوان آخر غير الدم، بل لا ينفكّ ميعانه عن صدق الدم، كما لا ينفكّ جفافه عن صدق المسك، و إذن فتصير طهارته مقطوعة لاستحالته إلى المسك مع عدم ملاقاة المسك مع الفأرة رطبا، مدفوعة:

بأنّه من البعيد أن لا يطلق عليه ما دام بقي من ميعانه شي ء، اسم المسك، ثمّ إذا ارتفعت رطوبته حصل له عنوان المسك دفعة.

فالإنصاف أنّه مع عدم إحراز الجفاف عند الانفصال و احتمال الميعان عنده، هو القطع بتحقّق فصل بين حالة كونه دما و بين طروّ الجفاف بعروض حالة المسكيّة، فإنّه بالتدريج يصير مسكا لا دفعة، و لازم هذا أن يكون في بعض أوقات كونه رطبا قليل الرطوبة صادقا عليه اسم المسك.

و إذن فيمكن جمع الرطوبة مع المسكيّة و إن كان لا يمكن جمع الجفاف مع صدق اسم الدم، بل هو لا ينفكّ عن صدق اسم المسك.

و من هنا لا يشكل بأنّ هنا حادثين، أحدهما: المسكيّة و الآخر: الجفاف، فإنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 413

كان في السابق دما رطبا ثمّ حدث له المسكيّة و الجفاف، فيحتمل على تقدير

بقاء الرطوبة و صدق اسم الدم حال السقوط من الظبي أن تكون المسكيّة حدثت سابقة على الجفاف، و أن يكون الجفاف حدث سابقا على المسكيّة، فهما من قبيل الحادثين المجهول تاريخهما، و أصلاهما متعارضان، فإنّه على ما ذكرنا من عدم صدق الدم مع الجفاف يتعيّن على التقدير المذكور حدوث المسكيّة سابقا على الجفاف، من دون احتمال العكس.

و كيف كان فلو علم الجفاف حال السقوط فلا إشكال في الطهارة، و كذلك لو احتمل الرطوبة في تلك الحال و علم على تقديرها بعدم فصل بين صدق الدم و عروض الجفاف، فحينئذ أيضا لا إشكال في الطهارة، و إنّما الكلام و الإشكال على ما هو الحاصل للغالب من الشك في المرحلة الأولى، يعني يحتمل أن يكون حال السقوط مائعا، و العلم بتحقّق الفصل بين صدق الدم و عروض الجفاف بزمان يصدق عليه المسك مع ميعانه.

فقد يقال: إنّ الشكّ حينئذ راجع إلى تحقّق موضوع التنجّس و عدمه، أعني:

ملاقاته بعد السقوط في حال ميعانه، و زوال اسم الدم عنه، و طروّ عنوان المسك عليه للفأرة التي قلنا بكونها نجسة بعد الإبانة، لكونها من أفراد ما يبان من الحيّ، فالأصل يقتضي عدم تحقق هذه الملاقاة بهذه الكيفيّة الخاصّة.

و لكن فيه أنّ الشكّ في تحقّق هذا الموضوع الخاص منشأه الشكّ في بقاء الرطوبة و الميعان حال السقوط، إذ قد عرفت أنّه على هذا التقدير يكون مسكيّته في بعض أوقات رطوبته مسلّمة، و دعوى القطع بعدم تحقّق المسكيّة إلّا بعد تحقّق الجفاف قد عرفت ما فيه، و الملاقاة أيضا معلومة بالوجدان، فإنّه واقع في جوف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 414

الفأرة و هي وعاء له، فلا محالة يكون ملاقيا لها.

و إذن فاستصحاب

الرطوبة الثابتة له حال الاتصال حاكم على أصالة عدم تحقّق الموضوع الخاص، و ليس هذا الأصل مثبتا، و إن قلنا بكونه كذلك في عكس ما نحن فيه: و هو ما إذا لاقى جسم طاهر لجسم نجس و شكّ في رطوبة هذا الجسم النجس حال الملاقاة مع تيقّن ثبوتها سابقا، فإنّ استصحاب الرطوبة في الملاقي- بالفتح- بضميمة الملاقاة المعلومة بالوجدان لا يكون موضوعا للنجاسة، بل الموضوع هما مع شي ء آخر و هو وصول جزء من رطوبة الجسم النجس إلى الجسم الطاهر، فلا بدّ بعد ثبوت الملاقاة بالوجدان و ثبوت الرطوبة بالاستصحاب من الحكم بأنّ رطوبة هذا النجس وصلت إلى هذا الطاهر، ثمّ الحكم بتأثر الطاهر و تنجّسه، و كون هذا الأصل من الأصل المثبت الممنوع مبنيّ على كون هذه الواسطة من الوسائط الجليّة المعدودة عند العرف واسطة، و أمّا لو لم يكن محسوبا من الوسائط لكونه خفيّا فليس من الأصول المثبتة الممنوعة.

و هذا بخلاف ما نحن فيه و هو ما إذا لاقى مائع طاهر مع جسم نجس، كماء لاقى يد الكافر، أو المسك المائع الملاقي للفأرة الميتة، فإنّه لا يحتاج في نجاسة هذا المائع إلى أزيد من ميعانه مع ملاقاته لذاك الجسم النجس، و لا يحتاج إلى انتقال جزء من هذا الجسم إلى المائع، فاستصحاب الرطوبة في الملاقي- بالكسر- مع ثبوت الملاقاة بالوجدان كاف في الحكم بالنجاسة، من دون حاجة إلى شي ء آخر، فلا يكون هذا الأصل مثبتا و إن قلنا بمثبتيّته في العكس.

و قد ظهر بما ذكرنا ما في طهارة شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في هذا المقام: من الحكم بتعارض الأصلين أعني: أصالة عدم الملاقاة حال الرطوبة مع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 415

أصالة

بقاء الرطوبة حال الملاقاة، فإنّك عرفت أنّ الأصل الثاني حاكم على الأصل الأوّل، لكون الشكّ في الأوّل ناشئا عن الشكّ في الثاني، فملخّص الكلام بناء على القاعدة في المنفصل من الحيّ كون الفأرة نجسة مطلقا و كون المسك فيها أيضا نجسا في صورة الشكّ بمقتضى الاستصحاب.

محصّل الكلام في الفأرة، أنّه يحتاج نجاسته إلى ثلاث مقدّمات، جزئيّته من الحيوان، بقاء جزئيّته إلى حين الانفصال، و كونه ممّا تحلّه الحياة، أمّا الأوّل و الثالث فواضح اعتبارهما، و أمّا الثاني، فلأنّ العنوان في أجزاء الحيّ هو ما كان مبانا منه، و هذا العنوان لا يصدق إلّا على الانفصال في حال الجزئيّة، فلو سلب عنه الجزئيّة و حصل له الاستقلال كما في البيضة فلا يطلق على انفصاله الإبانة و القطع، فمع القطع بهذه الأمور لا شبهة في النجاسة، سواء من الميّت أم الحيّ، و أمّا مع الشكّ في أصل الجزئيّة، بأن كان من أوّل الأمر شيئا مستقلا، فلا شبهة في الطهارة مطلقا، كما أنّه لو علم الجزئيّة و شكّ في كونه ممّا تحلّه الحياة أيضا لا شبهة في طهارته مطلقا.

نعم لو علم بكونه جزءا في الأصل، و كونه ممّا تحلّه الحياة، و لكن شكّ في بقاء جزئيّته حال الانفصال، حتّى يصدق على انفصاله عنوان القطع و الإبانة، فلا أصل يفيد نجاسته سوى أصالة بقاء الجزئيّة، و هو مثبت بالنسبة إلى إثبات هذا العنوان، فالجاري حينئذ أصالة عدم حدوث ما هو السبب للنجاسة، و هو الإبانة في حال الاتّصال، فيحكم بالطهارة على هذا في ما ينفصل من الحيّ، و أمّا في ما ينفصل عن الميّت ففي هذا الفرض لا محيص عن النجاسة، و ذلك لجريان استصحاب الجزئيّة في حال الانفصال

فيه بلا إشكال، إذ لا يحتاج في الميّت الحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 416

بالنجاسة إلى سوى الجزئيّة و هو محرز بالأصل بالفرض، هذا في الفأرة.

أمّا المسك فالقريب أن يكون مستحيلا عن الصورة الدميّة كما في اللبن، و على هذا فلا شبهة في طهارته مطلقا.

نعم لو علم ببقاء دميّته إلى الحال أو شكّ، حيث يجري استصحاب الصورة في المادّة فيكون طاهرا أيضا لو شكّ في كونه من بدن الظبي، لاحتمال أن يكون حادثا في نفس الفأرة. و الذي ثبت نجاسته هو الدم المسفوح الجاري في بدن الحيوان، لا مطلق الدم المتكوّن في جوفه و لو في شي ء مستقل متّصل به، كما في الدم في البيض.

نعم، لو علم أنّه دم يجتمع من بدن الظبي في الفأرة، فلا شبهة فيما كان منفصلا عن المذكّى، لأنّه من جملة الدم المتخلّف.

نعم، يبقى الكلام فيما ينفصل عن الحيّ أو الميتة و مقتضى القاعدة نجاستهما، إلّا أنّ الإجماع دلّ على الطهارة، و القدر المتيقّن منه خصوص ما انفصل عن الحيّ، فيبقى ما انفصل عن الميّت تحت القواعد.

و إذن فالحكم بالطهارة في كلّ من الفأرة و المسك مطلقا قريب، لتوقّف نجاستهما على ما عرفت من العلم بأشياء، و أنّى لأحد بإثباته و خصوصا مع ضميمة يد المسلم في خصوص ما يتعاطاه المسلمون، فافهم.

و أمّا الكلام بملاحظة الدليل الخاصّ المخرج عن القاعدة: فاعلم أنّه ادّعى شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته الإجماع على طهارة المسك في هذا القسم، أعني: ما ينفصل بنفسه عن الظبي في حال الحياة دون فأرته

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 417

أقول: مقتضى القطع بطهارة المسك في هذا القسم هو طهارة فأرته بقاعدة الطهارة.

بيانه: أنّه بعد القطع بطهارة

المسك يدور الأمر بين مخالفة إحدى القواعد و التصرّف فيها. نعم، على تقدير كون الصورة الدميّة باقية يتعيّن التخصيص في دليل نجاسة الدم، كما أنّه على تقدير التبدّل بالمسكيّة و العلم بأنّ المسكيّة لا يتحقّق إلّا بعد الجفاف، فلا تخصيص في قاعدة أصلا.

و أمّا لو علم بالمسكيّة و احتمل رطوبته سابقا مع الملاقاة الخارجيّة، فالحكم بطهارة المسك لا بدّ و أن يكون إمّا تخصيصا في دليل الاستصحاب، و إمّا تخصيصا في دليل تأثّر الملاقي للنجس مع الرطوبة، و أمّا في دليل نجاسة الجزء المبان عن الحيّ، و كونه ميتة، فإنّ طهارة المسك إمّا ناشئة عن طهارة أصل الفأرة، فيكون تخصيصا في دليل نجاسة الجزء المبان عن الحيّ، و إمّا ناشئة من عدم تأثير ملاقاة الفأرة في هذا المسك الثابت الرطوبة بالاستصحاب، و هذا تخصيص في دليل نجاسة ملاقي النجس دون الدليلين الآخرين، و إمّا ناشئة عن عدم جريان استصحاب الرطوبة، و هذا تخصيص في دليل الاستصحاب دون الآخرين، و حيث لا معيّن في البين يعيّن التخصيص في أحد هذه الثلاثة معيّنا، صارت جميع الأدلّة الثلاثة مجملة، و قد كان من جملتها دليل نجاسة الجزء المبان من الحيّ، فلا يمكن التمسّك به لإجماله على نجاسة الفأرة، و بعد عدم إمكان هذا لا مانع من التشبث في طهارة الفأرة بقاعدة الطهارة.

فتحقّق أنّه لو ثبت الإجماع المذكور، و تحقق استحالة الدم بالمسك فعلا، و شكّ في الرطوبة حال الملاقاة الخارجيّة، مع العلم بأنّ المسكيّة يجتمع على هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 418

التقدير مع الرطوبة، كما ادّعينا أنّ هذا الشكّ هو الحاصل لغالب الناس، فحينئذ يكون المسك المبان عن الحيّ طاهرا، و كذا فأرته بقضيّة طهارته.

ثمّ إنّ

هنا دعوى صدرت من صاحب الجواهر، و هي: أنّ الغالب المتداول من أفراد المسك هو هذا القسم، أعني: ما ينفصل عن الظبي حال الحياة و يأخذه الناس من وجه الأرض، و أمّا المأخوذ من الظبي بعد اصطياده و تذكيته، فهو فرد نادر قلّ أن يتّفق، فلو كانت هذه الدعوى صحيحة، كما لا تبعد، تكون مفيدة لإثبات المطلب بالأخبار.

أمّا أخبار استحباب التطيّب بالمسك، فلا يصغى حينئذ إلى إشكال أنّها واردة مورد حكم آخر، فلا إطلاق لها يشمل المسك المبان عن الحيّ، لعدم كونها في مقام البيان من حيث حكم المسك، و ذلك لأنّ القدر المتيقّن منها حينئذ هذا الفرد المتعارف، فيكون دليلا على طهارته.

و أمّا الخبران المتقدّمان الواردان في باب الصلاة، فالقيد الواقع في أحدهما و إن كان مجملا، لكن تقييد المطلق منهما بقيد الذكيّ على معنى كون الظبي ذكيّا يوجب التقييد المستبشع في ذلك المطلق، لكونه تقييدا بفرد نادر، و كون المطلق ظاهرا في الفرد المتعارف، بل نقول: إنّ ظهور المطلق في الفرد المتعارف، و هو ما يسقط بنفسه عن الحيّ يوجب رفع الإجمال عن القيد أيضا، فيحمل بقرينته على المعنى الأعمّ من تذكية نفس الظبي و من تذكية الفأرة الحاصلة بسقوطها بنفسها عن الحيّ، و بعبارة أخرى، بصيرورتها بنحو يعدّ خارجا عن الظبي و شيئا مستقلا لقلّة علاقته بحيث يسقط بأدنى حركة.

[حكم ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم، أو الشحم، أو الجلد]

مسألة 6: «ما يؤخذ من يد المسلم، من اللحم، أو الشحم، أو الجلد محكوم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 419

بالطهارة و إن لم يعلم تذكيته، و كذا ما يوجد في أرض المسلمين مطروحا إذا كان عليه أثر الاستعمال، لكنّ الأحوط الاجتناب».

المشهور على أنّ اللحم و الشحم إذا شكّ في كونهما من المذكّى

أو غيره محكومان بالحرمة و النجاسة، و أنّ الجلد لو شكّ في كونه من المذكّى محكوم بالنجاسة، استنادا في الكلّ إلى أصالة عدم التذكية، إلّا أن يكون كلّ من هذه الثلاثة مأخوذا من يد المسلم و إن كان في غير السوق، أو مأخوذا من سوق المسلمين و إن كان من يد مجهول الحال، أو كائنا في أرض المسلمين و بلادهم مع ثبوت أثر الاستعمال عليه، كالفراء المستعمل المطروح فيها، و كالسفرة المطروحة فيها المشتملة على اللحم مع كون بعضه مأكولا، فإنّ في هذه الصور الثلاث يكون اللحم و الشحم محكومين بالحليّة و الطهارة، و الجلد محكوما بالطهارة. هذا ما قالوا.

أقول: قبل الرجوع إلى الأخبار و ملاحظة ما يستفاد منها يكون هنا احتمالان:

الأوّل: أن يكون الشارع قد ألغى أصالة عدم التذكية في جميع الجلود و الشحوم و اللحوم المشكوكة، و جعل الأصل فيها هو الحليّة و الطهارة ما دام الشكّ في التذكية باقيا و لم يحصل العلم بكونها من الميتة، ثمّ جعل اليد و السوق و الأرض مع أثر الاستعمال أمارات التذكية.

و الثاني: أن يكون قد جعل هذه الثلاثة أمارات على التذكية، مع محفوظيّة أصالة عدم التذكية في غير موردها.

فعلى الأوّل يكون هنا شيئان للحكم بالحليّة و الطهارة.

أحدهما: الشكّ في المأخوذية من المذكى و الميتة، فجعل الأصل فيه الحلية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 420

و الطهارة إلى أن يعلم الأخذ من الميتة.

و الثاني: ثبوت أحد هذه الثلاثة، فجعلها أمارات على التذكية، فالحكم بالطهارة و الحليّة في مواردها يكون لأجل وجود الأمارة على التذكية، و في موارد عدمها يكون بالأصل.

و أمّا على الاحتمال الثاني: فالسبب للحلية و الطهارة منحصر في هذه الأمارات، ثمّ على الاحتمال الثاني

يقع الكلام في كيفيّة أماريّة هذه الثلاثة، فإنّه يحتمل أن يكون كلّ من اليد و السوق و الأرض، مع أثر الاستعمال أمارة مستقلّة في عرض الآخر، و يحتمل أن تكون الأمارة على التذكية هي خصوص اليد، و يكون السوق و الأرض أمارتين على اليد، و يكون اعتبارهما لا من جهة نفسهما، بل من جهة كاشفيتهما و أماريتهما على اليد.

أمّا الأرض فواضح أنّها مع كونها لأهل الإسلام و ثبوت أثر الاستعمال على المطروح فيها، تكون أمارة على جريان يد المسلم على المطروح.

و أمّا السوق، فلكونه سوق المسلمين يكون غالب أهله من المسلمين، فلو أخذ شي ء من الثلاثة من واحد من أهله مجهول الحال فالظنّ يلحقه بالأعمّ الأغلب.

و من هنا يعلم: أنّه على هذا يكون ذكر السوق من باب التمثيل، و إلّا فالمناط هو الغلبة، و اختصاصه بالذكر دون بلاد المسلمين أنّه موضع البيع و الشراء، و أخذ الأشياء المذكورة و تعاطيها بأيدي الناس غالبا.

و تظهر الثمرة بين هذين الاحتمالين في مورد ثبوت السوق و الأرض مع العلم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 421

بعدم جريان يد المسلم، كما لو أخذ في السوق من يد الكافر مع عدم العلم بسبق يد المسلم، أو العلم بعدم سبق يده و كون المأخوذ من صنع الكافر، فعلى اعتبار السوق من حيث نفسه يحكم بالطهارة، و على اعتباره من حيث الكشف و الأماريّة عن اليد فلا اعتبار به هنا.

ثمّ بعد ثبوت الأماريّة على التذكية ليد المسلم يقع الكلام في أنّ يد الكافر هل هي أمارة على عدم التذكية؟ ففي مورد جريان يد المسلم و الكافر يقع التعارض بين الأمارتين أو لا؟ فالمعتبر جريان يد مسلم من بين الأيدي على المأخوذ و

إن كان فعلا مأخوذا من يد الكافر.

إذا عرفت ما ذكرنا فهل المستفاد من الأخبار هو إلغاء أصالة عدم التذكية في اللحوم و الشحوم و الجلود و جعل الأصل فيها ما دام الشكّ هو الحليّة و الطهارة، مع جعل الثلاثة أمارات على التذكية كما نسب إلى جماعة، أو أنّ أصالة عدم التذكية محفوظة، و لكنّ الشارع جعل اليد و السوق و الأرض أمارات على التذكية؟ لا مورد معها لأصالة عدمها كما زعمه المشهور.

فنقول: منشأ توهّم الثاني وجود أخبار مطلقة يستفاد منها بإطلاقها أنّ الحكم بالطهارة و الحليّة ما لم يعلم عدم التذكية قاعدة كليّة جارية في جميع الموارد مع وجود أخبار أخر قد علّق فيها الحكم بالطهارة و الحليّة إلى هذه الثلاثة على نحو القضيّة الشرطيّة الظاهرة في استناد الجزاء إلى الشرط، و كون الشرط علّة منحصرة للجزاء، القاضي بانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، فحكموا بتقييد المطلقات الحاكمة بالطهارة و الحليّة من غير تعليق لهما على شرط غير الشكّ بصورة ثبوت هذه الثلاثة بواسطة مفهوم الأخبار الثانية الحاكم بانتفاء الحليّة و الطهارة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 422

عند انتفاء اليد و السوق و الأرض.

و الحقّ إمكان الأخذ بإطلاق الطائفة الأولى، مع الأخذ بالاشتراط الواقع في الطائفة الثانية، بحمل الطائفة الأولى على سببيّة الشكّ في التذكية و عدمها للحكم بالطهارة و الحليّة. و حمل الطائفة الثانية على أمارية اليد و السوق و الأرض على التذكية، و وجه الاستناد إليها مع ثبوتها دون الأصل أنّ الأصل لا مورد له مع وجود الأمارة، فلا محالة يكون استناد الحكم إلى الأمارة، و إذن فلا منافاة بين هذا الاستناد و ذاك الإطلاق.

و محصّل ما ذكرنا أنّ القضيّة الشرطيّة هنا لا

تفيد أزيد من الاستناد من دون ثبوت المفهوم لها، و الشاهد على المدّعى هو الحكم في بعض الأخبار بتعليق طهارة الثوب على كونه مأخوذا من يد المسلم، مع أنّ ظاهر الثوب كونه مأخوذا من القطن أو الكتان أو الصوف الغير المحكوم بكونه ميتة، لكونه ممّا لا تحلّه الحياة، و كونه متّخذا من جلد الحيوان قليل نادر في غير الفراء المنصرف عنه لفظ الثوب، مع أنّ المسلم في باب الطهارة و النجاسة هو الحكم بطهارة ما يؤخذ من الكافر، بل كلّ مشكوك الطهارة حتّى يعلم النجاسة.

فالمتعيّن في هذا الخبر هو الحمل على ما ذكرنا: من كون اليد أمارة على الطهارة، مع أنّه لو لم يكن موجودا لكفى الشكّ في الحكم بالطهارة، لكنّ المقصود أنّ اليد إذا كان موجودا فاستناد الحكم يكون إليه دون الشكّ، لأنّ اليد هو الأمارة و الأمارة مقدّمة على الشكّ.

و تفصيل الكلام: أنّه لا إشكال في كون التذكية في الحيوان المأكول موضوعا للحليّة كما في الآية، و للطهارة كما في الأخبار، و لا إشكال أيضا أنّ التذكية وجدانيّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 423

كان أم عبارة عن الأفعال الخارجيّة، فالشبهة الموضوعيّة فيها يكون الأصل فيها هو عدم التذكية، و هذا الأصل مقدّم على قاعدتي الطهارة و الحليّة من جهتين، الأولى:

أنّ هذا الأصل هو الاستصحاب و هو مقدّم على القاعدة، الثانية: كون الشك في الطهارة و الحليّة ناشئا عن الشك في التذكية، و الأصل في السبب مقدّم على الأصل في المسبّب فاللحوم و الشحوم و الجلود المشكوكة من حيث التذكية و عدمها بالشبهة الموضوعية لا إشكال في أنّ الأصل الأوّلي فيها هو أصالة عدم التذكية و بها يثبت الحرمة و النجاسة.

إلّا أنّ الكلام

في أنّ اليد و السوق و الأرض هل هي أمارات على التذكية مع كون أصالة عدم التذكية في غير موردها محفوظة، فيكون الأصل عدم التذكية إلى أن يعلم التذكية، أو يقوم طريق معتبر عليها، و هذه الثلاثة من الطريق المعتبر، أو أنّ أصالة عدم التذكية صارت ملغاة في اللحوم و الشحوم و الجلود المشكوكة و صار الأصل الثانوي يعني القاعدة المستنبطة من الأخبار المجعولة في موضوع الشكّ في خصوص هذه الثلاثة هو التذكية، و يكون يد المسلم و سوقه أمارتين على التذكية.

فنقول: هنا ثلاث طوائف من الأخبار: الأولى: المطلقات التي يستفاد منها أنّ المعيار في باب الجلود و اللحوم و الشحوم هو عدم العلم بالميتة، و لا يلزم الفحص عند الشكّ عن الموضوع و هو التذكية، بل الناس في سعة حتّى يعلموا أنّها من الميتة.

و الثانية: ما يكون موردها السوق، و لا إشكال أنّه لو لم يكن إلّا هاتان الطائفتان لم يوجب الثانية بمجرّد خصوصيّة المورد تقييدا في المطلقات الأول أصلا، و هذا واضح.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 424

و الثالثة: ما قد علّق فيها الحكم بعدم البأس بأرض المسلمين، و أنّ الغالب عليها أهل الإسلام بنحو القضيّة الشرطيّة، فمفاد هذه و مفهومها نفي عدم البأس عند عدم الأمارة، فتكون منافية مع إطلاق المطلقات.

فنقول: يمكن جمع هذه الطائفة مع الطائفة الأولى بنحوين:

الأوّل: بنحو حمل المطلق على المقيّد بأن يقال: إنّ الأخبار المطلقة و إن لم يذكر فيها اسم تلك الأمارات، و لكن لمّا كان الغالب اشتراء الأجناس المذكورة من السوق و أنّ المسلم يشتري غالبا من المسلم لم يحتج فيها إلى ذكر اسمها.

و بالجملة فالمطلقات يحمل على صورة ثبوت الأمارات المذكورة حملا للمطلق على الفرد

الغالب، فيستفاد من مجموع الأخبار طريقيّة اليد و السوق و أرض الإسلام و أماريتها على التذكية، فإنّه لا إشكال في كونها طريقا عرفيا إلى التذكية، فيعلم من إمضاء الشرع أنّها طريق شرعيّ أيضا، فلا محالة تكون مقدّمة على أصالة عدم التذكية، إذ لا مورد للأصل مع وجود الأمارة، لعدم بقاء موضوعه معها و هو الشكّ بالواقع، فتكون القضيّة الشرطية على ظاهرها من ثبوت المفهوم لها.

و الثاني: أن يؤخذ بإطلاق المطلقات و بتقييد المقيّدات من دون حمل الأولى على الثانية، بأن يكون الأصل في اللحوم و الشحوم و الجلود بعد كونه عدم التذكية منقلبا عنه إلى التذكية على ما هو المستفاد من المطلقات خصوصا قوله- عليه السّلام- في ذيل بعض تلك الأخبار بعد السؤال عن الفراء المشتري من السوق، و لا يدرى أ ذكيّة هي أم غير ذكيّة: يصلّي فيها؟ قال: «نعم ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك»

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 425

فإنّه و إن كان يمكن جعل مورد هذا الكلام سوق المسلمين، لكن مع إمكان الخدشة في عدم ظهور لفظ السوق في سوق المسلمين يمكن أن يقال: إنّ الاستشهاد بكلام أبي جعفر- عليه السّلام- ممّا يؤيّد كمال التأييد تعميم الحكم إلى كلّ مورد و إن لم تكن فيه إحدى الأمارات.

و كذلك قوله- عليه السّلام- في ذيل رواية أخرى: «هم في سعة حتّى يعلموا» و هي رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- إنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها و خبزها و جبنها و بيضها و فيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين: يقوّم

ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد و ليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن قيل له: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسيّ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا» «1» فإنّه يكون في سياق قولهم- عليهم السلام-:

«الناس في سعة ما لا يعلمون» من دون إشعار باختصاص ذلك بمورد وجود الأشياء المذكورة، بل هي قاعدة كليّة جارية في جميع الموارد.

و بالجملة يمكن التمسّك بهذه الرواية من جهتين:

الأولى: من جهة إطلاقها حيث لم يقيّد الحكم فيها بصورة وجود أحد الأشياء.

و الثانية: عموم التعليل المذكور بقوله: «هم في سعة حتّى يعلموا» حيث يستفاد أنّ علّة عدم البأس عدم العلم، و ظاهره العموم كما ذكرنا.

و من جملة المطلقات أيضا رواية سماعة بن مهران أنّه سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن تقليد السيف في الصلاة و فيه الفراء و الكيمخت؟ فقال: «لا بأس ما لم

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 50، من أبواب النجاسات، ص 1073، ح 11.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 426

تعلم أنّه ميتة» «1»، فإنّه سؤال عن جعل السيف في العنق في حال الصلاة من دون إشعار بكون الكيمخت الذي فيه يكون بعضه من الميتة و بعضه من المذكّى مشترى من المسلم أم من سوق المسلمين أم لا.

كما يؤيّد هذا المضمون أيضا و إن لم يكن دليلا لضعف السند رواية عليّ بن أبي حمزة «أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- و أنا عنده- عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه قال: نعم، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت قال: و ما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكيّا و منه ما يكون ميتة، فقال:

ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ

فيه» «2»، فإنّه يعلم من قوله: «لا بأس ما لم يعلم أنّه ميتة، أو ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه» أنّ المناط هو العلم بالميتة و عدم العلم بها من دون دخل لشي ء آخر.

بل نقول: يمكن تأييد المطلب أيضا بأخبار ذكر فيها اسم السوق من دون تعليق الحكم عليه، و هي عدّة روايات.

منها: رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: «اشتر و صلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه». «3»

و رواية البزنطي عن الرضا- عليه السّلام- قال: سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أ ذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه و هو لا يدري أ يصلي فيه؟ قال: «نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع لي و أصلّي فيه و ليس

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 50، من أبواب النجاسات، ص 1073، ح 12.

(2)- المصدر نفسه: ص 1072، ح 4.

(3)- المصدر نفسه: ص 1071، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 427

عليكم المسألة». «1»

و رواية حمّاد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- يقول: «كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جنبا فيسمّي و يأكل و لا يسأل عنه». «2»

و رواية الحسن بن الجهم «قال: قلت لأبي الحسن: اعترض السوق فأشتري خفّا لا أدري أ ذكيّ هو أم لا قال: صلّ فيه، قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك، قلت: إنّي أضيق من هذا، قال: أ ترغب عمّا كان أبو الحسن- عليه السّلام- يفعله؟» «3» و رواية محمّد بن الحسين الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني: ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال:

«إذا كان مضمونا فلا بأس». «4»

فإنّه مضافا إلى أنّ لفظ السوق فيها مطلق، و انصرافه إلى سوق المسلمين ممنوع- فإنّه ربّما كان في بلد الإسلام سوق مخصوص بالكفّار- يقوى الظن بكون ذكره لا لأجل الدخل، بل من باب أنّ موضع البيع و الشراء غالبا هو السوق، و لم يظهر من كلام الإمام أيضا الاعتبار، بل ظاهر التعليق على عدم العلم بالميتة في تلك الأخبار ظاهر في العموم، و كون ذلك قاعدة كليّة في جميع الموارد مجعولة في موضوع الشكّ في التذكية و عدمها.

و أمّا التعليق في الخبر الأخير بالضمان- و المراد به أن يضمن البائع و يتعهّد الذكاة الواقعيّة- محمول على الكراهة، يعني أنّ منطوقها نفي الكراهة و مفهومه إثباتها، و الداعي إلى هذا هو الجمع بينه و بين المطلقات، فإنّ تقييد تلك المطلقات

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 50، من أبواب النجاسات، ص 1071، ص 1072، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 1073، ح 8.

(3)- المصدر نفسه: ص 1073، ح 9.

(4)- المصدر نفسه: ص 1073، ح 10.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 428

الكثيرة بهذه الرواية الواحدة لا يخلو من برودة.

و الشاهد على هذا الجمع رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الصلاة في الفراء فقال: كان عليّ بن الحسين- عليه السّلام- رجلا صردا لا تدفئه فراء الحجاز، لأنّ دباغها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة، و يزعمون أنّ دباغه ذكاته» «1» فإنّها تدلّ على أماريّة يد المسلم المخالف على التذكية، و لا ينافي ذلك أنّهم يرون

حصول الذكاة بالدبغ، فإنّ التذكية به قليل الوقوع و الشائع في ما بينهم هو التذكية بالذبح، و كذلك تدلّ على كراهة استعمال الجلد المأخوذ منهم، أمّا الأماريّة على التذكية فيدلّ عليها لبس الإمام- عليه السّلام- له، و يدلّ على كراهة استعماله إلقائه- عليه السّلام- إيّاه حين الصلاة، و أمّا ارتكابه لهذا المكروه في غير الصلاة فلأنّه- عليه السّلام- كان صردا أي يجد البرد سريعا و لم يكن لباس آخر أسلم بمزاجه و أدفع للبرد عنه من هذا الفراء.

و أمّا التعليق على كون الغالب في أرض الإسلام هو المسلمين على نحو القضيّة الشرطيّة في رواية إسحاق بن عمّار «عن العبد الصالح- عليه السّلام- أنّه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و في ما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «2» فلا ينافي مع تلك القاعدة المستفادة من تلك المطلقات، فإنّ تلك القاعدة تكون مجعولة في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 61، من أبواب النجاسات، ص 1080، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 1072، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 429

موضوع الشكّ، فلو قامت أمارة على التذكية لم يكن الحكم بها من باب هذه القاعدة بل لأجل تلك الأمارة، فإنّ الأمارة واردة على الأصل، كما في مورد أخبار ذي اليد بالطهارة في مورد الشكّ في الطهارة، فإنّ الحكم بالطهارة ليس من جهة قاعدة الطهارة، بل لأجل الأمارة التي هي أخبار ذي اليد.

فنقول: يستفاد من هذه الرواية مع ملاحظة تلك المطلقات أنّ أرض الإسلام الغالب عليها المسلمين تكون أمارة على التذكية، و أنّ الأصل مطلقا هو التذكية ما لم يعلم أنّه الميتة، و وجه

استناد الحكم إلى الأولى في صورة تحقّقها دون الأصل أنّ الأصل لا مورد له، لعدم بقاء موضوعه في مورد ثبوت الأمارة.

فإن قلت: ما الفائدة في هذه الأمارة التي يكون الأصل مجعولا على طبقها أبدا، فإنّ الفائدة إنّما تظهر لو كان الأصل تارة على وفقها، و أخرى على خلافها، فيقدّم الأمارة على الأصل حتّى في مورد الموافقة كما في باب الطهارة، فإنّ الأمارة على الطهارة مقدّمة على الأصل، و هو مختلف قد يكون هو استصحاب النجاسة، و قد يكون هو قاعدة الطهارة أو استصحابها، و أمّا في المقام فالمفروض أنّ الأصل في جميع الموارد هو التذكية، فيكون جعل الأمارة خاليا عن الفائدة، و إنّما يكون مع الفائدة لو جعلنا الأصل عدم التذكية.

قلت: وجه تقديم الأمارة على الأصل أنّها كاشفة عن الواقع و طريق إليه، فلا محالة يكون لها التقدّم فيما أخذ في موضوعه التحيّر في الواقع و الشكّ فيه، ففي ما إذا كان الأمارة و الأصل متوافقين أبدا و في جميع الأوقات يكون استناد الحكم إلى الإمارة في مورد وجودها و إن كان على تقدير عدمها إلى الأصل، و في غير ذلك إلى الأصل، فحال الأمارة هنا حال العلم بالتذكية، فكما أنّ عدم البأس في صورة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 430

العلم ليس إلّا مستندا إليه دون الأصل- مع أنّه على تقدير عدم العلم كان مستندا إلى الأصل- فكذلك الحال في الأمارة.

و بالجملة، فإذا استفدنا من المطلقات ظهورا بحيث رفعنا بسببه اليد عن قاعدة استصحاب عدم التذكية و خصّصناها بالنسبة إلى المقام و صرنا إلى أنّ الأصل الثانوي هو التذكية حتّى نعلم بخلافه، فلا محيص في ما يوجب استناد الحكم بعدم البأس إلى غلبة أهل

الإسلام بالنسبة إلى المأخوذ من أرض الإسلام من المصير إلى أنّ غلبة المسلمين في أرض الإسلام أمارة على التذكية، فيكون الحكم عند وجود هذه الأمارة مستندا إليه، فلا يفيد القضيّة الشرطية للمفهوم أعني:

الانتفاء عند الانتفاء، بل سيقت لمجرّد الثبوت عند الثبوت، فإنّ القضية الشرطيّة قد تساق لمجرّد بيان سببيّة الشرط للجزاء من دون التعرّض لانحصار السبب في الشرط، فيكون قضيّة الجمع بين المطلقات و هذه الرواية المشتملة على الاشتراط هو حمل هذه الرواية على بيان مجرّد السببيّة و إن سلّمنا ظهور الشرطيّة عند الإطلاق في المفهوم.

و ممّا يحصل الاطمئنان بسببه على صحّة هذا الجمع ما في خصوص بعض الأخبار الواردة في الثوب المشتري من وجود مثل هذا التعليق فيه- مع أنّ الشكّ فيه ليس من جهة التذكية، فإنّ الثوب لا يطلق على ما يصنع من الجلود، بل الغالب فيه كونه من الصوف الغير القابل للتذكية أو القطن و الكتان، فحمله على المتّخذ من الجلود حمل على الفرد النادر، و بالجملة فالشكّ فيه ممحّض في الطهارة و النجاسة، و القاعدة في هذا الشكّ هو الطهارة- و هي صحيحة العمركي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر- عليهما السّلام- في حديث «قال: سألته عن رجل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 431

اشترى ثوبا من السوق فلبس لا يدري لمن كان، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشترى من نصراني فلا يصلّ فيه حتى يغسله». «1»

فتعليق جواز الصلاة في هذه الرواية على الأخذ من المسلم لا بدّ و أن يحمل على كون يد المسلم أمارة على الطهارة، و هذا قضيّة الجمع بينها و بين كون القاعدة في كلّ

مشكوك الطهارة و النجاسة هو الطهارة، فكما أنّ مفاد الشرطيّة هنا هو السببيّة المجرّدة لأجل استناد الحكم إلى الأمارة عند وجودها دون الأصل و لا يفيد المفهوم لعدم انحصار السبب في هذه الأمارة، لأنّ الشكّ أيضا سبب مع أنّ الأصل في مورد هذه الرواية أيضا لا ينفكّ عن موافقة الأمارة أبدا، فإنّ موردها الثوب المشتري من السوق و الأصل فيه أبدا هو الطهارة، إذ لا علم بحالته السابقة حتّى يكون مجرى لاستصحاب النجاسة في بعض الأوقات و بالجملة فكما لا تكون الشرطيّة في هذه الرواية منافية لقاعدة الطهارة و مقيّدة لها، فكذلك في الشرطية في ما نحن بصدده أيضا لا يوجب تقييد القاعدة و تخصيصها بصورة الأمارة.

فإن قلت: نحن نأخذ بظاهر رواية الثوب و نحكم بمفهوم الشرطيّة، و أنّ الحكم فيه بالطهارة منحصر بصورة أخذه من يد المسلم، كما أنّه لو أخذ من يد الكافر يكون محكوما بالنجاسة بقضيّة ذيل الرواية، «و إن اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّ فيه حتّى يغسل».

قلت: هذا خلاف ما هو المسلّم فيما بينهم، فإنّهم يجرون قاعدة الطهارة في باب اللباس قطعا و لو كان مأخوذا من يد الكافر، و حينئذ فلا محيص عن حمل ذيل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 61، من أبواب النجاسات، ص 1071، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 432

هذه الرواية على استحباب الغسل دون وجوبه، و حمل الشرطيّة في صدرها على بيان نفس السببيّة مع السكوت عن الانحصار، فيستفاد من السببيّة مع وجود القاعدة أنّ يد المسلم أمارة فتكون مقدّمة على الأصل.

ثمّ إنّ هنا رواية أخرى مجملة مردّدة بين معنيين، و لكنّها على كلّ من معنييها غير منافية لكون الأصل مطلقا هو التذكية، و هي:

رواية إسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل أو الجبل، أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ «1» قال: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه». «2»

فإنّه إمّا أن يكون معنى الجواب أنّه إذا كان هذا المتاع ممّا ينحصر بيعه في الكفّار فيعلم استناد يد المسلم الغير العارف إلى أيدي الكفّار، فيجب عند ذلك الفحص، إلّا إذا رئي أنّ المسلمين يصلّون في المتاع، فحينئذ لا يجب الفحص و المسألة، فيكون المستفاد من الرواية ثلاثة أشياء:

الأوّل: أنّ يد المسلم المعلوم الاستناد إلى يد الكافر لا تكون أمارة على التذكية.

و الثاني: أنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

و الثالث: أنّه لو تعارض الأمارة على التذكية و هي صلاة المسلم مع الأمارة على عدمها و هي يد الكافر فالمقدّم هو الأولى.

______________________________

(1)- أي غير عارف بالإمامة يعني كان من المخالفين. منه- عفي عنه.

(2)- المصدر نفسه: ص 1072، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 433

و إمّا أن يكون الإمام في الجواب قد أعرض عن مفروض السؤال، و هو ما لو أخذ من المسلم، و تعرّض لصورة أخرى و هي صورة الأخذ من الكافر تنبيها للسائل على أنّ هذه الصورة هي التي يجب الفحص فيها، فكأنّه قال: إنّما يكون عليكم المسألة و الفحص إذا اشتريتم من الكافر، و في هذه الصورة أيضا إذا رأيتم مسلما صلّى في هذا الثوب الموجود في يد الكافر فلا تجب المسألة.

فعلى هذا يكون المستفاد منها أيضا مطالب ثلاثة:

الأوّل: أنّ يد المسلم أمارة على التذكية.

و الثاني: أنّ يد الكافر أمارة

على عدمها.

و الثالث: أنّه لو تعارض يد الكافر مع استعمال المسلم فالمقدّم هو استعمال المسلم الذي يكون أمارة على التذكية.

و على أيّ حال فلا منافاة في الرواية مع ما استفيد من المطلقات من أصالة التذكية عند الشكّ، لإمكان أن يكون الحكم عند عدم شي ء من المذكورات مستندا إلى الشكّ و القاعدة، و عند جريان يد المسلم إليها، و عند جريان يد الكافر كان هي أمارة على عدم التذكية، و عند تعارض الأمارتين كان المقدّم هي أمارة التذكية.

ثمّ لو كان أحد الوجهين اللذين ذكرناهما للحمل بين المطلقات و الخبر المشتمل على الاشتراط أظهر من الآخر كان هو المتعيّن، فإنّ الأمر قد دار بين الأخذ بظهور المطلقات في سببيّة الشكّ مطلقا و كون التذكية حكما ظاهريّا مجعولا في موضوع الشكّ فيها، و طرح ظهور ما دلّ على الاشتراط في نفي الحكم بالتذكية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 434

و عدم البأس عن غير مورد الشرط، و بين الأخذ بالثاني و طرح الأوّل، فإن كان ظهور الإطلاق أقوى من ظهور المفهوم أو كان العكس فلا كلام.

و أمّا لو كان الظهوران متساويين، فالمرجع عمومات أدلّة الاستصحاب أعني: استصحاب عدم التذكية، فإنّ عمومها شامل للتذكية، فإنّها شي ء مشكوك الثبوت و العدم مع كون حالته السابقة هو العدم، فمقتضى الاستصحاب إبقائها على العدم حتّى يعلم الثبوت، و لا إشكال أنّه لو لم يكن في البين سوى المطلقات فحيث كانت ظاهرة في جعل حكم التذكية في موضوع الشكّ فيها كانت منافية مع حكم الاستصحاب، فكانت تخصيصا له لا محالة.

كما أنّه لو لم يكن في البين سوى دليل جعل التذكية في مورد اليد و السوق و الأرض، كان هذا الدليل حاكما على دليل

الاستصحاب لكونه حكما في موضوع الأمارة، و هي قائمة مقام العلم الذي هو غاية لحكم الاستصحاب، و لكن بعد وجود المطلقات و هذا الدليل و مساواة ظهورهما كان عموم دليل الاستصحاب محكّما، لعدم العلم بورود التخصيص عليه، فيكون الحكم عند عدم الأمارات عدم التذكية للأصل، و مع وجودها التذكية للأمارة.

ثمّ لو بنينا على هذا أعني: أماريّة هذه الأشياء على التذكية مع محفوظيّة أصالة العدم عند عدمها فهل يكون السوق و الأرض أمارتين مستقلّتين في عرض اليد، أو أنّهما أمارتان على اليد؟ فنقول: ظاهر قوله في رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و في ما صنع في أرض الإسلام» مع ملاحظة سؤال الراوي بعد ذلك بقوله: «فإن كان فيها غير أهل الإسلام» و ملاحظة جواب الإمام بقوله: «إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» هو كون الغلبة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 435

لأجل إلحاق النادر بالغالب، يعني: أنّ الغالب إذا كان المسلمين لا يضرّ وجود النادر من أهل الكفر، ففي ما إذا كان الصانع مجهول الحال في الإسلام و الكفر فلا يعتنى باحتمال كونه كافرا، لندرة الكافر، بل يلحق بالأعمّ الأغلب و هو المسلّم.

و بعبارة أخرى لا يفهم من هذا الكلام أن يكون للغلبة بما هي موضوعيّة، فلو علم أنّ المأخوذ من يد معلوم الكفر وصل إليه أبا عن جدّ بحيث لم يجر عليه يد المسلم أصلا فلا يفهم من الخبر ثبوت فائدة للغلبة حينئذ، فلا يحكم في هذه الصورة بعدم البأس بمجرّد كون غالب أهل البلد من أهل الإسلام، و لو كان للغلبة موضوعيّة في حدّ نفسها لحكم في هذه الصورة بالتذكية و عدم البأس.

ثمّ كما أنّ يد المسلم

أمارة التذكية هل تكون يد الكافر أمارة عدمها، فعند جريان يد الكافر الحكم بعدم التذكية يكون لأصالة عدم التذكية، و وجود يد الكافر كعدمه أو يكون لأجل يده؟ و تظهر الفائدة في ما لو اجتمع يد المسلم و يد الكافر في موضوع واحد مشروط بالتذكية، فعلى الأوّل كان يد المسلم أمارة التذكية و ليس في قبالها سوى الأصل و هو محكوم في جنب الأمارة، و على الثاني كان من باب تعارض الأمارتين.

فنقول: لو ورد في الأخبار حكم البأس و عدم التذكية معلّقا على الأخذ من يد الكافر، كما ورد فيها تعليق الحكم بعدم البأس و التذكية بالأخذ من يد المسلم كان ظاهره سببيّة يد الكافر لهذا الحكم، فيتكلّم حينئذ في أنّ سببيّته هل لأجل الأصل أم لأجل أماريّة يد الكافر، و لكن لم يرد هذا التعليق في يد الكافر.

و أمّا رواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمة المشتملة على سؤال الراوي عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 436

جلود الفراء المشتراة من المسلم الغير العارف، أ يسأل عن ذكاته أم لا؟ و جواب الإمام- عليه السّلام- بقوله: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك» فإن حملناها على معنى وجوب الفحص عند انحصار البيع بالمشركين فهي ناظرة إلى سلب الأماريّة عن يد المسلم المعلوم استنادها إلى يد المشرك من دون إفادة كون يد المشرك أمارة على عدم التذكية، و إن حملناها على معنى الإعراض عن مفروض السائل فكأنّه قال: لا يجب المسألة في ما ذكرت من المأخوذ من يد المسلم، و إنّما عليكم المسألة إذا اشتريتم من المشركين، فحينئذ و إن كان قد علّق وجوب الفحص على الأخذ من يد الكافر، و لكن مع ذلك

لا يدلّ على الأماريّة.

و وجه ذلك أنّه فرق بين ما إذا قيل من الابتداء: إذا أخذ من يد المسلم لا يجب الفحص و إذا أخذ من يد الكافر يجب، فهذا يكون ظاهره أمارية يد الكافر لعدم التذكية كأماريّة يد المسلم للتذكية، و بين ما إذا كان المفروض الأخذ من يد ما، ففصّل في هذا اليد و قسّم بين كونه يد المسلم و كونه يد الكافر، فإنّ من المعلوم و المفروض في كلام السائل أنّه دخل في السوق و اشترى الفراء من بائع غاية الأمر أنّه كان مسلما، فسأل الإمام عن حال هذه اليد في هذه الواقعة الشخصيّة، فأجاب الإمام بأنّ يد المسلم لا إشكال فيه و إنّما وجب الفحص لو كان اليد الذي أخذت منه يد الكافر، فهذا غير ظاهر في السببيّة و الأماريّة، بل يحتمل أن يكون الحكم لأجل أصالة عدم التذكية، و أن يكون لأجل أماريّة يد الكافر، و على هذا فعند جريان يد المسلم و يد الكافر كان يد المسلم أمارة بلا معارض لعدم الدليل على أماريّة يد الكافر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 437

ثمّ إنّ يد المسلم إذا علم أنّه أخذ من يد الكافر و لم يتفحّص، و بعبارة أخرى فعل فعلا حراما حيث اشترى ما يشترط صحّة بيعه على كونه مذكّى من يد الكافر- كما في الجلود المجلوبة من بلاد الفرنك إلى بلاد الإيران فإنّه يحتمل كونها مذكاة بأن كانت من حيوان طاهر العين و ذكّاه المسلم، لاحتمال وجود المسلم في تلك البلاد، و لكن نعلم أنّ حال المسلم الذي اشتراه من الكفّار حالنا و لم يتفحّص عن حال هذه الجلود و لم يكن همّه مصروفا إلى ذلك أصلا، فهل

هذا اليد يعلم من الأخبار أماريّتها أم لا؟.

الحقّ أنّه لا يعلم أماريّتها، فإنّ الظاهر من الأخبار أنّ الحكم بالتذكية عند الأخذ من يد المسلم اعتناء بحال المسلم و اعتماد على صحّة فعله و قيامه بوظيفة إيمانه، فإنّ ذلك يقتضي أن لا يشتري ذلك بدون الفحص، بل يفحص أوّلا فإن وجد طريقا شرعيّا إلى تذكيته اشتراه و إلّا ترك شراءه.

ألا ترى أنّه لو وجدنا جلدا في يد كافر و لم يجز لنا شراؤه منه، فهل يجوز لنا جعل مسلم نعلم بأنّ حاله أيضا حالنا في حرمة شراء هذا الجلد واسطة و أمرناه بالشراء ثمّ نشتري نحن منه، و هل يستفاد من الأخبار جواز ذلك؟.

نعم يبقى صورة احتمال أن يكون المسلم الآخذ من يد الكافر قد تفحّص أوّلا ثمّ اشتراه و لو كان هذا الاحتمال ضعيفا، فعند هذا الاحتمال يتمّ معنى الأماريّة و الاعتناء بحال المسلم فيكون مشمولا للأخبار.

فتحصّل أنّ مفاد الأخبار أماريّة يد المسلم الذي يمكن و يحتمل في حقّه الفحص و تصحيح العمل، و أمّا المسلم الذي نعلم عدم مبالاته من الأخذ من يد الكافر بدون الفحص فلا يعلم أماريّة يده من الأخبار، و على هذا لو كان غالب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 438

أهل السوق متّصفين بعدم المبالاة فالمجهول الحال لو كان من حيث الإسلام و الكفر جاز الأخذ منه، و لو كان من حيث المبالاة و العدم لم يجز إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

و الحاصل: أنّ الشكّ لو كان ناشئا من الشكّ في اجتماع شرائط التذكية مع العلم بصدورها عن المسلم فلا إشكال، و لو كان ناشئا من احتمال وقوع الذبح على يد أهل الكفر فحينئذ لو احتمل في حقّ المسلم الآخذ من

يد الكافر الذي نأخذ نحن من يده أنّه قام بوظيفة إسلامه و أوقع معاملته على الوجه الصحيح فلا إشكال أيضا، و لو لم نحتمل ذلك فمحلّ إشكال، لعدم فهم أماريّة يده حينئذ من الأخبار، إذ مع عدم الاحتمال المذكور لا معنى للاعتناء بحاله من حيث كونه مسلما.

ثمّ إنّ يد الغاصب على ما غصبه هل تكون كيد غيره من المسلمين، أو أنّه لا حكم لها في نظر الشارع و ليست أمارة على التذكية، كما لا تكون أمارة على الملكيّة للقطع بخلافها؟ الكلام في ذلك مبني على أنّ المستفاد من أخبار الباب- و هو قوله- عليه السّلام- في الرواية المتقدّمة: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و في ما صنع في أرض الإسلام» ما ذا هل هو الحكم الحيثيّتي أو الفعلي.

فإن كان الأوّل بمعنى أنّه كان في مقام عدم البأس بالصلاة و رفع المانع عنها من جهة عدم التذكية بدون التعرّض للحيثيّات الأخر، فيمكن الأخذ بإطلاق الرواية، فإنّه بإطلاقه شامل لكلّ مسلم و لو كان غاصبا، و لا ملازمة بين الغاصبيّة و عدم المبالاة من جهة عدم التذكية حتّى يرد أنّ الغاصب متّصف بعدم المبالاة، و قد تقدّم أنّ المسلم الغير المبالي لا يستفاد من الأخبار أماريّة يده، فإنّه من الممكن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 439

أن يكون غير متحرّز عن الغصب مع كمال التحرّز عن النجاسات، كما نقل ذلك عن بعض الغاصبين.

و إن كان الثاني بأن كان مفاد الرواية عدم البأس الفعلي بالصلاة و رفع المانع عنها فعلا، فحينئذ يكون موضوعها لا محالة ما إذا كان المانع عن الصلاة مفقودا من الحيثيات الأخر، فيكون القدر المتيقّن منها أنّ الجلد الذي ليس فيه مانع من الصلاة

من غير جهة عدم التذكية يكون يد المسلم أمارة على تذكيته فلا بأس بالصلاة فيه فعلا، فلا يشمل ما في يد الغاصب، فإنّه غير داخل تحت هذا الموضوع لعدم جواز الصلاة فيه من حيث الغصبيّة.

و بالجملة فعلى هذا لا تدلّ الرواية إلّا على أماريّة اليد في مورد عدم المانع عن الصلاة من جهة أخرى، و يبقى غير هذه اليد بلا دليل، و لكنّ الظاهر من الرواية هو الحكم الجهتي الحيثيّتي بمعنى أنّها غير متعرضة لحيثيّات أخر، و متعرّض لجواز الصلاة من حيث احتمال عدم التذكية، و على هذا فيمكن التمسّك بإطلاقها على أماريّة يد الغاصب.

ثمّ لا فرق في أماريّة يد المسلم بين كونها مشتركة مع يد الكافر أم مستقلّة، كفر و كان مشتركا بين مسلم و كافر، و تصرّف فيه المسلم تارة و الكافر اخرى.

و محصّل الكلام إنّا لا نستفيد من الأخبار أماريّة اليد الخالية عن كلّ استعمال يكون قرينة على الطهارة، كما لو رأى جلدا في يد مسلم و احتمل أنّه أخذه للبيع و الشراء، و أن يكون أخذه للإفناء ليأمن المسلمون عن نجاسته، أو لأجل التسميد، فمجرّد هذا اليد لا يفهم أماريّته، بل المتيقّن منها ما إذا كانت اليد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 440

مقرونة بمعاملة الطهارة مع الجلد، كالصلاة فيه، أو جعله بمعرض البيع و الشراء أو شرائه أو جعله فراشا المستلزم لملاقاته مع الرطوبة في بعض الأحيان و نحو ذلك.

و على هذا فلا فرق بين كون المسلم تامّ التصرّف و ذا يد مستقلّة، أم كان يده بمنزلة نصف اليد في أنّ في الصورتين لو كانت يده مقرونة بما هو معاملة الطهارة كان أمارة، و إن كانت خالية عن ذلك فليس

بأمارة في شي ء من الصورتين، فلو لم ير من المسلم معاملة الطهارة مع المشترك و لم يعلم أنّه يراه مملوكا لنفسه و للكافر على الإشاعة، و إنّما رئي أنّه يضع يده عليه في غير ما يشترط بالطهارة أحيانا، و كان شاهد الحال فيه و في الكافر موجودا لجواز صلاة ثالث فيه، فلا يجوز لهذا الثالث الصلاة فيه.

ثمّ إنّ يد المسلم التي هي أمارة على التذكية هل هي أمارة على نحو الكشف، أم من حين الجريان؟ فلو كان جلد مطروحا بلا ثبوت يد عليه و كان محكوما بالميتة بمقتضى أصالة عدم التذكية ثمّ ثبت عليه يد المسلم، فعلى الأوّل يحكم حينئذ بطهارة ما لاقاه قبل الجريان، و على الثاني يحكم بنجاسته و طهارة ما لاقاه بعد ذلك.

قد يقال بالثاني ببيان أنّ أصالة عدم التذكية جارية إلى أن يظهر الحاكم، و قبل جريان اليد لم يكن في البين حاكم، فلا مانع من جريانها، فيكون الجلد محكوما بالميتة إلى زمان ثبوت اليد بمقتضى الأصل السليم عن الحاكم، و بعد ثبوت اليد يصير من هذا الحين محكوما بالتذكية، لأنّه زمان وجود الحاكم.

لا يقال: إنّه لم يحصل تذكية جديدة بعد حصول اليد قطعا، فما معنى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 441

التفكيك بين ما قبل حصولها و ما بعده، فإنّ التذكية إن كانت حاصلة واقعا كان بحكم المذكّى في جميع الأزمان، و إن كان غير حاصل واقعا كان بحكم الميتة كذلك؟

لأنّا نقول: و إن كان بحسب الواقع لا يمكن التفكيك، و لكن بحسب مرحلة الظاهر و مقتضى الأصل يمكن التفكيك بحسب الآثار بين الزمانين، كما يمكن بين موضوعين يقطع بكونهما مشتركا واقعا في الأثر، كما في صلاتي الظهر و العصر

إذا حكم بصحّة الأولى عند الشكّ في الوضوء بعدها بقاعدة الفراغ دون الثانية، فيجب تجديد الوضوء للثانية، مع أنّه لو كان الوضوء حاصلا في الواقع، كانت الصلاتان صحيحتين، و إلّا فكلتاهما باطلتان.

أقول: لو كان اليد أمارة على التذكية فواضح أنّ معنى الأماريّة و الكاشفيّة هو الحكم بالتذكية من أوّل الأمر، و أمّا إن جعلنا الحكم بالتذكية عندها بالأصل: بمعنى أنّ كلّ مشكوك التذكية مع ثبوت اليد محكوم بالتذكية فربّما يتوهّم الفرق بين هذا و الأمارة، و التحقيق عدم الفرق.

[و أمّا] قولك الأصل الحاكم و هو أصالة التذكية حاصل من حين اليد و لا وجود له قبله، فأصالة عدم التذكية قبل وجوده سليمة عن الحاكم إن كان المراد ثبوت موضوعه في هذا الحين فهو حقّ، فإنّ موضوعه اليد و هو حاصل في هذا الحين، فهو كما لو حصل الملاقاة مع شي ء في حال الغفلة عن طهارته و نجاسته ثمّ حصل الالتفات و الشك، فإنّ موضوع أصالة الطهارة و هو الشكّ لم يكن حاصلا حين الملاقاة لفرض الغفلة فيه، بل حصل بعدها فموضوع أصالة التذكية و بعبارة أخرى قول الشارع: مشكوك التذكية محكوم بالتذكية حاصل زمان ثبوت

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 442

اليد لا قبله، و لكن مجرّد ذلك غير مفيد لك كما هو واضح.

و إن أردت أنّ حكم التذكية الذي هو مفاد الأصل هو التذكية من حين اليد فهذا فاسد، فإنّ مفاد الأصل الحاصل موضوعه في هذا الزمان هو الحكم بأصل التذكية، كما أنّ مفاده في المثال هو الحكم بأصل طهارة هذا الموضوع، كيف و لو كان مفاده حصول طهارة جديدة في المثال و حصول تذكية جديدة في المقام بعد اليد فهذا ممّا نقطع بعدمه،

فليس المفاد إلّا الحكم بأنّ هذا الموضع يكون من الأصل مذكى، و هذا هو الحال في الأمارة أيضا، فإنّها قد حصل موضوعها في هذا الزمان، و لكن مفادها الكشف عن أصل المذكائيّة، لا حصول المذكائيّة من هذا الزمان.

و حينئذ نقول: بعض الآثار تشترك الأمارة و الأصل في عدم إمكان ترتيبها بهما لثبوت موضوعها في السابق و عدم بقاء عين و لا أثر لتلك الآثار في اللاحق، و هذا كترتّب الحرمة و العصيان على أكل بعض اللحم الذي كان مجرى لأصالة عدم التذكية في زمان جريان هذا الأصل، فإنّه بثبوت اليد على هذا اللحم لا يرتفع الحرمة و العصيان السابقة، فإنّهما مانعان لثبوت النهي في زمان العمل.

و بعبارة أخرى: الأمارة و الأصل مشتركان في أنّهما لا يغيّران ما كان عمّا كان، فالآثار المستتبعة على ما كان لا يمكن رفعها بهما، و أيضا من المعلوم أنّ معنى حجية الأصل و الأمارة ترتيب الأثر العملي، فبالنسبة إلى الآثار السابقة التي لا عمل لها لاحقا ليس لهما حكم.

و أمّا الآثار اللاحقة التي تحقّق موضوعها من السابق أعني: في زمان جريان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 443

أصالة عدم التذكية كنجاسة و طهارة ما لاقاه سابقا بالنسبة إلى الزمان اللاحق، و كوجوب قضاء الصلاة التي صلّاها في ذلك الزمان مع تمشّي القربة بالنسبة إلى هذا الزمان، فنقول: قضيّة أصالة عدم التذكية الجارية في السابق أنّ هذا الموضوع ميتة، و من آثار ذلك نجاسة ملاقية في جميع الأزمان إلى أن يغسل، و فساد الصلاة التي أتي بها مع هذا الجلد، فيتوجّه التكليف بقضائها في جميع الأزمنة حتّى يقضى، و من جملة الأزمنة زمان اليد و ما بعده، فمقتضى الأصل المذكور وجوب

غسل الملاقي من السابق في هذا الزمان أيضا، و كذلك وجوب قضاء الصلاة المذكورة في هذا الزمان.

و قضيّة الأمارة أو الأصل الحاكمين أنّ هذا الموضوع هو المذكّى، و قضيّة كون هذا الموضوع مذكّى عدم ترتب تلك الآثار، فيحكم بعدم نجاسة الملاقي الذي لاقاه سابقا بعد ذلك، و بعدم وجوب قضاء الصلاة الواقعة سابقا بعد ذلك، فإنّ ذلك من أثر كون هذا الموضوع مذكّى بقول مطلق، و قد فرضنا أنّ هذا الأصل أو الأمارة حاكم على أصالة عدم التذكية، فلا لسان لأصالة عدم التذكية بالنسبة إلى هذه الآثار، لمحكوميّته، بل اللسان ثابت للحاكم من الأمارة أو الأصل.

و حاصل الكلام في المقام: أنّه لا فرق بين الأمارة و الأصل إلّا في لوازم الموضوع حيث يحكم بها في صورة الأمارة دون الأصل، فالإنائين المشتبهين من حيث الطهارة و النجاسة لو كان طهارة أحدهما بمقتضى الأصل لا يمكن إثبات النجاسة في الآخر بهذا الأصل، و لو كان بمقتضى الأمارة أمكن، و أمّا في غير ذلك فلا فرق بينهما أصلا من جهة أصل الموضوع و من جهة الآثار المترتّبة عليه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 444

بلا واسطة، هذا.

و أمّا تنظير المقام بمسألة قاعدة الفراغ الجارية في صلاة الظهر دون العصر عند الشكّ في الوضوء بعد الفراغ من الظهر فتنظير مع الفارق، فإنّ موضوع قاعدة الفراغ لو كان هو نفس الوضوء لم يفرق بين الظهر و العصر، بل جاز إتيان كلّ صلاة بهذا الوضوء، و لكنّ المفروض أنّ موضوع القاعدة نفس صلاة الظهر، و حينئذ فمن الواضح أنّه موضوع آخر غير مرتبط بصلاة العصر، فهما موضوعان متباينان ليس الأصل في أحدهما مقتضيا لأثر في الآخر، نعم كلّ ما كان من

آثار صحّة الظهر بلا واسطة لا بدّ من ترتيبها بمقتضى هذا الأصل.

[في حكم السقط قبل ولوج الروح فيه و حكم الفرخ في البيض]

«مسألة: السقط قبل ولوج الروح نجس، و كذا الفرخ في البيض».

قد عرفت أنّ الميتة نجسة و أنّ الجزء المبان من الحيّ بحكم الميتة، فهنا ثلاثة أشياء يقع الكلام في نجاستها من جهة الاندراج تحت أحد هذين العنوانين، المضغة، و الجنين قبل ولوج الروح، و الفرخ في البيض قبل ولوج الروح، فلا إشكال في عدم صدق الميتة على شي ء من هذه الثلاثة، فإنّه فرع ولوج الروح، فقبله لا يصدق الموت.

و إنّما الكلام في جهة كونها من الجزء المبان من الحيّ، فالمضغة إن كانت ممّا يتألّم الحيوان بإيلامها و إيلاج شي ء فيها في الجوف فتكون من جزئه، و إلّا فهو شي ء أجنبيّ عنه كالدود المتكوّن في بطن الحيوان، و من هنا يعلم الكلام في الجنين قبل الولوج و الفرخ قبله، و أنّ احتمال الأجنبيّة فيهما أقوى، بل لا إشكال في الفرخ، فإنّ نفس البيض لا يعدّ جزء من الطير فكيف الفرخ الذي يكون فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 445

و لكن قوله- عليه السّلام- «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» يدلّ على احتياج الجنين بالذكاة و أنّه لولاها كان ميتة، فإن استفدنا من هذا الكلام أنّ الشارع قد رأى الجنين بعضا حقيقيّا من الأمّ، و لهذا جعل ذكاته حاصلا بذكاة أمّه، فهو كاللحم الذي يكون في رجل الغنم مثلا حيث إنّ ذكاته تحصل بذكاة الغنم، فهذا تخطئة للعرف حيث يرونه أجنبيّا عن الأمّ، فيرتفع الإشكال في المضغة أيضا، إذ يعلم أنّها أيضا من أجزاء الحيوان حقيقة.

و إن استفدنا البعضيّة التنزيليّة بمعنى أنّ الشارع نزّل الجنين منزلة بعض الحيوان في مجرّد حكم حصول تذكيته بتذكية الحيوان مع

كونه في الحقيقة أجنبيّا و غير بعض، فحينئذ لا بدّ من الاقتصار على الجنين و عدم التعدّي إلى غيره من المضغة، و حيث إنّ أمر الرواية دائر بين هذين الاحتمالين فهي مجملة لا يمكن التمسّك بها على الأوّل، فيكون الحكم في الجنين الساقط من الحيوان قبل ولوج الروح النجاسة بمقتضى هذه الرواية. «1»

______________________________

(1)- «ذكاة الجنين ذكاة أمّه»، ليس معناه أنّ ذكاته مستقلّة و لكنّها شبيهة بذكاة أمّه، كما يقال: احترام زيد احترام عمرو، يعنى أنّه مثله، بل معناه أنّ ذكاة الأمّ عين ذكاة الجنين، كما يقال: ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّا، و بعد ذلك نقول لا دلالة للرواية على النجاسة، فإنّه يستفاد منها شيئان:

الأوّل: أنّ الجنين يحتاج إلى التذكية في شي ء ما.

و الثاني: أنّه تحصل تذكيته بتذكية الأمّ.

ثمّ إنّ التذكية في الأمّ تفيد فائدتين:

الأولي: بقاء طهارته الثابتة حال الحياة.

و الأخرى: حليّة اللحم، فلم يعلم أنّها في الجنين تفيد كلتا هاتين حتى يكون قبل تذكية الأمّ نجسا و حراما، أو تفيد إحداهما أمّا 7 بقاء الطهارة أو الحليّة.

نعم لو علم من الخارج أنّ الجنين نجس و حرام، علم من هذه الرواية ارتفاع كليهما بذكاة امّه، و أمّا بهذه الرواية فلا يمكن إثبات النجاسة.

فإن قلت: معنى الرواية بالالتزام أنّ الجنين له مذكّى و غير مذكّى، فإذا لم يذكّ أمّه فهو غير مذكّى، و غير المذكّى ميتة، فيكون نجسا.

قلت: ليس كلّ غير مذكّى نجسا، و إلّا فالحيوان الحيّ غير المذكّى و ليس بميتة و لا نجسا.

فإن قلت: لو أغمضنا عن ذلك فالرواية بعموم المنزلة يفيد أنّه كما في الأمّ يفيد فائدتين كذلك في الجنين.

قلت: ليس هنا مقام عموم المنزلة، إذ لو قيل يحتاج إلى ذكاة مستقلّة و

هي بمنزلة ذكاة امّه كان لما ذكر وجه و ليس كذلك، بل قلنا: إنّ لمعنى أنّ ذكاته عين ذكاة الأمّ، و حينئذ فلا نظر له إلى أنّه في أيّ شي ء يحتاج إلى التذكية.

فإن قلت: كما أنّ الأصل في الجنين من حيث الطهارة و النجاسة هو الطهارة، كذلك من حيث الحلّ و الحرمة هو الحلّ، فهما على السواء، فلم حملت الرواية على خصوص الحلّ، مع أنّه لا فرق في الجهة المذكورة بينه و بين الطهارة؟

قلت: أوّلا فيتمّ المطلوب بواسطة إجمال الرواية، إذ لم يعلم أنّه بالنظر إلى كلا الأمرين، أو خصوص الطهارة، أو خصوص الحليّة.

و ثانيا: أنّ من الرواية مقطوع تفصيلي و [هو] ثبوت الحرمة، فإنّه إمّا لأجل النجاسة أو لأجل الحرمة قيل ذكاته ذكاة أمّه، و على أيّ حال تكون الحرمة ثابتة.

و لا يقال: إنّ أصالة الطهارة يرفع الحرمة من جهة النجاسة، و يبقى الحرمة من غيرها مشكوكة بدويّة، و يرفعها أصالة الإباحة.

فإنّ [ه يقال] هذا الأصل بالنسبة إلى هذا الأثر غير ممكن التأثير، لأنّ خلافه وجداني و مقطوع تفصيلي فهو مفيد للآثار الأخر، و بالجملة الباب باب الأقلّ و الأكثر فيجري فيه تمام الكلام فيه.

و ثالثا: أنّ من المقطوع بمراجعة أخبار ذكاة الجنين ذكاة أمّه، أنّها ناظرة إلى حيث الأكل قطعا، و نظر السائلين إلى هذه الجهة مقطوعا، فشمول الرواية هذه الجهة غير قابل للخدشة، و إنّما المشكوك هو حيث الطهارة و قد عرفت عدم دلالة الرواية، فيمكن كون الطهارة باقية من السابق من غير تأثير للتذكية فيها أصلا، فيكون قاعدة الطهارة سليمة عن الدليل الحاكم فافهم، منه- رحمة اللّٰه عليه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 446

و أمّا في المضغة الخارجة منه فلا دليل

على النجاسة، فلا مانع من جريان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 447

أصل الطهارة إن لم يقطع بكونها من جزء الحيوان، باعتبار أنّ العلقة كانت دم هذا الحيوان، فالمضغة المستحيلة من دم هذا الحيوان أيضا يعدّ من لحم هذا الحيوان.

و أمّا الفرخ في البيض قبل الولوج فلا إشكال في طهارته بالأصل، لعدم كونه ميتة و لا جزءا مبانا من الحيّ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 448

الكلام في ما يقبل التذكية من الحيوان و ما لا يقبلها
اشارة

فاعلم أنّ الحيوانات بين مأكول اللحم و غيره.

و الثاني بين نجس العين و غيره.

و الثاني بين الإنسان و غيره.

و الثاني بين ذي النفس و غيره.

و الثاني بين السباع و المسوخات و الحشرات و غيرها.

لا كلام في المأكول و نجس العين، فالأوّل من حيث قبول التذكية، إذ لولاه لما كان معنى لمأكوليته، و الثاني من حيث العدم، فإنّه حال الحياة نجس فبعدها بطريق أولى.

و لا كلام أيضا في الإنسان من حيث عدم القبول، بمعنى أنّ أجزاءه لا تصير بالتذكية طاهرة. نعم يقع الكلام في طهارة بدن الشهيد و إن قيل بإيجاب مسّه الغسل.

و كذلك لا كلام في غير ذي النفس من حيث الطهارة فإنّ ميّتة مطلقا طاهر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 449

إنّما الكلام و الإشكال في ذي النفس من غير المأكول بأقسامه، و الكلام فيها يقع تارة في أنّ الأصل عند الشك هل هو الطهارة أو النجاسة مع قطع النظر عمّا يستفاد من الأخبار؟ و أخرى في أنّ القاعدة المستنبطة من الأخبار ما ذا مع قطع النظر عمّا يقتضيه الأصل؟ فهنا مقامان:

أمّا المقام الأوّل: فربما يقال: إنّ الأصل الجاري عند الشك هو أصالة عدم التذكية:

فإنّ التذكية التي هي موضوع الطهارة أمر بسيط وحداني، و له محقّقات كإسلام الذابح، و القبلة، و التسمية، و منها قابلية المحل. فكما انّه لو شك في تحقّقها من جهة الشك في مقدماتها الخارجية أعني: شرائط التذكية يكون الأصل عدم تحقّقها. فكذلك لو شك في تحقّقها لأجل الشك في مقدمتها الداخلية أعني: قابلية المحل فالأصل أيضا عدمها، فهو في الحيوان كالطهارة من الحدث في الإنسان، و هذا الأصل مقدّم على استصحاب الطهارة الثابتة حال الحياة و على أصالة الطهارة.

أمّا على الاستصحاب فلأنّ هذا الأصل حاكم عليه، فانّ الشك في الطهارة و النجاسة ناش

من الشك في تحقّق موضوع الطهارة و هو التذكية، و الأصل في السبب مقدّم على الأصل في المسبب.

و أمّا على الثاني فلأنّها مع ذلك محكومة للاستصحاب أيضا.

لا يقال: إنّ الشك في وجود التذكية أيضا ناش عن الشك في القابلية و مسبب عنه.

فإنّه يقال: نعم و لكن ليس في السبب أصل يقتضي القابلية أو عدمها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 450

لا يقال: لا نسلّم كون التذكية أمرا وحدانيا كان الفعل الخارجي من محقّقاته، إذ لعلّه كانت نفس الذبح الخارجي مع الشرائط المقررة.

فإنّه يقال: بل حال الذكاة في الحيوان حال الطهارة من الحدث في الإنسان، و لو كان عبارة عن الذبح الخاص للزم قابلية الكلب و الخنزير للتذكية، لإمكان الذبح المذكور في حقّهما و من الواضح عدمها. هذا ما قيل في مقام تصحيح هذا الأصل.

و فيه نظر فانّ صحّته مبتنية على ورود آية أو رواية على تعليق الطهارة في كل حيوان على التذكية حتى في نجس العين، غاية الأمر لا يجري فيه التذكية لعدم القابلية. فكل حيوان تكون طهارته بعد الحياة معلّقة على وجود التذكية و لولاه لكان نجسا و من المعلوم عدم ثبوت ذلك [1].

______________________________

[1] و حاصل وجه النظر أنّه تارة يقال: بانّ الشارع جعل الأثر لهذا الموضوع و الأمر البسيط بقول مطلق، و متى وجد و في كل حيوان من دون اختصاص لذلك بخصوص بعض الحيوانات، فالشارع جعل الأثر لوجود التذكية و عدم هذا الأثر لعدم التذكية، حتى في مثل الكلب الذي ليس قابلا للتذكية.

ففيه أيضا يكون التذكية على فرض وجودها مؤثرة، غاية الأمر عدمها لازم الوقوع و لا ينفك. و حينئذ فالتذكية في كل شخص من الحيوانات أشير إليه يكون موضوعا للأثر شرعا، فمتى

شك في تحقّق هذا المعنى البسيط في شخص اللحم سواء كان الشك من جهة الشك في القابلية، أم من جهة الشك في المقدمات الخارجية كان الأصل عدم التذكية. هذا.

و أخرى يقال: إنّه لم يرتّب الشارع أثرا على التذكية و عدمها مطلقا في كل حيوان، بل إنّما جعل موضوع الأثر هو التذكية في الحيوانات الخاصة: من البقر، و الغنم، و نحوهما. فحينئذ يجري أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية التي نشأ الشك فيها من الشك في حصول المقدمة الخارجية بعد إحراز قابلية المحل.

و أمّا كلّما كان الشك ناشئا من الشك في قابلية المحل فلا يجري فيه للأصل المذكور. و وجهه انّا قد علمنا بالفرض انّ الحيوانات صنفان، فصنف يكون التذكية و عدمها فيه موضوعين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 451

فإن قلت: فما تقول في قوله تعالى إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ

______________________________

للحكم الشرعي و ذلك مثل الغنم و نحوه و صنف لم يجعل فيه التذكية و عدمها موضوعين للأثر أصلا، كما في الكلب و نحوه فليست نجاسة الكلب إذا ذبح من جهتين الكلبية و عدم التذكية، بل من جهة واحدة فقط. و على هذا فالأمر في الحيوان المردّد بين كونه من هذا الصنف، أو ذاك الصنف مردّد بين أن يكون الموضوع فيه محقّقا قطعا، و بين أن لا تكون التذكية فيه بموضوع أصلا، إذ على تقدير كونه من الصنف الأوّل فقد قطع بحصول ما هو الموضوع فيه، لفرض العلم بحصول المقدمات الخارجية بتمامها، و بمحض الشك في القابلية، و على تقدير كونه من الصنف الآخر فلم يجعل الشارع التذكية و عدمها فيه موضوعا لأثر شرعي أصلا، فالتقدير الذي يكون التذكية فيه موضوعا لا شك فيه حتى يكون مجرى للأصل.

نعم

يشك في هذا الشخص في أنّ ما هو السبب في طهارته و حلّية لحمه، هل وجد أو لم يوجد لأجل الشك في كونه من أي الصنفين، و لكن لم يرتب على عنوان السبب و ما في معناه بما هو هذا العنوان حتى يجري أصالة عدم هذا العنوان. و إنّما الموضوع نفس واقع التذكية و الأمر فيه ما علمت.

نعم لو كان أمر الحيوان على تقدير كونه من الصنف الأوّل القابل أيضا مردّد بين حصول التذكية و عدمها، للشك في المقدّمات الخارجية كان أصالة عدم التذكية في هذا التقدير على نحو الاستصحاب التعليقي جاريا، و هو بضميمة القطع الموجود بالنجاسة و الحرمة في التقدير الآخر يكفي في إثبات النجاسة و الحرمة الفعليتين، نظير العظم المردّد بين كونه من كافر أو مسلم لم يغسل، و أمّا على تقدير القطع بحصول التذكية في التقدير المذكور للقطع بحصول تمام المقدمات الخارجية في هذا الشخص، فحينئذ لا يتم أركان الاستصحاب حتى يجري إذ الأمر دائر بين الموضوعية و القطع بالوجود و عدم الموضوعية رأسا، و مورد الاستصحاب هو الشك في الوجود بعد الفراغ عن أصل الموضوعية.

و على هذا ففي كل مورد شك في قابلية الحيوان للتذكية و كونه كالغنم، و عدمها و كونه كالكلب فمن حيث الطهارة يرجع فيه إلى أصالة الطهارة و من حيث الحل يرجع إلى أصالة الحل. و لعلّ هذا مراد شيخنا المرتضى حيث صرّح «1» في بعض كلماته بأنّ الأصل في الحيوان قبول التذكية.

______________________________

(1) هذا لتصريح منه- قدّس سرّه- في كتاب الطهارة، في باب النجاسات، في عنوان الكلب و الخنزير- منه عفى عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 452

قلت: هو استثناء من قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ

وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ «1» و التحريم المتعلّق بالأعيان ينصرف إلى منفعتها الغالبة، فالحكم في المستثنى منه هنا تحريم الأكل لا سائر التصرفات فليس فيه دلالة على النجاسة.

و الحكم في المستثنى هو حلّية الأكل و هو و إن كانت ملازمة مع الطهارة، و لكنّه إنّما يفيدهما في خصوص مأكول اللحم فإنّه استثناء عن ما أكل السبع، يعني لو أدركتم إيّاه حال بقاء حياته فذكّيتموه يصير حلالا أكله.

ثمّ لو كان في البين عموم يقتضي كون التذكية في كل حيوان مطهرة للزم بمقتضى عدم لزوم اللغوية حمله على القابلية، فكون التذكية في الثعلب مثلا مطهرة لو كان على معنى انّه على تقدير قابليته للتذكية كان لغوا، بل يستكشف

______________________________

فإنّه على ما ذكرنا و إن لم يمكن إحراز القبول و عدمها، لكن النتيجة حاصلة، فيمكن أن يكون مراد الشيخ- قدّس سرّه- نتيجة القبول لا عنوانه.

و على هذا فحصل هنا شق ثالث بين المذكّى و الميتة و هو مثل الكلب إذا زهق روحه لا بحتف الأنف، فإنّ الموت بحسب اللغة لا يشمل إلّا الموت حتف الأنف، غاية الأمر في كل حيوان يثبت الأثر للتذكية شرعا يكون مورد عدم التذكية في هذا الحيوان ملحقا بالموت في الحكم، و أين هذا من حيوان لم يثبت فيه أثر للتذكية.

و على هذا فيتبع في كل حيوان لإثبات قبول التذكية فيه وجود الدليل، فما ليس فيه دليل يحكم في صورة زهوق روحه بغير الموت حتف الأنف بالطهارة سواء وجد فيه شرائط التذكية أم لا، إلّا أن يقال: إنّا نعلم أنّ الحيوان على

قسمين: إمّا ليس التذكية و عدمها فيه منشأ لأثر أصلا، و على كل حال يكون حراما نجسا، و إمّا تكون التذكية و عدمها فيه متفاوتين فمع التذكية يحصل مجموع الأمرين من الطهارة و الحلية أو خصوص الطهارة، و مع عدمها ينتفي كلاهما، و على التقديرين تكون النجاسة و الحرمة في صورة عدم اجتماع شرائط التذكية معلومتين فتدبّر. منه- رحمة اللّٰه عليه.

______________________________

(1) البقرة/ 173.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 453

منه أنّه قابل للتذكية.

فإن قلت: و إن لم يمكن إثبات النجاسة في مورد الشك بأصالة عدم التذكية إلّا أنّه يمكن إثباتها بعمومات نجاسة الميتة من كل ذي نفس، فانّ الميتة عبارة عن مطلق ما أزهق منه الروح في مقابل الحيّ سواء كان الإزهاق بموته حتف أنفه أم بالسقوط في البئر أم بالقتل أم بغير ذلك. فيكون الحكم بالنجاسة بعمومه شاملا لجميع تلك الأقسام، خرج ما خرج و بقي المشكوكات تحت العموم.

قلت أوّلا: إنّ الميتة لو سلّمنا كونها بحسب الوضع أعم من الموت حتف أنف و من غيره، لكنّه بحسب العرف منصرف إلى غير القتيل، كلفظ الإنسان فإنّه بالوضع عام لذي الرأس و ذي الرأسين و في العرف خاص بالأوّل و منصرف إليه، فلا يكون دليل نجاسة الميتة شاملا للقتيل.

و ثانيا: إنّ عمدة الأدلّة على نجاسة ميتة ذي النفس كانت خبر غياث:

«لا يفسد الماء إلّا ما كان له نفس سائلة» و مورده هو ما إذا حصل الموت بالسقوط في البئر، و حينئذ ففي المشكوك لا دليل على النجاسة و كذلك لا دليل على الطهارة، فلا مانع من استصحاب الطهارة الثابتة حال الحياة، لاحتمال أن تكون الطهارة بعد إزهاق الروح في خصوص بعض الحيوانات معلّقة على التذكية و في

بعضها الآخر كان غير ما مات حتف أنفه طاهرا لا من جهة التذكية، و دليل نجاسة الميتة أيضا غير شامل له كما عرفت.

و بالجملة فلا أصل حاكم على الاستصحاب و لا عموم واردا عليه. هذا خلاصة الكلام في المقام الأوّل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 454

و أمّا المقام الثاني [فمقتضى القاعدة المستنبطة من جملة من الأخبار هو الطهارة]

فقد عرفت عدم جريان أصالة عدم التذكية، لكن لو تنزلنا و سلّمنا جريانها لكن مقتضى القاعدة المستنبطة من جملة من الأخبار هو الطهارة.

فمنها: قوله في موثقة ابن بكير الواردة في لباس المصلّي المفصّلة بين ما حلّ أكل لحمه فالصلاة في وبره و شعره و كل شي ء منه جائز، و ما لا يحل أكل لحمه فالصلاة في شي ء منه غير جائز عقيب القسم الثاني ذكّاه الذابح أو الذبح أو لم يذكّه، حيث يعلم منه مفروغية قبول ما لا يحلّ لحمه للتذكية.

و منها: صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن لباس الفراء و السمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود، قال: «لا بأس بذلك». «1»

و منها: خبر ريان بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا عن لبس الفراء و السمور و السنجاب و الحواصل و ما أشبهها و المناطق و الكيمخت و المحشو بالقز و الخفاف من أصناف الجلود، فقال: «لا بأس بهذا كلّه إلّا بالثعالب». «2»

و منها: مضمرة سماعة قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدواب فإنّا نكرهه، و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه». «3»

و منها: رواية سماعة قال: سئل أبو عبد اللّٰه عن جلود السباع؟ فقال: «اركبوا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 5، من أبواب لباس المصلّي، ص 255، ح

1.

(2)- المصدر نفسه: ص 256، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ص 256، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 455

و لا تلبسوا شيئا منها تصلّون فيه». «1»

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن ركوب جلود السباع، فقال: «لا بأس ما لم تسجد عليها». «2»

و منها: رواية سماعة قال: سئل أبو عبد اللّٰه عن جلود السباع؟ فقال: «اركبوها و لا تلبسوا شيئا منها» «3» و لا تنافي بين هذا و ما تقدّمه فإنّ قوله: تصلّون فيها في الخبرين المتقدّمين ليس قيدا و حالا لقوله: «لا تلبسوا شيئا منها» بل الظاهر أنّه إشارة إلى علّة الحكم و أنّ النهي للإرشاد و معنى الكلام: اجعلوها سرجا للدواب و لكن لا تجعلوها لباسا لكم فإنّكم تريدون أن تصلّون فيه و هي لكونها من غير المأكول غير قابلة لأن يصلّى فيها، فالنهي عن اللبس في كلا المقامين إرشادي، غاية الأمر قد نبّه في أحدهما على جهته و لم ينبّه عليها في الآخر، فليس المقام من قبيل المطلق و المقيّد ليكون محتاجا إلى حمل الأوّل على الثاني، بل الأمر أسهل.

و منها: ما عن أبي علي بن راشد في حديث قال: قلت لأبي جعفر: الثعالب يصلّى فيها؟ قال: «لا، و لكن تلبس بعد الصلاة» «4» و منها: رواية جعفر بن محمّد بن أبي زيد قال: سئل الرضا- عليه السّلام- عن جلود الثعالب الذكية؟ قال: «لا تصل فيها». «5»

و منها: ما عن الوليد بن أبان في حديث قال: قلت للرضا: يصلّى في الثعالب

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 5، من أبواب لباس المصلّي، ص 256، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 256، ح 5.

(3)- المصدر نفسه: ص 256، ح 6.

(4)- المصدر

نفسه: ص 258، ح 4.

(5)- المصدر نفسه: ص 259، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 456

إذا كانت ذكية؟ قال: «لا تصل فيها». «1»

و منها: رواية ابن أبي عمير أو نجران على ما في نسخة أخرى عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سألته عن الصلاة في جلود الثعالب؟ فقال: «إذا كانت ذكية فلا بأس». «2»

و منها: رواية الحسن بن شهاب عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: سألته عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية أ يصلّي فيها؟ قال: «نعم». «3»

و منها: رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألته عن اللحاف و الخفاف على ما في نسخة أخرى من الثعالب الخوارزمية أ يصلّي فيها أم لا؟ قال: «إن كان ذكيا فلا بأس به». «4» و هذه الثلاثة و إن كانت معارضة مع الخبرين السابقين عليها من حيث اشتمالها على جواز الصلاة و اشتمالهما على عدمه و الأولى محمولة على التقية، إلّا أنّ هذا غير مانع عن التمسّك بها فيما يتضمّنه الجميع بغير تعارض من تصريح الإمام في الأوّل و الثاني من الثلاثة الأخيرة باشتراط التذكية، و تقريره السائل في ذلك في غيرهما. و موافقة العامة غير مضرّة، فإنّ كل موافق للعامة لا يطرح ما لم يكن تعارض، فهذه صريحة في قبول التذكية في خصوص الثعلب.

و أمّا ما تقدّمها فهي صريحة في جواز الانتفاع بجميع الجلود، و هو ملازم للطهارة، فإنّه و إن قلنا بعدم الحرمة النفسية للانتفاع بجلود الميتة، لكن لا يخفى

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 7، من أبواب لباس المصلّي، ص 259، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ص 259، ح 9.

(3)- المصدر نفسه: ص 260، ح 10.

(4)- المصدر نفسه: ص 260، ح 11.

كتاب الطهارة

(للأراكي)، ج 1، ص: 457

أنّه كان هنا محل التنبيه على تقدير النجاسة على التقييد بعدم إيصال اليد و نحوها إليها مع الرطوبة، فيكشف عدم هذا التقييد في كلام الإمام عن الطهارة، مضافا إلى أنّ هذه الأخبار مع ضميمة الأخبار الدالّة على عدم جواز الانتفاع بالميتة بشي ء يدل على الطهارة بمقتضى الجمع، فإنّ مفاد الثاني عدم الجواز في جلود الميتة بما هي ميتة، و مفاد الأوّل الجواز في جلود الذئب و الدّب و النمر و الثعلب و غيرها بما هي هذه الحيوانات، و من الواضح أنّ الجمع بينها أنّ جلود جميع الحيوانات غير الكلب و الخنزير لها قسمان: الميتة و غيرها، فالميتة منها غير جائز الانتفاع، و غير الميتة جائز الانتفاع.

لا يقال: إنّ العموم الدالّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة بشي ء لم لا يجوز أن يكون قد خصّص بهذه الأدلّة، فخصوص الجلود كان خارجا من هذه الكلية و كان طاهرا به.

قلت: قد تحقّق في محلّه أنّه إذا دار الأمر بين التخصّص و التخصيص فالتخصّص أولى، فهنا بعد وضوح حكم الطهارة يدور الأمر بين أن يكون الموضوع هو الميتة فيكون تخصيصا لتلك الأدلّة، و أن يكون هو المذكّى فيكون تخصّصا و أصالة عدم التخصيص قاضية بالثاني.

هذا مع ما عرفت من أنّ المعارضة ليست بين العام و الخاص، بل بين الخاصّين، لقيام الأدلّة على عدم جواز الانتفاع بخصوص جلود الميتة، فالمتعيّن في الجميع ما ذكرنا.

فقد تحقّق ممّا ذكرنا أنّه لو قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية كما ذكرنا، فمقتضى الأصل الأوّلي و القاعدة الثانوية كليهما طهارة غير الميتة من غير المأكول

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 458

غير نجس العين، و على تقدير القول بجريانه فمقتضى الأصل الأوّلي

و إن كان هو النجاسة، لكن القاعدة الثانوية تقتضي الطهارة، هذا هو الكلام في القاعدة و يحتاج للخروج منها إلى دليل خاص.

ثمّ لو قلنا: بجريان أصالة عدم التذكية و حصر الدليل في القاعدة الثانوية أمكن الخدشة في الأخبار المذكورة.

أمّا الموثقة، فبأنّها غير مقيّدة للعموم، فإنّها مسوقة لجواز الصلاة في أجزاء حلال اللحم إذا كان مذكّى، و عدم جوازها في أجزاء حرام اللحم ذكّاه الذبح أو لم يذكّه، و معناه أنّه و لو كان حرام اللحم مذكّى، و هذا لا يدل على قابلية كل أفراد حرام اللحم للتذكية، و إنّما يدل على أنّه لا يخلو من فرد قابل لها، إذ لو لم يكن له فرد كذلك لما صحّ القول المذكور، كما لا يصحّ أن يقال: الكلب و إن ذكي حكمه كذا.

و بالجملة حيث إنّ الرواية ليست في مقام البيان من حيث حكم التذكية فليس لها إطلاق حتى يحكم بقابلية جميع الأفراد لها.

و أمّا الصحيحة المشتملة على جميع الجلود، فيمكن الخدشة فيها بأنّ المضاف إليه أعني: الجلود منصرف إلى قسم خاص، و مع انصرافه لا يلزم التصرّف في المضاف، فإنّ الجميع و الكل و إن كانا من صيغ العموم لكن عمومهما بحسب عموم مدخولهما، فإذا قيل: كل الإنسان و كان الإنسان منصرفا إلى ذي رأس واحد دون ذي الرأسين فيكون الكل لاستيعاب جميع الأفراد الواحدة الرأس، و كذلك في المقام، فإنّ الجلود جمع محلّى باللام و الجميع من صيغ العموم، لكن مع ذلك إذا كان مادة الجلد في المقام منصرفا إلى قسم خاص لم يقدح ذلك في عموم الجمع و الجميع و لم يكن تصرفا فيهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 459

فنقول: مقتضى هذا المقام الذي وقع

السؤال فيه عن استعمال الجلود في اللبس و جعلها لباسا، هو انصراف مادة الجلود إلى الجلد الذي كان صالحا للباسية فبعمومه يشمل كل جلد كان كذلك، بخلاف ما ليس من الجلود كذلك كما ربّما يدّعى في جلد الفأرة فإنّه غير داخل في عموم جميع الجلود في هذا المقام.

و أمّا خبر الثعلب فهو خاص به و لا يفيد الكلّية.

و نحن حيث أبطلنا أصالة عدم التذكية، و قلنا بجريان الاستصحاب في فسحة من هذه الإشكالات و التكلّم فيها و في رفعها، فالقاعدة في كل حيوان طاهر العين هو الطهارة بالتذكية و لكن لا بسببها بل بالأصل، و كذا مقتضى القاعدة الحلّية بالأصل لو شك فيها أيضا حتى يعلم في خصوص مورد الخروج منها بدليل خاص، و من جملة ما ادّعي فيه الخروج عن هذه القاعدة المسوخ برأسها، فقيل فيها بعدم قبولها التذكية و نسب إلى المشهور بناء الأكثر على كونها نجسة عينية.

أقول أوّلا: لم يرد في خبر ما يدل على كون المسوخ نجسة عينية، و إنّما وقع بعض أفرادها في بعض الأخبار محكوما بما ظاهره النجاسة.

و ثانيا: انّ تلك الأخبار معارضة بأخبار أخر تدل على الطهارة في تلك الأفراد.

و أمّا الأخبار الدالّة على النجاسة العينية في بعض أفراد المسوخ. فمنها المرسل: سألته عن الرجل يمسّ الثعلب و الأرنب أو شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال: «لا يضرّه و لكن يغسل يده» فإنّه لو كان قوله: «لا يضرّه» مذكورا في الجواب وحده حملناه على أنّه بمعنى لا ينجس اليد بذلك، فإنّ المقام مقام السؤال عن الطهارة و النجاسة ظاهرا، و لكن بقرينة قوله بعده: «و لكن يغسل يده» يحمل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 460

على نفي

الحرمة، و يحمل قوله: «و لكن يغسل يده» على النجاسة، و لا يضرّ إطلاق المس لما إذا كان بيبوسة، فإنّه مدفوع بأنّ المرتكز في الأذهان في مثل المقام هو المس برطوبة.

و حينئذ فحيث عمّم الحكم بالنجاسة لحال الحياة أيضا، كشف عن كون الثعلب و الأرنب و السباع التي بعضها من المسوخ كالذئب نجسا عينيا.

و الجواب أوّلا: أنّ المدّعى نجاسة المسوخ، و هذا لا يدل إلّا على بعض أفرادها و لا يعلم أنّه من جهة مسخيته.

و ثانيا: أنّه معارض في الثعلب بما تقدّم ممّا دلّ على قبوله التذكية، فإنّ مقتضاه كونه طاهر العين، و في الأرنب ببعض الأخبار الدالّة على جواز استعمال وبر الأرانب، و في السباع بما دلّ على طهارة سؤرها.

و حينئذ فلا بدّ من صرف الرواية عن ظاهرها إمّا بحمل قوله: «لا يضرّه» على حال الحياة، و قوله: «لكن يغسل يده» على حال الممات فكأنّه قال: لا يضرّه حيّا و يغسل يده ميّتا. و إمّا بحمل قول السائل: حيّا أو ميّتا على أنّه لا يدري أيّهما فأجاب الإمام بعدم الضرر لعدم معلومية الموت، و قوله: «و لكن يغسل يده» محمول على الاحتياط المستحب.

و إمّا بحمل قوله: «لا يضرّه» على عدم النجاسة و حمل «يغسل يده» على الاستحباب، أمّا في الحيّ فواضح، و أمّا في الميّت فلأنّ الممسوس هو الشعر و هو طاهر من الميتة.

و منها: المصحح عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أ يصلّي فيها؟ قال: «اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره فانضحه بالماء» «1» فإنّ

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 33، من أبواب النجاسات، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 461

ظاهر الأمر بالغسل هو الوجوب

و هو إرشاد إلى النجاسة، و حيث إنّ المفروض حياة الفأرة فيكون دليلا على كونها نجس العين.

و الجواب أوّلا: أنّه لا يدل على المدّعى من نجاسة المسوخ.

و ثانيا: انّه معارض بما دلّ على طهارة الفأرة و هو رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن فأرة وقعت في حب دهن و أخرجت قبل أن تموت أبيعه من مسلم؟ قال: «نعم، و يدهن به». «1» و هذا كما ترى نصّ في الطهارة، و الأوّل ظاهر لظهور صيغة الأمر في الوجوب، و قضية الجمع رفع اليد عن الظاهر بحملها على الاستحباب.

و منها: الخبر المروي عن قرب الأسناد عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك تقع في الماء، قال: «يسكب منه ثلاث مرات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة ثمّ يشرب و يتوضّأ منه غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه». «2» فإنّه دالّ على النجاسة العينية في الوزغ، فإنّ قوله: «لا ينتفع» حكم إنشائي كاشف عن النجاسة.

و الجواب مضافا إلى ما تقدّم في السابقين انّ قوله: «غير الوزغ» استثناء من جواز الانتفاع بعد السكب ثلاث مرّات سواء في القليل و الكثير، فيكون الحكم فيه عدم الجواز حتى بعد السكب ثلاث مرّات سواء أيضا القليل و الكثير، و لفظ الكثير هنا حيث وقع في قبال القليل لو لم نقل باختصاصه بالكر، فلا شكّ في شموله بعمومه له، و حيث إنّ الكر لا يتأثّر و لا يتنجّس بسقوط الوزغ فيه و إن كان نجس العين، فالحكم فيه بعدم الانتفاع لا بد و أن لا يكون من جهة النجاسة، بل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 33، من أبواب النجاسات، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 1، ب 9، من

أبواب الأسئار، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 462

من جهة أخرى كالسّمية و نحوها، فإذا كان جهة الحكم بعدم الانتفاع في الكثير غير النجاسة، فكذلك يكون في القليل أيضا، هذا مضافا إلى معارضته مع ما دلّ على طهارة الوزغ و هو رواية علي بن جعفر عن أخيه، قال: سألته عن العظاية و الحيّة و الوزغ يقع في الماء فلا يموت أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: «لا بأس به» «1» فإنّ هذا صريح في الطهارة فيكون مؤيّدا لعدم كون علّة الحكم بعدم الانتفاع في الرواية الأولى هي النجاسة. و اذن فلا دليل مخرج للمسوخ عن القاعدة فتكون باقية تحتها، فما كان منها غير ذي نفس فميّته طاهر، و ما كان منها ذا نفس يفصل بين مذكاة فطاهر، و غير مذكّاة فنجس، و كذلك الكلام في الحشرات و السباع.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 23، من أبواب النجاسات، ص 1030، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 463

[الخامس: في الدم]
اشارة

«الخامس: الدم من كلّ ما له نفس سائلة إنسانا أو غيره، كبيرا أو صغيرا، كالسمك و البقّ و البرغوث، و كذا ما كان من غير الحيوان كالموجود تحت الأحجار عند قتل سيّد الشهداء- أرواحنا فداه-».

أمّا نجاسة دم ذي النفس فهو ممّا أجمع علماؤنا عليه، بل قيل: إنّه ممّا اتّفق عليه المسلمون، فيكون من الضروريات من غير فرق بين أن يكون من الإنسان أو غيره، مأكول اللحم أو غيره، و الأخبار أيضا دالّة عليها.

ففي رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: إنّ عليّا- عليه السّلام- كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ يكون في الثوب، فيصلّي فيه الرجل، يعني دم السمك» «1» فإنّها في غاية الظهور في

ثبوت المفهوم للوصف أعني: ما لم يذكّ و أنّ له مدخليّة في عدم رؤية البأس، فيكون المفهوم أنّه كان يرى بأسا بدم الحيوانات التي تذكّى، و المراد بالتذكية هنا بقرينة قوله: «يعني السمك» هو التذكية بالحديد.

و في رواية محمّد بن ريّان «قال: كتبت إلى الرجل- عليه السّلام-: هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث، و هل يجوز لأحد أن يقيس بدم البقّ على البراغيث فيصلّي فيه، و أن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع- عليه السّلام-: يجوز الصلاة و الطهر منه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 23، من أبواب النجاسات، ص 1031، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 464

أفضل» «1» فإنّها في غاية الظهور في أنّ المركوز في ذهن السائل نجاسة مطلق دم الحيوان، فحاول من سؤاله جواز قياس أمثال البرغوث عليه، و أنّه كما أنّ دم البرغوث لا بأس به فكذلك يكون أمثاله، أو هذا حكم مختصّ بالبرغوث، و أشباهه داخلة تحت قاعدة نجاسة الدم، و الإمام- عليه السّلام- قد قرّره على هذا.

و يمكن أن يكون مؤيّدا لذلك أيضا رواية غياث عن جعفر عن أبيه- عليهما السّلام- «قال: لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «2» إذ يمكن دعوى ظهورها في كون هذا الكلام في مقام الاستثناء عن حكم ثبوت البأس بمطلق الدم و البول، فيفهم منها مفروغيّة النجاسة و كونها أصلا و قاعدة فيهما.

و أمّا ما سوى ذلك من الأدلّة التي تمسّكوا بها لنجاسة الدم فكلّها مخدوشة، فمنها الآية الشريفة قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «3» و مبنى الاستدلال على رجوع

الضمير في فَإِنَّهُ رِجْسٌ إلى كلّ من الثلاثة، و قد عرفت في ما تقدّم فساده، و أنّ الحقّ بقرينة قوله أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ رجوعه إلى خصوص لحم الخنزير، و مع الغضّ عنه فلا أقلّ من الشكّ و كون الآية مجملة، و القدر المتيقّن هو الرجوع إلى الأخير فلا يصلح للاستدلال في الأوّلين.

و منها النبوي: «يغسل الثوب من المني و الدم و البول». و الاستدلال به مبنيّ على إطلاق لفظ الدم و شموله لدم غير الإنسان، و يمكن دعوى انصرافه إلى دم

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 23، من أبواب النجاسات، ص 1031، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 1031، ح 5.

(3)- الأنعام/ 145.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 465

الإنسان، كما ادّعينا مثل هذا الانصراف فيما تقدّم في المني، فإذا كان المني منصرفا إلى منيّ الإنسان فالظاهر أنّ الدم و البول أيضا منصرفان إلى دمه و بوله.

و منها: موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث «قال: كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّا أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه و لا تشرب» «1» و الاستدلال بها أيضا مبنيّ على ثبوت الإطلاق للفظ الدم و هو ممنوع، إذ الرواية كما ترى واردة في مقام تعليق الحكم بنجاسة الماء الذي شرب منه الطير على العلم بنجاسة منقاره و رؤية الدم فيه، و عدم الحكم بالنجاسة بمجرّد احتمال أن كان في منقاره نجاسة، فهو حينئذ حكم في موضوع الدم الذي نجس واقعا، و أمّا أنّه مطلق الدم أو دم خاصّ فليس في مقام بيان ذلك، نعم يصحّ التمسّك بها على نجاسة بعض الدماء.

و من هنا

يظهر الخدشة في الروايات الواردة في بيان حكم الدم في الصلاة كما في رواية الحلبي، «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال: لا و إن كثر» «2» فإنّها في مقام جواز الصلاة مع هذا الدم، و عدم جوازها مع غيره مع قطع النظر عن بيان أنّ الدم النجس ما هو، هذا هو الكلام في نجاسة دم ذي النفس.

و أمّا طهارة دم غير ذي النفس: فمضافا إلى إمكان دعوى الإجماع، يدلّ عليها قوله في الرواية المتقدّمة: «إنّ عليّا كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» و المراد به ما ليس قابلا للتذكية بالحديد، و هو كلّ حيوان غير ذي نفس، و أمّا قوله: «يعني

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 82، من أبواب النجاسات، ص 1100، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ص 1031، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 466

السمك» فهو من قبيل التمثيل.

و تدلّ أيضا رواية محمّد بن ريّان المتقدّمة، بناء على حمل قول السائل: «على نحو هذا» على كلّ ذي نفس و إن كان كبير الجثة، و أمّا لو كان المقصود أشباه البقّ في صغر الجثّة كما لا يبعد استظهاره، فيتمّ في كبار غير ذي النفس بعدم القول بالفصل بين الصغار و الكبار.

ثمّ إنّك عرفت أنّا لا نجد الدليل على أزيد من نجاسة دم الحيوان مع استثناء غير ذي النفس منه، و أنّ النجاسة تكون أصلا في دم الحيوان، و أمّا مطلق ما يسمّى باسم الدم و يكون من مصاديقه حقيقة و إن لم يكن مضافا إلى الحيوان و من أجزائه و فضلاته، فلا يستفاد من الأدلّة كون الأصل فيه هو النجاسة.

و

إذن فهنا بعض الأفراد من الدم مقطوع النجاسة، و هو الدم الجاري من عروق الحيوان ذي النفس، و بعض الأفراد منه مقطوع الطهارة بمقتضى أصالة الطهارة، و هو الدم المتكوّن في خارج الحيوان كالمخلوق آية لموسى بن عمران، و الموجود تحت الأحجار عند قتل سيّد الشهداء- أرواحنا و أرواح العالمين فداه- و بعض الأفراد منه مشكوك النجاسة و الطهارة، و هو العلقة المستحيلة من المني في جوف الحيوان، و العلقة المستحيلة من منيّ الديكة في جوف البيضة، و نقطة الدم الموجود في البيضة من دون استحالتها من المني.

فالظاهر أنّ الأخير لا إشكال في طهارته بعد ما عرفت من عدم كفاية مجرّد صدق الدم في الحكم بالنجاسة و لزوم كونه دم الحيوان، فإنّ هذا الدم الموجود في البيضة ليس من دم الديكة، لأنّ المفروض أنّه ليس من منيّه، و كذلك ليس من دم الدجاجة، فإنّ نفس البيضة لا تعدّ من أجزائها و تعدّ شيئا أجنبيّا منها، فالدم الذي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 467

هو مظروفها يكون كذلك بطريق أولى.

نعم يمكن القول بالنجاسة في العلقة الموجودة في البيضة، بدعوى أنّها دم حصل من رطوبة خارجة من بدن الديكة، فيكون دم الديكة، بناء على كفاية مجرّد خروج الرطوبة من الحيوان المنقلبة في الخارج منه إلى الدم في صحّة إضافة هذا الدم إلى هذا الحيوان.

كما أنّه ربّما يتشبّث لنجاسة العلقة الموجودة في بطن الحيوان أيضا بأنّها مثل الدم المنتقل من الإنسان إلى البقّ و القمّلة، حيث إنّه كان من دم الإنسان و بعد انتقاله إليهما يقال إنّه دمهما، فكذلك العلقة أيضا و إن كانت من أوّل الأمر رطوبة للحيوان المذكّر و منيّا له، لكن بعد الانتقال إلى جوف

المؤنث صار من أجزاء بدنه، خصوصا بعد ملاحظة وقوع التصرّف فيه في بدنه و صيرورته منقلبا عن صورته الأصليّة المنويّة إلى الصورة الدمويّة، و لو كان مجرّد ذلك مضرّا بصدق كونه دم المؤنّث، لجرى ذلك الإشكال في جميع دماء الحيوان، فإنّ منشأها و أصل حصولها يكون من الأغذية الخارجيّة الداخلة في الجوف.

نعم لا يصحّ أن يقال: إنّه دم المذكّر، إذ هو ما دام كان من جزء بدن المذكر لم يكن دما بل منيّا، و بعد حصول عنوان الدم له خرج عن الجزئيّة للمذكر، فالصحيح أنّها دم المؤنّث، خصوصا لو استفيد من قوله- عليه السّلام-: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» البعضيّة الحقيقية. فإنّه حينئذ يعلم أنّ العلقة أيضا جزء حقيقي بنظر الشارع و إن لم يكن كذلك بنظر العرف. كما أنّه لا إشكال أنّه على تقدير الشكّ في ما ذكرناه من جزئيّة هاتين العلقتين للمؤنث و الدجاجة فمقتضى أصالة الطهارة طهارتهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 468

[في حكم الدم المتخلّف في الذبيحة و و سائر المنافع]

«مسألة 2: المتخلّف في الذبيحة و إن كان طاهرا لكنّه حرام إلّا ما كان في اللحم ممّا يعدّ جزء منه».

اعلم أنّه قد استثني من نجاسة دم الحيوان ذي النفس الدم المتخلّف في الذبيحة بعد خروج الدم المعتاد خروجه من الذبيحة، و الدليل عليه قوله تعالى أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فإنّ مفهومه أنّ الدم الغير المسفوح حلال، و الحلّية مستلزمة للطهارة.

لكن يشكل حينئذ التفكيك بين الطهارة و الحليّة، و القول بأنّ الدم المتخلّف طاهر و لكنّه حرام، فإنّ الطهارة قد استفيدت بتبع الحليّة و من أجلها، فكيف يحكم بها دون الحلّية؟

و الجواب يظهر بتوضيح في دلالة الآية، و محصّله: أنّ الوصف فيها الظاهر أنّه قد أتي به لأجل دخله في حكم الحرمة

و أنّه للاحتراز، و ليس على حذو قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ. «1»

و أمّا المراد بالمسفوح فالظاهر أنّه الدم الخارج من الحيوان، و مقابله الدم الموجود في جوفه، و له قسمان:

الأوّل: الدم الموجود في جوف الحيوان الحيّ.

و الثاني: ما يبقى في جوف الذبيحة بعد خروج الدم المتعارف.

و القسم الأوّل ليس صالحا للحلّ أو الحرمة، فإنّه غير قابل للشرب.

فيبقى القسم الأخير مقابلا للدم المسفوح، و هو المحترز عنه بذكر هذا القيد فقط.

______________________________

(1)- سورة النساء، الآية: 23.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 469

و حينئذ نقول: دلالة الآية على نفي حكم الحرمة عن فاقد وصف المسفوحيّة أعني: المتخلّف في الذبيحة على الإطلاق. و بعبارة أخرى الأخذ بمفهوم الوصف فيها بل كلّ وصف يتوقّف على أمرين.

الأوّل: استفادة كون الوصف ممّا له دخل في ثبوت الحكم و ليس وجوده كعدمه في ذلك، و بعبارة أخرى أنّه جزء علّة لثبوت الحكم.

و الآخر استفادة الحصر و أنّ علّة الحكم منحصرة فيه، و بهذين يتم الحكم بنفي الحكم المعلّق على الوصف عن كلّ ما هو فاقد الوصف، و لو استفيد العليّة دون الحصر فلا يتمّ إلّا نفي الحكم عن بعض فاقد الوصف في الجملة لا مطلقا، لاحتمال قيام علّة أخرى مقام الوصف، و قد تقرّر تفصيل ذلك في مبحث المفاهيم من الأصول.

و بالجملة فالحكم بحليّة جميع أفراد المتخلّف في الذبيحة الذي هو المقابل للمسفوح مبتن على فهم العلية للمسفوحيّة و فهم الحصر، و الأوّل قد ذكرنا استفادته من الآية و لكنّ الثاني غير مستفاد.

فإذن يستفاد من الآية أنّ بعض أفراد المتخلّف في الجملة حلال، و لا بدّ في تعيينه من الاقتصار على المورد المتيقّن، و هو الدم الموجود في لحم الذبيحة

بحيث ينجرّ تفكيكه عن اللحم إلى الحرج و العسر.

و أمّا غيره من أفراد المتخلّف فهي مشكوكة الحرمة، و يحتمل قيام سبب آخر مقام المسفوحيّة لحرمتها، فيكون المرجع فيها إطلاق الأخبار الدالّة على حرمة أشياء من الذبيحة، و عدّ منها الدم بدون تقييد له بالمسفوح، فهذا الإطلاق يجب تقييده بالنسبة إلى ما هو المتيقّن حليّته من الآية، فإنّ النسبة بينه و بين الآية هو العموم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 470

المطلق، فيبقى بالنسبة إلى غيره سليما عن المعارض، فيكون الدم الموجود في اللحم على وجه يعدّ جزء منه و يكون في الاجتناب منه حرج حلالا بمقتضى الآية و طاهرا أيضا للملازمة بين الحليّة و الطهارة.

و أمّا سائر الأفراد فيدلّ على حرمتها الإطلاق المذكور، و أمّا طهارتها فكلّ ما أمكن إثبات طهارته منها بالإجماع فهو، و كلّ ما لم يكن لعدم تيقّنه من الإجماع يجب الرجوع فيه إلى عموم نجاسة دم ذي النفس.

فنقول: الظاهر تحقّق الإجماع على طهارة الدم المتخلّف في الذبيحة الموجود في المأكول من أجزائها، و لم يثبت الإجماع على الأزيد من هذا، فالدم الموجود في الطحال من الذبيحة و كذا غيره من الأجزاء الغير المأكولة من الذبيحة يكون عموم نجاسة دم الحيوان ذي النفس بالنسبة إليه سليما عن المخصّص.

و إذن فالدم المتخلّف في الذبيحة يكون بين أفراد ثلاثة، ما يكون حلالا و طاهرا و هو الموجود في اللحم بحيث لا يمكن انفكاكه إلّا بصعوبة فهو حلال بمقتضى الآية و طاهر بمقتضى الآية و الإجماع، و ما يكون حراما و نجسا و هو الموجود في الطحال و نحوه، أمّا حرمته فللإطلاق السليم عن المقيّد، و أمّا نجاسته فللعموم السليم عن المخصّص، و ما يكون

حراما و طاهرا و هو الموجود في الجوف أو في الأجزاء المأكولة مع عدم عسر الاجتناب عنه، أمّا حرمته فللإطلاق المذكور، و أمّا طهارته فللإجماع، هذا هو الكلام في المتخلّف في الذبيحة من مأكول اللحم، و أمّا المتخلّف في ذبيحة غير المأكول اللحم فلا إشكال في شمول عموم نجاسة دم ذي النفس له، فيحتاج إلى مخرج و هو إمّا الإجماع أو الآية، أمّا الإجماع فليس هنا على الطهارة، و أمّا الآية فهي غير شاملة لدم غير المأكول لمقطوعيّة حرمة دمه الغير المسفوح كلحمه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 471

[في حكم الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح]

«مسألة 5: الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح و يكون ذكاته بذكاة أمّه تمام دمه طاهر، و لكنّه لا يخلو عن إشكال».

أقول: أمّا الجنين الذي لم يلج فيه الروح فدمه خارج عن العمومات، لعدم كونه دم حيوان ذي نفس فهو طاهر بحكم الأصل. و أمّا الجنين الذي ولج فيه الروح فهو إمّا يخرج من بطن أمّه حيّا و هذا لا إشكال في احتياجه إلى الذبح، و لو مات قبله يحرم أكله. و إمّا يخرج ميّتا، فإن كان قد مات بذبح أمّه، فهذا هو المتيقّن بحكمهم- عليهم السلام- بأنّ ذكاة الجنين ذكاة أمّه.

و أمّا لو مات في بطن أمّه قبل ذبحها فيمكن الاستدلال على دخوله أيضا تحت هذا الحكم مضافا إلى الإطلاقات، مثل قوله- عليه السّلام-: «إذا ذبحت ذبيحة و في بطنها ولد تام فإنّ ذكاته ذكاة أمّه» «1»، فإنّه بإطلاقه شامل للولد الحيّ و للميّت بخصوص مفهوم ذيل رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث «أنّه سأله عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها؟ قال: كله فإنّه حلال، لأنّ ذكاته ذكاة

أمّه، فإن هو خرج و هو حيّ فاذبحه و كل» «2» فإنّ الصدر و إن كان ظاهرا لمكان «الفاء» في ترتّب الموت على ذبح الأمّ، و لكنّ الذيل و هو قوله: «و إن هو خرج و هو حيّ فاذبحه و كل» يمكن الاستشهاد به على أنّ المقابل له مطلق غير الخارج حيّا و إن كان موته قبل الذبح.

و بالجملة يعلم أنّ موضوع الحكم المذكور أعمّ من الموت بالذبح، و الموت قبله بقرينة جعل الطرف المقابل، الخروج حيّا، إلّا أن يقال: إنّه تشقيق في مفروض

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 18، كتاب الصيد و الذبائح، ص 270، ح 7.

(2)- ص 271، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 472

السؤال و هو الموت بالذبح، فالتشقيق راجع إلى ما بعد الذبح، يعني أنّه لو مات بالذبح فكله و إن لم يمت بالذبح و خرج حيّا فلا تأكله، فيكون الشقّ الآخر و هو الموت قبل الذبح مسكوتا عنه.

و كيف كان ففي صورة الموت بعد الذبح لا إشكال في اندراجه تحت هذا الحكم، فنقول: مقتضى القاعدة لو لا هذا الحكم هو الحكم بالحرمة و النجاسة، فإنّه حيوان زهق عنه الروح بلا سبب شرعيّ لذكاته، فيكون ميتة و داخلا في قسم الميتة في قوله تعالى إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.

فيقع الكلام حينئذ بعد ورود الحكم المذكور عليه، و العلم بأنّ الشارع قد نزّله منزلة المذكّى، أنّ هذا التنزيل هل ناظر إلى تمام الحيثيّات بمعنى: أنّه مخرج له عن الميتة و ملحق له بالمذكّى في تمام الجهات من حليّة الأكل و من طهارة الدم المتخلّف، فإنّ من آثار المذكّى الثابت له بهذه الآية طهارة دمه المتخلّف، إذ المراد بالدم الغير

المسفوح الدم المتخلّف في المذكّى دون الحيّ- لما تقدّم- و دون الميتة لكونها مجعولة في الآية في مقابله دما مسفوحا، أو أنّه تنزيل في خصوص هذه الجهة أعني حليّة الأكل و ليس بناظر إلى غيرها؟ و حيث إنّ المتيقّن هو الجهة الأولى يلزم الاقتصار و عدم التعدّي إلى غيرها، فيكون دم الجنين الذي ذكاته بذكاة أمّه نجسا بتمامه على قاعدة دم ذي النفس.

[في حكم الدم المتخلف في الصيد بعد خروج روحه بآلة الصيد]

«مسألة 6: الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد في طهارة ما تخلّف فيه بعد خروج روحه إشكال و إن كان لا يخلو عن وجه، و أمّا ما خرج منه فلا إشكال في نجاسته».

لا إشكال في أنّه أيضا مشمول للقاعدة، فيحتاج في خروجه عنها إلى مخرج من إجماع أو دليل لفظي، أمّا الإجماع فالمتيقّن منه طهارة المتخلّف في قسمين من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 473

المذكّى المذبوح و المنحور، و أمّا في غير هذين من سائر الأقسام فلم يثبت.

نعم يمكن أن يقال: إنّ كلّ حيوان يذكّى بحدوث أمر في جسده من ذبح، أو نحر أو وصول آلة الصيد أو غيرها من أسباب التذكية- لا ما يحكم عليه بالذكاة بدون ذلك كالجنين في بطن الأمّ- فهذا كلّه مشمول لقوله تعالى أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فيدلّ على الحليّة و الطهارة في خصوص الدم المختلط باللحم الشاقّ تخليصه عن اللحم، دون المختلط به بدون مشقّة تخليصه أو المجتمع في الجوف أو الملتصق بالجزء الغير المأكول.

[في حكم الدم المشكوك في كونه من الحيوان أم لا]

«مسألة 7: الدم المشكوك في كونه من الحيوان أو لا محكوم بالطهارة، كما أنّ الشي ء الأحمر الذي يشكّ في أنّه دم أم لا كذلك، إلى آخر المسألة».

أقول: الشبهة في ذلك إمّا شبهة مفهوميّة و إمّا مصداقيّة.

فالأولى: كما مرّ من دم العلقة المستحيلة من المني، حيث إنّه يشكّ في كونه من دم ذي النفس أو دما متكوّنا في الخارج غير منسوب إلى الحيوان، و منشأ هذا الشكّ هو الشك في مفهوم دم ذي النفس سعة و ضيقا و أنّه يشمل الرطوبة الخارجة من الحيوان المنقلبة في الخارج منه إلى الدم، فيكون غير داخل في المتكوّن المخلوق بلا نسبة إلى الحيوان، أو أنّ المفهوم الأوّل أضيق و

الثاني أوسع؟

فنقول: قاعدة الشبهة المفهوميّة أنّه لو لم يكن عموم في شي ء من الطرفين نرجع فيه إلى الأصل، فلو كان في المقام عموم على نجاسة كلي الدم ثمّ خرج منه دم غير ذي النفس و الدم المتكوّن في الخارج و بقي فيه الدم من الحيوان ذي النفس، كان المرجع هو هذا العموم فيحكم بالنجاسة.

و كذا لو كان في البين عموم على طهارة مطلق الدم و خرج منه دم ذي النفس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 474

و بقي فيه دم غيره و الدم المتكوّن كان المرجع هذا العموم، فيحكم بالطهارة.

و لكنّ المفروض خلافهما و أنّ الحكم ورد من الابتداء منقسما بقسمين و متعلّقا بموضوعين من دون عموم في البين، فمن أوّل الأمر علّق حكم النجاسة على دم ذي النفس، و الطهارة على غيره و المتكوّن، فلا محالة لا يمكن التمسّك في مورد الشكّ لا بعموم النجاسة و لا بعموم الطهارة، لكون الشبهة في الصدق و التمسّك بالعام في شبهة الصدق غير جائز.

و أمّا الثانية: و هي الشبهة المصداقيّة، فكما لو شكّ لأجل الظلمة في أنّه دم أو غير دم، فلا يمكن التمسّك هنا بالعام، لكون الشبهة أيضا في الصدق و يكون أصل الطهارة مرجعا، و كذلك لو علم كونه دما و لكن شكّ في كونه دم الحيوان ذي النفس أو دم الحيوان غير ذي النفس، كما لو شكّ في دم الحيّة و التمساح لأجل الشكّ في كونهما من ذي النفس أو غيره، فلا شكّ أنّ التمسّك بالقاعدة أيضا غير ممكن و هو شي ء مشكوك الطهارة و النجاسة، فيكون المرجع فيه الأصل، و كذلك لو علم أنّه إمّا من السمك أو من الإنسان و لم يعلم

أحدهما بعينه.

و بالجملة: ففي جميع صور الشبهة المصداقيّة يكون المرجع قاعدة الطهارة فيما لم يكن للدم المشكوك حالة سابقة، فإنّ التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة غير جائز على ما قرّر في الأصول. فلو ورد أكرم العلماء ثمّ لا تكرم الفسّاق منهم، فصار العام الأوّل بمنزلة أكرم العلماء العدول فشكّ في عدالة فرد فلا يمكن التمسّك بعموم هذا العام و هو لا يعيّن الموضوع، إلّا أن يكون هنا أصل موضوعيّ كما لو كان الحالة السابقة العدالة، فاستصحابها يوجب دخول المشكوك تحت العام، أو كان مسبوقا بالفسق فاستصحابه يوجب خروجه عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 475

و كذلك لو كان الخارج عن تحت العام معلوم الفسق، فحينئذ أيضا يمكن التمسّك فيه بالعام، لأنّ المشكوك ليس معلوم الفسق قطعا فيكون مشمولا للعام.

و في المقام ليس أصل موضوعي و لا أخذ العلم في العنوان المخرج عن العام، فإنّ المخرج دم ما لم يذكّ بالحديد واقعا لا ما علم كونه كذلك، و أيضا الدم المردّد بين كونه من السمك أو الإنسان ليس له حالة سابقة معلومة، فإذن فأصالة الطهارة فيه جارية بلا مانع.

بل نقول: إنّ الأصل الموضوعي هنا أيضا مقتضاه الطهارة، فإنّ ملاقاة الثوب لدم السمك ليس له أثر شرعا، و إنّما الأثر لملاقاته دم الإنسان، فيكون استصحاب عدم ملاقاة الثوب لدم الإنسان جاريا بلا معارضته باستصحاب عدم ملاقاته لدم السمك.

و هذا نظير ما ذكره شيخنا المرتضى في هذا المقام من طهارته من أنّه لو شكّ في الدم الموجود في البدن أو اللباس أنّه من الدماء المعفوّ عن أنقصها من الدرهم، أو ممّا لم يعف عنه كالدماء الثلاثة، فيجوز معه الدخول في الصلاة، لاستصحاب عدم ملاقاة الثوب لدم الحيض و

أخويه، فإنّ ملاقاتها موضوع للأثر الشرعيّ بالنسبة إلى هذا الأثر المبتلى به أعني: جواز الدخول في الصلاة و عدمه، و ملاقاة الدماء الأخر وجودها كعدمها، نعم هما مشتركان في أثر النجاسة و هي مقطوعة، فبالنسبة إلى الأثر المشكوك يكون الاستصحاب المذكور بلا مانع.

هذا و قد تكون الشبهة الموضوعيّة بين الدم الطاهر و الدم النجس مجرى لأصل موضوعي مقتضاه النجاسة، فلا يكون فيها مجال لأصالة الطهارة.

و من جملتها صورة لم يتعرّض لها الفقهاء و هي: ما إذا وجد بقّ يمصّ من دم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 476

الإنسان مثلا، و اعتبرنا في دم مثل البقّ ممّا ليس الدم في جوفه إلّا منتقلا إليه من دم الإنسان مثلا أنّه لا بدّ بعد المصّ من استقرار الدم في جوف البقّ بمقدار من الزمان ليخرج عن صدق كونه دم الإنسان و يصدق عليه دم البقّ، فاخرج دمه حين المصّ، و شكّ أنّ هذا الدم الخارج من البقّ هو الدم المنتقل إليه المستقرّ في جوفه بعضا من الزمان حتّى يكون طاهرا، أو أنّه هو الدم المخصوص الغير المستقرّ في جوفه بالمقدار المزبور حتّى يكون نجسا، فحينئذ يحكم بنجاسة هذا الدم لاستصحاب كونه دم ذي نفس، فإنّه نعلم أنّ هذا الدم كان في السابق دم ذي النفس و نشكّ في انقلابه و صيرورته دم غير ذي النفس، فنستصحب حالته السابقة، و هذا استصحاب موضوعيّ و هو مقدّم على الحكمي أعني: استصحاب النجاسة المعلومة سابقا، فإنّ الأصل الموضوعي مقدّم على الحكمي، مضافا إلى أنّ الاستصحاب الحكمي هنا غير محرز الموضوع بخلاف الموضوعي.

أمّا عدم الإحراز في الحكمي، فلأنّ ما هو المحرز بقائه في كلا الحالين هو الهيولى الموجودة في ضمن كلتا الصورتين،

و الهيولى ليس بموضوع للحكم الشرعي و إنّما هو الهيولى مع الصورة أعني: صورة كونه دم ذي النفس، و المفروض أنّ الشكّ في بقاء هذه الصورة و تبدلها بصورة كونه دم غير ذي النفس، فما هو الموضوع غير محرز و ما هو المحرز غير موضوع.

و أمّا الإحراز في الاستصحاب الموضوعي فلأنّ الموضوع فيه هو الهيولى و هو باق في كلا الحالين بالبداهة و الضرورة، فإنّا نقطع فيما إذا أخذنا الموم في كفّنا و جعلناه بإشكال عديدة و صور كثيرة أنّ شيئا موجودا في الكفّ في جميع هذه الصور و الأشكال موجود، لا أنّه عند طريان كلّ صورة صار الموجود في الكفّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 477

معدوما صرفا و وجد بلا فصل فيه موجود آخر، و بالجملة، بقاء الهيولى في ضمن الصور يكون من الواضحات الأوّليّة فلا يصغى إلى التشكيك فيه.

و حينئذ فنقول: إنّ هيولى الدم معلوم البقاء و هو موضوع الاستصحاب، و يقال: إنّه كان سابقا متصوّرا بصورة كونه دم ذي النفس و يشكّ في زوال هذه الصورة عنه، فالأصل بقاؤه عليها، هذا و يمكن القول في الحكمي أيضا بمحرزيّة الموضوع بجعل الموضوع فيه هو هذا الجسم الخاص بعنوان الجسميّة، فيقال: هذا الجسم الملتصق بالبدن أو اللباس كان في السابق نجسا و يشكّ الآن في زوال نجاسته فالأصل بقاؤه عليها.

و لكن يمكن الاستشكال في الاستصحاب الحكمي أيضا بأنّه مبنيّ على القول بنجاسة الدم في الباطن، فإنّ صورة الاستصحاب أنّ هذا الدم كان نجسا عند وجوده في باطن ذي النفس، و هذا مبتن على نجاسة الدم في الباطن، فيكون الإشكال من الجهتين، من وحدة الموضوع و من هذه الجهة، و لكنّ الأمر سهل بعد

جريان الاستصحاب الموضوعيّ المذكور.

و لا فرق في جريان هذا الاستصحاب الموضوعي بين ما إذا احتمل كون الدم خارجا من جلد الإنسان و احتمل خروجه من جلد البقّ حين المصّ، و بين ما إذا علم على تقدير خروجه من جلد البقّ كونه الدم المستقرّ في جوفه بعد المصّ، فإنّه حينئذ أيضا يقال: إنّ هذا الدم كان في السابق دم ذي النفس و نشكّ الآن في زوال ذلك و صيرورته دم غيره.

و لا فرق أيضا في جريانه بين ما لو قلنا بطهارة الدم الذي يمصّه البقّ من ذي النفس بمجرّد المصّ يعني أنّه يستحيل من حينه و يصدق عليه عرفا في هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 478

الحين دم البقّ، و بين ما لو قلنا بأنّه في هذا الحين لا يخرج عن صدق دم الإنسان مثلا، فإنّ غاية الأمر أنّ دائرة الشبهة الموضوعيّة على القول الأوّل أضيق منها على القول الثاني، فإنّه على الثاني يتحقّق الشبهة أيضا فيما إذا علم الخروج من جلد البقّ، و لم يعلم أنّه من دمه حين المصّ أو من دمه الكائن فيه سابقا.

و على الأوّل لا يكون هذا من أفراد الشبهة للقطع فيه بالطهارة، و إنّما يتمحّض الشبهة عليه فيما إذا احتمل الخروج من جلد الإنسان، و هذا ليس فرقا بينهما بحسب الاستصحاب المذكور، فإنّه في الشبهة الموضوعيّة متى تحقّقت و في أيّ مقام حصلت يكون جاريا في مثل هذين الدمين اللذين لهما حالة سابقة، بمعنى أنّه على تقدير كون الدم من البقّ و نحوه يعلم أنّه انتقل إليه من حيوان آخر ذي نفس، و إلّا فالبقّ ليس له بنفسه دم أصلا، كما في القمل و البرغوث و نحوهما.

و أمّا أنّ

الاستحالة و صدق دم البقّ يتحقّق حين المصّ أو لا؟ فالحقّ هو الثاني. فإنّ حال البقّ حال العلق الذي يلتصق بالبدن و يمصّ من دمه، فهو في هذا الحال الذي ينزل الدم من بدن الإنسان في جوفه لا يصدق على هذا الدم النازل أنّه دم هذا العلق و كذا البقّ.

فتحصّل أنّ الشبهة الموضوعيّة بين الدمين على قسمين: تارة لا تكون لها حالة سابقة معلومة، و حينئذ يكون الأصل الجاري فيه أصالة الطهارة مع إمكان الأصل الموضوعي الذي تقدّم، و أخرى تكون لها حالة سابقة معلومة، و حينئذ لا محيص عن الأصل الموضوعي الذي يكون مقتضاه النجاسة، و من جملة صور الشبهة الموضوعيّة بين الدم الغير الجاري فيها قاعدة الطهارة، بل يجري الأصل الموضوعي المقتضي للطهارة أو النجاسة، هو الفرعان المذكوران في المسألة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 479

فنقول: أمّا أوّلهما: و هو ما لو شكّ في نجاسة الدم المتخلّف في الذبيحة لأجل الشكّ في خروج الدم المتعارف عنه و عدمه، فالحكم فيه هو النجاسة لاستصحاب عدم خروج الدم المتعارف عنه فيكون نجسا، لأنّه دم متخلّف بالوجدان و لم يخرج المتعارف عنه بالأصل، و هذا ما عقد الإجماع على نجاسته كما عقد على طهارة الدم المتخلّف الذي خرج عنه المتعارف.

و أمّا ثانيهما: و هو ما لو علم بخروج الدم المتعارف، و لكن احتمل أن يكون بعض دم المذبح قد عاد إلى الجوف بواسطة ردّ النفس، فصار دم الجوف بواسطته نجسا. و هذا يكون له صورتان.

الأولى: أن يحتمل وقوع ردّ النفس فيما بعد خروج الدم المتعارف.

الثانية: أن يحتمل وقوعه في أثنائه و حال خروجه. و هذا أيضا يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يعلم بخروج ما عاد إلى الجوف

على تقدير العود مع بقيّة الدم الخارج، أو علم ببقائه و استهلاكه.

و الثاني: أن يحتمل على تقدير العود بقاؤه في الجوف بدون الاستهلاك أو معه و خروجه مع تتمّة الدم، فهذه ثلاث صور:

أمّا حكم الصورة الأولى و هي ما لو احتمل وقوع ردّ النفس بعد خروج تمام المتعارف و دخول بعض القطرات الموجودة في المذبح بسببه في الجوف فهو الطهارة، و ذلك لأنّ من المعلوم أنّ هذا الدم أعني: دم البطن صار دما متخلّفا طاهرا، فالشكّ إنّما هو في عروض النجاسة عليه بورود دم المذبح عليه و مزجه معه،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 480

فيكون استصحاب كونه دما متخلّفا، و كذا استصحاب عدم ورود دم المذبح عليه بلا مانع.

و أمّا استصحاب عدم ردّ النفس فهو مثبت، لأنّ ردّ النفس و عدمه ليسا بموضوعين لأثر شرعي، فلا بدّ من أن يرتّب على استصحاب عدم ردّ النفس كون الدم دما متخلّفا خالصا من الدم الخارجي حتّى يرتّب عليه الطهارة.

و أمّا الصورة الثانية و هي ما لو احتمل وقوع ردّ النفس في أثناء خروج الدم المتعارف مع العلم على تقدير وقوعه بخروج الدم العائد ثانيا، فمحكومة بالطهارة أيضا، إذ الشك واقع في المانع بعد إحراز كون الدم المتخلّف معدّا لأن يصير بخروج تمام الدم المتعارف طاهرا.

فهذا نظير ما لو شكّ في أثناء التطهير و بين الغسلتين في ملاقاة المحلّ نجاسة، فإنّه لو لاقاها يحتاج بعد الغسلة الثانية إلى غسلة أخرى، و لو لم يلاقها يصير طاهرا بالغسلة الثانية، فحينئذ و إن لم تكن الطهارة في المحلّ متيقّنة، و لكن كونه معدّا لأن يصير بالغسلة الثانية طاهرا متيقّن و الشكّ في عروض المانع عن ذلك، فيكون مقتضى الاستصحاب عدم

عروضه، و كذلك فيما نحن فيه، فإنّ الدم يقطع بكونه معدّا لأن يصير بخروج تمام المتعارف طاهرا و شكّ في عروض ما يمنعه عن ذلك، فمقتضى الاستصحاب عدم عروضه، فيكون دما متخلّفا بالقطع و الوجدان و لم يعرضه مانع عن صيرورته طاهرا بعد خروج المتعارف بالأصل.

و أمّا الصورة الثالثة: و هي ما لو وقع الشكّ في ردّ النفس، و على تقديره في البقاء مع عدم الاستهلاك، أو معه و الخروج. فأمّا استصحاب عدم الردّ فهو مثبت، لاحتياجه إلى إثبات أنّ هذا الدم متخلّف حتّى يحكم بطهارته، فإنّه موضوع هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 481

الحكم، فإن لم يكن هنا استصحاب موضوعي آخر أو كان و لكن كان معارضا بالمثل فلا مانع من قاعدة الطهارة، و أمّا إن كان موجودا بلا معارض فلا تصل النوبة إلى القاعدة.

فنقول: إنّ هنا موضوعان وجوديان يستكشف موضوعيتهما من الآية الشريفة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.

أحدهما: الدم الخارج من الذبيحة عند الذبح على الوجه الشرعي.

و الأخر: المتخلّف في بطنها بعد خروج المتعارف.

ببيان: أنّ الدم المسفوح و إن كان كما عرفت مطلق الدم المصبوب، و هو بظاهره شامل لمثل الدم الخارج من أعضاء الحيوان الحيّ عند القطع و الجرح، أو نحوهما كدم الرعاف، فيكون مقابله و هو غير المسفوح أيضا شاملا للدم المستقرّ في جوف الحيّ، و لكن قد ذكرنا أنّ الموجود في جوف الحيّ ليس موردا للتكليف، و بقرينة هذا يكون المراد بالمسفوح هو ما يخرج عند الذبح الشرعي، و أمّا الخارج عند الذبح على غير الوجه الشرعي فوصف المسفوح ليس محرّما له و دخيلا في حرمته، و كذلك دم الحيوان الميّت بغير الذبح، فإنّ علّة الحرمة و النجاسة فيهما هو الموت

دون المسفوحيّة، و الميتة جعلت في الآية مقابلة للدم المسفوح.

و على هذا فينحصر مورد الدم المسفوح في المصبوب من المذبوح بالذبح الشرعي، بل لا اختصاص له بالمذبوح لإمكان أن يقال- كما عرفت- بشموله لكلّ دم مصبوب عند التذكية من الحيوان الذي يقع عليه الذكاة بحدوث أمر في جسده من ذبح أو نحر أو غيرهما، فيكون مقابله الدم المتخلّف في المذكّى بعد خروج المسفوح منه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 482

و لا إشكال أنّ كلا من المسفوح و غير المسفوح وجوديّ مسبوق بالعدم، فإنّ دم الباطن في المذكّى إنّما يكون غير مسفوح بعد خروج المسفوح منه، فإنّ المقصود على ما عرفت هو المسفوح و غير المسفوح عند التذكية الشرعيّة، فالمسفوح موضوع للحرمة و كذا النجاسة، و غير المسفوح موضوع للحليّة و الطهارة، و لا فرق في كون هذا العنوان الوجوديّ المستحدث موضوعا للطهارة بين القول بطهارة دم الباطن و نجاسته، فإنّه على الطهارة أيضا يكون موضوع الطهارة في حال الذبح و ما بعده هو هذا العنوان، و هذا نظير طهارة نفس الحيوان حيث إنّه حال الحياة طاهر، و مع ذلك تكون طهارته عند الذبح معلّقة على التذكية، فيرتّب النجاسة باستصحاب عدم التذكية.

و حينئذ فنقول: الدم المشكوك اختلاطه بالمسفوح لا يمكن الحكم عليه بالمسفوحيّة و لا بعدمها، فإنّ كلاهما وجوديّان نظير الحيّ و الميتة، و كلاهما مسبوق بالعدم، فاستصحاب عدم كونه مسفوحا يقتضي الطهارة، و استصحاب عدم كونه غير مسفوح يقتضي النجاسة، فيتعارضان فيرجع إلى أصالة الطهارة.

و هذا بخلاف ما لو أحرز موضوع الطهارة أعني: كونه دما غير مسفوح، إمّا بواسطة العلم بخروج الدم العائد على تقدير عوده، أو العلم ببقائه مع الاستهلاك على هذا التقدير كما

هو الصورة الثانية، فإنّه يقال: إنّ هذا دم غير مسفوح بالوجدان، و نشكّ في حدوث ما يمنع عن حصول طهارته و عدمه بعد إحراز كونه معدّا لحصولها، فأصل عدم هذا المانع و نحكم بالطهارة بهذا الأصل دون القاعدة.

كما أنّه لو كان مسبوقا بكونه دما غير مسفوح و إن احتمل بقاء الدم العائد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 483

من دم المذبح بعد خروج المتعارف بدون الاستهلاك كما هو الصورة الأولى، كان استصحاب كونه دما غير مسفوح خالصا من المسفوح جاريا، و يحكم بالطهارة بهذا الأصل دون القاعدة.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا التفصيل بين ما إذا كان الشكّ لأجل احتمال عدم خروج المتعارف، و ما إذا كان لأجل احتمال ردّ النفس، ففي الأوّل يحكم بالنجاسة للأصل الموضوعي و هو استصحاب عدم الخروج، و في الثاني يحكم بالطهارة في جميع صورة الثلاث بالأصل الموضوعي في اثنتيها، و هو استصحاب كونه دما غير مسفوح و استصحاب عدم المانع، و بالحكمي في إحديها و هو قاعدة الطهارة، هذا.

و ربّما يستدلّ على أصالة النجاسة في مطلق الدم المشكوك بالشبهة الموضوعيّة بين دم ذي النفس و دم غيره بقاعدة المقتضي و المانع.

بيانه: أنّ العام ظاهر في كون موضوعه مقتضيا للحكم، و الخاص ظاهر في المانعيّة، مثلا أكرم العلماء ظاهر في كون العلم مقتضيا لوجوب الإكرام، و لا تكرم العالم الفاسق ظاهر في مانعيّة الفسق، و هكذا في المقام، فظاهر عمومات نجاسة الدم كون دم الحيوان و إن كان من غير ذي النفس مقتضيا للنجاسة، و ظاهر الخاص المخرج لدم غير ذي النفس كقوله: «إنّ عليّا- عليه السّلام- كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» هو كون عنوان غير المذكّى بالحديد

مانعا عن النجاسة، فصورة إحراز دم الحيوان و الشكّ في كونه من ذي النفس أو غيره يكون من موارد قاعدة المقتضي و المانع، و هذه القاعدة مقدّمة على قاعدة الطهارة.

و فيه: أنّ هذا الاستدلال مبنيّ على وجود عموم في البين يقتضي نجاسة دم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 484

مطلق الحيوان و هو غير موجود، فإنّ الدليل منحصر في الإجماع و الأخبار، و معقد الإجماع ليس إلّا نجاسة دم الحيوان ذي النفس السائلة، و موضوع الأخبار أيضا ليس إلّا هذا العنوان، فإنّه و إن لم يذكر فيها قيد ذي النفس، إلّا أنّ مفهوم قوله: «لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» أنّه كان يرى البأس بدم ما يذكّى، و هو ذو النفس، و مركوزيّة النجاسة في ذهن بعض الرواة مع تقرير الإمام له لا يعلم كونها بالنسبة إلى مطلق دم الحيوان، بل يناسب مع مركوزيّة نجاسة قسم خاص من الدم كدم ذي النفس، فاتّضح أنّ المقام ليس من باب ورود العام أوّلا ثمّ تقسيمه إلى قسمين بورود الخاص ثانيا، بل يكون من باب التقسيم إلى قسمين من الابتداء بورود خاصين.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 484

و مع الغضّ عن ذلك و تسليم وجود ما يقتضي نجاسة مطلق دم الحيوان نقول: ليس ظهور العموم في الاقتضاء و المخصّص في المانعيّة قاعدة جارية في جميع الموارد، بل هو تابع لمناسبات بين الأحكام و الموضوعات كما في مثال أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق منهم، و لا يقتضي استفادة ذلك في مثل هذا المثال استفادته في ما لا يدرك العرف

التناسب بين الحكم و الموضوع، فلعلّه كان المقتضي للنجاسة هو الدم المخصوص أعني: دم ذي النفس دون مطلق دم الحيوان، فيكون إخراج غيره لأجل ضيق دائرة المقتضي، لا لأجل وجود المانع.

و مع الغضّ عن ذلك و تسليم استفادة الاقتضاء و المانعيّة من العام و الخاص الموجودين في المقام نقول: إنّ قاعدة المقتضي و المانع غير مسلّمة و قد تقدّم الكلام فيها.

و ربّما يستدلّ أيضا على أصالة النجاسة في الدم المشكوك المزبور بموثّقة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 485

عمّار المتقدّمة «و إن رأيت في منقاره دما فلا تشرب منه» حيث إنّ القول المذكور بإطلاقه شامل لصورة كون الدم المرئي مشكوكا بين كونه من ذي النفس أو غيره.

و هذا أيضا فاسد، و توضيح الفساد يبتني على توضيح الاستدلال، فنقول:

هو محتمل لوجهين:

الأوّل: أن يكون مراد المستدلّ أنّ هذا الإطلاق شامل لدم ذي النفس مطلقا و دم غير ذي النفس سواء كان مجهولا أم معلوما، خرج منه دم غير ذي النفس المعلوم كونه من غير ذي النفس عنه بقوله- عليه السّلام- «كان عليّا لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» يعني ما يعلم أنّه دم ما لم يذكّ، فموضوع الطهارة ليس هذا العنوان بواقعة بل مقيّدا بالعلم، فيكون العلم قيدا للموضوع، فيكون الدم المشكوك كونه من ذي النفس أو من غيره نجسا واقعا، بحيث ليس وراء هذا الحكم فيه حكم آخر و لو كان واقعا دم غير ذي النفس.

و هذا يدفعه أنّ قوله: «كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» نصّ في كون هذا العنوان بواقعة تمام موضوع للطهارة، فيكون الإطلاق المذكور على تقدير تسليمه مقيّدا بدم غير ذي النفس الواقعي، و يبقى تحته دم ذي النفس

الواقعي.

و الثاني: أن يكون المراد أنّ الإطلاق المذكور شامل للمشكوك المذكور و يكون مفيدا فيه للحكم الظاهري، و في المعلوم كونه من ذي النفس للحكم الواقعي بمعنى: أنّه بالنسبة إلى المعلوم حكم على العنوان الواقعي، و بالنسبة إلى المشكوك ناظر إلى الدليل المخصّص، أعني: «كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذكّ» و يكون في طوله، لأنّه قد أخذ في موضوعه الشكّ في هذا الحكم، فكأنّه قيل: الدم المشكوك ورود هذا الحكم عليه لأجل الشكّ في كونه من دم ما لم يذكّ يجب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 486

الاجتناب عنه، فيكون حكما ظاهريّا في موضوع الشكّ في حكم المخصّص، مع محفوظيّة حكم المخصّص على تقدير كونه واقعا من دم ما لم يذكّ، و هذا و إن كان ممكنا إلّا أنّه خلاف ظاهر سوق العام و الخاص، فإنّ الظاهر عدم مأخوذيّة الخاصّ في موضوع حكم العام و كونهما في عرض واحد، و قد تبيّن ذلك في الأصول عند البحث عن عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

و استشكل على الاستدلال بهذه الرواية شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، بعد منع الإطلاق بما ذكرناه سابقا، من أنّ ظاهر سوق الرواية وروده في مقام بيان تقييد الحكم بعدم رؤية الدم المفروغ عن نجاسته، و بأنّ الرواية ظاهرة في الدماء النجسة بقرينة كون السؤال عن سؤر الصقر و البازي و نحوهما من سباع الطيور التي تأكل الميتة- بقوله- قدّس سرّه-:

«و ثانيا: بأنّ الرواية معارضة بذيلها المزيد عليها في الاستبصار و المرويّ في الفقيه حيث قال: «و سئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ قال: إن كان في منقاره قذر لم يتوضّأ و لم يشرب، و إن لم تعلم أنّ في منقاره

قذرا فتتوضّأ منه و اشرب» و النسبة عموم من وجه و مع التساقط نرجع إلى عموم «كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» المعتضد بالإجماع المحقّق على هذا الأصل الأصيل» انتهى كلامه- رفع في الجنان مقامه.

أقول: مبنى المعارضة كما ترى هو حمل الاستدلال على الوجه الثاني، بأن يكون المقصود إثبات النجاسة في موضوع المشكوك مع محفوظيّة الحكم الواقعي بهذا الإطلاق، إذ حينئذ يكون هذا الإطلاق معارضا بقوله في الذيل: «و إن لم تعلم أنّ في منقاره قذرا فتتوضّأ و اشرب» حيث دلّ على أنّ المشكوك القذريّة محكوم بالطهارة، و أمّا على الوجه الأوّل فلا يخفى أنّه لا معارضة في البين أصلا، فإنّ مفاد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 487

الصدر بإطلاقه أنّ الدم المشكوك كونه من ذي النفس أو غيره قذر واقعا، و إن كان في الواقع من غير ذي النفس فهو معلوم القذريّة، و ليس من موارد عدم العلم بالقذر حتّى يكون بقضيّة الذيل محكوما بالطهارة، و لا يخفى أنّ الظاهر من الاستدلال هو الوجه الأوّل دون هذا الوجه، و لهذا لم يقيّد شيخنا- قدّس سرّه- الاستشكال بالمعارضة بعدم ابتناء الاستدلال على هذا الوجه.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- ذكر في هذا المقام بعد الكلام المذكور بلا فصل مسألة اشتباه الدم المعفوّ بغيره، و كلامه لا يستقيم، و لا محيص عن الحمل على سهو الناسخ، و كلامه- قدّس سرّه- هكذا: «و لو اشتبه الدم المعفوّ بغيره فقد عرفت أنّ الأقوى العفو بمعنى: أنّ الثوب الموجود فيه هذا الدم يصلّى فيه لأصالة عدم تنجّسه بدم الحيض و أخويه، و كذلك لو وقع في البئر فنقول: الأصل عدم وقوع دم الحيض فيها، و لا يعارض بأصالة عدم ملاقاة

دم غير الحيض أو عدم وقوعه، إذ لا يخفى أنّه لا يترتّب على عدم وقوع دم غير الحيض أو عدم ملاقاته حكم شرعيّ، و الذي يترتّب عليه حكم هو وقوع دم غير الحيض لا عدم وقوعه» انتهى كلامه- رفع في الجنّة مقامه.

أقول: إنّا نفرض أن يكون أثر وقوع دم الحيض في البئر وجوب نزح الكلّ، و أثر وقوع دم غير الحيض وجوب نزح الأربعين، فعند الاشتباه يكون نزح الأربعين متيقّنا، و إنّما الشكّ في وجوب نزح الكلّ، لاحتمال كون الواقع دم الحيض و أصالة عدم وقوع دم الحيض رافعة لوجوبه.

و بعبارة أخرى: نزح الأربعين أثر لأصل الدم و هو متيقّن لتيقّن أصل الدم، و خصوص دم غير الحيض بلا أثر شرعي، و لكن خصوص دم الحيض له أثر شرعي و هو وجوب الزائد، و هذا الأثر مشكوك، للشكّ في خصوص دم الحيض، فتكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 488

أصالة عدم وقوع دم الحيض رافعا لهذا الأثر و لا يكون معارضا بأصالة عدم وقوع دم غير الحيض، فإنّ وقوع خصوص دم غير الحيض قد عرفت أنّه ليس له أثر شرعي حتّى يرتفع بأصالة عدم وقوعه بخلاف خصوص دم الحيض، فإنّ وقوعه موضوع لأثر وجوب الزائد فيجري أصالة عدم وقوعه لارتفاع هذا الأثر، فإنّ الموضوع الذي يترتّب الأثر الشرعي على وجوده فعند الشكّ فيه يترتّب على أصالة عدمه رفع هذا الأثر كما في أصالة عدم التذكية، فإنّ الحليّة و الطهارة أثران للتذكية، فيطلب بأصالة عدم التذكية رفعهما.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في بيان عدم المعارضة بقوله: «إذ لا يخفى أنّه لا يترتّب على عدم وقوع دم غير الحيض أو عدم ملاقاته حكم شرعي، و الذي

يترتّب عليه حكم هو وقوع دم غير الحيض لا عدم وقوعه» فهو بظاهره بل صريحه مناف لما ذكرناه، و الظاهر كون لفظة «الغير» الثانية زيادة من قلمه- قدّس سرّه- أو من قلم النسّاخ و رجوع الضمير في «وقوعه» إلى دم غير الحيض فيكون راجعا إلى ما ذكرنا، و محصله أنّ الأثر، أعني: وجوب نزح الزائد على الأربعين إنّما هو أثر لوقوع دم الحيض فيكون مرتفعا بأصالة عدم وقوعه، و ليس أثرا لعدم وقوع دم غير الحيض حتّى يكون مثبتا بأصالة عدم وقوعه.

و بالجملة إنّا نقول: الأصل عدم وقوع دم الحيض، و نرتّب عليه عدم وجوب الزائد، و لا يعارض ذلك بأنّ الأصل عدم وقوع دم غير الحيض فيكون نزح الجميع واجبا، و ذلك لأنّ وجوب نزح الجميع أثر لوقوع دم الحيض، فتكون أصالة عدم وقوعه جارية، و أمّا أصالة عدم وقوع دم غير الحيض فلا أثر لها شرعا فليست جارية.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 489

[السادس و السابع: في الكلب و الخنزير البريّان]

«السادس و السابع: الكلب و الخنزير البريّان دون البحريّ منهما، و كذا رطوبتهما و أجزائهما و إن كانت ممّا لا تحلّه الحياة كالشعر و العظم و نحوهما».

أمّا نجاسة أجزائهما التي لا تحلّها الحياة فيكفي في نجاستها ما دلّ على نجاسة الكلب و الخنزير، فإنّه إذا قيل: الكلب نجس يفهم العرف أنّ تمامه نجس، و هذا جار في الميتة أيضا، فقولنا: الميتة نجسة، يشمل جميع أجزائها، و لو لم يكن في بابها نصّ خاصّ على استثناء ما لا تحلّه الحياة لقيل بالتعميم فيه أيضا، و لكن كشف وروده عن استناد النجاسة في كلّ جزء إلى موت نفس هذا الجزء المتوقّف على كونه ممّا تلجه الروح، و أمّا في المقام فلم

يرد نصّ بالاستثناء بل ورد بخلافه رواية سلمان الإسكاف «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن شعر الخنزير يخرز «1» به؟ قال: لا بأس به و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي» «2» و يدلّ عليه الإطلاق في عدّة روايات.

منها: رواية الفضل بن أبي العبّاس «قال: قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن أصابه جافّا فاصبب عليه الماء». «3»

و رواية محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال: تغسل المكان الذي أصابه». «4»

______________________________

(1)- قال في مجمع البحرين: المخرز- بكسر الميم و سكون المعجمة قبل الراء المفتوحة- ما يخرز به الجراب و السقاء من الجلود، و منه الحديث: سافر بمخرزك، و خرزت الجلد خرازا، من بابي ضرب و قتل و هو كالخياط للثوب انتهى. و في شرح قاموس: و بفارسي «درفش» مى گويند.

(2)- الوسائل: ج 2، ب 13، من أبواب النجاسات، ص 1017، ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ج 12، ب 13، من أبواب النجاسات، ص 1015، ح 1.

(4)- المصدر نفسه: ص 1015، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 490

و رواية محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الكلب السلوقي؟ فقال: إذا مسسته فاغسل يدك». «1»

و رواية الخصال «نزّهوا عن قرب الكلاب، فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافّا فلينضح ثوبه بالماء». «2»

و رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر- عليهما السّلام- «قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله، فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، و

إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه، إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله» «3»، الاستثناء راجع إلى كلتا الفقرتين و كان الإمام فهم من الإصابة في السؤال أعمّ ممّا كانت مع الرطوبة أو مع الجفاف، هذه مطلقات الباب.

و لا يخفى أنّ الإصابة و المسّ للجسد أو الثوب يكون الغالب منهما في الشعر، يعني أنّ الغالب وصول اليد أو الثوب بشعر الكلب و الخنزير، فيكون المتيقّن من هذه الأخبار نجاسة الشعر.

و لكن حكى شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته عن سيّدنا المرتضى- قدّس سرّه- القول بطهارة ما لا تحلّه الحياة من الكلب و الخنزير بل نسبته ذلك إلى مذهب أصحابنا و الاستدلال عليه بالإجماع، و أنّه قال بعد ذلك: و ليس لأحد أن يقول: إنّ الشعر و الصوف من جملة الكلب و الخنزير و هما نجسان، و ذلك أنّه لا يكون من جملة الحيّ إلّا ما تحلّه الحياة، و ما لا تحلّه الحياة ليس من جملته و إن كان متّصلا به. انتهى.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 12، من أبواب النجاسات، ص 1016، ح 9.

(2)- المصدر نفسه: ص 1016، ح 11.

(3)- المصدر نفسه: ب 13، ص 1017، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 491

أقول: لعلّه- قدّس سرّه- استند في ذلك إلى رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير و يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس»، و مقصوده- قدّس سرّه- بالإجماع الإجماع على المدرك و هو حجيّة الخبر الواحد المحفوف بقرينة الصدق، فإنّ إرادة هذا كان شائعا بين المتقدّمين، و هذا وجه الجمع بين الإجماعات المتناقضة في

كلمات جماعة أو كلام واحد.

و هذا القول ضعيف لما تقدّم، و الرواية المذكورة لا تدلّ على المدّعى من طهارة شعر الخنزير و إن فرض رجوع الإشارة في قوله: «ذلك الماء» إلى ماء الدلو كما هو الظاهر دون ماء البئر، و ذلك لأنّ الحكم بعدم البأس لأجل أنّ تقاطر الماء من الحبل المذكور إلى ماء الدلو في أثناء الخروج من البئر غير معلوم و تقاطره في حال الاتّصال بماء البئر غير منجّس.

بقي الكلام في استثناء البحري [1] من الجنسين، فاعلم أنّ عنوان الكلب

______________________________

[1] اعلم أنّ للأخذ بمقدّمات الحكمة، لحمل المطلقات الموضوعة للطبيعة المهملة لا المطلقة، و بعبارة أخرى الغير الدالّة على المطلقة لا وضعا و لا انصرافا شرط هو غير الانصراف الذي مرجعه إلى التقييد، و غير القدر المتيقّن في مقام التخاطب الذي يعتبر عدمه بعض الأساتيد- طاب ثراه-، نعم هو بعض أفراد القدر المتيقّن المذكور و هو كون القيد بحيث لا يحتاج إلى ذكره لعدم ابتلاء المكلّفين بضدّه و عدم وجوده في الخارج إلّا نادرا و صار التقييد لغوا مستهجنا، نظير تقييد الماء بالعذبية، و إن كان الوجه في هذا هو الانصراف و لكنّه يشترك لما نحن فيه في هذا المعنى.

و بالجملة: فحينئذ لا يجري مقدّمات الحكمة، و وجهه أنّ منها أنّه لو كان القيد دخيلا في غرض المتكلّم- و المفروض كونه بصدد البيان- لذكر، إذ مع هذا لو لم يذكره لزم نقض الغرض، و هذا اللازم أعني نقض الغرض لا يلزم هنا، فلو حصل الابتلاء نادرا بضدّ القيد المفروض لا يمكن التمسّك بإطلاق الكلام، لإدخاله تحت الحكم، و ذلك مثل قولك: الكلب و الخنزير نجسان، فإنّهما ليسا بمنصرفين إلى البرّي دون البحري، و

لكنّ الابتلاء للعامّة إنّما هو بالبرّي بحيث

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 492

و الخنزير شامل للبحريّ أيضا، و انصرافهما إلى البرّي ليس إلّا مثل انصراف

______________________________

الكلام، إذ لا يلزم عليه نقض غرض لو لم يسمّ في كلامه هذا القيد و هو البريّة لو كان في غرضه دخيلا، فلا يتمّ هذه المقدّمة.

و هذا أيضا جار في الحيوان المتولّد من الحيوانين في جميع صوره، فإنّ دليل طهارة الغنم مثلا لا يمكن التمسّك بإطلاقه إلّا للغنم الذي كان أبواه غنمين، إذ لو كان هذا القيد دخيلا في الحكم لم يضرّ عدم التسمية و التقييد و لم يلزم نقض الغرض.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا و ما تقولون في الأصول من إطلاق المادّة في قيد القدرة و تستكشفون من عدم التقييد بالقدرة أنّها غير دخيلة في أصل المطلوب و الغرض و إن كان التكليف لا يحسن إلّا معها، و تتفرّعون على ذلك آثارا، منها القضاء على من نام عن الصلاة في تمام الوقت، و منها باب المتزاحمين و غير ذلك، فهذا الإطلاق أيّ مانع من الأخذ به هاهنا بالنسبة إلى قيد الابتلاء؟ فيقال: التكليف و إن كان لا يحسن إلّا بما هو محلّ الابتلاء، لكن إطلاق المادّة يدلّ على أنّ الغرض متعلّق بالأعمّ من المبتلى به و غيره.

قلت: لا نقول بذلك هناك من باب المقدّمات، و إنّما نقول: بأنّ من يطلب شيئا يذكر في اللفظ جميع القيود التي لها دخل في المطلوب، و كلّ قيد يذكر فيه راجع إلى المطلوب، فإذا صار اللفظ مطلقا و بلا قيد صار بحسب العرف ظاهرا في إطلاق الغرض و المطلوب و إن كان هذا القيد الغير المذكور هو القدرة التي هو شرط حسن

الطلب، و هذا الظهور مخصوص بخصوص هذا الشرط، و لعلّه لا يجري في كلّ ما يعتبر في حسن الطلب.

و إذن فلا بدّ من الرجوع في الحيوان المتولّد من الحيوانين إلى الأصول و القواعد، فإن قلنا بأنّ الجنين في بطن الكلب نجس، فلا مانع من استصحاب النجاسة بعد الولوج و الخروج و التولّد، و أمّا إن شكّ في الطهارة و النجاسة حال الجنينيّة فربّما يقال: إنّه حال المنويّة و كونه مضغة كان نجسا، فالاستصحاب مقتض للنجاسة، و لا يضرّ تبدّل الموضوع فإنّا نحكم في أوّل زمان الشك الذي يكون أوّل زمان التبدّل و لم يصل بحدّ تبدّل الموضوع بالنجاسة الاستصحابيّة، ثمّ في الزمان الثاني الذي حصل تبدّل الموضوع الأوّل و لم يصل إلى حدّ تبدّل الموضوع في الزمان الثاني باستصحاب هذه النجاسة الاستصحابيّة، و هكذا نستصحب الحكم المستصحب في الثالث في الزمان الرابع و هكذا نجري الاستصحاب في الاستصحاب إلى حال الخروج و التولّد.

و الجواب: أنّ استصحاب الحكم الظاهري سواء كان استصحابيّا أم غيره غير صحيح، أمّا فيما إذا لم يكن في البين مثل هذه التبدّلات كما لو كان إناء محكوما بالطهارة بقاعدة الطهارة أو استصحابها، فوقع قطرة دم لم يعلم وقوعها فيها أو في الأرض مثلا فلا يصحّ استصحاب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 493

الإنسان إلى ذي رأس واحد في كونه يزول بالتأمّل، و إذن فينحصر الدليل على

______________________________

الطهارة الجائية من قبل أصالة الطهارة أو استصحابها، فلأنّ الشكّ ما دام موجودا فالحكم الأصلي مقطوع، فإنّ غاية قاعدة الطهارة و استصحابها و سائر الأصول هو العلم بالخلاف، و بعد وقوع القطرة الشكّ باق بحاله و لم يتبدّل بالعلم، فبقاء حكم الأصل في الزمان الثاني مقطوع لمقطوعيّة

موضوعه و هو الشكّ، فليس في البين شكّ في بقاء الحكم الظاهري السابق حتّى يستصحب. نعم لو احتمل النسخ صحّ الاستصحاب.

و أمّا فيما إذا كان فيه مثل هذه التبدّلات، فلأنّه و إن كان في أوّل زمان التبدّل الجزئي و حصول الشكّ في الحكم يصحّ استصحاب الحال السابق كالنجاسة فيما نحن فيه، إلّا أنّ استصحاب المستصحب في الزمان الثاني في الزمان الثالث لا يخلو من حالين، لأنّه إمّا يحرز تبدّل الموضوع في الأوّل في الثالث أو يشكّ، و إمّا يحرز بقائه، فإن أحرز التبدّل أو شكّ فارتفاع الحكم الاستصحابي في هذا الزمان الثالث مقطوع، لأنّ الحكم الاستصحابي عبارة عن «أبق حكم الموضوع في الزمان الأوّل» و المفروض عدم تمشّي هذا الحكم في الزمان الثالث أمّا لإحراز التبدّل أو الشكّ، و إن أحرز بقاء الموضوع، فبقاء الحكم الاستصحابي مقطوع فلا مورد أيضا للاستصحاب في الاستصحاب.

ثمّ بعد ذلك ربّما يقال: بأنّه بعد خروج الحيوان المذكور يقطع بنجاسته إمّا ذاتا، لأنّ المفروض الشكّ في نجاسته كذلك و عدم تحقق طهارته الذاتية، و إمّا لملاقاته مع الكلب، فبعد التطهير يجري استصحاب بقاء أصل النجاسة، فإن قلنا: بأنّ النجس الذاتي يقبل النجاسة العرضيّة يكون من باب استصحاب الكلي من القسم الثالث الذي يقول بجريانه شيخنا المرتضى- طاب ثراه- و إن قلنا: بعدم قبوله للنجاسة العرضيّة فيكون من باب استصحاب الكلّي القسم الثاني.

و نظائر ذلك كثيرة، كما لو تردّد إنسان بين المسلم و الكافر ثمّ لاقاه نجس برطوبة فبعد التطهير يجري هذا الكلام، و منه أيضا فأرة المسك المتقدّمة على تقدير الشك في أصل الجزئيّة من ابتداء الأمر و احتمال كونها كالبيضة من أوّل التكوّن إذا انفصلت من الميتة، لأنّ موضع ملاقاتها

بعد التطهير يجري فيه هذا الكلام لو قلنا بعدم جريان استصحاب عدم الجزئية الأزليّة، و إلّا فهو مقدّم لكونه موضوعيّا و حاكما و سببيّا.

و منه أيضا ما لو احتمل كون الماهوت و سائر الأقمشة المشكوكة من وبر الخنزير فلاقاها نجس فبعد التطهير يجري هذا الكلام.

نعم لا يجري هذا الكلام فيما إذا كان في البين أصل موضوعي كما إذا احتمل كون المرأة التي تكون تحت حبالة شخص مرضعة لشخص آخر، فبعد الطلاق يجري فيه هذا الكلام بالنسبة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 494

طهارة البحري منهما لو لم يكن إجماع في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج «قال: سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- رجل و أنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال: ليس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنّها علاجي «1» و إنّما هي كلاب تخرج من الماء؟ فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل لا، قال: ليس به بأس». «2»

______________________________

إلى محرميّتها على الشخص الثاني، و لكنّ الأصل الموضوعي هنا و هو أصالة عدم الرضاعة يسهّل الخطب.

و كذا الكلام في ما إذا علم تنجّس الثوب مثلا بنجاسة يحتاج إلى غسلة واحدة، و احتمل وقوع قطرة بول أيضا عليه فغسل مرّة واحدة، فيجري فيه هذا الكلام لكن المقدّم استصحاب عدم وقوع البول، و كذا لو احتمل مقارنا للغسلة الثانية في النجاسة البوليّة وقوع قطرة بول أيضا يجري الكلام و يجري الأصل الموضوعي أيضا.

و الجواب عن هذا الاستصحاب في هذا المقام و المشكوك الكفر و المشكوك كونه من وبر الخنزير، و أمثالها أنّ الترديد ليس بحاصل من أوّل الوجود بين النجاسة الذاتية و العرضيّة، فإنّ الجنين المذكور حال كونه في

بطن الكلب ليس فيه إلّا احتمال النجاسة الذاتيّة دون العرضيّة للقطع بعدم تأثير ملاقاة الكلب في الباطن، و كذا الحال في سائر الأمثلة، و إذن فأصالة الطهارة قبل حصول سبب النجاسة العرضيّة جارية و محلّلة للعلم الإجمالي، إذ بعد أن صار الشي ء محكوما بالطهارة بحكم الشرع فمن آثار ذلك أنّه يتأثّر بملاقاة النجس و يعرض عليه النجاسة، و كذلك من آثاره أنّه بعد التنجس المزبور يطهر بالتطهير، فهذا الأصل يرفع احتمال النجاسة الذاتيّة و يعيّن الأمر في النجاسة العرضيّة، فيرتفع الإجمال بسببه من البين.

نعم لو كان شي ء من أوّل الوجود مردّدا بين الأمرين ثمّ ما ذكر من استصحاب الكلّي، و إذن فالحكم في مسألتنا- بعد أنّ الحكم بنجاسة الكلب لا يدلّ على نجاسة الجنين في بطنه لأنّه شي ء منفصل عنه مثل البيضة في الطير، و لا يمكن التمسّك أيضا ب «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» حيث يدلّ على أنّ النجاسة الموتيّة تسري من الأمّ فيما إذا كان قابلا للتذكية إلى الجنين فيفهم أنّ النجاسة العينيّة أيضا كذلك لوضوح أنّه قياس- ليس إلّا الطهارة بقاعدتها. منه- رحمة اللّٰه عليه.

______________________________

(1)- قال في مجمع البحرين: قوله: و هو علاجي، أي و هو عملي الذي أعمله، انتهى.

(2)- الوسائل: ج 3، ب 10، من أبواب لباس المصلّي، ص 263، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 495

يفهم من كلام الإمام- عليه السّلام- أنّ مجرّد كونه لا تعيش خارج الماء و كون معيشته و حياته منوطة بالماء و كون عدم وصول الماء إليه مميتا له يكون كافيا في الحكم بعدم البأس و إن صدق عليه اسم الكلب، ثمّ من عموم هذا التعليل يستفاد الحكم في البحري من الخنزير أيضا.

«و لو اجتمع أحدهما

مع الآخر أو مع آخر فتولّد منهما ولد، فإن صدق عليه اسم أحدهما تبعه، و إن صدق عليه اسم أحد الحيوانات الأخر أو كان ممّا ليس له مثل في الخارج كان طاهرا، و إن كان الأحوط الاجتناب عن المتولّد منهما إذا لم يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة، بل الأحوط الاجتناب عن المتولّد من أحدهما مع طاهر إذا لم يصدق عليه اسم ذلك الطاهر، فلو نزى كلب على شاة، أو خروف على كلبة و لم يصدق على المتولّد منهما اسم الشاة، فالأحوط الاجتناب عنه و إن لم يصدق عليه اسم الكلب».

مجمل الكلام في المتولّد من كلب و خنزير، أنّه لا إشكال في ما لو صدق عليه اسم أحدهما، و أمّا لو لم يصدق عليه اسم أحدهما و صدق عليه اسم غيرهما من الحيوانات الآخر كما لو كان عجلا مثلا، و إن كان فرضا غير واقع ظاهرا، أو لم يصدق عليه اسم غيرهما أيضا، فالكلام في هاتين الصورتين على حسب القاعدة أنّه لا مانع في الأولى من التمسّك بدليل حلية هذا الطاهر و طهارته، و لو فرض الانصراف الحقيقي فأصالة الطهارة و أصالة الحلّ كافيتان.

و أمّا الصورة الثانية، فالكلام فيها أنّه و إن قيل بطهارة المتولّد و حرمته بمقتضى الأصل فيهما، لكن قد تقرّر في محلّه عدم تماميّة ذلك و أنّ الأصل في غير الكلب و الخنزير هو قبول التذكية، فلا مانع أيضا من إجراء أصالة الطهارة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 496

و الحليّة.

بقي الكلام في ما ورد في حرمة الشاة التي شربت لبن خنزيرة حتّى اشتدّ عظمه، و حرمة نسله و نجاستهما، فربّما يقال بأنّه إذا كانت هذه الشاة و نسلها محرّمة نجسة فما

تكوّن من نطفة الكلب في بطن الخنزيرة أو العكس يكون كذلك بطريق أولى، و يمكن أن يقال: إنّ هذا مجرّد قياس لا يقبل الاعتماد، و لهذا لا نقول بمثل الحكم المزبور في الشاة التي شربت من لبن الكلبة حتّى اشتدّ عظمه.

[الثامن: في الكافر بأقسامه]

«الثامن: الكافر بأقسامه حتّى المرتد بقسميه و اليهود و النصارى و المجوس، و كذا رطوباته و أجزائه سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لا، و المراد بالكافر من كان منكرا للألوهيّة أو التوحيد أو الرسالة».

ربّما يستدلّ على نجاسة المشرك بقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» فإنّ قوله نَجَسٌ إمّا مصدر، فيكون من قبيل زيد عدل، و إمّا صفة، و على أيّ حال يفيد المدّعى من النجاسة، فإن قيل: من أين علم كون المراد به النجاسة الاصطلاحيّة التي قد رتّب عليها أحكام خاصّة؟ فلعلّ المراد به معناها اللغوي من الخباثة المعنويّة، و حيث لا دليل على تعيين أحدهما تصير الآية مجملة فلا يمكن الاستدلال بها.

يقال في الجواب أوّلا: لا بدّ أن يعلم أنّ لفظ النجاسة ليس بمشترك بين معنيين اصطلاحيّ و لغويّ، بل هو في جميع الموارد مستعمل في معنى واحد و هو القذارة، غاية الأمر أنّ هذا المعنى الواحد باختلاف نسبته إلى المتعلّقات يختلف مفاده و محصّله، مثلا إذا نسب إلى الميسر لا يفيد المعنى الذي هو موضوع الأحكام،

______________________________

(1)- التوبة/ 28.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 497

و إذا أضيف إلى الخمر يفيده، و كذلك إذا أضيف إلى النفس كما لو قيل: فلان رجس نجس بملاحظة خباثة نفسه و رذالة باطنه فليس ملازما لما هو الموضوع للأحكام، و إذا أضيف إلى الجسم كما لو قيل: فلان نجس بملاحظة هيكله و جثّته

فهذا يكون بمعنى ما هو الموضوع لها.

و على هذا فيدور الأمر في الآية المباركة بين هذين اللحاظين، و أنّ إطلاق النجس على المشركين وقع بلحاظ نفوسهم، أي هم خبيث النفس و سيئ الباطن، أو بلحاظ هياكلهم، أي هياكلهم و جثّتهم نجسة، ربّما يؤيّد إرادة الثاني بتفريع قوله فَلٰا يَقْرَبُوا فإنّه مناسب للنجاسة الظاهريّة دون الباطنيّة. و فيه أنّ الجنب و الحائض أيضا منهيّان عن الدخول في المسجد مع عدم نجاستهم إلّا بالنجاسة الباطنيّة.

و يمكن تقريب الأوّل، بأنّ المناسب بوصف المشركيّة المعلّق عليه النجاسة في الآية إرادة النجاسة الباطنية، فإنّ الشرك من أفعال النفس الناطقة، فيبعد أن يقع فعل القلب موضوعا لحكم الجوارح، فالمناسب أن يكون بمعنى أنّ المشركين خبيث أنفسهم حيث أقرّ أنفسهم بوجود الشريك للباري تعالى.

و لا يشكل على هذا بأنّه لا يتمّ الحصر حينئذ، فإنّ هذا المعنى من النجاسة أعني: الخبث الباطني موجود في منكر النبوّة و منكر الضروري و منكر الإمامة أيضا، و لا اختصاص له بمنكر الوحدانيّة، و ذلك لأنّ هذا الإشكال مشترك الورود، فإنّه لو حمل على النجاسة الظاهريّة أيضا يستشكل بأنّه لا اختصاص بالمشرك، بل الذميّ و منكر الضروري أيضا كذلك، مع عدم كونهما مشركين، و بالجملة فالآية إمّا ظاهرة في خلاف المدّعى من النجاسة الظاهريّة و إمّا مجملة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 498

ثمّ على تقدير تماميّة دلالتها فقد استدلّ على إلحاق الذميّ بالمشرك بقوله تعالى وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ إلى قوله:

سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «1» فنزّل المقالتين المذكورتين منزلة الشرك فيدلّ على النجاسة بضميمة الآية المتقدّمة.

ففيه: أنّ النصارى بجميع طوائفهم قائلون بابنيّة المسيح، كيف و هو من جملة الأقانيم الثلاثة

التي هي أركان دينهم و هي: الأب و الابن و روح القدس، و أمّا اليهود فليس الموجودون منهم في هذه الأعصار قائلون بذلك حتّى أنّهم جعلوا من جملة طعناتهم على القرآن المجيد حكاية هذا القول عن اليهود في هذه الآية مع أنّهم غير قائلين به، نعم نحن قاطعون بواسطة القطع بصدق القرآن بصدور هذه المقالة عن طائفة منهم في الأزمنة السابقة، فتدلّ الآية على نجاسة هذه الطائفة و من يقول بمقالتهم، و أين هذا من الدلالة على نجاسة هؤلاء الموجودين من اليهود المتبرّين عن هذه المقالة، هذا حال الآية.

و أمّا السنّة فهي طائفتان: طائفة ظاهرة في النجاسة، و أخرى صريحة في الطهارة، و لا بأس بذكر بعض الطائفتين تيمنا فنقول:

أمّا الطائفة الأولى فمنها: موثقة الأعرج أو حسنته قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن سؤر اليهود و النصراني أ يؤكل أو يشرب؟ فقال: «لا». «2»

و رواية ابن مسلم عن رجل صافح مجوسيّا؟ قال: «يغسل يده و لا يتوضّأ». «3»

______________________________

(1)- التوبة/ 30- 31.

(2)- الوسائل: ج 1، ب 3، من أبواب الأسئار، ص 165، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ج 2 ص 1018، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 499

و رواية أبي بصير «في مصافحة اليهودي و النصراني؟ قال: من وراء الثياب فإن صافحك بيده فاغسل يدك». «1»

و رواية عليّ بن جعفر عن أخيه «قال: سألته عن النصراني أ يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال: «إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله و يغتسل» «2» إلى غير ذلك من الأخبار.

و أمّا الطائفة الثانية فمنها: رواية إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: ما تقول في

طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكل، ثمّ سكت هنيّة، ثمّ قال: لا تأكله و لا تتركه تقول: إنّه حرام، و لكن تتركه تنزّها عنه، إنّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير». «3»

و مصحّحة ابن مسلم قال: «لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير». «4»

و رواية زكريّا بن إبراهيم قال: كنت نصرانيّا و أسلمت، فقلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إنّ أهل بيتي على دين النصرانيّة فأكون معهم في بيت واحد و آكل من آنيتهم؟ فقال: «يأكلون لحم الخنزير»؟ قلت: لا، قال: «لا بأس». «5»

و في رواية الأخرى بعد قوله: قلت لا: «و لكنّهم يشربون الخمر قال: كل معهم و اشرب» لعلّ وجه الفرق بين لحم الخنزير و الخمر أنّ لشرب الخمر آنية

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1019، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ج 2 ص 1020، ح 9.

(3)- مستدرك الوسائل: ج 2، ب 46، من أبواب النجاسات و الأواني، ص 604، ح 1.

(4)- الوسائل: ج 2، ب 72، من أبواب النجاسات، ص 1092، ح 2.

(5)- المصدر نفسه: ص 1092، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 500

مخصوصة غير الآنية المعدّة للطعام بخلاف لحم الخنزير.

و رواية إبراهيم بن أبي محمود «قال: قلت للرضا- عليه السّلام-: الجارية النصرانيّة تخدمك و أنت تعلم أنّها نصرانيّة لا تتوضّأ و لا تغتسل من جنابة؟ قال: لا بأس تغسل يديها». «1»

و صحيحة ابن سنان إنّي أعير الذمي ثوبا و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، ثمّ يردّه عليّ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-:

صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو

طاهر و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه». «2»

و مصحّحة ابن خنيس «لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها النصارى و المجوس و اليهود». «3»

و رواية أبي جميلة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- أنّه سأله عن ثوب المجوس ألبسه و أصلي فيه؟ قال: «نعم» قلت: يشربون الخمر، قال: «نعم، نحن نشتري الثياب السابرية و نلبسها و لا نغسلها». «4»

و مصحّحة ابن أبي محمود عن مولانا أبي الحسن الرضا- عليه السّلام- الخيّاط و القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا و أنت تعلم أنّه يبول و لا يتوضّأ، ما تقول في عمله؟

قال: «لا بأس».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 54، من أبواب النجاسات، ص 1077، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ب 74، من أبواب النجاسات، ص 1095، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ب 73، من أبواب النجاسات، ص 1093، ح 2.

(4)- المصدر نفسه: ص 1094، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 501

و مصحّحة العيص قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن مؤاكلة اليهودي و النصراني و المجوسي؟ فقال: «إذا كان من طعامك و توضّأ فلا بأس» «1» لعلّ التقييد من جهة عدم حلّ ذبيحة الكافر.

و موثقة عمّار: عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهوديّ؟ فقال: «نعم» فقلت: من ذلك الماء يشرب منه؟ قال: نعم» «2» و رواية علي بن جعفر المذكورة في ذيل روايته الأخيرة التي ذكرناها في أدلّة النجاسة عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟

قال: «لا إلّا أن يضطر إليه».

مقتضى الجمع بين هاتين الطائفتين لكون الأولى ظاهرة و الثانية صريحة- فإنّ عدم البأس نصّ في الطهارة،

و الأمر بالغسل ظاهر في الوجوب- هو حمل الأولى على استحباب الغسل من جهة احتمال وصول أيديهم و أوانيهم إلى لحم الخنزير و الخمر و الدم فإنّهم غير متجنّبين عنها، و حمل الثانية على طهارتهم من حيث الذات لو لا عروض النجاسة عليهم من الخارج، و يشهد لهذا الجمع أيضا ذيل رواية إسماعيل بن جابر المتقدّمة «قال: لا تأكله و لا تتركه تقول إنّه حرام، و لكن تتركه تنزّها عنه إنّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير».

إلّا أنّ المانع من هذا الحمل على ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أمران:

أحدهما: مطابقة أخبار الطهارة لمذهب العامّة فيحتمل ورودها للتقيّة و هذا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 54، من أبواب النجاسات، ص 1076، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 1، ب 3، من أبواب الأسئار، ص 165، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 502

يسهل دفعه، فإنّ الخبرين المتعارضين ما دام يمكن جمعهما دلالة لا وجه لحمل أحدهما على التقيّة، نعم لو لم يكن في البين جمع دلالي، و انحصر الأمر في طرح أحدهما فالموافق لمذهب العامّة حينئذ يكون أولى بالطرح، لكون الرشد في خلافهم.

و الثاني: ملاحظة إجماع علمائنا على النجاسة، بل نقل في التهذيب إجماع المسلمين على النجاسة، و لعلّه بالنسبة إلى الكافر في الجملة، نعم هي كذلك عند علمائنا من غير فرق بين اليهود و النصراني و المجوس و المشرك.

و بالجملة لم يحك الخلاف عمّا عدا ابن الجنيد، فإنّه قال في أحد كلامية: التجنّب من سؤر من يستحلّ المحرّمات من ملّي أو ذميّ أحبّ إليّ إذا كان الماء قليلا، و في الآخر: إنّ التجنّب ممّا صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم و في آنيتهم و ممّا صنع

في أواني مستحلّي الميتة و مؤاكلتهم ما لم يتيقّن طهارة آنيتهم و أيديهم أحوط. انتهى.

و لو لا عبارته الأولى أمكن حمل الثانية على الحرمة، فإنّ إطلاق الأحوط عليها كان شائعا بين المتقدّمين، و ظهوره في الشكّ و عدم الفتوى إنّما حدث في الأزمنة المتأخّرة، و على تقدير ظهور كلامية في المخالفة فلا يضرّ خلافه في الإجماع، فإنّه و إن كان من علماء الشيعة- رضوان اللّٰه عليهم- إلّا أنّ أقواله مرفوضة لدى الأصحاب- إلّا رضوان اللّٰه عليهم- لقوله بالقياس، بل القول بالنجاسة صار من شعار الشيعة يعرفهم به علماء العامّة و عوامهم و صبيانهم و نسائهم، بل اليهود و النصارى أيضا فضلا عن الخاصة بل يمكن دعوى كونه من ضروريّات المذهب.

نعم قد يتوهّم ظهور الخلاف من العماني حيث قال بطهارة سؤر الذمّي،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 503

و من المفيد في الرسالة الغريّة حيث قال بالكراهة و لم يعبر بالحرمة، و من الشيخ في النهاية حيث قال فيها: انّه يكره للإنسان أن يدعو أحدا من الكفّار إلى طعامه، فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يده، ثمّ يأكل معه إن شاء. انتهى.

و الإنصاف عدم ظهور الخلاف منهم.

أمّا الأوّل: فلأنّ الفقهاء- رضوان اللّٰه عليهم- قد فسّروا السؤر بالماء القليل الذي باشره جسم حيوان، و العماني قائل بطهارة الماء القليل و عدم انفعاله بملاقاة النجاسة، و ظاهر تعبيره بالسؤر أنّ لكونه سؤرا مدخلية في الحكم بالطهارة، فلا يجري في كلّ ما لاقاه بدن الكافر مع الرطوبة، و بالجملة مبنى القول المذكور قوله بعدم انفعال الماء القليل دون طهارة الذمي.

و أمّا الثاني: فيدلّ على إرادته من الكراهة الحرمة قوله في سائر كتبه بالنجاسة، و نقل تلاميذه و أتباعه الإجماع على

النجاسة، و لو كان المفيد قائلا بالطهارة كيف يصحّ من تلاميذه هذا النقل، مع كونه مؤسّسا للمذهب؟! و أمّا الثالث: فتنافي ظاهر العبارة المذكورة ما ذكره قبل هذه العبارة بأسطر قليلة، أنّه لا يجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم، و لا استعمال أوانيهم إلّا بعد غسلها بالماء، و كلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز أكله، لأنّهم أنجاس ينجسون الطعام بمباشرتهم إيّاه، انتهى. و عنه في أوّل الكتاب أنّه لا يجوز استعمال أسئار من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفّار، و حكي عنه نظيره في باب التطهير من النجاسات.

و قد حمل الحلّي- قدّس سرّه- كلامه الأوّل على أنّه ذكر مضمون الرواية إيرادا لا اعتقادا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 504

و عن المحقّق في نكت النهاية أنّه حملها على مورد الضرورة أو المؤاكلة في اليابس.

و بالجملة، الظاهر عدم مخالفة هؤلاء الأعيان أيضا. فالظاهر ثبوت الإجماع المحقّق.

و يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ثبوته عنده حيث قال في طهارته: فالإنصاف أنّ مخالفة ما عدا الإسكافي غير واضحة كما صرّح به بعض، و كم من إجماع سبقه و لحقه، فلا ينبغي التأمّل في القول بالنجاسة، انتهى.

و بالجملة: انّا لو قطعنا النظر عن الأقوال، و اعتمدنا على الأخبار، فلا شكّ في صحّتها و صراحتها في الطهارة، و لكن بعد ملاحظة الأقوال، و ملاحظة أنّ هذه الأخبار قد خرجت من تحت أيديهم و وصلت من أيديهم إلينا، فيحصل القطع بأنّ هذه الأخبار ليست على صورتها، و ورود أخبار الطهارة على وجه التقيّة، كما يؤيّده رواية الكاهلي، «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن قوم مسلمين يأكلون فحضرهم رجل مجوسي، أ يدعونه إلى طعامهم؟ فقال- عليه

السّلام-: أمّا أنا فلا أؤاكل المجوسي، و أكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم» «1» فإن الظاهر منها أنّ جهة التحريم في نفس مؤاكلة المجوسي موجودة، إلّا أنّ مرسوميّته و انتشاره في البلاد صار سببا لكراهة الإمام تحريمه، و لا يخفى أنّ مجرّد المرسوميّة و المتعارفيّة لا يوجب عدم تحريم الشي ء الموجود فيه جهته، كيف و أكثر المحرّمات الشرعيّة كانت في الصدر الأوّل متعارفة بين الناس، مثل القمار، و أكل الربا، و شرب الخمر، فليس إلّا أنّ في تحريم الإمام مع وجود الانتشار مفسدة، و هي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 14، من أبواب النجاسات، ص 1018، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 505

معروفيّة القول بالنجاسة من الشيعة على خلاف مذهب العامّة، و هذا ينافي التقيّة.

و توهّم أنّه لعل التحريم الذي كرهه الإمام لكونه مخالفا للتقيّة، كان هو التحريم لأجل عدم تجنّبهم عن النجاسات، فلا يدلّ على النجاسة الذاتية التي هي المدّعي، خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من التحريم هو النجاسة الذاتية، كما عرفته في رواية إسماعيل بن جابر المتقدّمة.

ثمّ هل نجاسة الكافر مخصوصة بأجزائه التي تحلّها الحياة، أو يعمّ الأجزاء التي لا تحلّها الحياة كالشعر و الظفر؟ دليل قول السيّد «1» باختصاص النجاسة في الكلب و الخنزير بالأجزاء الأول جار هنا أيضا، و نحن و إن اعترضنا عليه هنا بأنّ الأدلّة لا تساعد عليه، فإنّ النجاسة قد علّقت على عنواني الكلب و الخنزير فيها، و هذين الاسمين تقع على مجموع الهيكل الذي منه الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، إلّا أنّ هذا الاعتراض لا يتمّ هنا، فإنّ أدلّة النجاسة على تقدير تماميّتها، و طرح ما يعارضها لا يستفاد منها أزيد من نجاسة الأجزاء الأول،

و ذلك أنّه لم يعلّق في شي ء منها حكم النجاسة على عنوان الكافر أو ما يفيد معناه، و إنّما أمر فيها بغسل اليد عند السؤال عن مصافحتهم، و كذا نهى عن المؤاكلة معهم في قصعة واحدة، و من المعلوم أنّ المصافحة و المؤاكلة لا توجبان ملامسة ما لا تحلّه الحياة، هذا حال الأخبار.

و أمّا الآية فقد عرفت و هن دلالتها، و إذن فتكون الأجزاء الغير الحالّ فيها الحياة بلا دليل، فيكون مقتضى الأصل فيه هو الطهارة، و لهذا استشكل صاحب المعالم في هذا المقام في الحكم بالنجاسة، و إن اعترض عليه صاحب الحدائق بما

______________________________

(1)- أي السيّد المرتضى- ره- و تقدّم هذا القول عنه في بحث نجاسة الكلب و الخنزير.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 506

اعترضنا على السيّد في المقام المتقدّم، و لكن جوابه عدم وجود دليل علّق النجاسة فيه على عنوان الكافر.

هذا كلّه على تقدير الاعتماد في نجاسة الكافر بالأخبار، و أمّا لو قلنا بأنّ الأخبار صريحة في الطهارة، و اعتمدنا في الحكم بالنجاسة بالإجماع المحقّق كما هو الواقع فلا إشكال أنّ ما هو معقد إجماعهم هو نجاسة الكافر، فيكون دليلا على نجاسة تمام أجزائه.

ثمّ أولاد الكفّار هل هم تابعون لآبائهم و أمّهاتهم في النجاسة أولا؟ لا إشكال في عدم صدق اليهودي، و النصراني، و المجوسي، على الطفل إلّا إذا ميّز و صار معتقدا بعقائد هذه الأديان، فإنّه حينئذ يصدق عليه هذه الأسماء، فيكون مشمولا للإجماع، كما أنّ أطفال المسلمين إذا أقرّوا بالعقائد الإسلاميّة عن بصيرة، يجري عليهم حكم الإسلام و إن لم يبلغوا.

و لكنّ الكلام فيما قبل بلوغهم هذه المرتبة من التميّز، و حينئذ فلا يصدق عليهم اليهودي و أخواه، كما لا يصدق

على أولاد المسلمين في هذه المرتبة اسم المسلم، و أمّا تبعيّة الأولاد للآباء و الأمّهات، فليست بقاعدة كلّية مستنبطة من آية أو رواية، نعم تابعيّة الولد لأشرف الأبوين عند كفر أحدهما و إسلام الآخر قاعدة معمول بها، لكنّه لا يدلّ على التبعية المطلقة.

و أمّا بعض الأخبار الواردة بعد السؤال عن حال أطفال الكفّار، بأنّ «حالهم حال آبائهم» فالظاهر منها بيان أحوالهم في النشأة الأخرى، لا في هذه النشأة من حيث أحكام الكفر، و كذا ما ورد في جواب السؤال عن أولاد الكفّار يموتون «بأنّهم كفار» فإنّ الجميع محمول على ما ورد تفصيله في بعض أخبار أخر، من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 507

أنّه «يعرض عليهم الإسلام» إلى آخر ما ورد، و وجه ذلك أنّ ظاهر السؤال عن حال الأطفال هو كونهم معذّبين في الآخرة أو غير معذّبين، لا [من] حيث الطهارة و النجاسة، و نحوهما.

و أمّا النبويّ المعروف «كلّ مولود يولد على الفطرة، و إنّما أبواه يهوّدانه، و ينصّرانه، و يمجّسانه» فقد يستدل به على النجاسة، حيث إنّ معناه أنّ الولد على حسب طبعه و اقتضاء ذاته يكون مسلما و على الفطرة، و إنّما تهوّد أبويه أو تنصّرهما أو تمجّسهما يصير موجبا لعدم فعليّة ما هو مقتضى طبعه و اتّصافه بضدّه، يعني أنّ كون الأبوين يهوديين أو نصرانيّين أو مجوسيين يوجب صحّة نسبة هذه الأسماء إلى الولد، فيقال: إنّه يهوديّ، لأنّ أبويه كذلك.

و فيه أنّه محتمل لمعنى آخر يكون عليه دليلا على الطهارة دون النجاسة، و هو أنّ كلّ مولود يولد على الفطرة و يكون مسلما فعليّا من أوّل الوهلة، و يكون باقيا على هذا الحال إلى أن يكبر، و يلقي إليه أبواه العقائد

اليهوديّة أو النصرانيّة أو المجوسيّة، فيصيّرانه يهوديّا أو نصرانيّا أو مجوسيّا، و يؤيّد هذا المعنى ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من أنّ الموجود في بعض الكتب على ما رأينا: «حتى يكون أبواه» بدل «و إنّما أبواه» و هذا ظاهر في المعنى الثاني.

و لا يخفى أنّه على هذا المعنى يفيد طهارة كلّ مولود، قبل إضلال أبويه إيّاه لكونه مسلما فعلا، و حيث دار أمر الرواية بين المعنيين سقط عن الاستدلال، مضافا إلى ما في سنده من الضعف.

و تحقيق المقام أن يقال بأنّ تبعيّة الأولاد للآباء و الأمّهات، أمر مركوز في أذهان الناس، فإذا قال الشارع: إنّ اليهودي، و النصراني، و المجوسي نجس، يحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 508

العرف بحسب مرتكز أذهانهم بسراية النجاسة منهم إلى أطفالهم، حتّى أنّ عائشة استدلت على إثبات كون مروان طريد الرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم- بأنّ «أباك كان طريدا لرسول اللّٰه و أنت في ظهره».

و لو صحّ هذا الارتكاز و كان مسلّما لاتّضح الحكم في المتولّد من الكلب و الخنزير أيضا فيقال: إنّ العرف بعد استفادته من الشرع نجاستهما، يستبعد غاية الاستبعاد أن يكون الحيوان المتكوّن من نطفة أحدهما في بطن الآخر طاهرا، حتّى فيما إذا كان صادقا على الولد اسم حيوان طاهر، كما لو صدق عليه اسم العجل، و أمّا دليل طهارة هذا الحيوان الطاهر، فلو سلّم عدم انصرافه عن هذا الولد فليس بأزيد من الإطلاق، فيكون ارتكاز العرف أعني: التبعيّة في النجاسة و القذارة لأبويه مقيّدا لهذا الإطلاق.

بقي الكلام في المسبيّ و اللقيط: فنقول: لو سابى مسلم طفل اليهوديّ أو أخويه، فبناء على تبعيّته لوالديه في النجاسة، هل ينقطع تبعيّته لهما بسبب

سبي المسلم إيّاه، و يصير تبعا للسابي في الطهارة، أو هو باق على تبعيّته لأبويه؟ نسب الأوّل إلى جماعة من الأصحاب، و انتصره شيخنا المرتضى في طهارته مستدلا بقاعدة الطهارة، و تصوير جريان القاعدة هنا، مع أنّ المتراءى بحسب الظاهر جريان استصحاب النجاسة الثابتة قبل السبي، و وروده على القاعدة، يبتني على بيان مقدّمة حققت في فنّ الأصول، و هو أنّ من المقرّر في محلّه اشتراط صحّة الاستصحاب بعدم تغيّر الموضوع و بقائه و وحدته في حالتي اليقين و الشك ضرورة عدم صدق نقض اليقين بالشكّ مع التعدّد، فإنّه يكون من قبيل نقض الحكم المتيقّن في حقّ زيد في موضوع عمرو، و هو ليس نقضا لذاك الحكم قطعا، لكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 509

الموضوعين متغايرين غير مرتبطين، و بعد هذا فالحاكم بذلك أعني: بكون الموضوع هو نفس ما كان في الزمان السابق و عينه هل هو العقل أو العرف أو الدليل؟

و بعبارة أخرى محاكمة كون الموجود اللاحق عين الموجود السابق أو غيره هل يجب طيّها بنظر العقل أو العرف أو الدليل؟

لا إشكال في عدم إمكان كونه هو العقل، فإنّه ينسدّ باب أكثر الاستصحابات و ينحصر فيما إذا استصحب الوجود للماهيّة، كما لو استصحب وجود زيد فإنّ الموضوع للوجود هو ماهيّة زيد، فإنّ الماهيّة غير قابلة للتغيّر، و أمّا سائر الموضوعات فهي لا محالة متغيّرة بنظر العقل، و إلّا لم يعقل الشكّ في بقاء حكمها، و إنّما الكلام في أنّه العرف أو الدليل، و لا بدّ أوّلا من فهم الفرق بين هذين.

فنقول: فرق بين متفاهم العرف من لسان الدليل، و بين ما هو الموضوع للحكم بنظر العرف، فربّما يفهم العرف من قضيّة كون شي ء

واسطة في عروض الحكم على الموضوع، و غير دخيل في نفس الموضوع، و ربّما يجعل تركيب القضيّة بنحو آخر، فيفهم كون هذا الشي ء الذي رآه في التركيب الأوّل واسطة في الثبوت، جزء من الموضوع و داخلا فيه لا خارجا عنه.

مثلا لو قيل: الماء إذا تغيّر بالنجاسة ينجس، يفهم منه أنّ هنا ثلاثة أشياء:

موضوع، و محمول، و شي ء ثالث هو واسطة لثبوت المحمول للموضوع، فالموضوع هو الماء، و المحمول هو النجاسة، و الواسطة هي التغيّر، فإذا زال تغيّر الماء من قبل نفسه، و شككنا في زوال نجاسته و عدمه فلا مانع من الاستصحاب لبقاء الموضوع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 510

و هو الماء، و الزائل و هو التغيّر أمر خارج أجنبيّ عن الموضوع، و لو قيل: الماء المتغيّر بالنجاسة نجس يفهم أنّ هنا شيئين: موضوع، و محمول، فالموضوع هو الماء المتغيّر، و المحمول هو النجاسة، فعند الشك المزبور ينقطع الاستصحاب بعدم بقاء موضوعه.

و تظهر ثمرة القول بهذا فيما إذا لم يكن في البين دليل لفظي، فإنّ الحكم إمّا يثبت في الموضوع بالدليل اللفظي الذي يكون مفاده الشرطيّة فالأمر واضح، و قد يثبت بالدليل اللفظي الذي مفاده القيديّة فالأمر أيضا واضح، و قد يثبت بدليل اللبّ كالإجماع و العقل و نحوهما، كما لو ثبت حكم في موضوع بالإجماع و كان المتيقّن منه صورة اجتماعه أوصافا، فإذا فقد بعض هذه الأوصاف يشكّ في الحكم، و كذلك في حكم العقل على موضوع بالحسن أو القبح، فإنّه يمكن تحيّر العقل في موضوع حكمه، لا بمعنى تحيّره في موضوع حكمه الفعلي، بل بمعنى تحيّره في ملاك الحسن أو القبح، و أنّه موجود في الأعمّ أو في الأخصّ، فإنّ هذا ممكن

في عقولنا الناقصة، كما لو استقلّ و جزم بقبح ضرب اليتيم على وجه الظلم، و مع ذلك يشكّ في القبح و عدمه في ما إذا لم يكن ضرب اليتيم على وجه الظلم، فشكّه هذا ناش عن جهله بوجود ملاك القبح في خصوص الضرب على وجه الظلم، أو في مطلق الضرب.

و بالجملة: فعلى هذا تكون هذه الموارد التي ثبت الحكم فيها بالدليل اللبّي ملحقا بما إذا كان الدليل لفظيّا و الوصف فيه مذكورا فيه على صورة القيد، فإنّ الشكّ ثابت حينئذ في بقاء الموضوع و عدمه، إذ يحتمل أن يكون الموضوع هو المقيّد بالوصف الذي فقد، فيكون الموضوع مفقودا، فيكون الاستصحاب في الأحكام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 511

العقليّة و سائر ما يثبت بالأدلّة اللبّية غير جائز، و من جملة ذلك مسألتنا، فإنّ النجاسة في الولد قبل السبي إنّما ثبت بالدليل اللبّي و هو التبعيّة الارتكازيّة، فيشكّ أنّ ما هو المرتكز في الأذهان هل هو خصوص الولد الذي كان مع والديه، و لا يشمل ما إذا انقطع عنهما و وقع في دار المسلم و تحت يده، أو هو مطلق الولد، فيكون الشكّ في بقاء الموضوع، و المفروض عدم دليل لفظي على أنّ كلّ ولد تابع لأبويه حتى يقال: بأنّ الموضوع هو الولد و هو موجود بعد السبي كما قبله بلا فرق، و إذن فلا محيص عن عدم جريان الاستصحاب فيمكن التمسّك بالقاعدة.

و أمّا لو قيل بأنّ الحاكم هو العرف، فالمتّبع في جميع المواضع حينئذ هو العرف من غير فرق بين كون الدليل لفظيّا و لسانه الاشتراط، أو لفظيّا و لسانه التقييد، أو لبيّا، فينظر في جميع الصور أنّ ما هو الموضوع للحكم بنظر العرف هل

هو باق، أو لا؟ فإن وجدنا الموضوع العرفي باقيا فلا نبالي بعدم بقاء ما هو الموضوع بحسب لسان الدليل، ففي مورد الماء المتغيّر بالنجاسة لا شكّ أن معروض النجاسة عند العرف ليس إلّا نفس الماء، من غير مدخليّة وصف التغيّر في معروضيّته أصلا، فهو كوصف الحرارة و البرودة عندهم.

و على هذا فلو شكّ في بقاء نجاسته بسبب زوال تغيّره من قبل النفس جاز الاستصحاب، لأنّ الموضوع و هو نفس الماء باق و لم يتبدّل، و إن فرض كون الدليل واردا على وجه التقييد، و بصورة «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» و كذا الكلام في مورد ذي الجبيرة الذي يمسح بدل الغسل، حيث يشكّ في وجوب الطهارة التامّة عليه عند زوال العذر و برء الجرح، فإنّ موضوع عدم وجوب التطهّر، و جواز الدخول في الصلاة و الطواف هو نفس الشخص، و هو باق و لم يتبدّل في الحال الثاني أعني: حال البرء، فاستصحاب الحكم السابق بلا مانع و إن فرض وقوعه في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 512

الدليل مقيّدا بوصف كونه ذي الجبيرة موضوعا.

و على هذا يجري الاستصحاب في مسألتنا، فإنّ موضوع النجاسة الثابتة سابقا بنظر العرف هو جسم الولد من دون مدخليّة مصاحبته لأبويه في ذلك، و بعد الافتراق من أبويه يكون الجسم باقيا، فلا مانع من الاستصحاب، و كذا الكلام في كلّ ما ثبت الحكم فيه بالدليل اللبّي، فإنّه يراعي أنّ الموضوع للحكم الذي دلّ عليه العقل، أو الإجماع مثلا بنظر العرف ما ذا، و يعامل على طبقه في إجراء الاستصحاب و عدمه.

و المختار: كما هو المقرّر في باب الاستصحاب من علم الأصول هو هذا، و وجهه على نحو الإجمال أنّ قول الشارع «لا

تنقض اليقين بالشكّ» يكون كسائر أقواله، و خطاباته، و موارد أحكامه لا بدّ في تعيين مواردها و ورود عناوينها من الرجوع إلى العرف، فكما لو قال: الدم نجس فيرجع في تشخيص مصداق الدم إلى العرف، فكلّ ما سمّاه دما يحكم بنجاسته، و كلّ ما لم يسمّه دما لم يحكم بنجاسته، كاللون- و إن كان الحكيم يسمّيه دما من باب امتناع انتقال العرض، فيلزم بكون اللون غير منفكّ عن أجزاء صغار من الدم حتّى لا يلزم الأمر المحال- فلا يعتنى بكلامه هذا، و نجزم بطهارة لون الدم، لجزم العرف بعدم كونه دما، فكذا في هذا المقام لا بدّ أن نراجع في تشخيص مصداق نقض اليقين بالشكّ إلى العرف، فكلّ ما رآه مصداقه نحكم بأنّه مورد النهي، و كلّ ما لم يره مصداقه لم نحكم عليه بذلك.

و لا شكّ أنّه في صورة بقاء ما هو الموضوع بنظره يسمّى نقض الحكم السابق نقضا لليقين السابق بالشكّ، و إن كان لسان الدليل هو التقييد، و عدم بقاء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 513

الموضوع، و كون الموجود اللاحق مع الموجود السابق بمثابة زيد و عمرو، و إذا صدق عليه هذا المفهوم يحكم بكونه منهيّا عنه، و هذا معنى الاستصحاب، و لازم هذا كون الحاكم هو العرف دون لسان الدليل، و على هذا فالاستصحاب في المقام جار، و هو وارد على القاعدة.

و أمّا اللقيط: فنقول: لو وجد طفل لقيطا في موضع فلا يخلو إمّا أن يكون في دار الإسلام، أو في دار الحرب، و على الثاني إمّا أن يكون المسلم الذي صلح تولّد اللقيط منه متوطّنا في تلك الدار، أو لا، أو يمرّ عليها هذا المسلم، أو لا، أو غلب

عليه المسلمون، أو لا، و الحكم في الجميع واحد، و هو التمسك في طهارته بقاعدة الطهارة، و أمّا إثبات كون اللقيط مسلما أو كافرا بأماريّة وقوعه في دار الإسلام، أو دار الحرب الغير المتوطّن فيه مسلم، ثمّ إجراء أحكام الإسلام و الكفر من الطهارة و النجاسة و غيرهما عليه فلا دليل عليه، إذ لا دليل على اعتبار هذه الأمارة، فيرجع إلى قاعدة طهارة كلّ موضوع مشكوك.

نعم لو قلنا بالأماريّة فلا تفكيك في الآثار، فإمّا يرتّب جميع الآثار المرتّبة على الإسلام، و إمّا لا يرتّب جميعها و يرتّب جميع آثار الكفر، و أمّا بناء على عدم الأماريّة شرعا و الرجوع إلى القاعدة، فلا بدّ من التفكيك بين الطهارة و النجاسة و بين غيرهما من الآثار المرتّبة على موضوع المسلم، فيحكم من حيث الأوّلين بالطهارة من جهة القاعدة، و يحكم من حيث الآثار الأخر بعدم الترتّب، سواء كانت من قبيل الآثار التي كان الإسلام شرطا في ترتّبها، كوجوب تجهيز الميّت- فإنّ الإسلام شرطه- فلا يحكم بوجوب تجهيزه و دفنه و كفنه للشك في تحقّق شرط الوجوب، فيتمسّك بأصالة البراءة في رفع الوجوب، أم كانت من قبيل الآثار التي كان الكفر مانعا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 514

عنها، كما في مسألة الإرث حيث إنّ كفر الوارث مانع عن إرثه من المورّث المسلم، بل ينتقل إلى الوارث المسلم و إن كان أبعد، فلا يحكم بإرث اللقيط من مورّثه المسلم لو كان له.

نعم يقع الكلام حينئذ فيما إذا كان هناك وارث مسلم بعيد، فإنّه حينئذ يتحقّق العلم الإجمالي بأنّ تركة الميّت إمّا ملك للقيط إن كان أبواه مسلمين أو أحد أبويه مسلما، و إمّا لذاك الوارث إن كانا كافرين،

فهل يحكم حينئذ بالصلح القهري بينهما، أو ينصّف المال بينهما؟ ليس هذا موضع بيانه.

و قد فرّق شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بين القسمين الأخيرين أعني: ما كان الإسلام شرطه و ما كان الكفر مانعة، فحكم بترتّب الثاني دون الأوّل، و لعلّه لأجل استصحاب عدم المانع و لو بعدم موضوعه إذا فرض ترتّب الأثر على وجود القريب إذا تقارن مع عدم الكفر، فإنّه حينئذ يكون وجود القريب محرزا بالوجدان، و عدم المانع محرز بالأصل، لكن لا يجري هذا لو كان الموضوع هو القريب الغير الكافر، فإنّ الاستصحاب المذكور حينئذ مثبت، كما في استصحاب عدم قرشيّة المرأة المردّدة بين كونها قرشيّة حتى يحكم بحيضيّة دمها إلى الستّين، أو غير قرشيّة حتّى يكون منتهى حيضها الخمسين.

ثمّ إنّا ذكرنا حكم الكافر في قبال المسلم بالمعنى الأعم أعني: منكر الألوهيّة أو الرسالة، و أمّا من فرق الإسلام فمورد الكلام منهم طوائف:

الأولى: المخالفون و المنكرون لولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام- مع محبّتهم لأهل البيت و عدم النصب و الخارجيّة، و عدم الكون من المجسّمة أو المشبّهة، كما هو الحال في نوع العامّة. فاعلم أنّ المعروف طهارتهم، و حكي عن السيّد المرتضى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 515

- قدّس سرّه- و جماعة نجاستهم مطلقا، و عن الحلّي نجاسة ما عدا المستضعف منهم.

و ما يمكن أن يستدل به على نجاستهم ثلاثة أمور:

الأوّل: الأخبار البالغة حدّ الاستفاضة، بل التواتر الواردة على أنّ من أنكر خلافة الأمير- عليه السّلام- بلا فصل فهو كافر، و من المعلوم أنّ الكافر نجس، و الأخبار المذكورة نذكر بعضها تيمّنا، و تشريفا للكتاب.

ففي رواية أبي حمزة «قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: إنّ عليّا- عليه السّلام- باب فتحه اللّٰه،

فمن دخله كان مؤمنا، و من خرج منه كان كافرا. «1»

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: طاعة عليّ ذلّ، و معصيته كفر باللّه، قيل: يا رسول اللّٰه كيف كان طاعة علي ذلا و معصيته كفرا؟ قال: عليّ يحملكم على الحقّ فإن أطعتموه ذللتم، و إن عصيتموه كفرتم باللّه عزّ و جلّ». «2»

و في رواية إبراهيم بن أبي بكر: «سمعت أبا الحسن موسى- عليه السّلام- يقول:

إنّ عليّا- عليه السّلام- باب من أبواب الهدى، من دخل في باب- عليّ- عليه السّلام- كان مؤمنا، و من خرج منه كان كافرا، و من لم يدخل فيه و لم يخرج منه كان في طبقة الذين للّٰه فيهم المشيّة». «3»

و رواية الفضل بن يسار «قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: إنّ اللّٰه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 28، ب 10، ص 354.

(2)- الكافي: ج 2، باب 17، ص 388، ح 16.

(3)- البحار: ج 32، باب 8، ص 324، ح 301.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 516

عزّ و جلّ نصب عليّا- عليه السّلام- علما بينه و بين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالا، و من نصب معه شيئا كان مشركا، و من جاء بولايته دخل الجنّة، و من جاء بعداوته دخل النار». «1»

و في رواية إبراهيم بن بكر عن أبي إبراهيم- عليه السّلام- «إنّ عليّا- عليه السّلام- باب من أبواب الجنّة، فمن دخله كان مؤمنا، و من خرج منه كان كافرا، و من لم يدخل فيه و لم يخرج كان في الطبقة الذين للّٰه فيهم المشيّة». «2»

و عن الكافي

بسنده إلى الباقر- عليه السّلام- «قال: إنّ اللّٰه نصب عليّا علما بينه و بين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالا». «3»

و عن الصادق- عليه السّلام- «من عرفنا كان مؤمنا، و من أنكرنا كان كافرا». «4»

و عن كمال الدين عن الصادق- عليه السّلام-: «الإمام علم بين اللّٰه عزّ و جلّ و بين خلقه، من عرفه كان مؤمنا، و من أنكره كان كافرا». «5»

و عن المحاسن بسنده إلى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّه قال لحذيفة: «يا حذيفة إنّ حجّة اللّٰه عليكم بعدي عليّ بن أبي طالب، الكفر به كفر باللّه، و الشرك به شرك باللّه، و الشكّ فيه شكّ في اللّٰه، و الإلحاد فيه إلحاد في اللّٰه، و الإنكار له إنكار للّٰه، و الإيمان به إيمان باللّه، لأنّه أخو رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و وصيّه، و إمام أمّته و مولاهم، و هو حبل اللّٰه المتين،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 28، ب 10، ص 353.

(2)- المصدر نفسه: ص 354.

(3)- الكافي: ج 1، ص 437، 7.

(4)- الوسائل: ج 28، ب 10، ص 352.

(5)- المصدر نفسه: ص 344.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 517

و عروته الوثقى لا انفصام لها. الحديث» «1» إلى غير ذلك ممّا لا يطيق مثلي للإحاطة بعشر معشاره، بل و لا بقطرة من بحاره.

بيان قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «طاعة عليّ ذلّ» يعني: يورث الذلّة الدنياوية، مثلا من جملة أفعاله- عليه السّلام- التقسيم بالسويّة حتّى صار من ألقابه: القاسم بالسويّة، و هذا كان عمدة السبب لعدم انقياد المتأمّرين له- عليه السّلام- كان إذا يقسّم أموال بيت المال يسوّي

سهم المولى و عبده الذي أعتقه من قريب، و من هذا الباب قول هجر للحسن- عليه السّلام-، إذا صالح مع معاوية: يا مذلّ المؤمنين، و لهذا كان أصحابه القليلون مظلومين و تحت الصدمة و الأذى دائما.

و بالجملة فمعنى الحديث أنّ أمر الناس دائر بين شيئين، طاعة عليّ و الذلّ، أو العزّة و الكفر.

قوله- عليه السّلام-: «كان في طبقة فحالهم عند اللّٰه حال المستضعفين، فهم الواسطة بين الإيمان و الكفر.

قوله- عليه السّلام-: «و من نصب معه» أي من قال مع خلافته بخلافة شخص آخر، و أشركه عليّا في أمر الخلافة كان مشركا.

و الثاني: أنّهم منكرون للضروري فإنّ نصب الأمير في الغدير و خلافته أمر متواتر ضروري، فالمنكر له منكر للضروري و هو كافر نجس.

و الثالث: رواية الفضيل عن أبي جعفر- عليه السّلام-: «بني الإسلام على خمسة- إلى أن قال:- و لم يناد بشي ء كما نودي بالولاية» «2» فإنّ ظاهرها أنّ مبنى الإسلام على

______________________________

(1)- البحار: ج 38، ص 97، ح 14، باب 61.

(2)- الوسائل: ج 1، ب 1، من أبواب مقدمة العبادات، ص 10، ح 10.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 518

هذه الأشياء، و الولاية هو الأقوى و الأعظم منها، فيدلّ على أنّ منكر كلّ منها- خصوصا الولاية- غير مسلم، فيكون كافرا نجسا. و الكلّ مخدوش.

أمّا الأوّل: فلأنّ كونهم كفّارا كما هو مضمون الأخبار مسلّم لا شبهة فيه، و لكن لا نسلّم أنّ كلّ كافر نجس، فإنّ مدرك نجاسة الكافر إمّا الأدلّة اللفظيّة، و إمّا الإجماع، فإن كان الأوّل فقد عرفت أنّه لا يستفاد منها نجاسة غير اليهود، و النصارى، و المجوس، و إن كان الثاني فالأمر أوضح، فإنّ الإجماع هنا لو لم يكن على الطهارة،

فليس على النجاسة قطعا.

و أمّا الثاني: فلأنّ منكر الضروري إنّما يحكم بكفره و نجاسته إذا كان راجعا إلى إنكار النبوّة، فإنّ إنكار ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إنكار نبوّته و تكذيبه في دعوى الرسالة في خصوص هذا الحكم، و هذا يتوقّف على علم المنكر بكون ما ينكره ما جاء به النبي، و أمّا لو لم يعلم بذلك و لو كان عدم علمه من جهة تقصيره و مستندا إلى عدم الفحص التامّ و ثبوت التعصّب فليس إنكاره إنكارا لنبوّة النبي.

لا يقال: إنّه يلزم ذلك في حقّ كلّ منكر للضروري في سائر المقامات إذا ادّعى المنكر عدم العلم و الاطّلاع.

فإنّا نقول: هنا مرحلتان، مرحلة الإثبات و مرحلة الثبوت.

أمّا في المرحلة الأولى، فمن المحال عادة أنّ من سار في البلاد لم يصل إليه أنّ وجوب الصلاة أو ضروريّا آخر يعلمه كلّ أحد يكون من شريعة سيّد المرسلين صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فلهذا يكذّب مدّعيه.

و أمّا في الثانية، فلو علمنا أنّه غير عالم بالضروري الذي يعلمه كلّ أحد و إن كان المانع عن علمه من قبله و مستندا إلى تقصيره و تقليد الآباء و الأمّهات،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 519

فلا نسلّم كون هذا القسم من المنكر للضروري نجسا، فإنّه لا يرجع إلى إنكار النبوّة أصلا كما هو واضح، هذا هو الكلام في غالب العامّة الموصوفين بما ذكرنا و يبقى الكلام في طائفة منهم، حصل لهم الفحص التام و انجلى عليهم الحقّ و تحقّق لهم العلم، فإنّه يصدق في حقّهم إنكار ما جاء به النبي من النصب و الخلافة إمّا ظاهرا و باطنا بأن ينسب الكذب إلى رسول اللّٰه صلّى

اللّٰه عليه و آله و سلّم في هذه الواقعة صريحا، و إمّا باطنا بأن يكون إنكاره على نحو الجحود و البناء القلبي على عدم كون ما علم بأنّه ما جاء به النبي ما جاء به النبي، فإنّ هذا في الباطن أيضا إنكار للنبوّة في خصوص هذه المسألة و إن كان في الظاهر و الصورة بغير صورة التكذيب.

فنقول: إنّه على فرض ثبوت عموم في البين على نجاسة كلّ منكر للنبوّة فمن المعلوم إمكان تخصيص هذا العموم بهذا الفرد، غاية الأمر مطالبة الدليل المخصّص، فنقول:

أوّلا: يمكن الخدشة في ثبوت هذا العموم، فإنّ الأدلّة اللفظية موردها الطوائف الثلاث و هي أخصّ من منكر النبوّة، و ليس كلّ منكر للنبوّة راجعا إلى أحدها كما هو واضح، و أمّا الإجماع، فلا نعلم تحقّقه على هذا العموم.

و ثانيا: إنّه على تقدير ثبوت الإجماع على نجاسة كلّ منكر للنبوّة، فلا بدّ من تخصيص هذا العموم في هذا الفرد بالأخبار الكثيرة المرويّة في أصول الكافي البالغة حدّ القطع الواردة على أنّ الإسلام مغاير للإيمان و أعمّ منه و أنّه شهادة أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّدا صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم رسول اللّٰه، و كون هذا المقدار مورثا لترتّب أحكام، كالطهارة، و حلّ الذبيحة، و الإرث، و النكاح و نحوها، و لا شكّ أنّ المنكر المذكور قائل بهاتين الشهادتين قطعا، فكأنّهم ينسبون الكذب إلى اللّٰه و رسوله مع التصديق بوصف الإلهيّة و الرسالة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 520

و أمّا الثالث: فيبتني الجواب عنه على بيان معنى الحديث فنقول: إنّ معناه بناء الإسلام على هذه الأمور عدم كونه إسلاما قويّا مستقرّا بدون هذه الأمور، و أنّه لولاها يكون إسلاما

ضعيفا مستودعا يزول بأدنى سبب، و يكون في معرض تطاول الشياطين و تسلّطهم على إزالته بسهولة كأنّه بيت العنكبوت، و ليس على معنى أنّه بدون أحدها ينتفي الإسلام رأسا، فهو على حذو قولهم- عليهم السّلام-: «الصلاة عمود الدين» يعني أنّ استحكام الدين و استقراره بها، فبدون الصلاة يكون دينا بلا عمود لا أنّه ينتفي الدين بالمرّة.

و معنى الرواية أيضا أنّ الإسلام متى نقص منه أحد هذه الأشياء فهو كالبناء متى نقص أحد أصوله و قوائمه، فإذا فقد الولاية فهو إسلام فقد ركنه الأعظم و أصله الأقوم، فيكون في معرض الانهدام، و عدم الاستقرار كالبناء إذا وقع الخلل في معظم أساسه، و على هذا فلا دلالة فيه على نجاسة منكر الولاية.

و إذن فيمكن القطع بطهارة المخالفين، خصوصا مع ملاحظة السيرة القطعيّة المستمرّة من لدن صدر الشريعة إلى زماننا هذا من معاملة الأئمّة و أصحابهم و علمائنا معهم معاملة الطاهر، و المخالطة معهم و المباشرة و شراء مثل الخبز، و الجبن، و الماست و نحوهما من أسواقهم، و المزاوجة لهم، و معهم، و المؤاكلة معهم، و أكل ذبيحتهم، فإنّ هذا لا يبقي معه الشكّ في طهارتهم.

هذا هو الكلام في مطلق العامّة و نوعهم، و أمّا نواصبهم و خوارجهم، فلا إشكال في كفرهم بالكفر المقابل للإسلام بالمعنى الأعم و نجاستهم، و علّة ذلك أنّهم منكرون للضروري و هو محبّة عليّ بن أبي طالب- صلوات اللّٰه عليه-، و الفرق بينهم و بين مطلق العامّة أنّهم منكرون للخلافة مع قبولهم للمحبّة، و هؤلاء مع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 521

إنكار الولاية و الخلافة اتّصفوا بالبغض و العداوة، و الخلافة ليس منكرها منكر للضروري، لعدم كونها ضروريّة بل هي من

المسائل النظريّة، و أمّا مودّة ذوي القربى فهي أمر أبين من الشمس في رائعة النهار، و ورود بها صريح القرآن و متواتر الأخبار.

إذا تقرّر ذلك و علم أنّهم منكرون للضروري فإن قلنا بأنّ منكر الضروري ليس عنوانا مستقلا للنجاسة، بل لرجوعه إلى إنكار النبوّة و تكذيب النبي، فلا إشكال أنّ أكثر النصّاب و الخوارج منكرون للضروري و غير مكذّبين لرسول اللّٰه، و هم أشخاص منهم قد اشتبه عليهم الأمر لإخفاء الظالمين، و استتر و احتجب عليهم الحقّ الجليّ، و هم الطبقات المتأخّرة من هذه الطائفة المنحوسة، فإنّه ربّما كان فيما بينهم رجل مقدّس تخيّل أنّ عداوة أمير المؤمنين أمر مطلوب للّٰه و لرسوله، و مرغوب في الحقيقة، فيتقرّب إلى اللّٰه و رسوله بعداوته- صلوات اللّٰه عليه-، كما يظهر ذلك من مراجعة أحوالهم في كتب السير و التواريخ.

حتّى أنّه نقل عن رجل منهم قال: لو وجدت بين لابتيها من يحلّ شبهتي لجأت إليه ليحلّ شبهتي، فدلّوه على الباقر- عليه السّلام- فجاء نحوه و ألقى إليه أنّه كيف يحقّ للأمير- عليه السّلام- سفك دماء أصحاب الجمل؟ فرفع- عليه السّلام- شبهته بقضيّة واقعة في غزوة خيبر، و هي قول رسول اللّٰه عند إعطاء الراية لفلان و فلان مرّتين و مراجعتهم: لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّٰه و رسوله و يحبّه اللّٰه و رسوله، فقال- صلوات اللّٰه عليه-: هذا نصّ في أنّ اللّٰه و رسوله يحبّان شخص علي- عليه السّلام-، و لا يمكن أن يحبّ اللّٰه و رسوله شخصا يرجع مآل أمره إلى السوء و الشرّ، فإنّهما عالمان بعاقبة كلّ شخص، فلو كان عاقبة علي- عليه السّلام- إلى السوء لكان اللّٰه و رسوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 522

عالمين

به، و معه يمتنع حبّهما له، فحيث أحبّاه كشف عن حسن أمره إلى آخر دهره، فتقبّل ذلك و استبصر.

و لهذا أيضا قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- بعد الفراغ من قتل الخوارج:

«لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه». «1» فإنّ وجه نهيه عن محاربة الطبقة المتأخّرة منهم، أنّهم قد احتجب عليهم الحقّ و صاروا ذوي شبهة في الحقيقة و إن كان رؤساؤهم منكرين للحقّ و الضرورة علنا.

و بالجملة: فلا إشكال في أنّ رؤساء هذه الطائفة الخبيثة منكرون للضرورة، و مكذّبون للنبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و لكن من تحقّق في حقّهم الشبهة الموجودون من بعد الرؤساء، فهم و إن كانوا منكرين للضرورة، لكن لم يكونوا منكرين للنبوّة كما عرفت.

فإن قلت: كيف يمكن تحقّق الشبهة و اشتباه مثل هذا الأمر الذي نطق به القرآن العظيم بأعلى الصوت، و الأخبار المتواترة عن النبيّ الكريم؟

قلت: ليس في القرآن و الأخبار إلّا التحريض و الترغيب إلى مودّة عنوان ذوي القربى للرسول، و يمكن أن يكون هؤلاء حملوا هذه القضيّة على الحكم الذاتي الاقتضائي، يعني لو لا طروّ المانع و الجهة المقبحة على ذوي القربى، فهذا العنوان فيه مقتضى الحبّ و المودّة، و لا ينافي هذا وجود جهة فيهم صار البغض لهم مطلوبا بالعرض، كصدور الزلّة منهم «العياذ باللّه» كما هم يعتقدون، و كما هو الحال في المؤمن، فإنّه ما لم يصدر منه الزلّة يحسن محبّته و باعتبار صدور الزلّة يمكن أن يصير بغضه مطلوبا.

______________________________

(1)- الوسائل: 15، ب 26، ص 83.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 523

فإن قلت: فإن كان الأمر في هؤلاء النواصب و الخوارج على ما ذكرت فلا يتحقّق في

حقّهم إنكار الضروري، فهم غير منكرين للضروري لا أنّهم منكرون له و غير مكذّبين للنبي.

قلت: لا يلزم أن يكون الضروري ضروريّا عند المنكر، بل يكفي في صدق إطلاق منكر الضروري كون المنكر- بالفتح- أمرا معلوما عند عامّة أهل الإسلام و إن كان شرذمة قليلة منكرين له، فهو لا يقدح في ضروريته، فيصدق على هذه الشرذمة- و إن كانوا معتقدين عدم مجي ء النبيّ به- أنّهم منكرون لضرورة دين الإسلام أي: ما يعلمه عامة أهل هذا الدين و يعدّ من شعارهم.

و بالجملة: فإن قلنا بأنّ سببيّة إنكار الضرورة لنجاسة صاحبه إنّما هو من جهة رجوعه إلى تكذيب النبيّ، فلا يمكن الحكم بنجاسة غير رؤساء هذه الطائفة النجسة من هذه الجهة، بل لا بدّ فيه من التمسّك بالأدلّة الخاصّة لنجاسة عنواني الناصب و الخارجي، كما يأتي ذكرها إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا إن قلنا بأنّ هذا المعنى- أي إنكار الضروري- عنوان مستقل للنجاسة غير مربوط بتكذيب النبوّة و إنكار الرسالة، فحينئذ أيضا يمكن تعميم الحكم إلى العالم بكونه ضروريا، و الجاهل به عن تقصير، و الغافل الصرف الذي ليس فيه إلّا القصور، غاية الأمر أنّ العقوبة الأخروية مرتفعة عن الجاهل القاصر، لقبح عقابه بحكم العقل، لكن لا منافاة بين ذلك و بين كفره و نجاسته.

أمّا الكفر فإنّه عبارة عن عدم الاعتقاد بعقائد يناط الإسلام بها و الاعتقاد بخلافها.

و أمّا النجاسة فهو حكم دنيوي غير مرتبط بعالم الآخرة، كما في الكلب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 524

و الخنزير، و تصوير إنكار الضروري في حقّ الجاهل بقسميه هو ما تقدّم من أنّ الضروري يعني ما هو ضروري عند عامّة الإسلاميين، و لا يقدح خروج شرذمة قليلة و جهلهم، فيصدق

في حقّهم بمجرّد ذلك أنّهم منكرون لضروريّ ملّة الإسلام.

و يمكن التفصيل بين القسمين للجاهل و يقال: بأنّ القاصر كما لا عقوبة له في الآخرة كذلك ليس نجسا في الدنيا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ هنا ثلاثة وجوه:

الأوّل: القول بأنّ إنكار الضروري لا موضوعيّة له، و إنّما الموضوع إنكار النبوّة.

و الثاني: أنّ لهذا العنوان موضوعيّة و استقلالا برأسه، و لا فرق في إيجابه للنجاسة بين عالميّة صاحبه و جاهليّته، قاصريّته و مقصريته.

و الثالث: الفرق بين العالم و الجاهل المقصّر و بين القاصر، و المتّبع من هذه الوجوه ما يستفاد من الأدلّة العامّة الواردة في إنكار الضروري، فإن استفيد الوسط فلا حاجة في الناصبي و الخارجي إلى الأخبار الخاصّة، و إن قيل بسابقه أو لاحقه فنحتاج في الحكم بنجاسة بعضهم إلى الاستدلال بها، فالعمدة ذكر الأخبار العامّة و بيان ما يستفاد منها.

فنقول: في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام، و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدّة و انقطاع؟ فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام و عذّب أشدّ العذاب، و إن كان معترفا أنّه ذنب و مات عليها أخرجه من الإيمان، و لم يخرجه من الإسلام، و كان عذابه أهون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 525

من عذاب الأوّل». «1»

و نحوها رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال في حديث: «فقيل له: أ رأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها أ تخرجه من الإيمان، و إن عذّب بها فيكون عذابها كعذاب المشركين، أو له انقطاع؟ قال: يخرج من الإسلام إذا

زعم أنّها حلال، و لذلك يعذّب بأشدّ العذاب، و إن كان معترفا بأنّها كبيرة و أنّها عليه حرام و أنّه يعذّب عليها و أنّها غير حلال، فإنّه معذّب عليها، و هو أهون عذابا من الأوّل، و تخرجه من الإيمان و لا تخرجه من الإسلام». «2»

و في مكاتبة عبد الرحيم القصير الصحيحة عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث «قال: الإسلام قبل الإيمان، و هو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي، أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّٰه عنها، كان خارجا من الإيمان، و ثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب و استغفر عاد إلى الإيمان، و لم يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال، بأن قال للحلال هذا حرام، و للحرام هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإيمان و الإسلام إلى الكفر». «3»

و يمكن استفادة الوجه الوسط من هذه الأخبار، و بيانه: أنّ الحرام و الحلال، و الكبيرة و الصغيرة، و الفريضة و السنّة، قد يضاف هذه العناوين إلى هذه الشريعة المطهّرة بقول مطلق، فيقال: الربا حرام، و الزنا كبيرة، و الغيبة محرّمة في شريعة الإسلام، و شرب الخمر من محرّمات هذا الدين، و الماء حلال فيه و هكذا، و هذا الإطلاق إنّما هو صحيح فيما يكون حرمته أو حليّته أو وجوبه أو استحبابه من

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 2، من أبواب مقدّمة العبادات، ص 22، ح 10.

(2)- المصدر نفسه: ح 11.

(3)- المصدر نفسه: ص 25، ح 18.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 526

المسلمات و البديهيّات، و بعبارة أخرى كان حكمه شائعا بين أهل الإسلام و كان الجاهل به من المنسوبين إلى هذا الدين قليلا نادرا.

و قد

تضاف هذه العناوين و أشباهها إليه مع التقييد، و لا يصحّ التعبير بقول مطلق، و هذا فيما هو محلّ للخلاف، فكان قد ذهب قوم إلى حرمته، و آخرون إلى حلّيته و هكذا، فلا يصحّ أن يقال: إنّ هذا الشي ء من محرّمات هذه الشريعة إلّا مع التقييد بقولنا عند الطائفة الفلانيّة.

و بعد ما تبيّن لك هذا، فاعلم أنّ الجاهل بحرمة حرام شائع حرمته بين أهل الإسلام مثل شرب الخمر مثلا لو استحلّه، أو الجاهل بحلال كذلك لو استحرمه سواء كان جهله عن تقصير، أو عن قصور، فلا إشكال أنّ نفس هذا الشخص و إن كان بزعمه غير مستحلّ إلّا للحلال، و غير مستحرم إلّا للحرام، و لكن يصحّ في حقّه مع هذا الزعم أن يقال: إنّه قد استحلّ الحرام، و قد استحرم الحلال، و كذلك يصدق أنّه ارتكب الكبيرة زاعما أنّها حلال، فإنّ مادّة الزعم إنّما تستعمل في مورد إظهار الاعتقاد، و هو أخصّ من الاعتقاد.

كما وقع في موثّقة ابن بكير الواردة في لباس المصلّي، من أنّه- عليه السّلام- أخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فليس معناه أنّه اعتقد ذلك، بل معناه أنّه أخرجه باسم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و بهذا العنوان، و يقال: فلان بالباب يزعم أنّه ابن فلان يعني جاء باسم أنّه ابن فلان و بخيال ذلك، و هذا المعنى إمّا صريح في الجاهل بقسميه، فإنّ من يجهل بحرمة الحرام و من هذه الجهة يفعله يصحّ أن يقال: إنّه فعل الحرام بزعم أنّه حلال- أي بخيال أنّه حلال- و مصداق هذا القول إمّا منحصر فيه، و إمّا يعمّه بناء

على صحّة أن يقال في حقّ من يقطع بالحرمة، و مع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 527

ذلك يعقد القلب على الحلّية أنّه فعل الحرام بعنوان أنّه حلال.

و كيف كان فشموله للجاهل يقيني، و قد عرفت في هذه الأخبار الحكم بالكفر المقابل للإسلام بالمعنى الأعمّ الذي لازمة النجاسة، و عدم جريان آثار المناكح و المواريث معلّقا على هذه العناوين، فلها دلالة واضحة على أنّ منكر الضروري و إن كان غير مكذّب للنبي، بأن كان جاهلا و لو عن قصور كافر نجس، إلّا أنّه قد ورد في الأخبار استثناء الجاهل القاصر.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: لو أنّ رجلا دخل في الإسلام و أقرّ به، ثمّ شرب الخمر و زنى، و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا، إلّا أن تقوم عليه البيّنة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا، و الخمر، و أكل الربا، و إذا جهل ذلك أعلمته و أخبرته، فإن ركبه بعد ذلك جلدته و أقمت عليه الحدّ». «1»

و في رواية محمّد بن مسلم «قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: رجل دعوناه إلى جملة الإسلام فأقرّ به، ثمّ شرب الخمر و زنى، و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام، أقيم عليه الحدّ إذا جهله؟ قال: لا إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنّه قد كان أقرّ بتحريمها». «2»

و في صحيحة أبي عبيدة الحذّاء «قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: لو وجدت رجلا كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شي ء من التفسير زنى، أو سرق، أو شرب خمرا لم أقم عليه الحدّ إذا جهله،

إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنّه قد أقرّ بذلك

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، ب 14، من أبواب مقدمات الحدود، ص 323، ح 1.

(2)- المصدر نفسه، ص 324، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 528

و عرفه». «1»

و في صحيحة جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما- عليهما السلام- «في رجل دخل في الإسلام شرب خمرا و هو جاهل؟ قال: لم أكن أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا، و لكن أخبره بذلك و أعلمه، فإن عاد أقمت عليه الحدّ». «2»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث «إنّ أبا بكر أتي برجل قد شرب الخمر، فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال: إنّي أسلمت و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّونها، و لو أعلم أنّها حرام اجتنبتها، فقال علي- عليه السّلام- لأبي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار، فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شي ء عليه، ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلّي سبيله». «3»

لكن هذه الأخبار لا تنهض بتقييد تلك المطلقات إلّا بالنسبة إلى القاصر دون المقصّر، أمّا وجه دلالتها على عدم نجاسة الجاهل و عدم كفره، أنّها صريحة في درء الحدّ عنه و هو فرع عدم العصيان، فإذا لم يحصل العصيان بالفعل عن جهل فكيف يحصل الكفر و النجاسة، و أمّا عدم دلالتها على أزيد من القاصر، فلأنّ الأخير منها قضيّة في واقعة، و لعلّ الرجل المذكور كان قاصرا خصوصا مع ملاحظة سياق الرواية، و ملاحظة أنّ ذلك الزمان كان بعض المحرّمات غير منتشرة على حذو انتشاره في هذه الأزمنة، بحيث كان

الجهل بها عن قصور غير بعيد عادة بل قريبا.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، ب 14، من أبواب مقدمات الحدود، ص 324، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 324، ح 4.

(3)- المصدر نفسه: ص 324، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 529

و أمّا الأربعة الأخر، فلا إشكال أنّ القدر المتيقّن منها أيضا هو القاصر، فإنّها إمّا اخبار عن الوجدان في ذلك الزمان، و إمّا عن عدم إقامة الحدّ فيه، مع أنّ موضوعها جديد الإسلام، و لا يخفى أنّ جديد الإسلام في ذلك الزمان، يبعد فرض كون جهله بحرمة الخمر، و الزنا، و السرقة، و نحوها عن تقصير.

و بالجملة: فإطلاقات المطلقات المتقدّمة بالنسبة إلى المقصّر سليمة عن المقيّد، هذا مضافا إلى أنّ في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان و رواية مسعدة حكما بترتّب العذاب، بل أشدّيّته و هو لا يستقيم في حقّ القاصر، مع إمكان أن يقال بأنّ رواية كفر مستحلّ الحرام، و مستحرم الحلال أيضا منصرفة إلى غير القاصر.

و إذن فتحصّل أنّ الإنكار للضروري سبب مستقلّ للكفر و النجاسة، لا لأجل الرجوع إلى إنكار النبي، و لا فرق في ذلك بين العقائد و العمليات، كما ربّما يظهر الفرق بينهما من طهارة شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مستدلا بأنّ ترك التديّن في العمليّات ليس بمحرّم، و ليس العقاب فيها إلّا على مجرّد العمل، و ذلك لأنّ مقتضى ما ذكرنا استواء الحال بينهما، فمن زعم حلّية الخمر عن علم أو تقصير و لكن لم يشربه أمكن الحكم بنجاسته.

و ممّا ذكرنا علم الحال في الطائفة المتكوّنة الملعونة البابيّة- خذلهم اللّٰه-، و أنّه إن قلنا بنجاسة منكر الضروري من باب رجوع هذا إلى إنكار النبوّة، فهم و إن كانوا منكرون للضروريات الكثيرة

لكنّهم لا يكذبون النبي، بل هم مصدّقون بنبوته و إمامة الأئمّة من بعده، و ما أنكروه من الضروريات الناطق بها القرآن الكريم، مثل وجوب الصلاة و خاتميّة نبيّنا صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قد ارتكبوا فيها تأويل الآية الدالّة على هذا الضروري، فلا يمكن الحكم بنجاستهم حينئذ من هذه الجهة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 530

و أمّا على ما ذكرنا من الموضوعيّة و السببيّة المستقلّة لإنكار الضروري، فلا إشكال في نجاستهم، إذ لا إشكال في كونهم منكرين لكثير من ضروريات هذا الدين، نعم لو فرض فيهم قاصر- و إن كان يبعد ذلك غاية البعد- لم يكن بمقتضى ما ذكرنا نجسا من هذا الباب، فلا بدّ لنجاسته من التماس سبب آخر، و هو أن يقال: إنّ هذه الطائفة الخبيثة قائلون بمنسوخيّة هذه الشريعة، و بنبيّ جديد، و كتاب جديد و دين جديد، فيكون حالهم بالنسبة إلى المسلمين (بلا تشبيه) حال المسلمين بالنسبة إلى اليهود و النصارى، فكما أنّ المسلمين بمجرّد قبولهم و تصديقهم برسالة موسى- عليه السّلام- و صدق التوراة لا يصدق عليهم اسم اليهودي، و كذلك بمجرّد تصديقهم بنبوّة عيسى- عليه السّلام- و كتابه الإنجيل لا يصحّ عليهم إطلاق اسم النصارى- إذ يعتبر في صدق الاسمين الالتزام الفعلي بلوازم ذينك الدينين، و المعدوديّة من أمّة أحد هذين الرسولين و رعيّته. كذلك مجرّد تصديق هؤلاء الأرجاس بنبوّة نبيّنا و صحّة القرآن، مع عدم التزامهم فعلا بلوازم هذا الدين و عدم احتسابهم رسولهم الفعلي الذي على أوامره و نواهيه مدار أحكام اللّٰه محمّد بن عبد اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لا يوجب تسميتهم باسم المسلم، فيكون حالهم حال اليهود، و النصارى في

النجاسة و أشدّ من حال منكر الضروري، و حال قاصرهم- لو كان- حال قاصر اليهود، و النصارى فيحكم بنجاسته مع الالتزام بعدم عقوبته في الآخرة، إذ لا ملازمة بين رفع العقوبة و عدم الكفر كما عرفت في ما تقدّم.

و محصّل الكلام في النواصب و الخوارج: أنّا لو أردنا الحكم بنجاسة النواصب من جهة إنكارهم الضروري، فإن كان الحكم بنجاسة منكر الضروري لأجل تكذيب النبي، فهذا لا يستقيم في كثير من النواصب، لعدم علمهم بضروريّة ودّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 531

علي- عليه السلام- و جهلهم به و لو عن تقصير، و إن كان لأجل موضوعيّة الإنكار للضروري، كما قد استفيد من المطلقات المذكورة، فحينئذ و إن كان يشمل الجاهل المقصّر منهم، إلّا أنّك عرفت خروج القاصر بواسطة أدلّة درء الحدّ عن الجاهل بحرمة ما يوجبه، بناء على ما هو الظاهر من الملازمة بين عدم الحدّ و عدم الكفر، فلا يصير دليلا حينئذ في القصّر منهم، هذا حال الأدلّة العامّة.

و أمّا الأدلّة الخاصّة فيمكن الخدشة في كلّها، فإنّ منها ما في بعض الروايات من التعبير «بأنّ الناصب أنجس من الكلب» و هذا لا يدلّ على النجاسة الظاهرية، و يمكن أن يكون المراد أنّه أسواء حالا و أخبث باطنا من الكلب، فإنّه يقال مثل هذه العبارة في مثل هذا المقام.

و منها ما ورد في غسالة ماء الحمام الذي يغتسل فيه اليهودي، و النصراني، و الجنب، و ولد الزنا، و الناصب، من الأمر باجتناب هذا الماء، و الخدشة فيه أنّه قد أردفه بولد الزنا، و بناء المشهور على طهارته، فلا بدّ من الالتزام بعدم كون هذا الحكم فيه لأجل النجاسة، فليس دلالة فيها على النجاسة بالنسبة إلى

الناصب أيضا.

و منها ما ورد في باب النكاح من عدم جواز مناكحة الناصب، و هذا من آثار عدم الإسلام بالمعنى الأعم، و عدمه ملازم للنجاسة، و الخدشة فيه أنّه لا يعلم كون الوجه في المنع عن مناكحة الناصب كفره بهذا المعنى و نجاسته، فلعلّه كان نظير المنع عن مناكحة شارب الخمر لا كالمنع عن مناكحة الكفار، فهذا حال الأدلّة الخاصّة.

فالعمدة في الحكم بنجاسة النواصب بتمام أقسامهم من العالم و الجاهل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 532

و المقصّر و القاصر، هو الإجماع، فإنّه ربّما يمكن تحصيل القطع من الإجماعات المنقولة في المقام، و عدم ظهور مخالف بثبوت الإجماع محقّقا على نجاستهم، غاية الأمر رفع العقوبة عن قصّرهم.

نعم قد يستشكل بأنّه على هذا فما وجه ما هو المعلوم من سيرة السلف من أصحاب الأئمّة و شيعتهم من عدم الاجتناب عن هؤلاء النواصب، مع شيوعهم و كثرتهم خصوصا في أزمنة بني أميّة؟ فإنّه لم يعلم التحرّز من أحدهم، بل المعلوم عدم التحرّز و اشتراء الجلود من أسواقهم، و الحاصل عدم معاملة الكفّار معهم.

و الجواب بوجهين:

الأوّل: إمكان منع شيوع هذا المعنى حتى في تلك الأزمنة، و ربّما كان الرجل محبّا لعلي- عليه السّلام- أو غير مبغض و لا محبّ، و لكن يعدّ نفسه في عداد النواصب لأجل حقن دمه و عرضه، فلا يعلم كون المبغض له- عليه السّلام- بذلك الشيوع.

و الثاني: إمكان خفاء هذا الحكم في هذه الأزمنة، و يكون أوّل ظهوره من زمان الصادقين- عليهما السلام-، كما هو الحال في كثير من الأحكام.

ثمّ يقع الإشكال في معنى الناصب، حيث يظهر من بعض الأخبار أنّه ليس المراد به من يبغض محمّدا و آل محمّد- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين-

و إنّما المراد به من نصب العداوة لشيعتهم، أو المتبرّين من أعدائهم، و هذا المعنى يشمل عامّة المخالفين، فإنّ عداوتهم للشيعة ممّا لا ينكر، و لا يتوهّم أنّ نصبهم للشيعة من حيث هم شيعة راجع إلى نصب الأئمّة- عليهم السلام- فإنّهم زاعمون أنّ مذهب الشيعة مخترع لهم و لم يكن عليه مذاق الأئمّة، بل كانوا متبرّين من هذا المذهب، و محبّين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 533

للخلفاء، و معتقدين بحقيتهم- تعالوا عن ذلك علوا كبيرا.

و بعد وضوح نجاسة الناصب بالإجماع يلزم نجاسة العامّة قاطبة، و قد ظهر في ما تقدّم خلاف ذلك.

و الجواب: أنّه قد ثبت في ما تقدّم بالأدلّة القطعية، و هي الأخبار البالغة حدّ اليقين الفارقة بين الإسلام و الإيمان الحكم بطهارة غير المبغض للأمير- عليه السّلام- من المخالفين، و في هذا البعض المذكور من الأخبار أيضا وقع التنزيل لهم منزلة الناصب، فيحتمل كونه بلحاظ أثر النجاسة و نحوه، و يحتمل بلحاظ الآثار الأخرويّة، و لا يخفى أنّ الجمع بين هذا القطع و التنزيل المذكور الوارد في الخبر ليس إلّا بأنّ المراد هو الإلحاق لهم بالنواصب في الآثار الأخرويّة، بعد الافتراق في الأحكام الدنيويّة المرتّبة على مجرّد الإسلام. هذا هو الكلام في النواصب.

و أمّا الخوارج، فهم أشدّ من النواصب فإنّهم طائفة مخصوصة متديّنون ببغض أمير المؤمنين- عليه السّلام- و كان أوّل بروزهم بعد نصب الحكمين في وقعة صفّين، و قد اصطلحوا لفظ الخوارج لخصوص هذه الطائفة، فليس المراد مطلق من كان خارجا على إمام زمانه للمحاربة معه، و لو لم يكن مبغضا له، بل محبّا له، و لكن دعاه إلى المحاربة مع الإمام الطمع في حطام الدنيا، أو الخوف من الظالم الجائر،

مع تصديقه بكونه إماما مفترض الطاعة و حبّه له، كما ربّما يدّعى ذلك في بعض من حضر بأرض الطفّ في جند ابن سعد- لعنة اللّٰه عليه- مثل الحرّ الشهيد و أتباعه، فهم و إن كانوا خارجين على الإمام و مقاتلين معه، و لكن حيث لم يكونوا مبغضين له فلا وجه لنجاستهم و كفرهم، إذ لا وجه لنجاسة الخوارج و كفرهم عدا بغضهم لعلي- عليه السّلام-، و إلّا فليس الخروج بما هو عنوانا مستقلا لهذين الحكمين.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 534

و من هنا ربّما يمكن دفع الإشكال بمعاملة سيّد الشهداء- أرواح العالمين فداه- مع أتباع الحرّ معاملة الطاهرين، حيث سقاهم مع دوابّهم بالقرب التي هيّأها لهم، فإنّه يجاب بأنّه لعلّه لم يكونوا مبغضين لجنابة بل خرجوا لأجل الطمع، أو الخوف، أو لعدم معرفته- عليه السّلام-، و لا منافاة بين عدم كفرهم و أعظميّة فسقهم و كونه بمثابة لن يغفر اللّٰه له أبدا، كما شهدت بذلك الأخبار.

نعم قد يشكل بأنّه قد علم من السير و التواريخ، أنّ عليّا- عليه السّلام- لم يعامل مع خوارج نهروان معاملة الكفّار، فلم ينهب أموالهم و لا أسر نساءهم «1» و لو كانوا كفّارا لعامل معهم معاملة سائر الكفّار في النهب و الأسر.

و الجواب: أنّ المنتحلين للإسلام المحكومين بالكفر ليس حالهم حال الكفّار الغير المسلمين، و إن كانوا مشاركين معهم في النجاسة، و عدم جريان المناكح و المواريث، و ذلك لأنّ الكفّار الغير المسلمين ليس من آداب قتالهم عدم مقاتلتهم إلّا بعد بدأتهم بالحرب، و لا عدم نهب الأموال و أسر الحريم، و لكنّ المنتحلون للإسلام يكون من آداب حربهم عدم محاربتهم قبل ابتدائهم، و عدم النهب و الأسر لهم بعد

مغلوبيّتهم، و علم ذلك كلّه من فعل الأمير- عليه السّلام- في وقعة الجمل و نظائره، حتّى أنّ بعض العامّة قال: لو لا قتال علي- عليه السّلام- مع المسلمين لم يعلم كيف حال القتال معهم، و لم يعلم الفرق بين القتال معهم و القتال مع الكافر الأصلي.

و الحاصل: أنّ ثمرة انتحال الإسلام هو الفرق مع الكافر الأصلي في هذه الآداب، و إن انتفت ثمرته من جهة الآثار الأخر: من الطهارة و المناكح و المواريث.

______________________________

(1)- فإن المنقول أنّه- عليه السّلام- بعد قتلهم كلّما وجد من سلاح حربهم و أنعامهم قسّمه على عسكره- عليه السّلام- و الأشياء الأخر و العبيد و الإماء ردّها إلى ورّاث الخوارج. منه عفي عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 535

و أمّا الغلاة فإن كانوا معتقدين أنّ عليّا- عليه السّلام- إله، و أنّ اللّٰه تعالى ليس بإله، فهم منكرون للألوهيّة للباري تعالى، و إن كانوا معتقدين أنّه- صلوات اللّٰه عليه- شريك للّٰه، و إله آخر غير اللّٰه فهذا شرك، فلا إشكال في كفرهم و نجاستهم على هذين الفرضين، و إن كانوا مثبتين للألوهيّة لذات الباري و نافين للشريك له، و لكن اعتقدوا أنّ اللّٰه قد حلّ في جسد عليّ- عليه السّلام- نظير ما زعمه النصارى في المسيح- فإنّ الظاهر أنّهم قائلون بحلول اللّٰه في هيكل المسيح- فهذا المعنى كفر، و وجهه أنّه إنكار لضروري الدين لا من جهة إثبات المكان له تعالى، فإنّه ليس ذلك في بدو الإسلام من الضروريات و لا من جهة تحديده سبحانه، حيث إنّ لازمة كونه تعالى في نقطة معيّنة دون سائر النقاط، فإنّ هذا المعنى أيضا لم يكن ضروريا.

نعم هذان الأمران أعني: نفي المكان له، و نفي محدوديّته تعالى

صارا من جملة ضروريات مذهبنا في زماننا هذا، و أما في بدو الإسلام، فالظاهر عدم تبيّن صفات اللّٰه بهذه الكيفيّة التي صارت في الأيدي في هذا الزمان، فإنّه من بركات كلمات الأمير. و في زمن النبي لم ينكشف على هذا النحو حتّى روي في التفاسير عند تفسير قوله قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي .. أنّ عائشة مع كونها زوجة النبي تعجبت من ذلك، و أنّ النجوى التي لم أسمعها مع قربي كيف سمعها اللّٰه مع بعده عن هذا المكان، و تمكّنه فوق عرشه.

و بالجملة: لا يبعد القول بأنّ مثل عدم تحيّزه تعالى و عدم محدوديّته إنّما انكشفا ببركة كلمات الأمير، مع أنّهما في هذا الزمان أيضا ليسا من ضروريات الدين، بل يكونان من ضروريات المذهب، و إلّا أمكن اختلاف الزمان في حصول الضرورة، بأن يقال: إنّهما و إن لم يبلغا في زمن النبيّ مرتبة الضرورة، لكن لا ينافي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 536

صيرورتهما كذلك بعد هذا الزمان، فغاية الأمر عدم النجاسة في ذلك الزمان، و أمّا بعده فيثبت النجاسة.

و كيف كان، فالوجه في كونهم على هذا الفرض منكرين للضروري، أنّ حلول اللّٰه في جسم واحد من أفراد البشر، و نزوله في هيكله، كان أمرا منكرا ضروريّ المنكرية من صدر الإسلام.

ثمّ إنّ بعض المتقدّمين خصوصا القمّيين، كانوا يسمّون الشخص غاليا بمجرّد قوله ببعض الصفات الخارجة عن العادة للنبيّ أو الوصيّ ممّا لم يصغه عامّة الناس. و من هذا القبيل ما نقله الصدوق عن شيخه ابن الوليد- رضي اللّٰه عنهما- من أنّه نسب الغلوّ إلى جماعة نفوا السهو عن الأنبياء و أوصيائهم، و الحقّ أنّ هذا لا يضرّ بشي ء من أصول الدين أو المذهب، إلّا

أنّ هذا الشخص رأى المناسب بشأن النبيّ أو الإمام كذلك، فكما إنّا نقول: إنّ مرتبة النبوّة أو الإمامة مانعة عن الفسق فكذلك يقول هذا: إنّ هذه المرتبة مانعة عن السهو أيضا، و ليس هذا إنكارا للنبوّة، و لا للخاتميّة، و لا لشي ء من ضروريات العقائد، فلا وجه لنسبته إلى الغلوّ و تكفيره.

و حيث انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بإشارة إجماليّة إلى المسألة المذكورة.

فنقول: قد وردت الأخبار المتكاثرة المتظافرة في باب الصلاة على وقوع السهو عن النبيّ، و قضيّة العصا الممشوقة أيضا معلومة من الأخبار و فيها الصحيح.

فنقول: النبي و الإمام إلى كلّ غاية من علوّ المقام و ارتفاع الدرجة بلغا، فلم يخرجا عن تحت قدرة الباري، و مع ذلك هم بشر مقهورون للّٰه سبحانه، فكما أنّ اللّٰه مقتدر على قبض روحهم الشريف فكذلك يقدر على أخذ ذكرهم، و إلقاء السهو،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 537

و النسيان إليهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، و لو كان هو تعريف كونهم مخلوقين لئلّا يتوهّم القاصر فيهم الربوبيّة، فأي مانع يمنع ذلك و هم في هذا الحال أيضا متمكّنون في مرتبتهم، من دون حدوث نقيصة أصلا فيما هم عليه من رفعة المقام.

نعم ليس هذا كسهونا، فإنّ السهو فينا ينشأ من سلطنة الشيطان علينا و غلبة الخيالات الفاسدة في قلوبنا، فتتشوّش بذلك حواسّنا فيعرض النسيان.

و أمّا فيهم فمنشؤه قدرة اللّٰه و سلطنته، فلذلك وقع التعبير عنه في عبارة بعض العلماء بالإسهاء أي الإيقاع في السهو يعني إيقاع اللّٰه تعالى إيّاهم- صلوات اللّٰه عليهم- في السهو.

و لكن لا بدّ أن يعلم أنّ هذا مخصوص بالموضوعات، فلا مانع من جواز إسهائهم في الموضوعات.

و أمّا في تبليغ الأحكام فحيث قلنا: إنّ المباشر

لإلقاء السهو، و أخذ الذكر هو اللّٰه فلا يمكن عقلا صدوره منه تعالى في مقام التبليغ، فإنّه مناف للغرض من البعثة، فإنّه تبليغ الأحكام، و يبطل هذا الغرض بالإسهاء، فيمتنع صدوره منه تعالى، و لم يقل به في مورد التبليغ أيضا أحد، ففي هذا المورد دلّ العقل و النقل على الامتناع، و أمّا في الموضوعات فبعد وجود الأخبار الصحيحة لا يأبى العقل أن يسلّط اللّٰه عليهم السهو في موضوع لأجل مصلحة، و ليس هذا منافيا لاعتقاد من الاعتقادات الدينيّة.

فتحصّل أنّ إثبات السهو كنفيه ليس شي ء منهما من المنكرات، فبأيّ منهما قال أحد لا يوجب الكفر.

ثمّ يجب التنبيه هنا على مطلب، و هو أنّ المشركين من القريش و الوثنيين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 538

منهم لا إشكال في أنّهم لم يزعموا كون الوثن هو الإله الأصلي، و لا كونه شريكا للّٰه تعالى، بل هم كانوا كما حكى اللّٰه تعالى عنهم في القرآن حيث قال عزّ من قائل حكاية عنهم مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلّٰا لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اللّٰهِ زُلْفىٰ «1» و معنى العبادة هو الخضوع و الخشوع و التملّق، فمحصّله: إنّا نتملّق من هؤلاء الأوثان لكي يشفعوا لنا عند اللّٰه، فعلى هذا فكلّ تملّق للمخلوق لغرض أن يشفع عند اللّٰه للمتملّق يكون مثل فعل هؤلاء المشركين، و هذا هو شبهة الطائفة الوهابيّة على عامة المسلمين من أنّهم يزورون القبور المتبرّكة و الضرائح المطهّرة في المشاهد المشرّفة، فقالوا: إنّ هذه الأعمال الصادرة منكم عند هذه المقابر و الضرائح تشبه بأعمال هؤلاء المشركين لأوثانهم، فهم كانوا يتقرّبون بذلك إلى اللّٰه لأن يشفعوا لهم، و أنتم أيضا تعملون هذه الأعمال و التواضعات لتلك البقاع لأجل أن يشفع لكم صاحبوها- صلوات اللّٰه

عليهم- و من هنا حكموا بكفر عامّة أهل الإسلام من الشيعي و السنّي- فإنّ أهل السنّة أيضا يعملون هذه الأعمال لضريح النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم- و فعلوا بضريح سيّد الشهداء- عليه السّلام- ما فعلوا، و أراد رئيسهم الذهاب نحو ضريح الرسول، و الفعل عنده أيضا بمثل ما فعله بذلك الضريح فامتنع من ذلك جيشه.

و الجواب: أنّ تواضع المخلوق إمّا كان بأمر اللّٰه سبحانه فهو ليس تواضعا إلّا للّٰه تعالى، و أقوى شاهد على المدّعى سجدة الملائكة لآدم بأمر اللّٰه، و قد ورد في الأخبار محاجّة النبي مع .. «2» و ورود الجواب بتعبيرين، لكن كلاهما يرجع إلى واحد بحسب الروح و اللبّ:

______________________________

(1) الزمر/ 3.

(2) هنا بياض في الأصل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 539

أحدهما: أنّ آدم كان جهة كما تكون القبلة جهة لنا في صلواتنا، فنحن نوقع العبادة إلى هذه الجهة، لا أنّا نسجد و نركع و نوقع العبادة للكعبة، فكذا الملائكة أيضا سجدوا للّٰه تعالى و كان عبادتهم بجهة آدم- عليه السّلام.

و الثاني: أنّ سجدتهم لآدم كانت مأمورا بها من اللّٰه تعالى، و بعد كونها كذلك يكون في الحقيقة سجدتهم للّٰه، و محصّل التعبيرين أنّها عبادة بعد بهذه الوجهة، و إذن فكل ما يفعله الشيعة عند ضرائح أئمّتهم حيث يكون بأمر اللّٰه فلا ضير فيها.

نعم لا بدّ من المتابعة في أنحاء التواضع لتلك القبور للنحو الذي أمره اللّٰه، فلو وقع تواضع لأحد الأئمّة أو لقبورهم على غير ما أمره اللّٰه و على نحو لم يصل الإذن فيه من الشرع، فالتواضع بهذا النحو و التملّق بهذا القسم لا شكّ في كونه بعينه مثل فعل هؤلاء المشركين و في كون فاعله منسلكا

في سلكهم، فلا بدّ في نحو التواضع لهم عليهم السلام من وصول الإذن و لو بالوجه العام.

و من جملة ما لم يرد به الإذن السجدة، فمن سجد لأحد الأئمّة أو لقبورهم فهو مشرك، و قد ورد أنّهم- عليهم السلام- لم يمتنعوا من تقبيل أيديهم الشريفة، و لكن منعوا من تقبيل أرجلهم المطهّرة معلّلين بأنّ السجدة مخصوصة باللّه تعالى، و بالجملة السجدة من جملة الأطوار و الأنحاء التي لم يرد فيها الإذن بل ورد النهي عنها.

و أمّا تقبيل عتبة هذه الروضات المقدّسة فلم يرد بعنوانها الخاص دليل، و إذن فيختلف حاله على حسب اختلاف قصد الفاعل، فإن قصد بذلك أن يتبرّك شفتاه بالوصول إلى العتبة، بحيث لو لم يكن العتبة على الأرض بل كان مرتفعا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 540

لقبلها بارتفاعها، و ليس للانحناء على هيئة السجدة مدخل في ما هو غرضه إلا مجرّد المقدّميّة- نظير من ينحني على هذه الهيئة لأجل أن يقبّل قطعة الخبز الساقطة على الأرض، فإنّ انحناءه ليس إلّا لأجل المقدّميّة لوصول الشفة إلى الخبز- فلا إشكال فيه، و كذلك لا إشكال لو كان وجه اختياره العتبة خاصّة للتقبيل، دون سائر مواضع الباب و مواضع ذلك الحائط الشريف، أنّ المشقّة في هذا التقبيل أكثر لاحتياجه إلى الانحناء الغير المحتاج إليه تقبيل الحائط و سائر خشبة الباب، بحيث لو كان نحو آخر من أنحاء التقبيل أشقّ من هذا كالتقبيل عن القفا لاختاره، و بالجملة ليس منظورة من التقبيل على هذه الكيفيّة إلّا ما فيه من المشقّة بالنسبة إلى غيره.

و أمّا إن كان من قصده حصول التعظيم بهذا الانحناء الموجود في هذا التقبيل المفقود في تقبيل الخشبة و الحائط دون مجرّد المقدّميّة،

إمّا لوصول الشفة، و إمّا لحصول المشقّة، فهذا داخل في السجدة المحرّمة، و صاحبه منسلك في سلك مشركي قريش، و ذلك لأنّ السجدة ليست إلّا الانحناء على الوجه المزبور مع وضع بعض من مواضع الوجه على الأرض، و لا اختصاص لخصوص الجبهة و الجبين و الخدّ، بل كلّ المواضع من الوجه على حدّ سواء، فإنّ الانكسار و المذلة المطلوبة من السجدة حاصلة في خصوص الانحناء المزبور.

و بعبارة أخرى: طرح النفس على التراب من دون فرق في ما يوضع من الوجه على التراب بين كونه جبهة أو جبينا أو خدّا أو شفة أو ذقنا، أو غيرها من مواضعه، و هذا المعنى بعمومه و بتمام أقسامه صار مخصوصا بذات الباري، و لهذا نهى الأئمّة- عليهم السلام- عن تقبيل رجلهم الشريفة معلّلا بأنّ السجدة لا تجوز لغير اللّٰه، و ليس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 541

وجهه إلّا أنّ الانحناء إلى أن يصل الشفة إلى الرجل بنفسه سجود، مع أنّ ما يقع على الرجل هو الشفة، و يدلّ على حصول السجود بالذقن قوله تعالى لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً. «1»

و بالجملة: فعلى هذا يشكل غاية الإشكال ما شاع و ذاع في زماننا هذا، من التقبيل لتلك العتبات المباركات، قاصدا بالانحناء المذكور التعظيم، و حصول الانكسار و المذلّة، و يكون وجه اختياره على تقبيل الخشبة و الحائط، كونه أشدّ مذلّة و أبلغ تعظيما من غيره، و ليس ذلك إلّا لاشتماله على الانحناء المذكور المسمى بالسجدة، فيرجع الحاصل إلى قصد التعظيم و الخضوع و التذلّل بهذه الهيئة الانحنائيّة، و هذا ليس إلّا السجود المحرم المنهيّ عن إيقاعه لغير الهّٰل، الموجب إيقاعه لأحد من المخلوقين شرك صاحبه باللّه.

و الحاصل: أنّ هذه الهيئة الخاصّة يمكن

وقوعها على نيّات عديدة.

الأوّل: لمجرّد المقدّميّة لوصول الشفة إلى العتبة، كما في الانحناء لأجل تقبيل الطفل النائم على الأرض أو قطعة الخبز.

و الثاني: أن يكون الملحوظ نفس هذه الهيئة لكن لا باعتبار ما فيه من التذلّل و الخضوع، بل الملحوظ المشقّة الكائنة فيه، و هذان لا إشكال فيهما لخروجهما عن عنوان السجدة.

و الثالث: أن يقع على وجه يكون المقصود نفس هذه الهيئة، و يكون المنظور التذلّل و الخشوع الحاصل فيه. و هذا على قسمين:

الأوّل: أن يكون طرف الخشوع و التذلّل بحسب قصده صاحب الضريح

______________________________

(1)- الأسراء/ 107.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 542

- صلوات اللّٰه عليه- و هذا داخل في السجدة لغير اللّٰه.

و الثاني: أن يكون الطرف هو اللّٰه، بأن يسجد في هذا المكان الشريف على العتبة للّٰه تعالى شكرا لأن وفّقه للتشرّف بهذه الروضة المنوّرة و هذا لا إشكال فيه، لكونه سجدة للّٰه تعالى.

و كما يكون السجود مخصوصا باللّه، فكذلك الركوع كما يدلّ عليه الدعاء المأثور عقيب صلاة الزيارة في تلك البقاع المنورة، و لا بدّ أن يتأمّل المتأمّل كيف أدرجوا فقرة اختصاص السجود و الركوع باللّه تعالى في فقرأت هذا الدعاء، لئلّا يغفل عنه زائر، و مع ذلك يقع منه في اليوم و الليلة أكثر من أن يحصى، و هذا من نتائج ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أعاننا اللّٰه على إجراء هذين الركنين المتروكين، و كم من مفاسد ترتّبت على تركهما.

و من جملة ما يختصّ باللّه التضحية و إراقة الدم فلا يجوز إلّا في سبيل اللّٰه، فما تداول من نذرها لأحد الأئمّة- عليهم السلام- شبيه بما تعارف من التقبيل المذكور و بما كانوا يفعله مشركو قريش، فإنّه كان وجه من وجوه

عباداتهم و تملّقاتهم لأوثانهم تضحية الأضحية لها، و طريق التصحيح و الفرار عن هذا العمل الشنيع مع إدراك الفضيلة أن ينذر التضحية للّٰه، و يجعل من متعلّق نذره إعطاء لحم الأضحية زوّار ذلك الحرم الشريف أو خدّامه، أو ينذر ذلك و يفعل ثمّ يهدي ثوابه إلى الإمام- عليه السّلام.

و هنا مطلب آخر يناسب بالمقام ذكره:

و هو أنّ من أنكر الألوهيّة لا إشكال في نجاسته، و ليس من جهة إنكار الضروري، بل اعتقاد الألوهيّة له موضوعيّة في تحقّق الإسلام، فالإسلام عبارة عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 543

اعتقادات منها اعتقاد الربوبيّة في اللّٰه تعالى، فمن فقد بعض هذه العقائد فهو كافر من غير فرق بين العالم، و الجاهل، المقصّر، و القاصر، و كذلك الكلام في إنكار النبوّة، فإنّ اعتقادها أيضا له موضوعيّة و ركنيّة للإسلام فبدونه لا إسلام، فكفر منكرها من جهة فقدانه ركن الدين لا من جهة إنكار الضروري، فلا فرق إذن بين العالم، و الجاهل، عن تقصير أو قصور، كما في القصّر من اليهود و النصارى.

إنّما الكلام في المعاد الجسماني، فهل منكره مثل منكر الألوهيّة، أو الرسالة في كون كفره من جهة فقدان الركن الدين فيه، و هذا مبنى على أنّ الاعتقاد بالمعاد الجسماني يكون كالاعتقادين السابقين في الركنيّة للإسلام، أو أنّ كفر صاحبه من باب كفر منكر الضروري، و تظهر ثمرة الوجهين فيما إذا أقرّ الشخص بأصل المعاد و لكن شكّ في عودة هذا البدن العنصري أو الروح، و بالجملة شكّ في كيفيّة المعاد بعد العلم بأصله و لم يبلغ حدّ الإنكار، بمعنى أنّه لا يقول بنفي المعاد الجسماني و لكن يقول: لا علم لي بأحد المعادين.

و بعبارة أخرى يقول: إنّي شاكّ

في المراد بالآيات و الأخبار المثبتة للمعاد أنّه خصوص الجسماني، أو خصوص الروحاني، فليس معترفا بمجي ء النبيّ بالجسماني، و مع ذلك يقول: إنّي أشكّ في صحّة ما جاء به النبيّ، فإنّ هذا راجع إلى الشكّ في النبوّة، و لا شكّ في كفر صاحبه و ليس بانيا أيضا مع وجود حالة الشكّ على نفي المعاد الجسماني، بل يبقى على التردّد مع عدم عقد القلب على شي ء من الطرفين، فإن قلنا بموضوعيّة الاعتقاد المذكور و كونه دخيلا في الإسلام، فيحكم بكفر هذا الشخص، إذ كما أنّ المعتقد بالخلاف غير واجد لهذا الاعتقاد، فكذلك الشاك المتردّد الخالي عن البناء و العزم و هذا واضح.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 544

و إن قلنا بالثاني و أنّه لا مدخليّة للاعتقاد المذكور فلا يحكم بكفره، و ذلك لأنّ الثابت بالأخبار في باب إنكار الضروري هو ارتكاب الحرام بعنوان أنّه حلال، و بعبارة أخرى: العزم القلبي على خلاف الضرورة هو الذي يستفاد من أخبار هذا الباب، من غير فرق بين كون العازم شاكّا، أو قاطعا بالخلاف، أو قاطعا على طبق عزمه، و أمّا من كان شاكا في الضروري بالمعنى المذكور، أعني: الشكّ في المراد مع خلوّه عن العزم على الخلاف، فلا دليل على كفره و نجاسته.

فالعمدة تحقيق أنّ معاد الجسماني من قبيل الألوهيّة و النبوّة، كما اشتهر من أنّ أصول الدين هذه الثلاثة أو أنّه من جملة الضروريّات؟

فنقول: لا شكّ و لا ريب في أنّ مع تتبّع الآيات مثل قوله تعالى مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» و غيره و كذا الأخبار، يقطع بأنّ تحمّل المشاقّ في تبليغ المعاد في هذا الدين و الأديان الماضية،

و المحاجّة و المنازعة بين الأنبياء- عليهم السلام- و أممهم ليس إلّا في موضوع المعاد بمعنى عودة هذا الجسم بتمام كيفياته و هيئاته، و أنّ غرض الأنبياء كان إدخال هذا المعنى في أذهان الأمّة، و لبعده عن أذهانهم وقع ما وقع من المشاقّ، و السؤالات و الجوابات، و إلّا فلو كان مدّعى الأنبياء عودة الروح فقط فهذا لم يكن أمرا تأبى عن قبوله الطباع، و لمّا استشكل القوم بقولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و لمّا أجاب الرسول على تقدير الإشكال بقوله يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ بل يقول: أخطأتم في فهم مرادي و ليس مدّعاي كما زعمتم بل هو عودة الروح دون الجسم.

______________________________

(1)- يس/ 79.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 545

و إذن فكون المعاد الجسماني من ضروريات هذا الدين، بل جميع الأديان من أوّل تأسيس كلّ دين ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

نعم خصوص أنّ الذي يعاد هو هذا الجسم الموجود في الدنيا على ما هو عليه من الكثافات بدون تغيير أصلا، أو أنّه يتغيّر هذا الجسم و يصير مناسبا لعالم البرزخ فيصير ألطف من عالم الدنيا، و في عالم القيامة يصير ألطف من البرزخ، و بالجملة يصير في كلّ عالم بما هو من سنخ هذا العالم و مناسبة من اللطافة و الكثافة، فكلّ من هذين ممّا أمكن القول به، و ليس ادّعاء شي ء منهما إنكارا للضروري، بل إثبات كلّ واحد و الشكّ و التردّد بينهما خال عن المحذور.

و بالجملة: فالقدر المتيقّن ثبوته من الآيات و الأخبار هو المعاد المقيّد بالجسماني، و الذي جاء به النبي بل جميع الأنبياء هذا المقيّد بقيده، و لكنّه مع ذلك يمكن التفكيك بين أصل المقيّد و قيده في

الحكم العقلي.

و توضيح ذلك أنّه لا إشكال في أنّ أصل المعاد من أركان الدين بحكم العقل، كاعتقاد الربوبيّة و النبوّة، فلا بدّ في تحقّق الإسلام الاعتقاد بالربوبيّة و النبوّة و معاد ما، بل هذا أعظم من هذين، فإنّ الغرض الأصلي من هذين إنّما يحصل بهذا، إذ لو لا المعاد رأسا لبطل الغرض من بعث الرسل، و إنزال الكتب، و تشريع التكاليف، و أمّا خصوصيّة القيد و هو الجسمانيّة فلا يستقلّ العقل بإثباته و تقوّم الدين به.

فالدليل في كون منكر هذا القيد كمنكر الأصل، و أنّ اعتقاد القيد كاعتقاد الأصل له موضوعيّة و ركنيّة ينحصر في التعبّد، كأن قام الدليل على أنّ الإسلام يتحقّق بالتوحيد و النبوة و المعاد الجسماني، أو ما يفيد هذا المعنى، و لكن لم يرد بهذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 546

المعنى، بل ما دلّت الأدلّة و جاءت به الرسل هو الحكاية عن كون هذا المقيّد مع قيده واقعا، فاستفيد بدليل العقل أنّ إنكار هذا المقيّد بأصله موجب للخروج عن الدين، كإنكار الوحدانيّة أو الرسالة، و أمّا إنكاره بقيده فلم يحكم العقل بكونه كذلك، و لا قام التعبّد بذلك.

فتحصّل من ذلك: عدم الدليل على كفر الشاك في هذا المقيّد بقيده، و إن قام على كفر الشاكّ فيه بأصله، كما أنّه لا كلام في كفر منكره أعمّ من أن يكون بأصله أو بقيده.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ من قال بعود الروح فقط دون الجسم فهذا منكر للضروري، و من قال بثبوت المعاد الجسماني، و زعم أنّه الجسم الدنيوي يصير في البرزخ ألطف من الدنيا، و في القيامة ألطف من البرزخ، فهو كمن قال بثبوت ذلك و زعم عود هذا الجسم بدون تغيير و

مع هذه الكثافات، ليس واحد منهما منكرا لركن الدين و لا لضروريّة، كما أنّ المثبت للمعاد الجسماني الشاكّ في هاتين الكيفيّتين أيضا كذلك، و أمّا الشاكّ في المعاد الجسماني و المعاد الروحاني مع العلم بأصل المعاد، فلا إشكال في كونه شاكّا في الضروري.

و الكلام في أنّه شاكّ في ركن الدين و أصله و أساسه، أو في مجرّد ضروريّ من ضرورياته، و أمّا الشاكّ في أصل المعاد فلا إشكال في كفره و نجاسته، لكونه شاكّا في ما يكون الاعتقاد به من أصول الدين و بقي الكلام في المجسّمة و يعبّر عنهم بالمشبّهة أيضا و مجمل الكلام فيهم:

أنّ القول بجسميّة الباري إن كان مع القول بلوازم الجسميّة من الحدوث و التركيب و الاحتياج إلى المكان و نحوها فهذا إنكار لضروري الدين بل الأديان قاطبة، فإنّها

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 547

بأسرها متّفقة في إثبات الصانع القديم، و إن لم يلتزم القائل بالجسميّة بهذه اللوازم بأن يقول بالجسميّة و مع ذلك اعتقد بالقدم، فلا يكون مجرّد الاعتقاد بالجسميّة مضرّا بطهارته و إسلامه، و ذلك لأنّ نفي الجسميّة ليس له عنوان مستقلّ في الأخبار بأنّ اعتقاده دخيل في تحقّق الإسلام، أو أن إنكاره موجب للكفر، فينحصر الوجه في نجاسة منكره بضروريّته و هي ممنوعة، فإنّ هذا و أشباهه من صفات الباري جلّ ذكره قد استفيد من بركات بيانات الأئمّة- عليهم السلام-، و إلّا ففي زمن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لم يكن بهذا التنقيح و كانوا يزعمون اللّٰه جسما في جهة الفوق يمكن أن يرى كما ترى الأجسام، كما تشهد له قضيّة عائشة التي سمعتها فيما تقدّم.

و بالجملة: فنفي الجسميّة يكون من ضروريّات المذهب دون

الإسلام، و مثل هذا بعينه الكلام في المجبرة القائلين بأنّه ليس يصدر من العبد فعل، سواء كان حسنا أم قبيحا إلّا و هو يكون بقهاريّة اللّٰه تعالى و اختياره من دون اختيار للعبد أصلا، فإن التزموا بلوازم هذا الاعتقاد أيضا من لغويّة البعث و الإنزال، و بطلان الجنّة و النار، فلا كلام في كفرهم و نجاستهم لإنكارهم الضروري، بل ما يكون الاعتقاد به من الأصول، و إن لم يلتزموا بذلك بأن جمعوا بين الاعتقاد بالجبر مع الاعتقاد بصحّة التكاليف، و عدم لغويّتها و حقّية الحشر، و الجنّة و النار، فليس وجه للحكم بكفرهم بمجرّد الاعتقاد بالجبر، إذ ليس له عنوان مستقلّ في الأخبار و لا يكون من الضروريات للإسلام، بل هو من العلوم الحاصلة من بركات وجود أئمّتنا- عليهم السلام- لما هو المنقول عنهم من قولهم: «لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين» «1» نعم قد ورد في بعض الأخبار إطلاق الكافر على المجسّمة و المجبرة، و هو

______________________________

(1)- البحار: ج 5، ص 17، ح 28.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 548

قول مولانا الرضا- عليه السّلام-: «من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر» و هذا لا يدلّ على النجاسة، إذ لعلّه كإطلاق الكافر على السنّي في الأخبار المتقدّمة، فالمراد به الخروج من الإيمان و ترتّب حكم الكافر الحقيقي في الآثار الأخرويّة، دون الخروج من الإسلام بالمعنى الأعم.

و يعيّن ما اخترنا في هاتين الطائفتين حكم المصنّف- دام علاه- في قوله:

مسألة: لا إشكال في نجاسة الغلاة، و الخوارج، و النواصب، و أمّا المجسّمة، و المجبرة، و القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة، إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم، إلّا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من

المفاسد، انتهى.

أمّا الدراويش فإن كانوا يقولون: إنّه علاوة على هذه العلوم الشرعيّة المتكفلة للواجبات و المستحبات المسطورة في الدفاتر المنقولة عن الأئمّة، يكون هنا علوم آخر مأثورة عنهم- عليهم السلام- في الأخلاق على سبيل الأسرار، و الانتقال من صدر إلى صدر، و مع ذلك يعتقدون بصحّة ما بأيدينا، من الأخبار و يعملون بواجباتها و مستحبّاتها و غير ذلك، و أنّ الجاهل لا بدّ و أن يقلّد عن العالم فلا يكون وجه لكفرهم و نجاستهم.

أمّا المرشد فغاية الأمر أنّه ادّعى الأعلميّة، فهو كمن ادّعى الأعلمية في الفقه، غاية الأمر أنّ دعواه بلا بيّنة، فإنّ العلماء لم يوثقوا رواة هذه العلوم، و من شرائط القبول توثيق الراوي و تعديله، و أمّا المريد الآخذ من المرشد فحاله كحالنا حيث نأخذ من رواة الأخبار ما يحكونه عن أئمّتنا- عليهم السلام.

و بالجملة فحال هذه الطائفة حينئذ مثل ما لو ادّعى أحد وجدانه بعضا من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 549

الأصول الأربعمائة المفقودة إلى هذا الزمان، و رأى فيه ذكرا لم يكن يعرفه أحد إلى اليوم، فدعوى هذه الطائفة أيضا راجعة إلى أنّا وجدنا من الأئمّة شيئا ما وجدتموه، و هذا لا يوجب الكفر و إن كان دعواهم كاذبة.

و إن «1» كانوا يقولون بنظير ما نعتقده في الأئمّة أعني إثبات الولاية المطلقة لهم- عليهم السلام- و أنّ العبادة، و الطاعة لا تقبل إلّا مع ولائهم، و محبّتهم- عليهم السلام- و يكون لهم الآمريّة و المولويّة، و الأولويّة على الأنفس و الأموال بالنسبة إلى قاطبة الرعيّة، و لا اختيار للعباد بالنسبة إلى أنفسهم، و أموالهم في قبالهم، فلو أمر النبي أو الإمام أحدا بإعطاء ردائه يجب عليه، أو أراد أخذ داره

أو دابّته ليس له اختيار و مالكيّة في قبالهما، و هذا كاختيار اللّٰه تعالى، فإنّ للّٰه ملك السماوات و الأرض و بعده تعالى تكون هذه الولاية، و المالكيّة تنزّلا للنبيّ و الأئمّة- عليهم السلام- و هذا هو المراد بقوله النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» و هذا المعنى قد أثبته النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في الغدير لعليّ- عليه السّلام- و هذا هو المراد بقوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» بيان ذلك أنّ للنبيّ و الإمام حيثيّتان، إحديهما حيثيّة كونهما مبلّغين للأحكام عن اللّٰه تعالى إلى العباد، ففي هذه المرتبة هم- عليهم السلام- حاكون لحكم اللّٰه، فالنبيّ يحكي عن جبرئيل و هو عن اللّٰه تعالى، و كذا الأئمّة عن النبي و هو عن جبرائيل و هو عن اللّٰه تعالى، و حيثيّة أخرى كونهم- عليهم السلام- باستقلالهم حاكمين به آمرين

______________________________

(1)- يأتي جواب «إن» فيما بعد و هو قوله- رحمة اللّٰه عليه-: و كيف كان فإن كان هؤلاء يعتقدون هذا النحو من الولاية إلخ.

(2)- الأحزاب: 6.

(3)- النساء: 59.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 550

على العباد بحسب الموضوعات العرفيّة، فالمراد في الآية وجوب إطاعتهم من الحيثيّة الثانية، فإنّ إطاعتهم من الحيثيّة الأولى راجعة إلى إطاعة اللّٰه تعالى، فلو كان المراد إطاعتهم من هذه الجهة لما كان وجه لذكر وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ بل كان اللازم الاكتفاء بالأمر الأوّل، فليس إلّا لأنّ إطاعة الرسول لها موضوعيّة، و كذلك إطاعة أولي الأمر و إن كان هذا المنصب أيضا حاصلا لهم- عليهم السلام- من قبل اللّٰه تعالى و هو المعطي لهم إيّاه، ثمّ هذه المرتبة من الولاية لا

تكون للعلماء، نعم يكون لهم منصب القضاء، و الإفتاء، و الولاية على اليتامى و القصّر و لكن هذه الولاية تكون عليهم و للصغار، فإنّ مرجعه إلى تحميل الشارع مئونة إصلاح أمور الصغار على الفقهاء.

و كيف كان فإن كان هؤلاء يعتقدون هذا النحو من الولاية التي نعتقده في الأئمّة، في مرشدهم و مرادهم، فيعتقدونهم وسائط الفيض، و ولاة الأمر، و يتديّنون بولائهم و حبّهم بعنوان أنّه لا تقبل العبادة بدون ذلك، فهذا داخل في عنوان تملّق المخلوق لأجل أن يقرب المتملّق إلى اللّٰه، و هو على حذو فعل مشركي قريش و صاحبه مشرك، و نحن نفعل ذلك بالنسبة إلى الأئمّة لأجل أمر اللّٰه تعالى.

و لا يتوهّم أنّ العامّة بالنسبة إلى الخلفاء الثلاثة يكونون هكذا، فإنّ ذلك ممنوع، فإنّهم لا يعتقدون الثلاثة وسائط الفيض، غاية الأمر اعتقدوا بالحسن فيهم و حرمة سبّهم.

و أمّا القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة، فحكمهم من حيث الطهارة و النجاسة مبنيّ على معرفة قولهم و مذهبهم، فنقول: مقالة هؤلاء أنّ الموجود هو اللّٰه فقط و غيره معدومات صرفة، و ليس لهم حظّ من الوجود أصلا بل هم وجودات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 551

توهّمية، فما ترى أنّه وجود مجرّد توهّم نظير رؤية الحركة في ظلّ الشخص المتحرّك، حيث يتوهّم أنّه شي ء متحرّك مع أنّه لا شي ء و معدوم، و ليس إلّا عدم إشراق الشمس في مقدار من المكان.

و مثال آخر لتقريب المطلب: اسم الحسين المنقوش في العقيق يتوهّم أنّه نقش و شي ء موجود، مع أنّه لو يعقل كنهه فليس إلّا عبارة عن عدم إحاطة العقيق في مقدار خاص، بحيث لو إحاطة أيضا لم يكن في البين إلّا العقيق، فتبيّن أنّ ما يتوهّمه

موجودا عدم محض.

و مثال آخر: إذا أشرقت الشمس على سطح البيت و كان فيه روازن إلى داخل البيت، فيقع من تلك الروازن إشراقات متعدّدة من نور الشمس، فتلك كثرات متوهّمة، و منشأ توهّم كثرتها عدم وجود النور في أوساطها و خلالها، و إلّا فإن لم يكن السطح حائلا لما كان في البين إلّا نور واحد، فهذه الكثرات إنّما هي إعدام و إذا ارتفعت الأعدام فلا كثرة.

و من هذا القبيل الكثرات التي نتوهمها، فنتوهّم وجود زيد مغايرا لوجود عمرو و هكذا، و وجود الكتاب مغايرا لوجود الحائط، فإنّ كلّ ذلك توهّم نشأ من إحاطة الحدود العدميّة بهذه الوجودات المتعدّدة، فمن انتهاء وجود زيد إلى حدّ خاص حصل زيد بالحصول التوهّمي، فإن ارتفع هذا العدم من البين لصارت الوجودات متّصلة و ليس في البين إلّا اللّٰه، و لا زيد، و لا عمرو، و لا كتاب و لا غيرها.

و إلى هذا أشار المولوي في ما قاله بالفارسية:

چون كه بيرنگى اسير رنگ شد موسيى با روسيى در جنگ شد چون كه اين رنگ از ميان برداشتى موسيى با روسيى كرد آشتى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 552

و مراده ب «رنگ» هو القيود العدميّة، و مقصوده أنّه إذا ارتفعت القيود العدميّة، فليس إلّا الوجود الواحد البحت البسيط و هو اللّٰه تعالى.

و الحاصل: أنّهم لا يقولون بأنّ موجودات عالم الكون موجودات متعدّدة و كلّ منها هو اللّٰه كما ربّما يتوهّم، بل يقولون بأنّ كلّ موجود فهو هو ما دام الأعدام محيطا، و إذا ارتفعت الأعدام فيرتفع الموجود الخيالي من البين و ليس إلّا الباري تعالى، و هذا ما يتعقّل من مقالتهم و يكون الظاهر من أمثلتهم و أشعارهم، و كلّما

قيل في بيان مرامهم على خلاف هذا فهو اشتباه في مرادهم.

فإذا تبيّن مقالتهم نقول: لهذه المقالة لوازم فاسدة كثيره، فإنّه على هذا لا يكون في البين من يعاقب و من يعاقب، و من ينعم و من ينعم عليه، و من يرسل النبيّ و من يرسل الرسل إليهم.

و بالجملة فلازمه بطلان الثواب و العقاب، و الجنّة و النار و الأنبياء و إنكار المنعم، و هذا إنكار للضروري في جميع الأديان من الاعتراف بجميع ذلك، فإن كانوا ملتزمين بذلك فلا إشكال في كفرهم و نجاستهم.

و أمّا إن لم يلتزموا بهذه اللوازم، بل مع الاعتقاد المزبور كانوا معتقدين بالجنّة و النار، و الأنبياء و المنعم، فمجرّد الاعتقاد المذكور لا يوجب كفرهم فإنّه كمال التوحيد للّٰه تعالى.

بقي الكلام في ولد الزنا فالمشهور بين أصحابنا- رضوان اللّٰه عليهم- طهارته لأصالة الطهارة و أصالة الإسلام لحديث الفطرة، و ما دلّ على ثبوته لمن أظهره و تدين به، خلافا للمحكيّ عن الصدوق، و السيّد، و الحليّ من القول بكفره و نجاسته، و عن المختلف نسبته إلى جماعة، و يظهر من المعتبر أنّ بعضا منهم ادّعى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 553

الإجماع على ذلك، و عن الحلّي نفي الخلاف في ذلك و استدلّ له بمرسلة الوشاء عمّن ذكره عن الصادق- عليه السّلام- أنّه كره سؤر ولد الزنا، و اليهودي، و النصراني، و المشرك و كلّ من خالف الإسلام، و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. «1»

و فيه أنّ لفظ الكراهة لا بدّ و أن يراد به هاهنا خلاف معناه المصطلح بقرينة ذكر اليهودي و ما بعده، و إذن يدور أمره بين إرادة خصوص التحريم فيكون دليلا على النجاسة، و بين إرادة الجامع

بينه و بين الكراهة المصطلحة ليكون في ولد الزنا على الكراهة المصطلحة، و في غيره على التحريم فلا يدلّ على النجاسة، و لا ترجيح لخصوص الأوّل على الثاني، فيكون مجملا يسقط عن الاستدلال.

و برواية ابن أبي يعفور «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا و هو لا يطهر إلى سبعة آباء» «2» و في أخرى تعليل النهي بأنّه «يجتمع فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت». «3»

و المراد بالسبعة الآباء هو الآباء بالنسبة إلى جهة النزول، أعني: الأبناء المتنزّلين، يعني يسري عدم الطهارة من ولد الزنا إلى ولده، و منه إلى ولد ولده و هكذا إلى الولد السابع، لا بالنسبة إلى جهة الصعود ليكون المعنى أنّه يسري ذلك من ولد الزنا إلى آبائه إلى جدّه السابع، فإنّه لا يعقل السراية من جانب الصعود، و إن كان يعقل إلى جانب النزول.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، ب 3، من أبواب الأسئار، ص 165، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ب 11، من أبواب الماء المضاف، ص 159، ح 4.

(3)- المصدر نفسه: ص 158، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 554

و كيف كان فلا دلالة فيه على النجاسة، إذ لا بدّ من حمل عدم الطهارة على الخبث الباطني دون النجاسة الظاهريّة، و حمل النهي على الكراهة، و ذلك للجمع بينه و بين ما دلّ على عدم انفعال ماء البئر و قد تقدّم في بابه.

و بمرفوعة سليمان الديلمي إلى الصادق- عليه السلام- و فيها أنّ «ولد الزنا يقول: يا ربّ فما ذنبي فما كان لي في أمري صنع؟ فيناديه مناد و يقول به:

أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك فنشأت

عليهما، و أنت رجس و لن يدخل الجنّة إلّا طاهر».

و فيه: أنّ الظاهر من الرجس هنا القذارة المعنويّة، دون النجاسة الظاهريّة.

و ربّما يؤيّد الأخبار المذكورة بما ورد من أنّ نوحا- على نبيّنا و آله و عليه السلام- لم يحمل في السفينة ولد الزنا و كان حمل الكلب و الخنزير.

و فيه: أنّ هذا يدلّ على شدّة خباثته الذاتيّة، و لا دلالة فيه على النجاسة.

و بما ورد من أنّ حبّ علي- عليه السلام- علامة طيب الولادة، و بغضه علامة خبثها.

و فيه: أنّ مفاده أنّ كل مبغض خبيث الولادة، لا أنّ كل خبيث الولادة مبغض، حتى يحكم بنجاسته من جهة البغض و النصب.

نعم يدل أيضا على أنّ كلّ محبّ طيّب الولادة، فتحصّل من مجموع القضيتين أنّ ولد الزنا لا يكون محبّا، و لكن لا يلزم أن يكون مبغضا كما عرفت، فيمكن كونه غير محبّ و لا مبغض.

و بما ورد من أنّ ديته كدية اليهودي ثمانمائة درهم. و فيه أنّ هذا أيضا لا يدلّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 555

على أزيد من خباثة ذاته و رداءة طينته.

و بموثّقة زرارة عن الباقر- عليه السّلام- قال سمعته يقول: «لا خير في ولد الزنا و لا في بشره و لا في شعره، و لا في لحمه و لا في دمه و لا في شي ء منه». «1» و فيه أيضا لا دلالة أصلا، فإنّه يدلّ على أنّ الخباثة قد استوعبت تمام عالم وجوده من الرأس إلى القدم، و أين هذا من النجاسة؟

و بحسنة ابن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- «قال: لبن اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة أحبّ إليّ من ولد الزنا». «2» و فيه أنّه ليس ناظرا إلى جهة النجاسة أصلا،

بل المنظور فيه بيان حكم آخر و هو الاهتمام في المرضعة، فإنّ لها مدخليّة تامّة في تربية الولد كما هو مضمون أخبار أخر.

و بالجملة لا يدلّ إلّا على أخبثيّته عن الثلاثة المذكورة، و بغير ذلك، ممّا ورد في مذمّته «و أنّه لن يدخل الجنّة».

و فيه أيضا مثل ما عرفت في الأخبار السابقة و وجه عدم دخوله الجنّة خبثه الباطني و إن كان في الظاهر من العبّاد المقدّسين، إلّا أنّه ليس إدخال الجنّة للمحسن أمرا واجبا على اللّٰه تعالى، نعم إدخاله النار مع عدم موجب له مناف لعدله تعالى، فهو على هذا الفرض ليس متنعّما في الجنّة، و لا معذّبا في النار.

و لم يبق في المقام إلّا حكم طوائف الواقفيّة بأقسامها، من الكيسانيّة، و الفطحيّة و الناووسيّة، إلى غيرها، فنقول: محصل الكلام فيها أنّهم لا يخلو من حالين:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 20، ب 14، ص 442.

(2)- المصدر نفسه: ج 21، ب 75، ص 462.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 556

إمّا أنّهم معتقدون بإمامة الأئمّة إلى الإمام الذي وقفوا عليه، و بالنسبة إلى الأئمّة من بعد هذا الإمام ليسوا يظهرون إلّا مجرّد عدم اعتقاد الإمامة، مع اعتقاد كونهم سادة أجلّاء، و بالجملة فليسوا بمبغضين لهم- عليهم السّلام- فحينئذ لا وجه لنجاستهم، إذ لم يقصروا عن العامّة الغير القائلين بواحد من الأئمّة سوى الأمير- عليه السّلام.

و إمّا أنّهم مع هذا يظهرون العداوة بالنسبة إليهم- عليهم السّلام- و ينسبون غصب الخلافة- نعوذ باللّه- إليهم، كما ينسب الشيعة ذلك إلى أبي بكر، فلا إشكال في كونهم كافرين نجسين، لأنّهم حينئذ من النواصب، إذ لا فرق بين من نصب جميع أهل البيت، و بين من نصب بعضهم مع المحبّة لبعض آخر، و

الظاهر وجود هذين القسمين بين الطوائف الموجودة منهم الآن، و الذي يسهّل الخطب أنّهم مختلطون لا يتميّز الناصب منهم عن غيره، فيحكم مشكوك الحال منهم بالطهارة، فإنّ المرجع في كلّ مشكوك الكفر و الإسلام- كما ظهر ممّا تقدّم في اللقيط- هو أصالة الطهارة من حيث حكم الطهارة، نعم الآثار الأخر المترتّبة على موضوع الإسلام فلا يحكم بترتّبها، لعدم إحراز شرطها.

[التاسع: في الخمر و كل مسكر مائع]

«التاسع: الخمر بل كلّ مسكر مائع بالأصالة و إن صار جامدا بالعرض لا الجامد كالبنج و إن صار مائعا بالعرض».

المائع بالأصالة الجامد بالعرض مثل الخمر إذا انجمد بالبرودة و صار جمدا، و الجامد بالأصالة المائع بالعرض مثل البنج إذا امتزج مع الماء، ثمّ الأخبار على طرف النجاسة بالغة حدّ الاستفاضة و في بعضها عنوان الخمر، و في بعضها قد انضمّ إليه عنوانات أخر من العصير و النقيع و البتع و المزر و النبيذ، و في ثالث مطلق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 557

عنوان المسكر. و في طرف الطهارة أيضا أخبار صريحة. «1»

و لكن الذي يسهّل الخطب وجود أخبار أخر سئل فيها من الإمام عن اختلاف الروايات في الطهارة و النجاسة و اختلاف الأصحاب فيهما، فأورد الجواب بترجيح النجاسة «2»، فإنّ هذه الرواية تكون كالحاكمة على أخبار الطهارة، و إذن فوجه صدور تلك الأخبار عنهم إليهم ليس بمهمّ لنا، فلعلّه التقية، فإنّه و إن كان في العامّة من يقول من علمائهم بالطهارة، و لكن أمراء الوقت و الوزراء لم يكونوا قائلين بهذا الحكم، فيمكن صدور الحكم مراعاة للتقيّة عنهم، و لعلّه كان وجها آخر لا نعلمه، فالأولى التيمّن بذكر أخبار الباب على الترتيب الذي نقلها في الوسائل.

فقد روى فيه عن محمّد بن يعقوب، عن الحسين

بن محمّد، عن عبد اللّٰه بن عامر، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيّوب، عن عبد اللّٰه بن سنان، «قال:

سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل لحم الجري، أو يشرب الخمر فيردّه أ يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلّى فيه حتّى يغسله». «3»

و بالإسناد عن علي بن مهزيار، و عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد،

______________________________

(1)- إليه ذهب الصدوق و والده في الرسالة، و هو ظاهر المقدّس الأردبيلي أو صريحه، و تبعه أصحاب المدارك و الذخيرة و المشارق، و من عجائب ما وقع في هذا المقام ما وقع بين صاحب المدارك و محشّيه الفريد البهبهاني- قدّس اللّٰه أسرارهما- حيث إنّ الماتن اختار الطهارة معلّلا بأنّه لا إجماع على النجاسة، و الأخبار الصحاح على الطهارة و هي أصحّ من أخبار النجاسة، فذكر المحشّي في حاشية هذا المقام معترضا على الماتن بأنّه لا يقبل الإجماع، و لا الشهرة و حينئذ فإنّا للّٰه و إنّا إليه راجعون على موت الإسلام، و استئصاله. انتهى. منه عفي عنه و عن والديه.

(2)- الوسائل: ج 2 ص 1055، الحديث 2.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1054، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 558

و عن علي بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار «قال: قرأت في كتاب عبد اللّٰه بن محمّد إلى أبي الحسن- عليه السّلام-: جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه- عليهما السّلام- في الخمر يصيب ثوب الرجل، أنّهما قالا: لا بأس بأن تصلّي فيه إنّما حرم شربها، و روى عن زرارة عن أبي عبد اللّٰه- عليه

السّلام- أنّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ- يعني المسكر- فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به؟

فوقّع- عليه السّلام- بخطّه و قراءته: خذ بقول أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-». «1»

و عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن بعض من رواه، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ و مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك». «2»

و عن علي بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن خيران الخادم «قال: كتبت إلى الرجل- عليه السّلام- أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلّي فيه أم لا، فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلّ فيه، فإنّ اللّٰه إنّما حرّم شربها، و قال بعضهم: لا تصلّ فيه؟ فوقّع- عليه السّلام-: لا تصلّ فيه فإنّه رجس. الحديث». «3»

و روي عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الفقّاع؟ «فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله». «4»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1055، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ص 1055، ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ص 1055، ح 4.

(4)- المصدر نفسه: ص 1055، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 559

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- في حديث النبيذ «قال: ما يبلّ الميل ينجس حبّا من ماء، يقولها ثلاثا». «1»

و عن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- «قال: لا تصلّ في بيت فيه خمر و لا مسكر، لأنّ

الملائكة لا تدخله، و لا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله». «2» لو كنّا و هذه الرواية لكان الظاهر منها- بقرينة جعل النهي الثاني فيها رديفا للنهي الأوّل المقطوع كونه للكراهة- الكراهة، و لكن بعد وجود الأخبار الأخر الصريحة في النجاسة أمكن التفكيك بين النهيين بحمل الأولى على الكراهة و الثاني على التحريم.

و عن زكريّا بن آدم «قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟

قال: يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله.

قلت: فإنّه قطر فيه الدم؟

قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّٰه.

قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين، أو دم؟

قال، فقال: فسد.

قلت: أبيعه من اليهودي و النصراني و أبيّن لهم؟

قال: نعم فإنّهم يستحلّون شربه.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1056، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 1056، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 560

قلت: و الفقّاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي ء من ذلك؟

فقال: أكره أن آكله إذا قطر في شي ء من طعامي». «1»

هذه الرواية مشتملة على ما لم يقل به أحد من مطهريّة النار للدم، فإن الشيخ- قدّس سرّه- قال بطهارة ما لا يدركه الطرف من الدم، و لكن لم يخصّه بالنار، فالقول بطهارته بخصوص النار غير معروف من أحد.

و عن أبي بكر الحضرمي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أصاب ثوبي نبيذ، أصلّي فيه؟ قال: نعم.

قلت: قطرة من نبيذ قطر في حبّ و أشرب منه؟ قال: نعم إنّ أصل النبيذ حلال، و أنّ أصل الخمر حرام». «2»

وجه ما ذكره من أنّ أصل النبيذ حلال،

و أصل الخمر حرام، أنّ النبيذ و هو التمر الذي ينبذ عليه الماء، ثمّ يمرّ عليه مقدار من الزمان فهو من أوّل أمره غير مسكر، و إنّما يعرض عليه وصف الإسكار إذا طال عليه الزمان و فسد و تغيّر، و أمّا ماء العنب إذا تصنع خمرا فهو من أوّل أمره مسكر، و ليس زمان خلّي فيه عن وصف الإسكار، و إذن فيحمل النبيذ في هذه الرواية على ما قبل زمان حدوث الإسكار فيه.

و عن الحسين بن أبي سارة «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر أصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس إنّ الثوب لا يسكر». «3»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1056، ح 8.

(2)- المصدر نفسه: ص 1056، ح 9.

(3)- المصدر نفسه: ص 1056، ح 10.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 561

ذكر الإمام- عليه السّلام- الفقرة الأخيرة و هو قوله: «إنّ الثوب لا يسكر» مع أنّه ليس بمجهول أوضحه قرينة على كون الرواية من جراب النورة، كما هو ديدن أصحاب الأئمّة- عليهم السلام-، حيث إنّهم إذا سألوا عن مسألة و لم يجابوا بالحقّ المصلحة، فإذا خرجوا كان يقول بعضهم لبعض ما أجابنا بالحق و الصواب، و أعطانا من جراب النورة.

و عن عبد اللّٰه بن بكير «قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- و أنا عنده- عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب؟ قال: لا بأس». «1»

و عن الحسين بن أبي سارة «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: إنّا نخالط اليهود و النصارى و المجوس و ندخل عليهم، و هم يأكلون و يشربون فيمرّ ساقيهم و يصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال: لا بأس

به إلّا أن تشتهي أن تغسله لأثره». «2»

و عن الصدوق «قال: سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّٰه- عليهما السّلام- فقيل لهما: إنّا نشتري ثيابا يصيبه الخمر و ودك الخنزير عند حاكتها، أ نصلّي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إنّ اللّٰه إنّما حرم أكله و شربه، و لم يحرم لبسه و مسّه و الصلاة فيه». «3»

و عن علي بن رئاب «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلّي فيه؟ قال: صلّ فيه إلّا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إنّ اللّٰه تعالى إنّما حرم شربها». «4»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1057، ح 11.

(2)- المصدر نفسه: ص 1057، ح 12.

(3)- المصدر نفسه: ص 1057، ح 13.

(4)- المصدر نفسه: ص 1058، ح 14.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 562

و عن عبد اللّٰه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر- عليهما السّلام- «قال: سألته عن النضوح يجعل في النبيذ، أ يصلح أن تصلّي المرأة و هو في رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه». «1»

[في حكم العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه]
اشارة

«مسألة 1: ألحق المشهور بالخمر العصير العنبيّ، إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه و هو الأحوط، و إن كان الأقوى طهارته، نعم لا إشكال في حرمته، سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه، و إذا ذهب ثلثاه صار حلالا، سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء، بل الأقوى حرمته بمجرّد النشيش و إن لم يصل إلى حدّ الغليان إلخ».

و الكلام في مقامين:

الأوّل: في الحلّية و الحرمة.

و الثاني: في الطهارة و النجاسة.

أمّا المقام الأوّل: فالمستفاد من الأخبار المروية عن الأئمّة الأطهار- عليهم صلوات

اللّٰه الملك الغفّار- هو التفصيل بين صورة الغليان بالنار، و صورة الغليان بنفسه، أو بالشمس، أو بالهواء أو بغير ذلك.

ففي الصورة الأولى يحرم بمجرد الغليان و النّشيش، و يحل بذهاب الثلثين و هو احتياط من الشرع و صون له عن الوقوع في معرض الفساد، يعني بالغليان بالنار يصير مستعدا لأن يفسد بطول الزمان، و لكن متى غلى حتى يذهب ثلثاه لا يعرض عليه الفساد، و إن طال مكثه، فجعل الشارع محرما من أوّل غليانه بمقتضى الحكمة المزبورة.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1058، ح 15.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 563

و أمّا الصورة الثانية فلا علاج للحلّية بعد الغليان، بل يكون حاله كالخمر في انحصار طريق تحليله بالانقلاب، و عدم نفع ذهاب الثلثين في حلّيته.

فهنا دعويان:

أمّا الأولى: فيشهد لها أخبار كثيرة مثل قوله: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه، و يبقى ثلثه «1».

و مثل قوله: إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام «2»، فإنّ الطلاء هو عصير العنب المطبوخ.

و في آخر: إذا زاد الطلاء على الثلث أوقية فهو حرام «3». و الظاهر أنّه تتمة خبر، و المذكور في صدره كون مقدار الطلاء تسعة أوقية حتى يصير الثلاثة ثلاثة.

و مثل الأخبار الكثيرة الحاكية لقصّة منازعة إبليس مع آدم و نوح في الكرمة و النخلة، و محاكمة روح القدس بين الطرفين بجعل الثلثين لإبليس، فإنّها من متشابهات الأخبار ليس حظّنا منها إلّا استفادة كون العصير عند غليانه بالنار محرما حتّى يذهب ثلثاه اللذان هما نصيب إبليس، كما صرّح بذلك في ذيل بعض تلك الأخبار.

مثل قوله: بعد ذكر انّ روح القدس أخذ ضغثا من نار فرمى به على الكرمة و النخيلة،

فذهب ثلثاهما و بقي الثلث الآخر، فقال الروح أمّا ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم «4»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 224، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 17 ص 227، ح 8.

(3)- المصدر نفسه: ح 9.

(4)- المصدر نفسه: ج 17 ص 224، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 564

و قال الإمام في ذيل بعضها الآخر: فإذا أخذت عصيرا فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل و اشرب «1» و في آخر فقال: يعني: جبرئيل ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح حلال «2».

و في آخر بعد حكاية المنازعة و قطعها بجعل الثلثين لإبليس، ذكر أنّ من هناك طاب الطلاء على الثلث «3».

و في آخر: فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس و هو حظه، و ما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح و هو حظه، و ذلك الحلال الطيب لتشرب منه «4».

و مثل قوله بعد السؤال عن الطلاء إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير «5».

و في آخر بعد السؤال عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «6» و يعلم من بعض آخر أنّ هذا المطلب أعني الحرمة بالغليان و رفعها بالذهاب كان أمرا مركوزا في أذهان الرواة حتى توهّم بعضهم اختصاصه بالعصير

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 226، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ح 5.

(3)- المصدر نفسه: ج 17، ص 228، ح 10.

(4)- المصدر نفسه: ح 11.

(5)- المصدر نفسه: ج 17، ص

226، ح 6.

(6)- المصدر نفسه: ج 7 ص 227، ح 7.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 565

الخالص، فسأل عن العصير الذي يطبخ به اللحم، فيذهب ثلثاه في حالة طبخه مع اللحم «1» و مثل الأخبار الواردة في بيان كيفية طبخ النبيذ الحلال من الزبيب، و فيها الأمر بكيل العصير و وضع عود و نحوه في الإناء الذي يغلي فيه، بعد صب الثلث فيه و تحديده، و الأمر بالإغلاء حتى يصل العصير بهذا الحد «2» و يؤيّد ما ذكرنا من ملاحظة الشارع للاحتياط، قوله في آخر رواية إسماعيل بن الفضل، و الظاهر كونه من المعصوم: و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء اللّٰه «3» و رواية أخرى، قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثمّ يوجد الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثمّ يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به «4» ثمّ في خبر آخر: أنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق و نصف، ثمّ يترك حتى يبرد، فقد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه.

و المراد بالدانق سدس الدرهم و الدينار، و المقصود أن يذهب من العصير حال غليانه على النار على نسبة مقدار ثلاثة دوانيق و نصف إلى الدرهم أو الدينار، فإنّه بالنسبة إليهما ينقص عن الثلث بنصف دانق، فإنّ ثلثهما أربعة دوانق، و وجه الاكتفاء بثلاثة و نصف أنّه بعد الوضع على الأرض و الصبر حتى تبرد

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 229- 230، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ح 4.

(4)- المصدر نفسه: ص 232، ح 7.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم -

ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 566

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 566

يذهب بمقدار نصف الدانق بواسطة البخارات المتصاعدة منه، فيصير حال البرودة قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه، فقد تحقّق أنّ الأخبار على الدعوى الأولى بالغة حدّ التواتر.

و أمّا الدعوى الثانية:

و هي حصول الحرمة عند الغليان بغير النار و عدم ارتفاعها بذهاب الثلثين، فهي أيضا منحلّة إلى دعويين:

أمّا [الدعوى] الأولى: و هي أصل الحرمة، فالأخبار به متظافرة، مثل قوله: لا يحرم العصير حتى يغلي.

و قوله بعد السؤال عن شرب العصير: تشرب ما لم يغل، فإذا غلا فلا تشربه، قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: القلب.

و مثل قوله: إذا نش العصير أو غلى حرم.

و أمّا الدعوى الثانية: و هي عدم ارتفاع الحرمة بالذهاب، فيكفي لها خلو الأخبار بعد تعرّض حرمته بالغليان، عن تعرّض رفعها بالذهاب، و أخبار الذهاب مختصّة بالغليان بالنار، إلّا رواية زيد النرسي، فإنّها على ما في كتاب الجواهر، و الطهارة للشيخ الأجلّ المرتضى، و جواب الأسئلة للميرزا القمي- قدّس اللّٰه أرواحهم- يكون دالا على حصول الحلية بذهاب الثلثين في النشيش بنفسه، كما في الغليان بالنار، و لكنّه غير معلوم الصحّة، فإنّ المذكور في المقامع للمولى محمّد علي بن الفريد البهبهاني- قدّس سرّهما- نقلا عن كتاب البحار للمجلسي- قدّس سرّه- و هو عن أصل الزيد المذكور خال عن الدلالة و الاشعار على هذا المطلب،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 567

و يكون بينه و بين ما ذكراه اختلاف فاحش، و كذلك ما ذكره الشيخ الأجل الحاج ميرزا حسين النوري في المستدرك، مطابق لما في المقامع، و هو نقله عن الأصل المزبور بلا واسطة، و حكى الأستاذ- دام ظله- وجود هذا الأصل

عنده- رحمه اللّٰه- «1» بل و مع ذلك، هنا جملة مؤيّدات في الأخبار للمدعى من عدم الارتفاع، بل يدل عليه ما رواه في مجمع البحرين مرسلا في مادة نش، من أنّه إن نش العصير من غير أن تمسه النار فدعه حتى يصير خلا.

و من جملة المؤيّدات قوله: لا بأس بشرب العصير ستة أيّام، قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل «2»، فإنّ الظاهر منه أنّه بعد الغليان يسقط عن الانتفاع به في الشرب رأسا، و يصير مثل الخمر.

و منها: قوله في موثقة عمّار الواردة في وصف المطبوخ الحلال، بعد ذكر نقع ربع من الزبيب في اثني عشر رطلا من الماء ليلة، فإذا كان أيّام الصيف و خشيت أن ينش جعلته في تنور، سخن قليلا حتى لا ينش «3» فإنّ فيه إشعارا بأنّه مع النش يسقط عن قابلية الشرب، و إن كان فيه سؤال أنّه إذا خيف نشيشه بدون الجعل في التنور لحرارة الهواء، فلا يكون جعله قليلا في

______________________________

(1)- و قد عثرت بعد كتابة هذا المحلّ على مستدرك الشيخ النوري، فوجدت هذا الحديث فيه، و أسنده إلى فقه الرضا، و حينئذ فلا يبقى الاعتماد عليه، لعدم الاعتماد على أحاديث هذا الكتاب، لعدم معلومية صدورها و اتصالها إلى أحد المعصومين- عليهم السّلام- و إن كان قد اعتمدها الشيخ المذكور- رحمه اللّٰه- و قال في ذلك: لنا إليه طريق ليس حجة لغيرنا- منه عفى عنه.

(2)- الوسائل: ج 17 ص 229، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ص 230، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 568

تنور سخن موجبا لعدم نشيشه، بل هو معاون على النشيش فلا نعلم سر طبيعي لجعله وسيلة لعدم النشيش.

و منها: قوله في وصف هذا

المطبوخ، أيضا في رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي: ثمّ يتركه في الشتاء ثلاثة أيّام بلياليها، و في الصيف يوما و ليلة «1»، فإنّ الظاهر أنّ جعل المدة في الصيف أقل، لخوف حصول النشيش في أكثر من يوم و ليلة فيكون بلا علاج، و على هذا فيشكل الحال في كثير من العصيرات المجعولات لأجل الخلّية، فيغلي و لا يصير خلا.

أمّا المقام الثاني: فقد تمسّك شيخنا المرتضى على النجاسة بإطلاق الخمر على العصير في موثقة معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الرجل من أهل المعرفة بالحق، يأتيني بالبختج و يقول قد طبخ على الثلث، و إنّما أعرف أنّه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: «خمر لا تشربه». «2»

أقول: لا شكّ في عدم كون الإطلاق على وجه الحقيقة، و إنّما هو تجوّز لعلاقة المشابهة في الآثار، و حينئذ فلا بدّ من الاقتصار في ترتيب الآثار على مقدار يكون التنزيل و التشبيه بلحاظه، و لا يخفى أنّ الكلام خال عن لفظ العموم و إنّما يستفاد العموم من الإطلاق، و هو فرع كون الكلام مسوقا لمقام البيان.

و حينئذ نقول: لا يخفى على من لاحظ صدر الرواية و ذيلها، أنّ سوقها إنّما هو لأجل السؤال عن حكم الشرب، و بيان أثره التكليفي، و لم يتعلّق غرض واحد

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 231، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ص 234، ح 4 و ليست فيه كلمة «خمر».

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 569

من السائل و المجيب ببيان الأثر الوضعي الذي هو الطهارة و النجاسة، و يؤيّده ترتيب قوله: «لا تشربه» على قوله: «خمر».

و لو كان التنزيل بلحاظ النجاسة أيضا لناسب أن

يقال: لا تشربه و اجتنب منه، و كون النجاسة من الآثار الظاهرة البديهية للخمر على حدّ ظهور الحرمة و بداهتها ممنوع، فإنّ البداهة إنّما هي في هذا الزمان، و أمّا في تلك الأزمنة فقد كان حكم نجاسته مختلفا فيه في ما بين الرواة، و قد تعرّضوا له في ضمن الروايات أيضا، هذا مع خلو الرواية عن لفظ الخمر في نسخة الكافي، و إنما هو ثابت في كتاب الشيخ، و الكافي أضبط من الشيخ، و لا يمكن الاعتضاد لفتوى ابن بابويه، فإنّها و إن كانت مأخوذة من الروايات لكنّه لاستنباطه أيضا دخل فيها، و إذن فالطهارة قضية الاستصحاب.

مسألة: لو صار العصير خلا فالنص دال على الحلية

فلو صار دبسا قبل ذهاب الثلثين، أو كان غاليا بغير النار، ثمّ صار دبسا فهل ينتفع في حلّيته أيضا أم لا؟ فانّ معيار الانقلاب أن يكون الموضوع غير الأوّل بنظر العرف، و كان المنقلب إليه محكوما بضد حكم المنقلب، إمّا بالدليل، أو بالأصل، كما هو الحال في الكلب إذا صار ملحا، فان قولنا: الكلب نجس، لا يفهم منه العرف الملح و لو ما كان سابقه الكلب، فهل المقام أيضا كذلك فلا يقال على الدبس أنّه عصير أو لا؟

الانصاف هو الثاني، فإنّ العرف لا يرى مغايرة هذين الموضوعين إلّا نحو مغايرة موضوع العجل مع موضوع البقر، و مغايرة اللبن مع الجبن، و الحنطة مع الخبز، ألا ترى أنّ وصف الغصبية في العجل لا يزول إذا صار بقرا، و كذا النجاسة في اللبن و الحنطة إذا صارا جبنا أو خبزا، مع أنّ البقر حلال ذاتي، و الجبن و الخبز

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 570

طاهران ذاتيان.

فنقول: حال الدبس لدى العرف بعينه حال الخمر المنجمد، فكما أنّه لا يراه العرف

موضوعا آخر، فكذلك هنا أيضا لا يرى الدبس موضوعا وراء العصير، فقولنا: العصير حرام يشمل العصير حالة الانجماد أيضا، و لو كان الخل غير منصوص لجرى هذا الكلام فيه أيضا، هذا و لكن في جملة من النصوص تعليق جواز الشرب على الحلوية، فيستفاد منها أنّ المعتبر أحد الأمرين، من الحلوية، و الذهاب في الغالي بالنار، و المراد بالحلوية ليس مجرد الحلاوة، فإنّها ثابتة للعصير من أوّل الأمر أيضا، بل المقصود كونه حلوا محضا، و هو إنّما يكون إذا ذهب جميع ما امتزج به من الأجزاء المائية، و يؤيّده تعقيبه في بعض الروايات بقوله: يخضب الإناء، يعني: صار مورثا لتلون الإناء لالتصاقه به، بل لا يبعد أن يكون اعتبار ذهاب الثلثين لأجل إحراز الحلوية، فيكون هو معيار الشارع لمعرفة حصول الحلوية، بدون الحاجة إلى الذوق هذا هو الكلام في العصير العنبي.

و أمّا العصير الزبيبي فالمشهور على حلّيته عند الغليان على خلاف العصير العنبي، و الشيخ الأجلّ المرتضى أيضا حاول عدم دلالة الأخبار على الحرمة فيه.

و الحق أن يقال: امّا الأخبار التي ذكر فيها انّ العصير متى غلى يحرم، لا يجوز التمسّك بها للعصير الزبيبي، فإنّا و إن قلنا: إنّ مادة العصير بحسب اللغة أعم من المعتصر من الجسم و من الماء الخارج الممتزج مع الاجزاء اللطيفة للشي ء، و لكن لا يمكن إرادة هذا المعنى العام من العصير في الخبر، إذ يدخل فيه عصير البطيخ، و الباذنجان، و كل جسم رطوبي قابل للعصر، فيلزم التخصيص المستهجن، فلهذا نقطع بأنّ المراد العصير المعروف في تلك الأزمنة المعهود في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 571

الأذهان حتى يسلم عن هذا المحذور، و هذا المعهود المعروف إمّا عصير العنب، أو

هو و عصير التمر و الزبيب، و لا يمكن القطع بالثاني، فلهذا يكون التعليل بأخبار العصير للزبيب عليلا.

و أمّا الأخبار التي وردت في بيان كيفية المطبوخ الذي إذا طبخ بهذا الوصف كان شربه حلالا، فالإنصاف صحّة الاستدلال بها و تمامية دلالتها على الحرمة في الزبيب، فانّ المستفاد منها انّ حرمة نوع من أنواع عصير الزبيب و فساده كان مركوزا في أذهان الرواة و مسلّما في ما بينهم، و كان سؤالهم عن النوع الحلال و ما يصلح شربه فلاحظ تلك الأخبار، و الإمام قد قررهم على ذلك و بيّن لهم قانونا في طبخه، من جملة هذا القانون تثليثه، و لو كان حلّية هذا العصير غير محتاج إلى كيفية خاصة لوجب إعلامهم و تنبيههم، خصوصا الخبر الذي يكون السائل فيه علي بن جعفر، فإنّه مع تلك الجلالة إذا ذكر كلاما يتراءى منه مسلّمية فساد نوع من هذا العصير و كان خلاف الواقع لنبّهه الإمام لا محالة، هذا في مقام إثبات أصل الحرمة.

و أمّا التحليل بذهاب الثلثين، فهو أيضا مذكور في تلك الأخبار، و فيها التعرّض له و نسبة دلالتها على أصل الحرمة و على ذلك على حدّ سواء.

نعم استصحاب الحالة السابقة التعليقية الحاصلة في حالة العنبية، و هي انّه لو غلى يحرم على فرض عدم تمامية دلالة الأخبار كما تمسك به بعضهم في غير المحل، لا لما توهّمه بعض من أنّ الزبيب موضوع آخر غير العنب- فالموضوع في هذا الاستصحاب غير محرز، لأنّ الموضوع بنظر العرف باق و لا يرون الزبيب، بل كل جسم كان فيه الرطوبة حال ذهاب الرطوبة و عروض الجفاف غيره حال حصول

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 572

الرطوبة، و إن كان له

في كل من الحالين اسم على حدة، ألا ترى انّ الخشب حال الرطوبة و بعد اليبوسة و الجفاف الحاصل له بالشمس يعد واحدا، فالإنصاف انّ الموضوع في هذا الاستصحاب لم ينقلب عرفا- بل الإشكال فيه من جهة أنّ الحكم الثابت في العنب إنّما هو كونه لو غلى عصيرة يحرم، و العصير في العنب عبارة عن الماء المعتصر منه، لا الماء الخارجي الممتزج بأجزائه اللطيفة، كما هو المراد بعصير الزبيب، و الحاصل عصير العنب نوع من العصير، و عصير الزبيب نوع آخر، و لو فرض إيقاع العنب في الماء و غليانه مع الماء الخارجي، لكن العصير مع ذلك هو ماءه الخارج من حبّة العنب المخلوط بهذا الماء الخارجي، فلا يكون هذا الماء الخارجي عصيرة، و إنّما هو ما يخرج من نفسه.

و بالجملة فالإشكال عدم تحقّق العصير بالمعنى الذي يتحقق في العنب في الزبيب، و هو بمعناه الذي يتحقّق في الزبيب لا يكون متعلّقا للحكم المذكور، لعدم تحقّق هذا المعنى في العنب، فالاستصحاب غير مجد لو لا الاخبار المذكور.

و أمّا العصير التمري فلا دليل على حرمته بالغليان فهو باق تحت أصالة الحل، و لا يتوهّم دلالة لرواية قصة نوح مع إبليس في النخلة، حيث فرع في آخرها «فإذا أخذت عصيرا فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان، فكل و اشرب» «1». فإنّه من متشابهات الأخبار لا يمكننا فهمها، و إلّا فلو أخذ بمقتضى ظاهرها كان قاضيا بحرمة التصرف في أصل النخلة و ثمرها، لكونهما مشتركين، و كان جوازه موقوفا على إذهاب نصيب الشيطان، فلا محيص عن عدم التمسّك بهذا الخبر و نحوه و عدّها من المتشابهات، هذا مع أنّه يستفاد من جملة من الأخبار أنّ

______________________________

(1)- الوسائل: ج

17 ص 226، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 573

المناط و المعيار في حرمة النبيذ المتخذ من التمر، إنّما هو الوصول إلى حد الإسكار، و أنّه ما لم يصل إلى هذا الحدّ يكون حلالا، مثل رواية وفد الذين ذهبوا عن مجلس الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فتذكّروا عدم سؤالهم عن مسألة مهمة، فأرسلوا جماعة منهم ليسألوا عن النبيذ الذي كانوا يشربونه، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: صفوه لي، فجعل السائل يبيّن كيفية طبخه و صناعته- إلى أن قال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم- قد أكثرت يا هذا أ فتسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام «1».

فإنّه واضح الدلالة على أنّ المناط هو الإسكار، دون الغليان إلى غير ذلك من الأخبار التي يجدها المتصفّح، بحيث لا يبقى مجال معارضتها للروايتين الواردتين في النضوح، في إحديهما سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع حتى يحل؟

قال: خذ ماء التمر فأغله حتى يذهب ثلثا ماء التمر» «2».

و في الأخرى «سألته عن النضوح؟ قال: يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثمّ يمتشطن» «3». إذ لعلّه كان وجه الحكم بالإغلاء حتى يذهب الثلثان، أنّ النضوح ممّا يبقى غالبا مدّة كثيرة لتطيب النسوان به، بحيث لو لم يذهب غالب أجزائه المائية لكان في معرض الفساد و الاختمار، فلهذا حكم بإذهاب ثلثيه حتى يكون محفوظا من التغيّر و إن بقي مدّة طويلة.

«مسألة: هل المعتبر في حدّ الحرمة في كل عصير قلنا بها فيه ما ذا، هل هو مجرّد الغليان

الذي هو عبارة عن صيرورة الأسفل أعلى و بالعكس، أو يعتبر علاوة عليه من حصول الاشتداد، و الثخونة التي تدرك بالحس، و عدم الاعتبار بالثخونة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 284، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 298، ح 2.

(3)- المصدر نفسه:

ص 303- 304، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 574

الحاصلة بمجرّد الغليان، فإنّه لا ينفك عن ثخونة ما في العصير بذهاب الأجزاء المائية، غاية الأمر ليست بمحسوسة.

أو أنّ المعتبر لا ذاك و لا هذا، بل هو النشيش الذي هو عبارة عن تصويت العصير الحاصل وقت الغليان الضعيف الذي لا يتحقّق معه القلب، و صيرورة الأعلى أسفلا و يعبّر عنه بالفارسية ب «سنجاقك»، و على هذا الأخير فيشكل الحال في كثير من العصيرات المتخذة للدبس، فإنّها بمجرّد المكث يومين أو ثلاثة أيام كما هو المتفق غالبا يحصل له هذه الحالة، و هي خاصية لنفس العصير يقتضيها طبعه، و ليس لأجل تأثير الحرارة فيه، بل و لو فرض وضعه في مكان ذي ظل بارد يحصل له إذا بقي مدة ثلاثة أيّام تقريبا هذه الحالة، و كيف كان فلا بدّ من الرجوع في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى الأخبار.

فنقول في خبر: «إنّ كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «1». و هذا لا يجوز التمسك به لإجماله، فإنّه لا إشكال في عدم كونه بهذا الإطلاق الذي هو عليه من كفاية مجرد إصابة النار، بل من المقطوع اعتبار تأثير ما من النار في العصير، و هل هو مجرّد الحرارة، أو الغليان، أو الثخونة؟ فغير معلوم.

و في خبر آخر: سئل عن الطلاء؟ فقال: «إن طبخ حتى يذهب منه اثنان، و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير» «2». قد يتوهم صحّة التمسّك به لاعتبار الثخونة، حيث إنّ الموضوع للحكمين اللذين هما الحرمة قبل التثليث، و الحلّية بعده، قد جعل فيه المطبوخ، و لا يكفي في صدق مسمّى الطبخ

______________________________

(1)-

الوسائل: ج 17 ص 224، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 226، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 575

مجرّد الغليان، و إلّا يصدق على الماء الغالي انّه مطبوخ، بل يعتبر فيه حدوث غلظة و ثخونة ندركه بالحس، و لكنّه مردود بانّ ظاهر الرواية إذا اشتغل بمقدّمات الطبخ، فمن أوّل الاشتغال يصدق الطبخ، فالإنصاف عدم ظهور الرواية في شي ء من الأمور الثلاثة، كالرواية الأولى، فلا يصح به التمسّك كالأوّل للإجمال.

و في خبر آخر: سألته عن شرب العصير؟ قال: «تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشرب، قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: القلب» «1». هذا واضح الدلالة على اعتبار الغليان بمعنى صيرورة الأعلى أسفلا و بالعكس، إذ لا يطلق على الغلية الضعيفة القلب، إذ لا يكون معه قلب أصلا حتى بالسنبة إلى الجزء اليسير من العصير، فإنّه عبارة عن ارتفاع و انحطاط في أجزاء الماء، يحدث بواسطة خروج الهواء القليل الذي يكون تحته من النار، فإذا كان هذا الهواء كثيرا قويا يوجب خروجه القلب و العكس، ثمّ هذا الخبر صريح في التحديد لقوله: «تشرب ما لم يغل» فهو كأنّه قيل: العصير حلال ما لم يصر أعلاه أسفله و بالعكس.

لكنّه يشكل جمعه مع رواية أخرى و هي قوله: «إذا نش العصير أو غلى حرم» «2»، فإنّه صريح في اعتبار النشيش الذي هو الغليان الصغيرة، و لا يتوهم إمكان الجمع بينهما بالإطلاق و التقييد، فالمقام مقام التحديد، فهو نظير روايتين مختلفتين في تحديد الكر كان مضمون إحديهما أنّ الماء إذا صار بقدر أربعين منّا كان مطهّرا، و الآخر إذا صار بقدر خمسة و ثلاثين منّا صار مطهّرا، فليس مفاد الأوّل انّ العشرة أمنان ليست بمطهر، و كذا الخمسة عشر

منّا، و كذا العشرون منّا،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 229، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 576

و كذا الثلاثون منّا حتى يكون قد خرج عن هذا الإطلاق و العموم فرد واحد، و هو الخمسة و الثلاثون منّا، بل الظاهر أنّ المفهوم من كل واحد معنى وحداني لا يجامع الآخر بنحو، فانّ ظاهر الأوّل التحديد بالأربعين، و الثاني التحديد بالخمسة و الثلاثين، و هما غير مجتمعين، إذ لا يمكن أن يكون كل من الأربعين و الخمسة و الثلاثين بحدّه مناطا و معيارا للمطهرية.

و كذا الحال في المقام حيث إنّ المستفاد من رواية أنّ العصير حلال ما لم يغل، مع تفسير الغليان بالقلب، أنّ القلب بحدّه يكون حدّا للحرمة، و المستفاد من رواية انّ العصير إذا نش أو غلى حرم، أنّ النشّ بحدّه يكون كذلك، و هما من قبيل الأقل و الأكثر، إذ كل غليان فلا محالة مسبوق بالنش، و ليس كل نشّ لا محالة ملحوقا بالغليان.

هذا و لكن الظاهر من الترديد بكلمة أو في الخبر الثاني، عدم كونه من باب الترديد بين الأقل و الأكثر الشائع في كلمات الفصحاء، كما يقال: إذا جاءك عشرون أو ثلاثون فقيرا فافعل كذا، لكون المقام مقام التحديد و لا يناسبه المسامحة، فلو كان المراد بالغليان المرتبة المتعقّبة للنشيش لناسب الاقتصار على قوله: «إذا نش» و عدم تعقيبه ب «أو غلى»، و إذن فمن المحتمل أن يكون المراد بالغليان هو الغليان بالنار، و بالنش هو الغليان بغيرها لا بمعنى أن يكون هذا معناهما اللغوي، بل بمعنى انّهما بعد اشتراكهما في كون مادة كل منهما بحسب اللغة موضوعا لمطلق الغليان، سواء حصل بالنار أم بغيره، اختص لفظ

الغليان بالانصراف إلى الحاصل بالنار، و النش بالحاصل من غيرها.

و على هذا يحصل الجمع بين الروايتين، و لكن يلزم اختلاف صورتي حصول

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 577

الغليان بالنار، و بغيرها في حدّ الحرمة و معيارها، إذ يكون المعيار في الصورة الأولى هو الغليان المفسّر بالقلب، و في الصورة الثانية هو النشّ الذي هو الغليات الصغيرة.

و الحاصل: أنّ مقتضى غير الخبر الأخير هو اعتبار الغليان، و هو على ما هو ظاهره عرفا و فسّر به في الرواية، عبارة عن المرتبة الشديدة التي هي صيرورة الأعلى أسفلا و بالعكس، و يشهد على ظهوره العرفي سؤال الراوي عنه مع كونه من أهل اللسان، فإنّه لمّا شك في أنّ المراد أظهر أفراده من المرتبة الشديدة أو الأعم سأل عن التعيين.

و بالجملة: المعارض منحصر في الرواية الأخيرة التي يكون راويها الذريح بواسطة الحسن بن الجهم، و هو من الثقات كما في رجال أبي علي بواسطة ابن فضال، حيث قد اعتبر فيها النش، و يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية أيضا لا يستفاد منها اعتبار غير الغليان، و ذلك لأنّ كلا من النش و الغليان بحسب اللغة و إن كان أعم من المرتبة الضعيفة و الشديدة و من الحاصل بالنار و بغيرها، إلّا أنّ وقوعهما في الرواية على سبيل الترديد بكلمة «أو» يقتضي الاختلاف في ما يراد بهما.

و حينئذ إمّا أن يحمل النش على المرتبة الضعيفة، و الغليان على الشديدة، و إمّا أن يحمل النش على ما يحصل بالنار، و الغليان على ما يحصل بغيرها، كما أنّ كلا منهما منصرف عرفا إلى هذين المعنيين، أعني: ينصرف إطلاق النش إلى الضعيف و ما يكون بغير النار، و إطلاق الغليان إلى

الشديد و ما يكون بالنار، فإن حملناهما على الأوّل لزم معارضة هذه الرواية مع سائر الأخبار، التي اعتبر فيها الغليان بمعنى القلب الصريح في المرتبة الشديدة، و إن حملناهما على الثاني ارتفع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 578

التعارض عن البين.

لا يقال بل بقي التعارض مع ذلك، إذ بعد حمل النش على ما يكون بغير النار، يكون أيضا ظاهرا في المرتبة الضعيفة، فيلزم في ما يكون بغير النار اعتبار المرتبة الضعيفة، فيثبت ذلك في ما يكون بالنار بعدم القول بالفصل.

لأنّا نقول: الكلام في معنى الخبر و الجمع بين مداليلها مع قطع النظر عن قول العلماء، فإذا كان مقتضى الأخبار شيئا و خالفه أقوالهم فنحن نأخذ بمقتضى الأخبار، كما عرفت في التفصيل المتقدّم في أصل مسألة العصير، ثمّ لا حاجة لنا إلى ملاحظة الظهورين الثابتين للفظين، انّهما من قبيل الأوّلي و الثانوي، فيقدّم الأولي مع إمكانه، أو هما متساويان، فيصير اللفظ مجملا، فإنّ مقام ذلك إنّما هو في ما إذا كان في البين لفظ النش بلا معارض، و أمّا إذا كان له معارض فلا بدّ من ملاحظة النصوصية و الظهور في ما بينه و بين معارضه، دون ملاحظة ذلك في ما بين معنييه.

مثلا إذا قال: لا تكرم زيدا، كان الزيد مشتركا بين مسمّيين كان في أحدهما أظهر، و قال: أكرم العلماء، و كان المسمّى الذي هو أظهر من أفراد العلماء، فلا بدّ من ملاحظة أنّ أيّا من لفظ زيد في هذا المسمّى، و لفظ العام في العموم أظهر، لا من ملاحظة أنّ أيّا من مسمّييه أظهر، فإذا كان ظهور العام في العموم أقوى يحمل زيد على مسمّاه الجاهل، و إن كان هو غير أظهر بالنسبة إلى

المسمّى الآخر، فهنا أيضا و إن سلمنا أنّ ظهور النش في المرتبة الضعيفة أعم من النار، و من غيرها أقوى من الظهور في ما يكون بغير النار، أو مساو له، و لكن إذا فرضنا أنّ الظهور الأوّل لا يقاوم مع ظهور المعارض، فانّ الخبر الدال على اعتبار الغليان مع تفسيره بالقلب، نص صريح في اعتبار المرتبة الشديدة، فلا يقاومه الظهور المذكور كان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 579

حمل لفظ النش على الظهور الثاني متعيّنا، و إن كان بالنسبة إلى الأوّل أضعف أو مساويا معه بحيث لو لم يكن معارض لحملناه على الأوّل، أو كان مجملا وجب فيه التوقف و الرجوع إلى قاعدة أخرى.

و كيف كان: فقد عرفت أنّ كون النش حدّا للحرمة في الغالي بالنار لا دليل عليه، و أضعف منه اعتبار الثخونة المحسوسة، إذ لا دليل عليه أيضا من الأخبار، بل هي صريحة في اعتبار الغليان الذي هو أعم منها، و إن كان ملازما مع الثخونة القليلة الغير المحسوسة.

و حينئذ فإن كان مراد الفقهاء من قولهم: إذا غلى و اشتد، هو الثخانة المحسوسة، كما هو الظاهر لرجوع الضمير في «اشتدّ» إلى العصير، و معنى اشتداده هو ثخانته، فلا يساعد عليه شاهد من الأخبار، و إن كان مرادهم هو المرتبة الشديدة من الغليان، حتى يكون المعنى و اشتد العصير في الغليان، و كان احترازا عن الغليات الصغيرة الحاصلة أوّلا، فهذا القيد لا بدّ منه و موافق لمقتضى الأخبار.

[في حكم العصير إذا صار دبسا بعد الغليان قبل أن يذهب ثلثاه]

«مسألة 2: إذا صار العصير دبسا بعد الغليان قبل أن يذهب ثلثاه فالأحوط حرمته، و إن كان لحلّيّته وجه، و على هذا فإذا استلزم ذهاب ثلثيه احتراقه فالأولى أن يصبّ عليه مقدار من الماء، فإذا ذهب

ثلثاه حلّ بلا إشكال».

لو صار العصير بعد الغليان و قبل التثليث دبسا، فهل يصير حلالا و طاهرا بناء على نجاسة العصير، كما في صورة انقلابه خلا كما هو مدلول الأخبار، أم يبقى على الحرمة و النجاسة؟ الكلام فيه يبتني على بيان المعيار في الانقلاب الذي عدوّه من جملة المطهرات.

فنقول: وجه الحكم بالطهارة معه أحد أمرين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 580

الأوّل: أن يكون دليل طهارة المنقلب إليه مطلقا، و شاملا بإطلاقه لهذا الفرد الذي انقلب عن العنوان الأوّل إلى الثاني، فيكون وجه طهارته عدم شمول دليل نجاسة المنقلب له، لفوت الموضوع و شمول طهارة المنقلب إليه إيّاه لإطلاقه، كما لو صار الكلب ملحا، فانّ دليل: الكلب نجس لا يشمله، لأنّه ليس بكلب، و يصح سلب الاسم عنه، و دليل: الملح طاهر، له إطلاق بالنسبة إلى الملح المسبوق بكونه كلبا.

و الثاني: أن لا يكون إطلاق لدليل المنقلب إليه بالنسبة إلى هذا الفرد، كما لو فرض في هذا المثال أن يكون الملح الواقع في الدليل منصرفا إلى ما يخرج من المعدن، و لم يكن شيئا آخر، فإنّه حينئذ يكون الشي ء المنقلب بلا دليل على كل من طرفي الطهارة و النجاسة، لقصور دليليهما اللفظيين، فيكون موضوعا مشكوكا فيحكم بطهارته بمقتضى قاعدة كل شي ء طاهر إلخ.

فهذان الأمران وجه الحكم بالطهارة في مورد الانقلاب، و إلّا فليس واردا في دليل من الأدلّة مضمون أنّ الانقلاب مطهر حتى ينظر في كيفية دلالته و كميتها.

و حينئذ نقول في العصير الذي صار بعد الغليان و قبل التثليث دبسا: إنّه لا إشكال في عدم شمول دليل: «العصير يحرم إذا غلى حتى يذهب ثلثاه» لعدم صدق اسم العصير عليه، و كذلك لا إطلاق لنا

في طرف الدبس، إذ لم يرد في دليل من الأدلة الحكم بأنّ الدبس طاهر، حتى نتكلم في إطلاقه بالنسبة إلى هذا الفرد و عدمه، و إنّما الحكم بالطهارة يكون لأجل أنّ النجاسات محصورة في عشرة، أو اثني عشرة شيئا مخصوصا، فنعلم من هذا الحصر أنّ ما وراء ذلك طاهر، و إلّا فليس هنا دليل لفظي حكم بطهارة غيرها على التفصيل، أو الإجمال، و إذن فيصير

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 581

موضوع هذا الدبس ممّا لا دليل على طهارته و نجاسته، و يكون مشكوكا فتنحصر وجه طهارته في قاعدة الطهارة، و هي أيضا غير جارية لوجود استصحاب النجاسة السابقة الثابتة حال العصيرية، و لا منافاة بين زوال اسم العصيريّة و صحة هذا الاستصحاب، إذ لا يضر هذا المقدار من التفاوت بباب الاستصحاب.

و توضيح ذلك: أنّ معيار وحدة الموضوع في الاستصحاب و تعدّده، إنّما هو الوحدة العرفية و التعدد العرفي، بمعنى: أن يكون في البين موجود واحد طرأ عليه حالتان، و كان هو المشار إليه المحفوظ في حالتي اليقين و الشك، حتى يصدق نقض اليقين بالشك، فمتى رأى العرف أنّ الموجود في كلا الحالين واحد، بحيث يصدق عنده النقض كان موردا للاستصحاب، سواء بقي الوصف العنواني و الاسم و الخواص و الآثار بحالها إن فرض الشك مع ذلك، أو لم يبق الوصف العنواني و الاسم مع بقاء الخاصية و الأثر، أو لم يبق شي ء منها كما في العجل و البقر و العصير و الدبس، فانّ العرف يشير إلى موجود في كلا الحالين.

فنقول: هذا كان في السابق محكوما بكذا، فيكون في اللاحق أيضا محكوما به بقضية الاستصحاب، و متى رأى العرف موجودين متباينين غير مرتبط أحدهما بالآخر،

بحيث حكم أنّ الموجود الأوّل قد انعدم، و وجد موجود آخر انقطع الاستصحاب، كما في الكلب و الملح و العذرة و الدود و النطفة و الإنسان، فافهم ذلك حتى لا يختلط عليك اتحاد الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب باتحاد الاسم و بقاء الوصف العنواني المعتبر في الأدلّة اللفظية.

و أمّا الخمر و الخلّ فهما أيضا متحدان عرفا، إذ الجسم الواحد لا يصير شيئين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 582

متباينين بمجرّد عروض المرارة عليه في وقت، و عروض الحموضة في وقت آخر من تأثير الهواء أو الشمس أو طول الزمان أو غير ذلك، و إنّما وجه الحكم بالطهارة فيه هو النص، و لولاه لكان الحكم فيه كالدبس، و كذا في دم البق الذي يمصّه من بدن الإنسان، بعد صدق اسم دم البق و خروجه عن اسم دم الإنسان فإنّ القاضي بطهارته هو ورود النص بطهارة دم البق، و القمل، و أشباه ذلك الشامل بإطلاقه لهذا الفرد، و إلّا لكان لاستصحاب النجاسة فيه مجال.

و هكذا الكلام في العنب و الزبيب مع قطع النظر عن الإشكال المتقدّم، فان الجسم الواحد لا يراه العرف بمجرّد الرطوبة في وقت و اليبوسة في آخر و إن اختلف اسمه و وصفه العنواني شيئين.

و بالجملة: فالأقوى أنّ العصير المذكور باق على النجاسة ما لم يذهب ثلثاه.

مسألة «1»: لو صبّ العصير من قدر لم يغل على قدر عصير آخر غلى و ذهب ثلثه، ثمّ اذهب ثلثا المجموع

كما لو كان المصبوب عليه ثلاثة أمنان، فذهب منّ منه و بقي منّان، فصبّ عليه أربعة أمنان فصار ستة، فذهب من الستة أربعة أمنان، فلا إشكال- على القول بالطهارة- في حصول الحلّية بعد ذهاب الثلثين من المجموع.

و أمّا على القول بالنجاسة: فربما يتوهّم الطهارة بعد تثليث المجموع أيضا، و انّه ليس حال هذا العصير كحال العصير المتنجس

بالنجاسة الخارجية، حيث لا يطهر إذا غلى و ثلّث، بل حاله حال الأدوات، و آلات الطبخ، و لباس المزاول حيث إنّها تطهر بتبعية العصير، فإذا ذهب ثلثاه طهر هو و طهرت هذه الأشياء

______________________________

(1)- راجع العروة الوثقى المسألة 3 من مسائل ذهاب الثلثين.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 583

بطهارته، فكذا في المقام و إن صار العصير الغير الغالي بالانصباب في الغالي الغير المثلّث متنجسا، و لكنّه إذا ذهب الثلثان من المجموع طهر المصبوب و طهر المنصب أيضا بطهارته، و هذا كلام يجري في جميع الأجسام الذي يصب في العصير بعد الغليان و قبل التثليث، و يكون فيه حتى يحصل التثليث، كالتفاح فإنّها تطهر بطهارة العصير بالتبعية.

و هذا مخدوش، فانّ التبعية لم يرد في دليل من جملة المطهرات، و إنّما المعيار فيه هو الحكم بالطهارة في شي ء و السكوت عن حال شي ء آخر، كان الحكم بطهارة الشي ء الأوّل بدون الثاني كاللغو، مثل الحكم بطهارة ماء البئر- بناء على القول بنجاسته- بنزح مقدار معلوم، فإنّ السكوت عن حكم الدلو، و الحبل، و حواشي البئر مع عدم انفكاكها عن وصول شي ء من ماء البئر حالة النزح إليها، دليل على طهارتها عند طهارة ماء البئر، و إلّا فلو كانت باقية على النجاسة للزم التنبيه عليه.

فالحق أنّها تصير متنجسة بالملاقاة كما هو مقتضى القاعدة، و تصير طاهرة بطهارة البئر بدلالة هذا السكوت، و كذا الكلام في الحكم بطهارة العصير بعد ذهاب الثلثين- على القول بنجاسته- بدون التعرّض لحال القدر، و يد المزاول، و لباسه، و سائر الأدوات المتلطّخة بالعصير الغير المنفكة عن التلطّخ به غالبا، دليل على صيرورتها طاهرة بطهارة العصير، بعد صيرورتها متنجسة بملاقاته على القاعدة، و إلّا فلو

كانت باقية على حالة التنجّس لكان مقام بيان و التنبه عليه.

و الحاصل: أنّ دليل التبعية في الأشياء المزبورة هو السكوت، و عدم التعرّض في مقام البيان و التنبيه، و لا يكون مقام البيان إلّا مع الاتفاق في الغالب، فلا يكون هذا في مثل ما نحن فيه، إذ لم يكن من الغالب وضع شي ء من العصير من قدر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 584

على قدر آخر، و كذا الأشياء المجعولة في العصير من التفاح، و نحوه، إذ ليس من الغالب وضعها بحيث كان الحكم بطهارة العصير، بدون التعرّض لحال ذلك محسوبا دليلا على التبعية فيها.

و مثل ذلك الكلام في العنب المتخذ للتخليل، إذا طرحت في الحبّ على التدريج و مع فصل زمان يوجب نشيش المطروح المتقدّم، فيورث تنجس ما يطرح بعده في الحبّ بملاقاته، ثمّ يصير المجموع خلا، فإنّه إن كان عمل الخل بهذا النحو، أي الطرح التدريجي من الشائع الغالب، لكان حكمهم بالطهارة إذا صار العصير خلا، بدون التعرض لحال المطروح اللاحق المتنجس دليلا على طهارته بالتبع، و أمّا لو لم يكن شائعا غالبا، كما هو الواقع فيصير الأمر فيه مشكلا بناء على النجاسة. هذا.

و لكن يمكن التمسّك على الطهارة في مسألتنا، أعني: صبّ العصير الغير الغالي على الغالي الغير المثلّث فصار المجموع مثلّثا برواية القدر، و هي مكاتبة محمّد بن عيسى إلى أبي الحسن الثالث- عليه السّلام- فكتب عندنا طبيخ يجعل فيه الحصرم، و ربّما يجعل فيه العصير من العنب و إنّما هو لحم يطبخ به، و قد روي عنهم في العصير أنّه إذا جعل على النار لم يشرب، حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، و أنّ الذي يجعل في القدر من العصير

بتلك المنزلة، و قد اجتنبوا أكله إلى أن يستأذن مولانا في ذلك، فكتب: «لا بأس بذلك» «1».

فإنّه إمّا أن يقال: إنّ هذه الرواية دليل على طهارة العصير فنعم المطلوب، و إمّا أن يجعل دليلا على المدعى- بناء على النجاسة- حيث حكم فيها بعدم البأس

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 229- 230، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 585

بأكل اللحم المطبوخ بالعصير، مع أنّه قد صار متنجّسا به عند غليان العصير فلا وجه لهذا الحكم، إلّا أنّه إذا ثلّث العصير طهر هو و اللحم معا.

و لا يشكل بأنّ الحكم في هذه الرواية على خلاف القاعدة من الأصل، حيث لم يقيّد عدم البأس فيه بذهاب الثلثين، فإنّه قد كان من المفروغ عنه عند السائل اشتراط الحلية في العصير الغالي بذهاب الثلثين، و لكنّه توهم اختصاص محلّلية الذهاب و مطهريته بحال كون العصير خالصا غير ممتزج بغيره، فسؤاله مربوط بأنّ كون اللحم فيه حال الغليان مضر بمطهرية الذهاب و محلليته أو لا؟

و لا يشكل بأنّ العصير في مفروض هذه الرواية كان مستهلكا في اللحم، على ما يستفاد من قول السائل، و إنّما هو لحم يطبخ به، فإنّ معناه أنّه ليس مع اللحم شي ء آخر، و أنّ مقدار العصير إنّما هو على قدر حصول الطبخ به، و لا يبقى منه بعد الطبخ شي ء فالباقي بعد الطبخ هو اللحم المطبوخ بالعصير.

و إذن فلعل الحكم المزبور مستند إلى هذه الجهة، فإنّ هذا أيضا احتمال ضعيف، إذ الاستهلاك بعد الوجود لا يثمر شيئا، كما في قطرة دم وقعت في ماء قليل ثمّ استهلكت فيه، فإنّه يورث نجاسة هذا الماء بلا إشكال مع أنّه صار مستهلكا فيه.

و بالجملة فنحن بعد وجدان الحكم

بعدم البأس في هذه الرواية، نقطع بعدم اختصاص له بعمل محمّد بن عيسى، و لا بقدره، بل و لا بمطلق القدر، فكما نقطع بإلقاء هذه الخصوصيات يمكن القطع أيضا بإلقاء خصوصية اللحم، و انّ هذا الحكم يجري في سائر الأشياء المجعولة في العصير الكائنة معه حال الغليان إلى حال الذهاب، هذا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 586

و لو جعلت هذه الأشياء بعد التثليث فلا يبقى إشكال أصلا، و لهذا لم نتمسّك بالروايات الواردة في كيفية الطبخ الحلال للزبيب المشتملة على جعل العسل و الزعفران و الزنجبيل و غير ذلك من الأدوية في العصير، فانّ جعلها متأخّر عن التثليث، فلاحظ.

ثمّ إنّه ذكر السيد محمّد كاظم الطباطبائي- دام بقاه- في العروة الوثقى- في بحث مطهرية الذهاب- الفرق بين ما ذكرنا من صورة صبّ الغير الغالي على الغالي الغير المثلّث، فجعل الطهارة فيه بعد التثليث بلا إشكال، و بين صورة صبّ الغالي الغير المثلّث على الغالي المثلّث، فجعل الطهارة بعد تثليث المجموع محلا للإشكال، ثمّ ذكر أنّ الفرق بين الصورتين لا يخلو عن إشكال، و محتاج إلى التأمّل، و لعلّ سرّ الإشكال في الثانية أنّ المثلّث قد حصل علاج طهارته من التثليث، و تأثير التثليث فيه الطهارة ثانيا غير معلوم، و أمّا في الصورة الأولى فالطاهر الذي يتنجس بملاقاة الغالي الغير المثلّث، إنما هو لم يغل بعد فيكون لتأثير التثليث فيه محل، هذا.

و لكن الإنصاف، أنّ الحكم في الصورتين على حدّ سواء، فإنّه كما ذكرنا في الأولى أنّ الطاهر الملاقي للغالي الغير المثلّث، حاله حال اللحم المطبوخ بالعصير فيطهر تبعا لطهارته، كذلك نقول في الصورة الثانية أيضا: إنّ المثلّث و إن كان يتنجّس بصبّ الغير المثلّث الغالي عليه،

إلّا أنّه بعد تثليث المجموع يصير الأوّل طاهرا بتبع طهارة الثاني، ثمّ كما يمكن القطع بإلغاء الخصوصيات المذكورة، يمكن القطع أيضا بإلغاء خصوصية مقارنة اللحم مع العصير في الوقوع في القدر، فلو ألقى الشي ء الخارجي سابقا على العصير، أو لاحقا، قبل الغليان، أو بعده يمكن التمسّك في طهارته أيضا بالرواية.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 587

[العاشر في الفقاع]

العاشر: الفقّاع: و هو شراب متّخذ من الشعير على وجه مخصوص، و يقال:

إنّ فيه سكرا خفيّا، و إذا كان متّخذا من غير الشعير فلا حرمة و لا نجاسة إلّا إذا كان مسكرا».

و هو من المفاهيم المجهولة المصاديق، إذ ليس في اللغة الفارسية ما يرادف هذا اللفظ، كما يكون للفظ الماء و الخمر، نعم ماء الشعير الذي يستعمله الأطباء معروف، و لكنّه مقطوع الطهارة و الحلّية.

و بالجملة ليس له مصاديق معلومة حتى يعلم أنّ الحكم منوط بالإسكار، أو معلّق على صدق الاسم. هذا.

و أمّا ما يستفاد من الأخبار فالظاهر من الأخبار الكثيرة المشتملة على إطلاق اسم الخمر على الفقاع كونه من مصاديقه خصوصا ما ذكر فيه.

منها: انّه خمر مجهول، أو خمر استصغرها الناس «1». فانّ الظاهر منها الجهل بالخمرية التي هي الموضوع دون الجهل بالحكم، فإنّه ليس من المستبعدات، و كأنّ العامّة العمياء في تلك الأزمنة لمّا رأوا حكم الحرمة في الكتاب العزيز معلّقا على اسم الخمر زعموا أنّ الحكم يدور مدار صدق هذا الاسم، و أنّه مخصوص بما يتّخذ من ماء العنب، فحاولوا وضع شي ء لم يكن على زعمهم من مصاديقه مع إفادته خاصّية الخمر فوضعوا الفقاع، فأراد الأئمّة- عليهم السلام- تنبيههم و إخراج هذا التوهّم عن أذهانهم، فلهذا قالوا: ما حرم اللّٰه الخمر لاسمها، و إنّما حرّمها لعاقبتها،

فكل ما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر.

و على هذا فيكون المناط في التحريم هو السكر، و يكون نجاسته من جهة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 17 ص 292، ح 1 و 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 588

كونه مسكرا مائعا، فلو رأينا شيئا يطلق عليه في عرف العرب اسم الفقاع و علمنا بعدم سكره أو شككنا حكم بحلّيته و طهارته، ثمّ إنّ السكر أيضا ممّا لم يتبيّن علينا حقيقته، و لم يتحقّق له ضابطا جامعا مانعا، و لا يخفى أنّه لا يكون ضابطه زوال العقل و لا التكيّف و النشاط، بل المعلوم أنّه نشاط مخصوص، و أمّا هذه الخصوصية فغير معلومة.

[الحادي عشر: في عرق الجنب من الحرام]
اشارة

الحادي عشر: عرق الجنب من الحرام: سواء خرج حين الجماع أو بعده من الرجل أو المرأة، سواء كان من زنا أو غيره كوطي البهيمة أو الاستمناء أو نحوها ممّا حرمته ذاتيّة».

الحادي عشر عرق الجنب من الحرام على ما ذكره جمع من الفقهاء، و اعلم أنّه قد ورد في الأخبار مطلقات تدل على طهارة عرق الجنب بقول مطلق، بدون التقييد بكونه عن حلال، أو عن حرام، و معلوم أنّه أعمّ من القسمين، فيحتاج إذن في الحكم بنجاسة الثاني إلى مقيّد لتلك الإطلاقات، و ما ذكر للتقييد روايتان:

إحداهما: ما رواه الشهيد في الذكرى، عن محمّد بن همام، عن إدريس بن داود الكفرثوثي كما في الوسائل، أو زياد الكفرثوثي كما في طهارة الشيخ الأعظم المرتضى، و في آخرها حكم الإمام- عليه السّلام- جوابا لما أراد السائل بسؤاله، من حكم اللباس الذي فيه عرق الجنب ابتداء قبل سؤاله على سبيل الاعجاز، بجواز الصلاة إن كان من حلال، و عدم جوازها إن كان من حرام» «1».

و الثانية: ما رواه الشيخ

المرتضى- قدّس سرّه- عن المناقب لابن شهر آشوب، عن علي بن مهزيار، و فيها بعد ذكر أنّ علي بن مهزيار كان شاكّا في إمامة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1039، ح 12.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 589

الهادي- عليه السّلام-، فورد العسكر و هو اسم بلدة سر من رأى وضعها الخلفاء العباسيون إذا نقلوا دار خلافتهم من بغداد إليها، فخرج السلطان إلى الصيد و كان صائفا، يعني: كان عليه اللباس الصيفي، و كذا الناس، و كان علي بن محمّد- عليه السّلام- عليه لبابيد، و على فرسه لحاف لبود، و الناس يتعجّبون منه و يقولون: ألا ترى إلى هذا المدني و ما فعل بنفسه، فلمّا خرج الناس إلى الصحراء- إلى أن قال:- فكشف- عليه السّلام- عن وجهه، و قال قبل أن أسأله- و كنت أريد أن أسأله عن ثوب الجنب إذا عرق فيه-: إن كان الجنب عرق في الثوب و جنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، و إن كانت جنابته من حلال فلا بأس به» «1».

و لم يخدشوا في هاتين الروايتين من جهة الدلالة، و لم يتعرّض أحد أنّ عدم جواز الصلاة أعمّ من النجاسة، فكان من المفروغ عنه في ما بينهم أنّ سؤال السائل في هاتين الروايتين، و سائر الأدلّة المطلقة إنّما هو عن حيث الطهارة و النجاسة، و لم يبعد دعوى هذا الظهور و الانصراف منها.

نعم خدش شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من حيث السند، و صرّح بضعفهما و انجباره بالشهرة، و إن كنّا لم نتحقّق الضعف في الرواية الأولى من جهة محمّد بن همام، و إدريس الكفرثوثي، لما في رجال أبي علي من الحكم بوثاقتهما خصوصا الأوّل، و لكن ربما يمكن الخدشة في

الدلالة: بأنّ الظاهر أنّ هذه السؤالات الواقعة عن عرق الجنب، إنّما هي ناشئة عن توهّم السائلين ثبوت حال نفس شخص الجنب للباسه المبتل بعرقه، و انّ الجنب كما لا يجوز له الدخول في الصلاة إلّا أن يغتسل، فكذا لا يجوز في هذا الثوب أيضا إلّا أن يغسل، فكان

______________________________

(1)- المستدرك: ج 2 ص 569، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 590

سؤالهم مرتبطا بجهة جواز الصلاة، و عدم جوازها دون الطهارة و النجاسة، و يشهد لذلك قوله- عليه السّلام- في بعض الأخبار: لا يجنب الرجل الثوب و لا يجنب الثوب الرجل «1»، فإنّه مناسب لدفع هذا التوهّم.

إلّا أن يقال: إنّ القاعدة جواز «2» الصلاة في كلّ شي ء سوى ما استثني، و ما استثني هو النجس، و الابريشم، و المغصوب، و جزء الغير المأكول، و من المعلوم عدم دخول هذا العرق في الابريشم، و لا في جزء الغير المأكول، و إلّا لم يفرق بين كونه من حلال أو من حرام، مضافا إلى أنّ الفضلات من قبيل لعاب الفم، و الأنف، و نحوها خارجة عن حكم هذا العنوان قطعا.

و إذن فإن لم يكن عدم جواز الصلاة في هذا العرق من جهة النجاسة لزم تخصيص آخر في العموم، و الكلّية المذكورة المتلقاة من الشرع، و أصالة بقائها على حالها يقتضي أن يكون خروجه من هذه الجهة، لا من جهة كونه عنوانا مستقلا، فيشخص بأصالة عدم التخصيص الموضوع بطريق عكس النقيض، لكن الكلام في هذه القاعدة و الانصاف عدم ثبوتها.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 1038، ح 5.

(2)- قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في كتاب الطهارة، في عنوان البول و الغائط من النجاسات في جواب الخدشة في دلالة قوله- عليه

السّلام-: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». على النجاسة، فلعلّه وجب الغسل لموضوعية في نفس البول لا لأجل النجاسة، و لا لأجل كونه جزء من غير المأكول، و إلّا لكفى الإزالة بغير الغسل، بعد الجواب بأنّ العرف يفهم من أمثال هذه الأوامر النجاسة و قد اتفق العلماء على هذا، و احتمال كونه لأجل وجوب التجنب عن جزء غير المأكول، يدفعه إطلاق الأمر بالغسل حتى بالنسبة إلى ما لو جف البول، أو مسح مسحا يزيل أثره، و لم يبق منه أثر، قال: و قد قام الضرورة و الإجماع على أنّه لا يشترط في ثوب المصلّي بعد الإباحة أزيد من الطهارة، و عدم كونه ممّا لا يؤكل، أو ملاصقا له. انتهى كلامه- رفع في الجنة مقامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 591

و الأولى هو التمسّك بالظهور، و الانصراف من مساق الأسئلة و الأجوبة عن حكم عرق الجنب في كونها من جهة الطهارة و النجاسة، كما أشرنا إليه.

بقي هنا مطلبان:

الأوّل: على فرض تمامية الروايتين دلالة، و سندا على المدعى من نجاسة عرق الجنب من الحرام، فهل المراد بالحرمة هي الحرمة الذاتية كالزنا، و اللواط، و الاستمناء فلا يشمل وطي الرجل زوجته في حال الحيض، أو في شهر رمضان، أو مع الحلف على ترك الوطي أو نحو ذلك ممّا يكون حرمته بالعرض، أو انّها أعم من القسمين؟ الظاهر هو الثاني.

و الحاصل أنّه فرق بين ما إذا وقع عنوان الفرض و النقل في دليل موضوعا لحكم، و بين ما لو وقع الموضوع أحد عناوين الوجوب، و الحرمة، و الإباحة، و الجواز، و الحلّية، و الكراهة، و الاستحباب فانّ بعد اشتراك الكلّ في التعميم بحسب اللغة لما كان بالذات،

أو بالعرض، ينفهم في العرف من الأوّلين خصوص الذاتي، فيتبادر من الفريضة ما كان الجعل الإلهي الأوّلي متعلّقا بمفروضية، لا ما طرأ عليه ذلك بملاحظة العنوان الثانوي، و كذا الحال في النفل، و هذا بخلاف العناوين الأخيرة، فالعرف لا يساعد على هذا الانصراف فيها، و الشاهد على هذا الفرق عدم تأبّى الذهن من إطلاق لفظ النافلة على صلاة النافلة في حال صيرورتها منذورة، و تأبيه عن إطلاق لفظ الحلال، و الجائز، و المباح على وطي الزوجة في حال الحيض، أو في شهر رمضان،. فيأبى أن يقال هذا الوطي حلال، و على هذا فلا فرق في النجاسة بين أقسام الحرام من الذاتي و العرضي.

و الثاني: هل المراد بالحرمة و الحلّية اللتين جعلتا متقابلتين في الروايتين ما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 592

ذا؟ يحتمل فيهما أربعة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد بهما الواقعيتين من دون إناطة على معذورية المكلّف و عدمها، فكلّما كانت الجنابة ناشئة عن حرام واقعي كان عرقه نجسا، و إن كان المكلّف معذورا في ارتكابه، كما في وطي الأجنبية للشبهة و اعتقاد كونها زوجته، و كلّما كانت ناشئة عن حلال واقعي كان العرق طاهرا، و إن لم يكن المكلّف معذورا فيه، كما في وطي الزوجة باعتقاد أنّها أجنبية.

و الثاني: أن يكون المراد منهما الفعليتين من دون إناطة بالواقع، فكلّ ما كانت الحرمة فعلية على المكلّف كان العرق نجسا، و إن كان الفعل حلالا في الواقع، كما في وطي الزوجة باعتقاد أنّها أجنبيّة، و كلّ ما كانت الحلية فعلية في الظاهر كان طاهرا و ان كان الفعل حراما في الواقع كما في الوطي للشبهة.

الثالث: أن يكون المراد من الحرمة الواقعية مع حصول شرط تنجيزها، و

من الحلّية ما عدا ذلك أعم من عدم الحرمة واقعا، كما في وطي الزوجة باعتقاد الأجنبية و تحقّقها بدون شرط التنجيز كما في وطي الأجنبية للشبهة.

الرابع: أن يراد بكل منهما هي الواقعية مع تعلّق علم المكلّف بها، فالمراد بالحلال هو الحلال الواقعي الذي علم به المكلّف، و من الحرام هو الحرام الواقعي الذي علم به المكلّف، فيكون الحلال، و الحرام الواقعيين اللذين لم يعلم بهما المكلّف خارجين عن كلا الطرفين، فيرجع فيهما إلى الأصل، أو الأخبار المطلقة، و الظاهر هو أخير الاحتمالات، فإنّ المنصرف من كل من عنواني الجنب عن الحلال، و الجنب عن الحرام هو ما إذا كان مع علم المكلّف بهما، و أمّا مع عدم العلم فهو فرد نادر الوقوع، و هذا مطابق مع سابقه في النتيجة، و مخالف للأوّلين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 593

فيها، و يردّ الأوّلين عدم التزامهم بنجاسة عرق من أجنب بزوجته باعتقاد أنّها أجنبية، و كذا في من وطي الأجنبية للشبهة، و انصراف الأخبار في طرف النجاسة عن هذين الفردين، فإمّا يحكم بدخولهما في جانب الطهارة، و إمّا يحكم بخروجهما عن الطرفين فيمشي فيهما على القواعد.

[حكم عرق الجنب من الحرام بم من الحلال أو العكس]

«مسألة 2: إذا أجنب من حرام ثمّ من حلال أو من حلال ثمّ من حرام فالظاهر نجاسة عرقه، أيضا خصوصا في الصورة الاولى».

لو أجنب من حلال و لم يغتسل، ثمّ أجنب من حرام فصدق حصول الجنابة الثانية من الحرام و عدمه يبتنى على إثبات إحدى كبريين في باب الأحداث، أعني:

تداخل الأسباب أو المسببات.

فإن قلنا بالأوّل بمعنى أنّ الجنابة أمر وجداني غير قابل للتكرار و التعدّد، فإذا اجتمع لها أسباب متعاقبة فليس المؤثر الفعلي منها إلّا السبب المقدّم و غيره مؤثّر شأني

لا من جهة نقص في تأثيره، بل من جهة نقص المحل عن قبول أزيد من تأثير واحد، فحالها حال السواد الشديد حيث إنّه إذا تحقق له سببان متعاقبان لا يؤثّر إلّا أسبقهما، لأنّ المحل لا يقبل إلّا لسواد واحد.

فحينئذ لا يصدق في المقام عنوان الجنابة الثانية الحاصلة من الحرام، بل الجنابة قد حصلت من السبب الحلال.

و إن قلنا بالثاني بمعنى أنّ المحل قابل للتكرار و التعدّد، فكل سبب يحدث درجة منه فحال الحدث حال درجات السواد، فيوجب كل سبب درجة منها و كان الغسل الواحد مؤثّرا في ارتفاع جميع الدرجات دفعة واحدة.

فحينئذ يصدق على الشخص المزبور أنّه صار جنبا ثانيا من الحرام، فيحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 594

بنجاسة عرقه.

لا يقال كما يصدق عليه ذلك، يصدق عليه أيضا الجنب من الحلال باعتبار الجنابة الأولى.

لأنّا نقول: دفع هذا الإشكال سهل، فإنّ الطهارة كالحلية قد تكون سببية و اقتضائية و هي ما نشاء من السبب المقتضي له، و قد تكون من جهة عدم تحقّق السبب و المقتضي للنجاسة و الحرمة، فالقسم الأوّل منهما قابل لمعارضة دليل النجاسة و الحرمة، و أمّا الثاني فلا يقبل المعارضة أصلا، بل دليل النجاسة و الحرمة وارد على دليل الطهارة و الحلّية كما هو واضح، و ما نحن فيه من القسم الثاني، فإنّ الحكم بطهارة عرق الجنب من الحلال ليس لأجل اقتضاء الجنابة من الحلال. بل هي بعينها هي الطهارة الثابتة سابقا على الجنابة، بخلاف النجاسة، فإنّها من تأثير الجنابة من الحرام و اقتضائها، و قد عرفت أنّه لا تعارض بين المقتضي و اللامقتضي.

هذا.

و لكن الشأن في تعيين أنّ باب الاحداث من باب تداخل الأسباب أو المسببات، فإنّ شيئا منهما لا

دليل عليه لا من العرف و لا من الشرع، إذ المبنى في القضايا الشرطية المتعدّدة المتحدة الجزاء، إمّا ما اختاره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من دلالتها على تعدّد المسبب و الجزاء، و من المعلوم أنّه إذا علم من الشرع عدم تعدّد الغسل بتعدّد سببه، فلا يعلم أنّ ذلك من جهة عدم قبول المسبب للتكرار، أو من جهة تداخل المسبب في الارتفاع دفعة واحدة، و كلاهما ملائم مع الاختيار المذكور.

و إمّا أنّ المبنى في القضايا المذكورة هو ما اخترنا، من عدم دلالتها على أزيد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 595

من لزوم وقوع الجزاء عقيب الشروط، و هو يتحقّق بوقوع فرد واحد من الجزاء عقيب الجميع، و من المعلوم أنّ هذا أيضا لا دلالة فيه على خصوص أحد الاحتمالين، بل يلائمه كل منهما.

و قد يتوهّم دلالة قوله: «و إذا اجتمع للّٰه عليك حقوق أجزأك غسل واحد» «1». حيث أتى بالحقوق على صيغة الجمع، فنعلم أنّ الجنابات المتعدّدة المتعاقبة كل منها يوجب حقّا على العبد، و لا يخفى ما فيه، فانّ الظاهر منه الحقوق المختلفة في الحقيقة كالجنابة، و الحيض، و مس الميّت مثلا، لا الأفراد المتفقة الحقيقة.

و كيف كان فبعد عدم معلومية الحال في الكبرى يكون المرجع في العرق المزبور هو قاعدة الطهارة، لكونه من أفراد المشكوك.

إلّا أن يقال: إنّ العرف يفهم من الحكم على عرق الجنب من الحرام بالنجاسة، بمعونة خصوصية المقام و المناسبة بين هذا الحكم و هذا الموضوع، أنّ الملاك فيه ليس هو صدق هذا الاسم، و إنّما ملاكه هو الخباثة الحادثة من ارتكاب الزنا، و اللواط و نحوهما، و لا شك في أنّ الخباثة حاصلة من هذه الأعمال، سواء كانت مسبوقة بحالة

الجنابة أم لا.

أو يقال بأنّ الخباثة تطلق أيضا على نفس العمل الخارجي الذي هو السبب، كما يطلق على الحدث الحاصل منه الذي هو المسبب، كما في لفظ الطهارة، فإنّه أيضا كما يطلق على المسبب يطلق على السبب أيضا، أعني:

المسحتين و الغسلتين مثلا، و لا يخفى ما في هذين من التكلّف و التخرّص بالغيب،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1 ص 524- 525، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 596

فإنّ الإطلاق الشائع في الجنابة هو في المسبب كالطهارة، و الحكم تابع لموضوعه، و قد جعل حكم النجاسة في الدليل معلّقا على موضوع الجنب من الحرام، فإذا قطع بعدم صدقه أو شك فيه كفى في الحكم بالطهارة قاعدتها.

[في حكم نجاسة عرق الصبي الغير بالغ من الحرام]

«مسألة 4: الصبيّ الغير البالغ إذا أجنب من حرام ففي نجاسة عرقه إشكال، و الأحوط أمره بالغسل، إذ يصحّ منه قبل البلوغ على الأقوى».

لو أجنب الصبي الغير البالغ من حرام، فالظاهر عدم نجاسة عرقه، فإنّ الموضوع في الدليل هو الجنب من الحرام، و الجنابة و إن قلنا بتحقّقها في حق الصغير، و لكن القيد و هو كونها من حرام لا يتحقّق في حقّه، لعدم كونه مكلّفا، و إرادة الحرام على النوع من لفظ الحرام تكلّف، فإنّ الظاهر منه إرادة الحرام على شخص الجنب، و هو لا يتحقق إلّا مع اجتماع شرائط التكليف، فهذه المسألة مشتركة مع سابقها في انتفاء الحكم لانتفاء الموضوع، غاية الأمر أنّ المنتفي في السابقة هو المقيّد، أعني: الجنابة، و في هذه هو القيد، أعني: كونها ناشئة من الحرام، و لكن مع ذلك يكون الحكم بالطهارة في هذه أوضح منه في السابقة، لأوضحيّة صحة سلب عنوان الجنب عن الحرام عن الصغير المذكور، من صحة سلب عنوان أجنب ثانيا

عن المجنب في المسألة السابقة، و لهذا جعل في العروة الوثقى حكم النجاسة في الأولى ظاهرا، و في الثانية محلا للإشكال.

ثمّ إنّه نسب إلى بعض القول بنجاسة عرق جنابة الاحتلام و لا وجه له، فإنّه و إن لم يدخل في شي ء من الشقّين المذكورين في الرواية، من عرق الجنب من حلال و عرق الجنب من حرام، إلّا أنّ قضية القاعدة طهارته كما هو واضح.

[في حكم عرق المجنب من حرام إذا تيمّم]

«مسألة 3: المجنب من حرام إذا تيمّم لعدم التمكّن من الغسل فالظاهر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 597

عدم نجاسة عرقه، و إن كان الأحوط الاجتناب عنه ما لم يغتسل، و إذا وجد الماء و لم يغتسل بعد فعرقه نجس لبطلان تيممه بالوجدان».

لو تيمّم الجنب من الحرام بدلا عن الغسل فهل يطهر عرقه بالتيمّم كما لو اغتسل أو لا؟ الحقّ أن يقال بعدم بدليّة التيمّم بالنسبة إلى هذا الأثر، لأنّا إمّا أن نقول في باب التيمّم بعموم البدليّة و إمّا لا، فإن قلنا بعدم عموم البدليّة يكون بدلا في خصوص إباحة الدخول في الصلاة لا غير، فليس بدلا بالنسبة إلى غير هذا الأثر حتّى مثل إباحة الدخول في المسجد في الجنب و الحائض و النفساء و نحوه، فحينئذ لا إشكال في المقام، و أمّا إن قلنا بعموم البدليّة و عدم الاختصاص بخصوص الدخول في الصلاة، فحينئذ إنّما يتعدّى إلى الآثار التي تكون الجنابة تمام موضوع لها، لا بالنسبة إلى ما يكون للجنابة فيه دخل مع دخالة شي ء آخر كما في المقام، حيث إنّ نجاسة العرق ليست أثرا للجنابة فقط، بل مع قيد كونها عن حرام.

و الحاصل أنّه إذا قال الشارع التيمّم بدل عن الغسل في رفع آثار الجنابة و أنّه يعامل مع

التيمّم معاملة عدم الجنابة و يكون وجود الجنابة معه بمنزلة عدمها، فالعرف يفهم من هذا الآثار التي يكون الجنابة فيها موضوعا تامّا دون ما كان فيها جزء موضوع، فتأمّل.

[الثاني عشر في عرق الإبل الجلّالة]
اشارة

«الثاني عشر: عرق الإبل الجلّالة بل مطلق الحيوان الجلال على الأحوط».

و المشهور خصّوا هذا الحكم بالإبل الجلّال، و ما ذكروا في هذا الباب و هو روايتان، إحداهما صحيحة و الأخرى حسنة، و إن كان صريحا في الحكم بالنجاسة، لكن في الأولى قد علّق على مطلق الجلّال، و في الحسنة أيضا كذلك بناء على ما نقله شيخنا المرتضى، و على ما في الوسائل في كتابي النجاسات و الأطعمة المحرّمة،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 598

تكون الحسنة بإثبات لفظ الإبل.

فالصحيحة رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «لا تأكل لحوم الجلّالة، و إن أصابك من عرقها فاغسله». «1»

و الحسنة رواية ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: «لا تشرب من ألبان الإبل الجلّالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله». «2»

و لا إشكال في ظهورهما في النجاسة، و لكن لا بد من ملاحظة المعارضة تارة بينهما، و بين العمومات و الإطلاقات الدالّة على طهارة عرق جميع الدواب، إلّا الكلب و الخنزير. و أخرى من ملاحظة وجه الجمع بين نفس هاتين الروايتين.

فأمّا الجهة الأولى فلا يخفى أنّ النسبة بين هاتين الروايتين و تلك العمومات هو العموم و الخصوص مطلقا، فلا بدّ من تقديم هاتين على العمومات، و الحكم بخروج الجلّالة عنها و تخصيصها بالجلّالة كما بالكلب و الخنزير.

و أمّا الجهة الثانية فربّما يتوهّم التنافي بينهما، و أنّ الترجيح للثانية و أنّه من باب تعارض الإطلاق و التقييد، فيتعيّن

حمل المطلق و هي الصحيحة، على المقيّد و هي الحسنة.

و لكنّه فاسد لعدم التنافي بين المطلق و المقيّد، إذا لم يعلم اتحاد التكليف، فإنّه إذا علم باتحاده كما لو قيل: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، علم منه أنّ التكليف الواحد المسبب عن السبب الواحد ظ لا يكون إلّا على

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، ب 27، من أبواب الأشربة المحرمة، ص 354، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 354، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 599

نهج واحد، فإمّا متعلّق بالمطلق، و إمّا بالمقيد، و لا يمكن الجمع، فلهذا يحمل المطلق على المقيّد و يقال: إنّ المراد به أيضا هو المقيّد، و هذا بخلاف ما إذا لم يذكر السبب و لم يعلم باتحاد التكليف، فإنّه حينئذ يكون من المحتمل وجود تكليفين نشأ كل منهما من سبب على حدة، كان أحدهما مقتضيا للحكم على المطلق، و الآخر على خصوص المقيّد، و المقام من هذا القبيل، فلا تنافي بين الروايتين أصلا، فلا وجه للحمل و تقييد المطلق.

اللّٰهم إلّا يتمسّك في التقييد المزبور بالإجماع إن أمكن إثباته، كما حكي عن شرح المفاتيح أنّه قال: لم يقل بالتعميم أحد، فكان المقيّد للصحيحة حينئذ هو الإجماع، و لكن إثباته مشكل، و إنّما المتحقّق هو الشهرة و ذهاب الأكثر إلى التقييد، و مجرّد الشهرة الفتوائية قد تقرّر في الأصول عدم حجيتها، فلا يصلح لتقييد الرواية الصحيحة.

إلّا أن يستفاد من عمل المشهور و فتاويهم وجود مدرك معتبر لهم على التقييد، كما ذكر نظير ذلك شيخنا المرتضى في بحث نجاسة الكتابي، فإنّ الأخبار الصحيحة السند الصريحة الدلالة هناك موجودة على الطهارة، و مع ذلك اختار شيخنا النجاسة ظ و المستند

له ذهاب المشهور إلى النجاسة، و إنّا لا نحتمل قطّ أن تكون هذه الروايات بهذه الكثرة و الصحة في السند و الوضوح في الدلالة لم يطلع عليها الأصحاب و لم يمر على أنظارهم، أو اطّلعوا عليها و لكن غضّوا عنها بلا جهة، و تشهّيا من أنفسهم، كلّا و حاشا منهم عن أمثال ذلك.

فتعيّن أن يكون بيدهم مدرك معتبر كان هو منشأ فتواهم، و قطعهم بخلاف هذه الروايات، فهم قد اطّلعوا على ما لم نطّلع عليه، و حينئذ فيكون وجه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 600

صدور هذه الروايات تقية أو نحوها.

و بالجملة فإن حصل من ملاحظة الشهرة في المقام أيضا قطع فنعم المطلوب، و إلّا فيشكل رفع اليد عن الصحيحة الصريحة الدلالة، و الإنصاف عدم حصول القطع من الشهرة في مسألتنا، إذ من المحتمل أن يكون مأخذ فتواهم في المسألة زعم أنّ الحسنة مقيّدة للصحيحة، فإن كان الواقع هذا أمكننا تخطئتهم في اجتهادهم هذا، و إذن فلا أقل من الاحتياط في تمام أفراد الجلّال.

ثمّ ربّما يتوهّم على فرض التعميم اختصاص الجلالة التي هي موضوع الحكم في الروايتين بخصوص مأكول اللحم، و ذلك لأنّ النهي عن أكل اللحوم و شرب الألبان قرينة ظاهرة على أنّ المراد بالجلّالة ليس هو مطلق الجلّال، بل خصوص مأكول اللحم، لوضوح أنّ الحكم بحرمة اللحم و اللبن في غيره من الحيوانات المحرّمة بالذات يعد لغوا.

و بعبارة أخرى الظاهر من الرواية أنّ سبب الحرمة هو جهة الجلّالية، بحيث لو لم تكن هذه الجهة لكان حلالا، و هذا مخصوص بالمأكول لحمه، فإذا صار الموضوع في القضية الأولى عبارة عن خصوص الجلّال من المأكول، كان في القضية الثانية المعطوفة على الأولى أيضا مرجع الضمير

هو الجلّالة الواقعة في الأولى، و المراد بها المأكول، فتكون نجاسة العرق أيضا مختصّة بالمأكول الجلّال.

و لكن هذا التوهّم فاسد، فإنّ اللغوية المذكورة إنّما هي مسلّمة في صورة وحدة الحكم في القضية و انحصاره في حرمة اللحم و اللبن، إذ حينئذ كنّا ملجئين على حمل المطلق على المقيّد لعين البيان المذكور، و أمّا إذا كان حكم نجاسة العرق معطوفا عليه فلا نسلّم اللغوية حينئذ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 601

فلا يبعد أن يقال: إنّ المراد مطلق الجلّال سواء كان مأكولا أم غيره، غاية الأمر أنّ السبب في غير المأكول لحرمة اللحم و اللبن اثنان: أحدهما بالذات، و الآخر بالعرض لوصف الجلّالية، فتصير الحرمة فيه عند عروض هذا الوصف أشد، و على هذا فالمرجع للضمير في القضية المعطوفة هو مطلق الجلّال.

و بالجملة فهذا الكلام نظير قول القائل: لا تأخذ المرضعة لولدك من الأشرار و تجنّب عن مجالستهم، فإنّ كل أحد يفهم من الضمير في القضية المعطوفة، الرجوع إلى جميع الأشرار من الرجال و النساء دون خصوص النساء و إن كان المراد بالأشرار في القضية الأولى خصوص النسوة.

و بالجملة فالموضوع في الرواية ليس الجلّال المأكول بأن كان المطلق قد استعمل في المقيد، بل الموضوع هو الجلّال بإطلاقه، غاية الأمر أنّ الحكم الأوّل مخصوص ببعض أفراده، و الثاني عام لجميعها، مع أنّا قلنا: إنّ الحكم الأوّل أيضا يمكن تعميمه.

[في حكم الثعلب و الأرنب و الوزغ و العقرب و الفأر]

«مسألة 1: الأحوط الاجتناب عن الثعلب و الأرنب و الوزغ و العقرب و الفأر.

بل مطلق المسوخات و إن كان الأقوى طهارة الجميع».

و الأقوى: طهارة المسوخ- بضمّ أوّله و فتحه- و دليل من حكم بنجاستها عليل، لأنّه منحصر في ثلاثة روايات نقلها شيخنا المرتضى في طهارته، و جميعها خالية عن

الدلالة، و قاصرة عن تخصيص العمومات الدالة على طهارة المسوخ بعمومها.

فإحدى الروايات رواية مرسلة سألته عن الرجل يمس الثعلب و الأرنب، أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 602

شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال: لا يضرّه، و لكن يغسل يده». «1» و يمكن استفادة الاستحباب من نفس هذه الرواية بقرينة قوله: «لا يضرّه».

إذ لم يحتمل السائل أن يصل إلى يده بمجرّد مس هذه الحيوانات ضرر من الأمراض حتى يكون الإمام رافعا لهذا التوهّم بهذا الكلام، بل الضرر المتوهّم في هذه منحصر في النجاسة، و الظاهر أنّه محط نظر السائل أيضا، فكلام الإمام «لا يضرّه» في قوّة أن يقال: لا بأس و لا ينجس.

فحينئذ فلا يبقى محمل لقوله «و لكن يغسل يده» إلّا الاستحباب، يعني أنّه مع ذلك ينبغي أن يغسل يده و يستحب.

و الثانية: المصحح «عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء، تمشي على الثياب أ يصلي فيها؟ قال: اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره فانضحه بالماء». «2» و دلالة هذه على النجاسة ظاهرة لو لا الأخبار الأخر المعارضة لها، الصريحة في الطهارة الموجبة لصرف هذه عن ظهورها من وجوب الغسل إلى الاستحباب.

و الثالثة: الخبر المروي عن قرب الإسناد «عن الفأرة، و العقرب، و أشباه ذلك يقع في الماء؟ فيخرج حيّا هل يشرب من ذلك الماء و يتوضّأ به؟ قال: يسكب منه ثلاث مرّات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثمّ يشرب و يتوضّأ منه، غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه». «3» و هذه الرواية من جهة اشتماله على أشباه ذلك، تشمل نحو الزنبور و العنكبوت من المسوخات أيضا، و لكنّها أدلّ على الطهارة منها على النجاسة، فإنّ الحكم

بالاستعمال في الشرب و الوضوء عقيب السكب و الصب

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 34، من أبواب النجاسات، ص 1050، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: باب 33، من أبواب النجاسات، ص 1049، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ج 1، باب 9، من أبواب الأسئار، ص 172، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 603

ثلاث مرّات، من غير فرق بين القليل و الكثير صريح في عدم تأثّر الماء بالنجاسة، و أنّ علّة السكب و الصب وجود مضرّة و سمّية في هذه الحيوانات يؤثّر في الماء بوقوعها فيه، فالمقصود من السكب رفع هذه المضرّة.

و من ذلك يعلم أنّ قوله: «غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع بما يقع»، أيضا يقيّد هذا المعنى، و أنّ علّة عدم الانتفاع في الوزغ هو ما كان علّة للسكب في غيره، لا أن يكون المراد به النجاسة، فالمراد أنّ السمّية الحاصلة بوقوعه سارية نافذة في جميع أعماق الماء بمجرّد وقوعه، فلهذا يسقط الماء عن الانتفاع لوجود المضرّة في جميع أجزائه، بخلاف غيره، فإنّ الماء لا يسقط بوقوعها عن الانتفاع، لأنّ مضرّتها لا تسري إلّا إلى الأجزاء العالية من الماء، فإذا صبّت هذه الأجزاء ارتفع المانع عن الانتفاع و الاستعمال.

و إذن فلا دليل على النجاسة في المسوخ، كما أنّه لا دليل أيضا عليها في الحديد، و إن أطلق النجاسة عليه في بعض الأخبار، إلّا أنّها محمولة على الخباثة الباطنية.

و كذلك لا دليل أيضا على نجاسة لبن الجارية، إلّا بعض الروايات المعلّلة بأنّ لبن الجارية يكون توليده في مثانة أمّها، الظاهرة في اختلاف لبن الجارية مع لبن الغلام في محل التوليد، مع أنّ من المستبعد ذلك و الظاهر عدم الفرق.

و الرواية على ما في باب بول الرضيع من

أبواب النجاسات من الوسائل، ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي جعفر، عن أبيه أنّ عليّا- عليه السّلام- قال: «لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأنّ لبنها يخرج من مثانة أمّها، و لبن الغلام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 604

لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لأنّ لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين». «1»

و نقل عن المستدرك نقل الرواية بهذا المضمون و هذا التعليل عن كتاب الجعفريات و فقه الرضا أيضا، و الظاهر أنّ قوله: «قبل أن يطعم» قيد للبول إذ قيديته للّبن لا يناسبها التعليل بخروجه من المثانة، فإنّه لا يفرق في ذلك بين ما قبل التغذّي و ما بعده، فلا بد من عدم تفاوت النجاسة أيضا في الحالين.

و كيف كان فهذه الرواية على فرض القطع بصدورها و عمل الأصحاب بها و فتواهم بمضمونها كان معمولا بها و بتعليلها، و إن لم يفهم تعبّدا و لم يكن فيها خدشة من جهته، إذ ليس الحكم فيها بخروج عين اللبن من المثانة في الجارية، و من العضدين و المنكبين في الغلام حتى يستبعد ذلك، بل من الممكن أن يكون المراد أنّ استعداد اللبن المجتمع في الثدي في الجارية من المثانة، و استعداده في الغلام من العضدين و المنكبين، و لكن العمدة إعراض الأصحاب عن العمل بها و الفتوى بمضمونها، و وجود السيرة القطعية على عدم الاجتناب، و السكوني و إن كان عاميا، و لكنّهم قد وثّقوه و عملوا برواياته.

[في حكم الأشياء المشكوكة لاحتمال كونه من]

«مسألة 2: كلّ مشكوك طاهر، سواء كانت الشبهة لاحتمال كونه من الأعيان النجسة، أو

لاحتمال تنجّسه مع كونه من الأعيان الطاهرة، و القول بأنّ الدم المشكوك كونه من القسم الطاهر أو النجس محكوم بالنجاسة ضعيف، نعم يستثنى ممّا ذكرنا الرطوبة الخارجة بعد البول قبل الاستبراء بالخرطات، أو بعد خروج المني قبل الاستبراء بالبول فإنّها مع الشكّ محكومة بالنجاسة».

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، ب 3، من أبواب النجاسات، ص 1003، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 605

كل مشكوك محكوم بالطهارة، إلّا إذا كان مسبوقا بالنجاسة فيحكم بنجاسته، و لا فرق في ذلك بين أن يكون الشك و الترديد بين كونه من الأعيان الطاهرة أو النجسة، و بين كونه بعد معلومية أنّه من الأعيان الطاهرة في تنجّسه و عدمه، و كذلك لا فرق بين الشبهة الموضوعية و الشبهة الحكمية، و إن كان المراد بالمشكوك في هذه القاعدة في عبائر العلماء في رسائلهم المعمولة لأجل المقلّدين عبارة عن خصوص الشبهة الموضوعية، فإنّ إجراء هذه القاعدة في الشبهة الحكمية ليس شأنا للمقلّد، و إنّما هو وظيفة للمجتهد خاصة، لاحتياجه إلى الفحص و اليأس عن الدليل، و المقلّد عاجز عن ذلك، فلهذا يكون شكّه غير معتنى به، فإذا نظر المجتهد في الأدلّة في خصوص بول الخفّاش مثلا و عجز عن استفادة شي ء، و بقي على الشك، فلا مانع له من إجراء القاعدة المذكورة و الحكم بطهارة بوله.

و لا فرق في الشبهة الموضوعية بين الدم المردّد بين كونه من القسم الطاهر، و النجس و غيره من الموضوعات المشتبهة، فإذا تردّد دم بين كونه دم غير ذي النفس حتى يكون طاهرا، أو دم ذي النفس حتى يكون نجسا، كما لو أكل إنسان سمكا ثمّ رئي في لباسه دم، و شك في كونه منه، أو من حيوان

ذي نفس سائلة، أو من السمك الذي أكله، كان محكوما بالطهارة بهذه القاعدة.

و وجه ذلك: أنّه لم يرد من الشرع حكم على نجاسة الدم بقول مطلق، و إنّما ورد الحكم بالنجاسة على خصوص دم ذي النفس، و الحكم بالطهارة على خصوص دم غير ذي النفس، فلهذا لو تردّد أمر دم بين كونه من هذين القسمين كان من مصاديق القاعدة، هذا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 606

و لكن بعضا من أقسام الدم تكون حالته السابقة كونه دم إنسان، كما في دم البق و البعوضة حيث إنّهما و أشباههما لا دم لنفسهما، بل هي مجرّد جلدة مع رطوبة قليلة، فتمام الدم في جوفها و لا أقل من عمدته يكون منتقلا إليها من بدن الإنسان، و حينئذ فحالاتها منقسمة إلى ثلاث حالات:

الأولى: حالة نقطع فيها بصدق دم البق و القمل، و هو بعد مضي مدة مديدة من المصّ.

و الثانية: حالة نقطع فيها بصدق دم الإنسان و هي حالة المصّ، فانّ حال الدم الجاري من بدن الإنسان إلى فم البق و جوفه، حال الدم الجاري من بدنه إلى شيشة الحجامة، فكما يقال: إنّه دم إنسان فكذا هنا.

و الثالثة: حالة الشك في كونه من أيّ من الحالين، كما في الدماء الموجودة في القميص من البراغيث، و مقتضى القاعدة في هذه الصورة هو الحكم بالنجاسة، لا بمعنى أنّ هذا الدم كان نجسا في السابق قطعا، و هو حالة كونه دم إنسان و يشك في صيرورته طاهرا، فالأصل بقاؤه على النجاسة، لأنّ هذا الأصل مشكوك الموضوع، فإنّ هذا الدم لم يكن بعنوان كونه دما معروضا للنجاسة، بل بعنوان كونه دم إنسان و الآن نشك في بقاء هذا العنوان، أو تبدّله بعنوان دم

البق و نحوه، و لا يخفى أنّ دم الإنسان و دم البق موضوعان متغايران عند العرف.

فالحاصل أنّ الموضوع غير محرز البقاء في الاستصحاب الحكمي، فالاستصحاب الجاري هنا هو الموضوعي، بأن يقال: هذه الهيولى كانت صورته النوعية في السابق دم إنسان، و الآن نشك في بقائها على تلك الصورة، و زوال تلك الصورة عنها و تبدّلها بصورة نوعية أخرى، أعني: كونها دم بق، فالأصل بقاؤها على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 607

الصورة الأولى، فنحكم بترتّب النجاسة، فالموضوع على هذا الاستصحاب هو الهيولى، و هي باقية في كلا الزمانين غير متغيّرة، فالمقام نظير ما إذا وقع كلب في المملحة و شك في صيرورتها ملحا، فانّ استصحاب نجاسة هذا الجسم سابقا غير جار، إذ ليس هو سابقا نجسا إلّا بعنوان الكلبية، و هو مشكوك في الحال لاحتمال التبدّل بالملحية، و أمّا استصحاب بقاء الهيولى على الصورة النوعية السابقة الكلبية ثمّ الحكم بالنجاسة فلا مانع منه.

و على هذا فيشكل الحال في دم البرغوث الموجود غالبا في القميص و غيره، إلّا في صورة احتمال كون الدم من نفس البرغوث، فلو حصل هذا الاحتمال لشخص فلا مانع من الحكم بالطهارة بمقتضى القاعدة في حقّه، إذ ليس للدم حالة سابقة معلومة مع وجود هذا الاحتمال، بخلاف من قطع بأنّ الدم الموجود في جوف البرغوث و نحوه لم يكن من نفسه، و إنّما صار إليه من بدن الإنسان، فلا محيص في حقّه عن الاستصحاب في صورة الشك.

و على هذا فيختلف الحكم بالنسبة إلى الأشخاص حسب اختلافهم في هذا الاحتمال و عدمه.

و الحاصل أنّ الحال في الدم المشكوك هو الحال بعينه في سائر المشكوكات الخارجية، فإنّ الحال في كلّ مشكوك خارجي هو الحكم

بالطهارة، إذا لم يكن له حالة سابقة على النجاسة فيحكم بالنجاسة للاستصحاب، و الدم المشكوك أيضا يكون حاله هكذا، فليس له خصوصية من بين المشكوكات بأن يكون النص واردا بإخراجه عن تحت القاعدة، كما أنّ ذلك هو الحال في البلل المشتبه الخارج عقيب البول أو المني قبل الاستبراء، فإنّ النص الخاص ورد على النجاسة فيه على خلاف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 608

القاعدة، و أمّا بعد الاستبراء فالطهارة مقتضى القاعدة و النص جميعا، و مورد النص بالنسبة إلى ما قبل الاستبراء أيضا مخصوص بما إذا علم كون البلل خارجا عن المجرى، فلو كان على رأس الحشفة بلل و احتمل مجيئه من الخارج و خروجه من المجرى، و على الثاني كان مشتبها بين البول و الودي كان خارجا عن مورد النص، و مشمولا للقاعدة. فيحكم فيه بالطهارة، لأنّه مردّد بين الرطوبة المشتبهة الخارجة عن المجرى المحكومة بالنجاسة، و بين الرطوبة الخارجية الطاهرة، فيكون مشكوك الطهارة و النجاسة، فيكون من أفراد القاعدة.

هذا هو الكلام في فروض الشك في النجاسة، و حيث قد عرفت أنّ الطهارة موافقة للقاعدة، فلا حاجة فيها إلى طريق الثبوت، بل المحتاج إليه هو النجاسة المخالفة للقاعدة، و أمّا طريق ثبوتها فتذكر في فصل مستقل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 609

[في طريق ثبوت النجاسة أو التنجّس]

اشارة

«فصل» «طريق ثبوت النجاسة أو التنجّس العلم الوجدانيّ، أو البيّنة العادلة، و في كفاية العدل الواحد إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط، و تثبت أيضا بقول صاحب اليد إلخ»

طريق ثبوت النجاسة أمور:

الأوّل: العلم الوجداني.

الثاني: البيّنة، أعني: أخبار الرجلين العدلين، و حجية البيّنة في جميع أبواب الفقه لم يعقدوا لها بابا مستقلا لذكر الأخبار الدالّة عليها، بل العمدة في دليل حجيّتها هو أنّ من

تتبع الأخبار المتفرقة في الأبواب المتفرقة، يقطع بأنّ الحجية كانت مفروغا عنها عند الشرع في جميع الأبواب.

و خصوص رواية مسعدة بن صدقة أيضا حيث قال في ذيلها: «الأشياء كلّها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك، أو يقوم بها البيّنة». «1» حيث أردف قيام البيّنة مع قوله: يستبين، الكاشف عن أنّ البيّنة تكون بمنزلة اليقين و العلم عند الشارع، و قوله في روايات: «إنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» «2». أيضا لا يخلو من الدلالة، إذ ليس المقصود من هذا الكلام إثبات الحجية في خصوص مورد الدعوى، بل الظاهر منه أنّ البيّنة التي هي حجة، مفروغة الحجية في كل باب عند الشرع يكون على المدّعي، إلى غير ذلك من الأخبار المتفرقة في أبواب الفقه، التي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، ب 4، من أبواب ما يكتسب به، ص 60، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ج 18 ص 170.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 610

إذا اطّلع عليها المتصفّح يقطع بمفروغية حجّيتها عند الشرع، و قد جمعها صاحب العناوين في عنوان مستقل فجزاه اللّٰه خيرا، هذا في الرجلين العدلين.

و أمّا العدل الواحد فليس على اعتباره دليل أصلا، و لكن الفقهاء ذكروه في بابي الوقت و الوقف و استشكلوا في اعتباره، و لعلّ المدرك لهم هو آية النبإ بناء على المفهوم لها، فانّ مفهوما بناء على ثبوته عدم وجوب التبيّن في قول العادل في مقابل الفاسق، فمتى أخبر العادل سواء كان خبره متعلّقا بالموضوعات، أم بالأحكام كان متبعا بلا تبيّن، و من المعلوم أنّ طبيعة العادل تصدق على الرجل الواحد أيضا، فتكون الموارد التي علم فيها بشرطية خصوصية العدلين، و عدم كفاية العدل الواحد كمقام الدعوى تقييدا

لهذا الإطلاق، فيكون المستفاد من الآية بمفهومها قاعدة كلّية، هي اعتبار قول العادل الصادق بإطلاقه على الواحد، غاية الأمر قد قيّد إطلاقه في بعض الموارد، و لكن لمّا استشكلنا في ثبوت المفهوم للآية في محلّه، بل حكمنا بعدمه كان اعتبار العدل الواحد بلا دليل.

فمقتضى القاعدة على هذا يكون عدم الاعتناء بقوله في شي ء من الأبواب، حتى في مقام نقل الفتاوى عن المجتهد، حيث يستفاد من بعض الرسائل العملية موضوعية العدل الواحد في هذا المقام.

نعم الاطمئنان من أيّ سبب حصل لا إشكال في اعتباره في كل باب، لبناء العقلاء في جميع أمورهم على الاتكال و الاعتماد بالاطمئنان، بمعنى سكون النفس و زوال التزلزل عنها، و لكن معنى اعتبار العدل الواحد هو لزوم الأخذ بقوله و إن لم يكن مفيدا للظن كما هو واضح.

و الثالث: إخبار ذي اليد بالنجاسة، و قد تقدّم الكلام في اعتبار قول ذي اليد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 611

بقول مطلق، في كل باب في ما تقدّم، و قد خدشنا في جميع ما ذكروا لحجيته من الأدلّة، فينحصر الأمر في الإجماع، فإن كان عليه إجماع فلا كلام و إلّا فالحكم مشكل.

نعم كون نفس اليد أمارة في باب الملكية و التذكية عليهما ممّا لا إشكال فيه، و إنّما الكلام في حجية إخبار صاحب اليد في باب النجاسة و الطهارة، و غير ذلك من الأبواب فهي دائرة مدار ثبوت الإجماع.

[في حكم العلم الإجماليّ كالتفصيليّ]

«مسألة 2: العلم الإجماليّ كالتفصيليّ، فإذا علم بنجاسة أحد الشيئين يجب الاجتناب عنهما، إلّا إذا لم يكن أحدهما محلا لابتلائه، فلا يجب الاجتناب عمّا هو محلّ الابتلاء أيضا».

حال العلم الإجمالي حال التفصيلي في ثبوت النجاسة، لكن لا في جميع الآثار، بل في خصوص وجوب

الاجتناب عن نفس كلا الطرفين، و أمّا بالنسبة إلى ملاقي أحد الطرفين فلا يورث وجوب الاجتناب، بل يحكم بطهارته، ثمّ حكم وجوب الاجتناب في نفس الطرفين أيضا لا يكون مطلقا، بل يستثنى منه صورة تعرّضوا لها في الأصول، و أفتى بها في عروة الوثقى، و هي ما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء، و الآخر داخلا فيه، فالآخر الداخل في محل الابتلاء لا يجب اجتنابه، بل يجري فيه البراءة عن التكليف، و مثاله كما لو علم إجمالا بالنجاسة إمّا في الإناء الموجود عند المكلّف و إمّا في الإناء الموجود عند السلطان أو الوالي، فالإناء الذي يكون عند المكلّف محكوم بالطهارة، و يكون مجرى للأصل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 612

و ينبغي التكلّم في هذا المقام:

فنقول: معيار الدخول في محل الابتلاء و الخروج عنه، لا يكون هو القدرة و عدمها، بأن يكون كلّ مقدور داخلا في محل الابتلاء، و ينحصر الخارج عن محل الابتلاء في غير المقدور، بل المعيار حسن التكليف و حزازته، فمعيار الدخول حسن التكليف عرفا، و معيار الخروج حزازة التكليف كذلك، فربّما يكون الفعل مقدورا، و لكنّه لحزازة التكليف به يكون خارجا عن محل الابتلاء، و معيار حزازة التكليف عرفا هو انصراف الدواعي نوعا عن العمل، مثل غض رأس المنارة و تقبيل السقف مثلا، فالنهي عن مثل ذلك يكون فيه الحزازة عرفا، لأنّه ممّا لا ينقدح بنفسه إليه داع نوعا، فهو منترك لا حاجة إلى التوصل في تركه و إيجاد الداعي بتوجيه النهي.

و أمّا وجه حكمهم بعدم وجوب الاجتناب في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، فهو أنّ النجس لو كان موجودا في الإناء الذي عند السلطان أو الوالي، فلا يكون التكليف

بالاجتناب عنه متوجّها إلى هذا المكلّف لحزازته عرفا، و إن كان موجودا في الإناء الذي عند المكلّف فتوجه التكليف باجتنابه و إن كان صحيحا، إلّا أنّه لا يعلم بتوجّهه، فالمكلّف لا علم له بتوجّه التكليف باجتناب الفعلي إليه، فيحكم بنفيه بمقتضى البراءة، لأنّه المرجع في الشك في التكليف الفعلي، هذا ملخّص ما ذكروه في تقريب هذا المرام، و لكنّه محل للإشكال.

بيانه: أنّ الشك في التكليف الفعلي تارة يكون ناشئا عن الشك في مقتضى التكليف و أصل المطلوبية، كما في المائع المردّد بين كونه خمرا أو ماء، فإنّ اقتضاء المبغوضية و جهة المفسدة الكائنة في ذات الخمر مشكوك الوجود في هذا المائع،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 613

فلهذا نشك في توجّه التكليف الفعلي بالاجتناب عنه، و الشك في هذه الصورة لا إشكال في جريان البراءة فيه، و كون العقاب معه بلا بيان.

و أخرى يكون ناشئا عن الشك في جهات التنجيز و حسن التكليف، و بعبارة أخرى في قابلية المكلّف لتوجيه التكليف إليه، مع القطع بأصل المطلوبية من الشرع، كما في المكلّف القاطع بمطلوبية إنقاذ الغريق مثلا عند مولاه الشاك في قدرة نفسه و عجزه، فإنّه أيضا يشك في توجّه التكليف الفعلي إليه، و إجراء البراءة في هذه الصورة محل للإشكال.

إذا تقرّر هذا فهل يكون حال قيد: «إن ابتليتم» الموجود في تكليف «لا تشرب الخمر» مثلا، حال قيد: «إن دخل الوقت» الموجود في تكليف «صلّ الظهر»، أو حاله حال قيد: «إن قدرتم» الموجود في جميع التكاليف، بمعنى أنّ مفاد «إن ابتليتم» هو أنّ الخمر الخارج عن محل الابتلاء لا مبغوضية له عند المولى، و حاله و حال الماء عند المولى سواء، كما أنّ هذا هو الحال في

«إن دخل الوقت» فانّ معناه أنّ الصلاة قبل الوقت لا مطلوبية فيها أصلا، أو أنّ الخارج عن محل الابتلاء مع الداخل فيه حالهما في المبغوضية لدى المولى سواء، غاية الأمر لا يصحّ توجيه التكليف إلى الأوّل و يصحّ إلى الثاني، فمفاد «إن ابتليتم» إنّما هو تقييد توجيه الطلب بحال الدخول، لا تقييد المبغوضية، كما أنّ هذا هو الحال في «إن قدرتم» فإنّ معناه تقييد حسن توجيه التكليف عقلا بحال القدرة، لا تقييد أصل اقتضاء المحبوبية أو المبغوضية بها.

و بعبارة أخرى هل يكون هنا فرق بين الخمر الذي يكون خارجا عن محلّ الابتلاء، و لهذا لا ينقدح للمكلّف الداعي إليه فيصير شربه منتركا، و بين الخمر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 614

الذي يكون عند المكلّف و يترك شربه عمدا و اختيارا في أنّ المولى ينال في الثاني بغرض و يدركه، و في الأوّل ليس نيل غرض للمولى أصلا، أو أنّه لا فرق بينهما أصلا في أنّ نيل الغرض في كليهما موجود، غاية الأمر أنّه حصل الامتثال من المكلّف في الثاني و لم يحصل منه في الأوّل.

الظاهر هو الثاني، إذ قد تقرّر في الأصول أنّه إذا كان القيد مذكورا في اللفظ نحو «صلّ الظهر إن دخل الوقت» فظاهر الأمر أنّ المطلوبية متقيّدة بحال وجود القيد، و في حال عدمه لا اقتضاء و لا مطلوبية، و هذا يسمّى بتقييد المادّة و إطلاق الهيئة، و إن كان القيد غير مذكور في اللفظ و معلوما من الخارج كما في قيد القدرة و سائر الشروط العقلية فظاهر إطلاق المادة في الأمر أنّ المطلوبية غير منحصرة في حال وجود هذا القيد، بل هي ثابتة في حالتي وجوده و عدمه، و إنّما

حسن التكليف و توجيه الطلب مقيّد بحال وجوده، و هذا يسمّى بإطلاق المادة و تقييد الهيئة، و من هنا يعلم معنى كلامهم: أنّ القيود المذكورة في اللفظ كلّها راجعة إلى المادة دون الهيئة.

و كيف كان فمن المعلوم أنّ قيد الدخول في محلّ الابتلاء ليس قيدا مذكورا في الكلام، فظاهر إطلاق المادة في «لا تشرب الخمر» مثلا عدم الفرق في مطلوبية الترك، بين حالتي دخوله في محل الابتلاء و خروجه، فإذا تحقّق أنّ قيد الابتلاء من القسم الثاني فإذا علم إجمالا بوجود الخمر إمّا في هذا الإناء، أو الإناء الموجود عند السلطان أو الوالي، فيعلم إجمالا بتحقّق مطلوبية المولى إمّا في هذا الإناء و إمّا في ذاك، غاية الأمر أنّه لا يعلم أنّه مطلوبية مع حسن التكليف أو بدونه، فإن كانت المطلوبية في إناء السلطان فلا يكون معه حسن التكليف، و إن كانت في هذا الإناء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 615

كان معه حسن التكليف، و كلّما كان حال المكلّف هكذا، فليس للعقل حكم بالبراءة.

ألا ترى أنّ من قطع بأنّ إنقاذ الغريق مطلوب للمولى على وجه الإطلاق، بدون تقييد بالقدرة، بمعنى أنّ فوته حتى في حق العاجز موجب لفوت غرض من المولى ثمّ شكّ في كون نفسه قادرا على الإنقاذ أو عاجزا عنه، كما إذا لم يعلم بأنّ حبله طويل يصل إلى الغريق، أو قصير لا يصل إليه، فهو بمجرّد هذا الشك لو تسامح و تقاعد عن الإنقاذ و لم يجعل نفسه في مقام العمل حتى يعلم الحال: من العجز أو القدرة لا يحكم العقل بمعذوريته، بل حكم العقل الحتمي هو الاشتغال بالعمل و الشروع حتى يعلم العجز.

فالحاصل: أنّ معيار جريان البراءة هو الشك في

الاقتضاء القلبي و الميل النفسي للمولى، لا في الاقتضاء التوجهي و توجيه التكليف.

و سرّه أنّ في الثاني لا نقص في بيان المولى و الحجة من قبله تامّة، و لو كان هناك نقص فإنّما هو من قبل عدم قابلية المكلّف للتكليف، فلا يكون العقاب معه بلا بيان، بخلاف الشك في الاقتضاء الجناني و الميل القلبي، فإنّ النقص فيه في بيان المولى، فالعقاب معه يكون بلا بيان.

و ليعلم أنّ قيد القدرة قد يكون مذكورا في اللفظ و يصير قيدا شرعيا فيقيّد انحصار المطلوبية بحال وجودها، فلهذا يكون المرجع في الشك فيها إلى البراءة، و لعلّ من هذا القبيل وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، حيث حكموا باشتراطه بظن التأثير و إمكان صرف الفاعل عن المنكر، و حمله على المعروف، و أنّه مع عدم هذا الظن لا وجوب، و على هذا فلا ينتقض به المقام.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 616

فتحقق ممّا ذكرنا أنّ جريان الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء محل إشكال و كلام، و إن اختاره شيخنا المرتضى مع إطالة الكلام فيه بالنقض و الإبرام، فالمقام حقيق بالتأمّل التام «1».

[في حكم اعتبار حصول الظن بصدق البينة]

«مسألة 3: لا يعتبر في البيّنة حصول الظنّ بصدقها، نعم يعتبر عدم معارضتها بمثلها».

لا يعتبر في قبول قول البيّنة إفادته الظن بالصدق، بل يجب قبوله و إن لم يفده، بل و مع الظن بالكذب.

[في حكم ذكر مستند الشهادة في البيّنة]

«مسألة 4: لا يعتبر في البيّنة ذكر مستند الشهادة، نعم لو ذكرا مستندها و علم عدم صحّته لم يحكم بالنجاسة».

لا يعتبر في قبول قولها ذكر مستند الشهادة، و لكن لو ذكرا مستندا و علم ببطلانه، بمعنى عدم صحّة الاستناد إليه، و عدم كونه من الأسباب العادية للقطع، لا بمعنى القطع بالكذب، إذ عدم الاعتناء معه بلا إشكال، كما لو ذكرا أنّ مستند شهادتهما بملكية هذا لزيد أو نجاسة هذا مثلا حدس حاصل لهما من طيران الغراب، فإنّه مع ذلك يحتمل صدقهما، و لكن هذا المستند ممّا لا يركن إليه عادة، و لا يكون سببا للقطع نوعا.

و بالجملة فالصورة المفروضة لا يبعد أن يقال بأنّ دليل حجية البيّنة ليس له إطلاق يشملها.

______________________________

(1)- و ليعلم أنّ هذا كلّه في الخروج عن الابتلاء الحاصل قبل العلم الإجمالي، ثمّ ما ذكر من أنّ الشك في التكليف الفعلي ناش عن الشك في حسن الخطاب بعد معلومية أصل المطلوبية و إن كان مسلّما، إلّا أنّه مع ذلك لا يساعد الوجدان على الحكم بالاحتياط في الطرف الداخل في محل الابتلاء، ألا ترى أنّه إذا علمت إجمالا بنجاسة ثوبك أو قلنسوة السلطان فالوجدان لا يساعد على الاحتياط عن ثوبك، فتدبّر- منه عفى عنه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 617

[حكم ما إذا لم يشهدا بالنجاسة بل بموجبها]

«مسألة 5: إذا لم يشهدا بالنجاسة بل بموجبها كفى، و إن لم يكن موجبا عندهما أو عند أحدهما، فلو قالا: إنّ هذا الثوب لاقى عرق المجنب من حرام أو ماء الغسالة كفى عند من يقول بنجاستهما، و إن لم يكن مذهبهما النجاسة».

لو شهدا بالسبب و لم يشهدا بالمسبب، بل شهدا بعدمه لكونهما ممّن لا يرى المسبب مسببا لهذا السبب، كما لو شهدا بأنّ هذا

اللباس لاقى بدن من أجنب من الحرام، و أصابه من رطوبة عرقه، و كانا ممّن يقول بطهارة عرق الجنب من حرام، فلا إشكال في مسموعية قولهما في السبب، فيرتّب أثر المسبب أيضا من يقول به، فيحكم بالنجاسة في المثال من يقول بنجاسة العرق المذكور، و هذا واضح.

[حكم ما إذا شهدا بالنجاسة و اختلف مستندهما]

«مسألة 6: إذا شهدا بالنجاسة و اختلف مستندهما كفى في ثبوتها، و إن لم تثبت الخصوصيّة إلخ».

لو قال أحدهما إنّ هذا الشي ء تنجّس بالدم، و قال الآخر: تنجّس بالبول، فلا إشكال في عدم ترتيب الأثر المختص، كما لو قلنا باحتياج المتنجس بالدم إلى ثلاث غسلات، فلا يحكم بوجوب الغسلة الأخيرة.

و أمّا الأثر المشترك و هو أصل النجاسة فقد يقال: إنّ الحكم به يختلف حسب اختلاف حالهما في الإخبار، فإن كان إخبار كلّ منهما بالخصوصية غير راجع إلى الإخبار بالقدر المشترك، بأن يكون كل يجزم بالطهارة على تقدير عدم التنجّس بالخاص الذي يخبر به، كما لو قال أحدهما: إني رأيت أنّ قطرة دم وقعت فيه، و أقطع بعدم وقوع غيرها، و يقول الآخر مثل ذلك في البول، فيشكل حينئذ الحكم بالنجاسة، إذ ليس هنا مفهوم واحد اتفق عليه العدلان، لأنّ القدر المشترك أعني النجاسة المطلقة أعم من الحاصلة بملاقاة الدم أو البول غير مخبر به، و ما هو مخبر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 618

به من النجاسة بالدم، أو بالبول قد انفرد بها عدل واحد، و لو كان أخبارهما راجعا إلى الإخبار بالقدر المشترك أيضا، كما لو كان كلّ منهما يجزم بالنجاسة، لو سئل عن حال الشي ء على تقدير عدم ملاقاته بما أخبر بملاقاته، فالحكم بالنجاسة يكون بلا إشكال حينئذ.

هذا و الحكم في هذه المسألة محل للإشكال، و

كذا في مسألة أخرى و هي ما لو أخبر أحدهما بأنّ أحد هذين نجس، و أخبر الآخر بأنّ هذا بخصوصه نجس، فهل يوجب قول الثاني انحلال إجمال الأوّل، و تعيين مفهوم أحدهما في هذا المعيّن فيجب الاجتناب عنه فقط، أو أنّ إخبار الأخير ينحل إلى إخبارين الأوّل الإخبار بأنّ أحدهما نجس، و الآخر انّ هذا الأحد هذا المعيّن فيؤخذ بإخباره الأوّل لأنّه قام به البيّنة، فيجب الاجتناب عن كليهما، و لا يؤخذ بإخباره الثاني لانفراده به، فلا يقتصر في الاجتناب عليه، أو أنّه ليس هنا مفهوم واحد موجود في إخبار كليهما و تعدّد الإخبار به، إذ لم يحصل التعدّد لا على نجاسة أحدهما، و لا على نجاسة هذا المعيّن، بل انفرد بكل منهما واحد، فلا يجب الاجتناب عن شي ء منهما، وجوه.

فإن قلت: يتعيّن الاجتناب عن المعيّن فقط، لأنّ مفاد قول أحدهما إنّ النجس إمّا هو أو غيره، و مفاد قول الآخر إنّه النجس متعيّنا، و من المعلوم ثبوت وجوب الاجتناب على كلّ من هذين التقديرين.

قلت: أثر وجوب الاجتناب، و إن كان في صورة نجاسة هذا معيّنا، أثرا شرعيا، إلّا أنّه في صورة نجاسة هذا أو غيره ليس إلّا أثرا عقليا، للعلم بهذا المعنى و ليس أثرا شرعيا لنفسه، و وجه الحكم بالاجتناب في صورة قيام البيّنة على هذا المعنى أعني: نجاسة هذا أو ذاك إنّما هو لأنّ البيّنة علم تعبّدي و نزّله الشارع منزلة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 619

العلم الوجداني، فيترتب على البيّنة آثار العلم، حتّى هذا الأثر العقلي.

و تحقيق الكلام في المسألتين أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّه إذا حصل التوافق بين خبري عدلين في شي ء واحد و إن تخالفا في

أشياء أخر، وجب الأخذ بقولهما في ما توافقا فيه، و إن لم يجب في الشي ء المختلف فيه، و حينئذ ففي المسألة الأولى أعني ما إذا قال: أحدهما تنجّس هذا الثوب مثلا بالدم، و قال الآخر تنجّس بالبول، يتصوّر ثلاث صور:

الأولى: أن يكون كل منهما مخبرا بالقدر الجامع و هو أصل النجاسة، بحيث لو سئل عن الحال على فرض انتفاء الخصوصية أجاب بالقطع بالنجاسة، و لا إشكال في هذه الصورة في الحكم بأصل النجاسة، نعم الأثر المختص بالدم أو البول لا يحكم به بل يؤخذ بالقدر المتيقّن.

و الصورة الثانية: أن يكون مدرك قطع كل منهما خصوص السبب الخاص كأن يقول أحدهما: إنّي رأيت ملاقاته مع الدم، و قال الآخر: إنّي رأيت ملاقاته مع البول، و لهذه الصورة صورتان:

الأولى: أن لا يكون كلام كل منهما مكذّبا لكلام الآخر، بأن يقول الذي شهد بملاقاة الدم: إنّي بعد رؤية ملاقاة الدم صرت قاطعا بالنجاسة و حصل قطعي من هذا السبب، و إمّا قطعي فمتعلّق بالنجاسة المطلقة أعم من الحادثة بهذا السبب، و من المستمرة الحاصلة من سبب سابق حصل قبل هذا السبب بأن يكون محتملا لملاقاة البول قبل الدم حتى تكون النجاسة من أثر البول، و يكون الدم بلا أثر. و قال الآخر: مثل ذلك في البول.

و الثانية: أن يكون كلام كلّ منهما مكذّبا الكلام الآخر، كأن يقول أحدهما: إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 620

السبب المؤثر في النجاسة هو الدم لا البول، و قال الآخر: السبب هو البول لا الدم، فالصورة الأخيرة حالها حال ما إذا أخبر عادل واحد بشي ء، ثمّ كذّب نفسه، غاية الأمر أنّ هنا أخبر عدل بشي ء و كذّبه عدل آخر، فقول كلّ منهما

يسقط عن درجة الاعتبار و الحجيّة.

و أمّا الصورة الوسطى فقد يقال: إنّ إخبار كل منهما متضمّن للإخبار بأصل النجاسة. فإنّ الأخبار بالخاص متضمّن للإخبار عن العام، فإذا قال أحدهما: جاء زيد، و قال الآخر: جاء عمرو فهما مشتركان في الإخبار عن مجي ء الإنسان، و لا فرق في اعتبار قول البيّنة بين المدلول المطابقي، و المدلول الالتزامي، فإنّ ملاك الحجية هو الحكاية عن الواقع، و لا فرق في الحكاية بين المدلول الاستقلالي و الضمني.

و بعبارة أخرى لو طرحنا قولهما و بنينا على طهارة الثوب، و عدم مجي ء الإنسان لزم صدور الكذب من عدلين، و قد علمنا من الشرع أنّ كذب العدلين عنده ملغى، فمناط لزوم الأخذ و الاتباع أن يلزم من الأخذ صدق العدلين، و من الطرح كذب العادلين و هو حاصل في المقام.

و بمثل ذلك أيضا يمكن القول في باب التواتر بمعنى أنّه لو اختلف العدد البالغ مبلغا يحصل القطع من أخبارهم في الاخبار عن الخصوصيات، فقال واحد:

جاء زيد، و آخر: جاء عمرو، و ثالث: جاء بكر و هكذا، فلا فرق بين أن يكون الجامع بين تلك الخصوصيات المختلفة مخبرا عنه و مسلّما في ما بين الجميع، أو لم يكن كذلك بأن يكون كل واحد شاكّا في حصول الجامع على فرض انتفاء الخاص الذي أخبر به في أنّه في كلتا الصورتين ملاك التواتر موجود، فانّ ملاكه أن يلزم من طرح أخبارهم صدور الكذب الواحد من الجماعة الكثيرة الممتنعة بحسب العادة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 621

صدوره منهم، مع امتناع تواطئهم على الكذب، و هو في الصورتين موجود، فإنّه كما أنّ في الصورة الأولى على تقدير عدم مجي ء الإنسان يلزم هذا المطلب المستبعد عادة، كذلك

في الصورة الثانية، فإنّ كل واحد من الإخبارات بالخصوصيات متضمّن للإخبار عن الجامع و هو مجي ء الإنسان.

و لكن الانصاف: عدم إمكان القول بذلك في باب التواتر، بل التحقيق هو الفرق بين الصورتين بثبوت التواتر في الأولى دون الثانية، و الشاهد على ذلك أنّ المتكلّم و المخبر بمجي ء زيد على تقدير عدم مجي ء الإنسان لا يصدق أنّه صدر منه كذبات عديدة، و لو كان الاعتبار بالإخبار الضمني أيضا للزم صدور كذب منه باعتبار إخباره بمجي ء الزيد، و كذب آخر باعتبار الإخبار بمجي ء الإنسان، و آخر باعتبار الإخبار بمجي ء الحيوان، و رابع باعتبار الاخبار بمجي ء الجسم، و خامس باعتبار الإخبار بمجي ء النامي، و سادس باعتبار الإخبار بمجي ء الجوهر، مع أنّ من البديهي أنّ الإخبار المذكور خبر واحد ذو صدق و كذب واحد.

و هذا بخلاف الصورة الأولى، فإنّه لو لم يجئ الإنسان لزم صدور كذبين من كل واحد من الجماعة، أحدهما باعتبار الإخبار بمجي ء الإنسان، و الآخر باعتبار الإخبار بمجي ء الشخص الخاص، فلهذا يثبت التواتر في هذه الصورة بالنسبة إلى مجي ء الإنسان، إذ من الممتنع عادة كذب هذه الجماعة التي هي العشرون مخبرا مثلا، في بلد واحد، و يوم واحد و في مضمون واحد و خبر واحد، إلّا أن يتواطؤا على الكذب، و المفروض قيام القرينة على عدم تواطئهم أيضا.

و أمّا في الصورة الثانية: لو لم يجئ الإنسان فلا يلزم إلّا صدور عشرين كذبا من عشرين مخبرا في عشرين موقعا، و هذا ليس من البعيد اتّفاقه في البلدة الواحدة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 622

في اليوم الواحد، فيحتاج في تحصيل القطع حينئذ إلى جهة أخرى غير التواتر اللفظي و المعنوي يسمّى بالتواتر الإجمالي، و هي إلى أن

يبلغ المخبرين مبلغا يمتنع صدور الكذب و لو في الوقائع المختلفة من هذا المبلغ من الجماعة في بلد واحد و يوم واحد، كما لو صاروا مائة شخص إذا كان من المستحيل بحسب العادة أن لا يكون في ما بين الإخبارات الصادرة من مائة مخبر في مائة واقعة صدق واحد و يكون جميعها كذبا، فحينئذ يحصل القطع بالجامع بين الخصوصيات، هذا هو الحال في باب التواتر.

و حينئذ فهل البيّنة جعلها الشارع حجة في مقام حصول القطع من التواتر بمعنى أنّ الشارع اكتفى بإخبار عدلين في مقام تحصّل فيه القطع من التواتر، و هو خصوص صورة التوافق في الخبر الاستقلالي و المدلول المطابقي، بدون اعتبار بالمداليل الالتزامية و الحكايات الضمنية، أو أنّ الشارع جعل البيّنة حجة مطلقا و في جميع المقامات حتى في الحكايات الضمنية، و بعبارة أخرى هل المستفاد من أدلّة حجية البيّنة هو أنّ الشارع جعل كذب العدلين ملغى و غير معتنى به بقول مطلق، أو في خصوص صورة توافق خبريهما في المفاد الاستقلالي و المدلول المطابقي.

الحق أن يقال: إنّه لما لم يكن في ما بين أدلّة حجيتها إطلاق لفظي حتى يؤخذ به، بل إنّما الدليل ينحصر في مسلّمية حجيتها عند الشرع المستفادة من تتبّع الأخبار في الأبواب المتفرّقة، و لا يستفاد من تلك الأخبار إلّا مجرّد مسلمية حجية البيّنة، و امّا أنّها أيّ بيّنة. فليست تلك الأخبار في مقام البيان من هذا الحيث، فلهذا يكون القدر المتيقّن هو حجيتها في صورة التوافق في المخبر عنه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 623

الاستقلالي.

لا يقال: إنّ حجية البيّنة من باب الأمارية، فتكون اللوازم أيضا مأخوذا بها.

لأنّا نقول: نعم و لكن بعد تمامية موضوع البيّنة و تحقّقه

على معنى واحد، فإذا تعدّد قول عدلين على معنى واحد، فجميع اللوازم لهذا المعنى الواحد مأخوذة، و أمّا هنا فليس في البين معنى واحد تعدّد عليه قول عدلين حتى يؤخذ بلازمه، و إنّما اللازم لازم لمعنيين انفرد بكل منهما عدل واحد.

و من هنا يظهر الكلام في فرع آخر، و هو ما لو أخبر عدل برؤية هلال رمضان في ليلة الثلاثين من هلال شعبان، و أخبر عدل آخر برؤية هلال شوال في ليلة خاصّة، كان غد هذه الليلة عيدا بحسب قول العادل الأوّل، لكونه اليوم الواحد و الثلاثين من هلال رمضان، فإنّ هذين العدلين و إن لم يتعلّق أخبارهما بمطلب واحد، إلّا أنّ لازم اخبار كليهما شي ء واحد و هو عيديّة غد الليلة المزبورة. فإن قلنا باعتبار البيّنة حتى في صورة التطابق في مثل هذا المعنى الذي هو لازم الاخبار، و لم يتعلّق به الإخبار بالاستقلال، حكم بعيديّة الغد بمقتضى الأخذ بقولهما و إلّا فلا.

و من هنا أيضا يظهر الكلام في مسألتنا الثانية و هي ما لو أخبر أحدهما بنجاسة أحد الشيئين، و الآخر بنجاسة المعيّن منهما، فإنّه إن كان قول الثاني منحلا إلى الإخبار بنجاسة أحدهما. و إلى تعيين هذا الأحد في هذا المعين، فلا إشكال في لزوم الأخذ بقولهما في نجاسة أحدهما من دون انحلاله و تعيينه في المعيّن، لعدم انعقاد البيّنة فيه و إن لم يكن قوله منحلا إلى ذلك، بل كان إخباره من الابتداء متعلّقا بنجاسة هذا المعيّن.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 624

فإن قلنا بتعميم حجية البيّنة بالنسبة إلى مورد التوافق في المدلول الضمني حكم أيضا بنجاسة أحدهما و وجوب الاجتناب عن كليهما، و إلّا كما هو المختار فلا يحكم بنجاسة

شي ء منهما، لعدم اتفاقهما في الاخبار بالاستقلال، لا في نجاسة هذا المعيّن و لا في نجاسة أحدهما.

و حاصل الكلام: في حجية البيّنة من جهة اعتبار التوافق في المخبر به الاستقلالي هو أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ حجية البيّنة في الشرع إنّما هي باعتبار طريقيّتها إلى الواقع نوعا و غلبة مطابقتها، فكل قيد كان دخيلا في الطريقية النوعية و غلبة المطابقة قطعا، و شك في ملحوظيته للشرع و عدمها، فحيث لا إطلاق في باب البيّنة وجب الأخذ بهذا القيد.

و من هذا القبيل القيد في ما نحن فيه، و وجه ذلك أنّه لا إشكال في أنّه كما أنّ تعدّد الخبر يوجب الظن بصدق القضية خصوصا إذا كان المخبر عادلا، كذلك اتحاد القضية المخبر بها بالاستقلال أيضا يوجب الظن بالصدق مثلا لو قال عادل: جاء زيد حصل مرتبة من الظن بمجي ء الإنسان، و لو قال عادل آخر، جاء عمرو، صار الظن بمجي ء الإنسان أزيد، فإذا قال كلاهما: جاء الإنسان، حصل الظن الأقوى، و وجهه أنّه مشتمل على ثلاث جهات:

الأولى: تعدّد الاخبار.

و الثانية: عدالة المخبر.

و الثالثة: وحدة القضية المخبر بها بالاستقلال.

فإذا احتملنا بعد القطع باعتبار الشارع الجهتين الأوليين في البيّنة في لحاظه الجهة الأخيرة، فحيث لا إطلاق وجب الأخذ بالمتيقّن، و هو الجامع لجميع هذه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 625

الجهات الثلاث.

نعم لو كان القيد مقطوعا عدم دخالته في الكشف النوعي و غلبة المطابقة، كما في طول قامة المخبر و قصرها، لا يشك في عدم كونه ملحوظا للشارع، و أمّا إذا كان دخيلا في ذلك، فلا يخفى في أنّ احتمال الملحوظية جاء فيه، و وحدة القضية المخبر بها بالاستقلال دخيل قطعا، و الدليل على ذلك أنّه

إذا بلغ عدد المخبرين إلى العشرة مع اتحاد القضية المخبر بها بالاستقلال، فربّما يحصل القطع للإنسان بالصدق و إن لم يكن واحد من المخبرين عادلا، و هذا بخلاف ما لو تعلّق إخبار هذا العدد بالمختلفات، فلا يحصل القطع بالجامع بينها، و يحتاج حينئذ في حصوله إلى بلوغ الإخبار إلى مبلغ كان من الممتنع عادة اجتماع جميع هذا المبلغ من الاخبار في الاتصاف بالكذب و خلوّها عن الصدق المعبّر عنه بالتواتر الإجمالي.

و بالجملة فدخل وحدة القضية المخبر بها على الاستقلال في الطريقية النوعية في الكشف النوعي عن الواقع مقطوع، و كونها ملحوظة للشارع مشكوك، فحيث ليس في باب حجية البيّنة ظهور لفظي و إطلاق حتى يدفع به هذا الاحتمال، صار الأخذ بالقدر المتيقّن واجبا.

[في حكم ما لو شهد أحدهما بنجاسة الشي ء فعلا، و الآخر بنجاسته سابقا مع الجهل بحاله فعلا]

«مسألة 8: لو شهد أحدهما بنجاسة الشي ء فعلا، و الآخر بنجاسته سابقا مع الجهل بحاله فعلا فالظاهر وجوب الاجتناب، و كذا إذا شهدا معا بالنجاسة السابقة لجريان الاستصحاب».

لو شهد أحد العدلين بأنّ هذا الشي ء نجس، و شهد الآخر بأنّه كان نجسا في السابق، و أشكّ في الحال في حاله، فقد حكم في العروة الوثقى بالنجاسة، و لكنّه لا نعلم له وجه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 626

و تفصيل المقال في هذا المجال أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ المتيقّن في السابق الشاك في اللاحق يكون بقضية لا تنقض مأمورا بالبناء على الحالة السابقة، و معنى البناء على الحالة السابقة كما يكون الاجتناب الخارجي عن هذا الشي ء في مقام العمل، كذلك يكون جواز الشهادة بنجاسته في مقام القول.

فلو شهد الشاهد بأنّ هذا نجس، و صرّح بأنّ مدرك شهادته هو الاستصحاب، وجب الأخذ بقوله. أمّا وجوب الأخذ على من سمع شهادته، فلإطلاق أدلّة

حجية البيّنة بالنسبة إلى هذه الصورة. و أمّا جواز هذه الشهادة فلأنّه قضية الاستصحاب، مع إمكان استفادته من رواية حفص بن غياث الواردة في باب اليد المذكورة في كتاب القضاء من الوسائل في أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، حيث يسأل السائل عن الإمام- عليه السّلام- عن أنّا نرى المال في يد شخص و لا نعلم أنّه ملكه، هل يجوز لنا الشهادة على أنّه ماله مع ذلك؟ فيقول له الإمام: هل تشتريه من هذا الشخص؟ فيجيب: نعم، فيقول: فكما يجوز لك الشراء يجوز لك الشهادة».

فإنّه يستفاد منها أنّه كلّما جاز الشراء و العمل الخارجي اتكالا على أمارة أو أصل، جاز الشهادة على طبقه أيضا، و الرواية هذه: روى حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده، و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أ فيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الهّٰأ- عليه السّلام-: فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 627

إليك، ثمّ قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

و لا ينافي ذلك قوله- عليه السّلام- في بعض الروايات بمثل هذا فاشهد أو دع، فإنّ المراد فيه عدم الشهادة مع عدم العلم، و العلم هنا حاصل، غاية الأمر أنّه علم تعبّدي حصل من الاستصحاب،

هذا كلّه في ما إذا صرّح بالشهادة.

و أمّا إذا قال العدل الآخر: إنّي أعلم بنجاسته سابقا و أشك في نجاسته لاحقا، و لم يقل هذا نجس، إمّا لجهله بحكم الاستصحاب، أو لغفلته عنه أو لغير ذلك، فحينئذ فإن شهد الشاهد الأوّل الذي قال: هذا نجس فعلا بنجاسته في السابق أيضا، أخذنا بهذا الجزء الأخير من شهادته و ضممناه إلى قول الآخر، و طرحنا الجزء الأوّل و حكمنا بالنجاسة الفعلية بحكم الاستصحاب الجاري في حقّ نفسنا، لتحقّق موضوعه فينا، فإنّ اليقين السابق التعبّدي مأخوذ من البيّنة، و الشك اللاحق حاصل لنا بالوجدان، فيكون الاستصحاب جاريا.

و أمّا لو قال العادل الأوّل: إنّي أعلم بنجاسته في الحال و أشك في نجاسته سابقا على عكس العادل الثاني فالحكم بالنجاسة حينئذ لا وجه له، لعدم تحقّق البيّنة على واحد من النجاسة السابقة و اللاحقة، أمّا على السابقة فواضح، و أمّا على اللاحقة فلأنّ العادل الثاني غاية ما يستفاد من قوله كونه موضوعا يجوز له الشهادة بالنجاسة، و يجوز له تركها، و هذا أعني: جواز الشهادة و جواز تركها حكم شرعي موضوعه نفس هذا العادل.

و بعبارة أخرى: أنّه ما أخبر إلّا بتحقّق يقين سابق لنفسه مع شك لاحق و هذا ليس إلّا موضوعا لحكم شرعي متعلّق بنفسه غير مرتبط بغيره من المكلّفين،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، ب 25، من أبواب كيفيّة الحكم و الدعوى، ص 215، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 628

و هو جواز الشهادة بالنجاسة و عدمها، و أمّا ما يكون موضوعا لحكم السائرين أعني: شهادته و قوله هذا نجس حيث إنّه موضوع لحكم شرعي مجعول على غيره و هو وجوب الاجتناب و قبول هذه الشهادة، فلم يكن هذا

العادل مخبرا به.

و إذن فتحصل ممّا ذكرنا وجود الفرق بين صورة قال العدل الثاني: أعلم بالنجاسة السابقة، و أشك في النجاسة اللاحقة و لهذا أقول: هذا نجس، و بين صورة أظهر علمه السابق و شكّه اللاحق، ثمّ سكت و لم يقل هذا نجس.

ثمّ إنّ الشهادة مع عدم العلم بالواقعة و وجود أمارة أو أصل شرعي اتّكالا على هذه الأمارة أو هذا الأصل لما يكون محلا للابتلاء ينبغي أن يتكلّم فيه.

فنقول: يدل على الجواز رواية حفص بن غياث المتقدّمة، و حفص بن غياث و إن كان عاميا لكن كتابه معتمد، و روايته موثقة على حدّ رواية السكوني على ما ذكره في المستدرك، و مضمون هذه الرواية كما تقدّم أنّ الراوي يسأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الشي ء أشهده في يدي رجل، هل يجوز لي الشهادة على كونه لهذا الرجل؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أ فيحل الشراء منه؟ قال: نعم، قال: فلعلّه لغيره فكيف جاز لك شراؤه و يصير ملكا لك، ثمّ تقول: هو لي، و تحلف على ذلك، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك، ثمّ قال: لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق». فانّ هذه الرواية بعموم التعليل فيها تدل على أنّه كلّما جاز ترتيب الآثار في مقام العمل الخارجي معتمدا على أمارة، يجوز الشهادة على طبقه أيضا في مقام القول، و موردها و إن كان اليد، إلّا أنّه يمكن تسرية الحكم بعموم التعليل إلى غيره من سائر الأمارات و الأصول، و كذا موردها و إن كانت الملكية، لكن يمكن

كتاب الطهارة

(للأراكي)، ج 1، ص: 629

التعدّي إلى باب الطهارة و النجاسة أيضا، لقيام العلة في هذا الباب أيضا، فإنّه يقال للقاطع بالنجاسة في السابق الشاك في اللاحق: هل تجتنب عن هذا الشي ء و تقول: إنّه نجس و ترتّب جميع أحكام النجس عليه فمن أين جاز جميع ذلك، و لا يجوز أن تشهد بأنّه نجس؟

نعم العلّة الأخيرة المذكورة في الرواية و هو قوله: «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» مختصة بباب الملكية دون هذا الباب، فإنّ معناه انّ الأملاك الموجود في أيدي الملاك كلّها أو جلّها مسبوقة بأيدي غيرهم، و هي أيضا مسبوقة بأيدي آخرين و هكذا، و لو جاز التشكيك في مالكية صاحب اليد بالنسبة إلى ما في يده، لما استقر ملك أحد على شي ء، و هذا ينجر إلى انهدام أمر السوق.

و أمّا في هذا الباب لو لم يبن في موارد اليقين السابق بالنجاسة مع الشك اللاحق على النجاسة، بل بنى الأمر على الطهارة لم يحصل بذلك نقص في أمر سوق المسلمين، كما هو واضح، و لكن هذا لا يورث قدحا في الاستدلال، إذ غاية الأمر أنّ الحكم و هو جواز الشهادة متكلا على أمارة ظاهرية معلّل في خصوص اليد و باب الملكية بعلّتين، فانّ الظاهر أنّ هذا علّة مستقلة و ليست من تتمة العلّة السابقة، و إذن فيكفي في سائر الأبواب عموم العلّة الأولى.

فإن قلت: يمنع عموم العلّة الأولى، إذ الظاهر منها الحلّية التي منشؤها بناء العقلاء و ارتكازهم، يعني: كلّما كان الأعمال المزبورة بحسب مشي العقلاء و بنائهم جائزا حلالا، كان الشهادة أيضا جائزة، و من المعلوم أنّ هذا لا يرتبط بباب الاستصحاب الذي هو صرف حكم شرعي، و يكون منشأ العمل فيه

هو الشرع بدون مساعدة العقلاء.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 630

قلت: هذا احتمال اختراعي و ليس معنى للرواية، إذ ليس فيها لهذا التقييد عين و لا أثر، بل الظاهر منها إناطة جواز الشهادة على حل العمل، سواء كان منشؤه الشرع أم بناء العقلاء.

ثمّ لا تعارض هذه الرواية بالروايات الناهية عن الشهادة بغير علم، و انّه ما لم تصر الواقعة المشهود بها في الوضوح عندك مثل الشمس أو مثل كفّك هذا لا يجوز لك الشهادة، فإنّ الغرض من ذلك إنّما هو النهي عن الشهادة بدون مدرك و مستند، و امّا مع وجوده فلا فرق بين كونه علما وجدانيا، أم طريقا معتبرا، أو حجة معتبرة عند الشرع أو العقلاء، فهذه الرواية غير مرتبطة بما يكون بصدده تلك الروايات.

و إن شئت وضوح ذلك فلاحظ حال المفتي و الفقيه، حيث إنّه يجوز له أن يفتي لمقلّديه في الشبهات الحكمية على طبق الأمارة الظاهرية، مع أنّ الحال في الفقيه أيضا في جميع الجهات مثل الشاهد، فموضوع قضية لا تنقض مثلا في الشبهة الحكمية و إن كان نفس الفقيه دون مقلّديه، و لكنّه يجوز له أن يفتي لهم اتّكالا على هذا الأصل، بحلّية هذا أو حرمة ذاك، على سبيل الجزم مع ورود النواهي الأكيدة و الزواجر البليغة في الآيات و الروايات الكثيرة عن القول بغير علم، و اتباع غير العلم و ما يؤدّي مؤدّاهما، و ليس حال النواهي عن الشهادة بغير علم أقوى من حال هذه النواهي عن الفتوى بغير علم، فكما أنّه يجوز مع ذلك للفقيه أن يفتي في الشبهة الحكمية اتّكالا على أمارة أو أصل ظاهري و لا منافاة لذلك مع تلك النواهي، كذلك يجوز للشاهد أيضا أن يشهد

في الشبهة الموضوعية اتكالا على أصل أو أمارة ظاهرية بدون منافاة لذلك مع تلك النواهي، بل هذا في الشاهد لو لم يكن بأولى فليس بأضعف قطعا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 631

و إذن فينبغي القطع بجواز الشهادة في كل باب مع عدم العلم الوجداني اتّكالا على الأصل الظاهري، أو الأمارة الظاهرية.

[حكم ثبوت النجاسة و عدم ثبوتها بالخبر]

«مسألة 10: إذا أخبرت الزوجة أو الخادمة أو المملوكة بنجاسة ما في يدها من ثياب الزوج، أو ظروف البيت كفى في الحكم بالنجاسة إلخ».

قد استند في اعتبار قول ذي اليد في النجاسة بالنسبة إلى ما في يده بروايتين.

أولاهما: صحيحة العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل صلّى في ثوب رجل أيّاما، ثمّ إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا يصلّي فيه؟ قال:

لا يعيد شيئا من صلاته» «1» و الأخرى: خبر عبد اللّٰه بن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه، و هو لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعلمه، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد» «2» و نحن و إن تأمّلنا في دلالة هاتين الروايتين على المدعى في ما تقدّم، و كان منشأ التأمّل في الأولى أنّ إخبار ذي اليد غالبا موجب للعلم بالصدق، فلعلّه يكون لذلك، و في الثانية من جهة اشتمالها على الإعلام و هو مأخوذ لغة من العلم، فيكون مخصوصا بصورة أحدث المخبر ذو اليد في نفس المخبر له العلم، فلا يستفاد الموضوعية لعنوان قول ذي اليد، و لكن الإنصاف ثبوت الدلالة لهما، فإنّه لا إشكال في استفادة مفروغية حجية قول المخبر صاحب اليد في مفروض السؤال في الروايتين عند السائل و الإمام و كونه متبعا، و السؤال وقع بعد

مفروغية هذه الجهة في

______________________________

(1) الوسائل: ج 3، ب 40، من أبواب النجاسات، ص 1060، ح 6.

(2) المصدر نفسه: ب 47، من أبواب النجاسات، ص 1069، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 632

خصوص إعادة الصلوات الماضية الواقعة في الثوب قبل إعلام صاحبه بنجاسته، و حكم الإمام في الثانية بالإعادة محمول على الاستحباب، للجمع بينه و بين قوله:

لا يعيد في الرواية الأولى، و بالجملة إنّما الإشكال من جهة احتمال كون ذلك المفروغية من جهة حصول العلم، لا لجهة موضوعية لصاحب اليد.

و الانصاف خلاف هذا الاحتمال، فانّ حصول العلم عقيب إخبار ذي اليد و إن سلّمنا غلبته، و لكن بمجرد ذلك لا يمكن حمل الرواية عليه، مع عدم صيرورة حكم الحجية فيها معلّقا إلّا على عنوان إخبار صاحب اليد، فانّ ظاهر ذلك هو الموضوعية، و ما ذكر مجرّد احتمال غير مرتبط بما يستفاد من الرواية، و الإعلام أيضا و إن كان من مادة العلم لغة، لكن الظاهر منه عرفا كونه مرادفا للاخبار، و إذن فالإنصاف تمامية دلالة الروايتين، و لكن موضوعهما خصوص باب النجاسة، فلا يجوز التعدّي إلى كل شي ء وقع تحت تصرّف ذي اليد، فلا يكون إخباره بأنّ الحوض الواقع في داري مثلا عمقه كذا، و ذكر هذا يساوي الكرّ فلا يحكم بكرّية الحوض، و هكذا لا يجوز الاعتماد على قوله في سائر الإخبارات المتعلّقة بما في تحت يده، و إنّما الثابت من الشرع أمارية اليد في بابي التذكية و الملكية، و وجوب تصديق قول ذي اليد في باب النجاسة، و أمّا في سائر الأبواب فأمارية يده و حجية قوله يكونان بلا دليل.

و أمّا مقدار دلالة الروايتين في باب النجاسة، فحاصل الكلام فيه أن يقال:

أمّا

حيث عدالة المخبر و فسقه فيمكن استفادة الإطلاق من الرواية، إذ لو كان لخصوصية العدالة دخل في الحجية المفروغ عنها في موضوع الرجل، لكان مقام التنبه على ذلك و التفصيل في الحكم بين العادل و الفاسق، بل و يمكن استفادة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 633

الإطلاق بالنسبة إلى حيث كونه مسلما أو كافرا، فانّ الرجل أعم منهما، و فرض كونه مصلّيا في الروايتين لا يوجب اختصاصه بالمسلم، إذ في الكفار أيضا من يصلّي مثل المنكر للضروري و الناصب.

و امّا اعتبار البلوغ فلا يكون قول الصبي و لو كان مراهقا بنجاسة ما في يده معتبرا، فلا يمكن دفعه بالإطلاق، إذ لا إطلاق للرواية من هذه الجهة، فإنّ الرجل ظاهر في من كان بالغا.

و أمّا ما اشتهر من أنّ خصوصية المورد لا اعتبار بها، إنّما هو في ما إذا كان في البين عموم، فلا يصير خصوص المورد حينئذ مخصصا لهذا العموم، كما في قول القائل عقيب السؤال عن حال المعاملة مع زيد مثلا: أكرمه فإنّه من العلماء، و أمّا حيث لا عموم بل علق الحكم من الأوّل على موضوع متخصّص بخصوصية، كما في مورد هذه الرواية بالنسبة إلى خصوصية البلوغ، و كان محتملا دخل هذه الخصوصية في موضوع الحكم، فحيث لا عموم و لا إطلاق رافعا لهذا الاحتمال يصير القدر المتيقّن من الحكم صورة وجدان هذه الخصوصية، و يكون الحكم في صورة فقدانه بلا دليل.

نعم بعض الخصوصيات لا يحتمل دخلها في موضوع الحكم، بل نقطع مع وجود الإطلاق أو العموم في البين بإسراء الحكم إلى صورة عدمها، و ذلك مثل قيد الرجولية في مورد الرواية، بل في غالب الأسئلة في الروايات الواردة في الأحكام، حيث تكون

مشتملة على لفظ الرجل و مع ذلك يعمّم الحكم في المرأة أيضا، مع عدم عموم في البين، و وجه ذلك ما ذكر من عدم احتمال مدخلية خصوصية الرجولية في قبال الأنوثية في الحكم، فيكون ملغى قطعا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 634

و من جملة ذلك أيضا كون الرجل صاحب الثوب مصلّيا في الثوب، فإنّه أيضا يمكن القطع بعدم مدخليته، بل المدار حصول عمل منه يكشف عن كون الثوب نجسا عنده، و على هذا فيسري الحكم بالنسبة إلى الرجل الفاسق الذي يترك الصلاة في الثوب فسقا بل و إلى غير الثوب كالظروف مثلا إذا أظهر فيها عملا دالا على نجاسته عنده و باعتقاده، فخصوصية الصلاة فيه و خصوصية الثوبية يكونان أيضا ملغاتين.

و أمّا خصوصية البالغية فمن المحتمل دخالتها.

و أمّا خصوصية المالكية حيث إنّ مورد الرواية أيضا متخصص بها، فهل هي من الاعتبارات و الخصوصيات التي يقطع بإلغائها، و أنّ المدار هو كون المخبر ذي اليد أزيد اطلاعا من الغير المخبر له، فيكون قول الغاصب بالنسبة إلى ما في يده حجة، و كذا غيره من غير المالك إذا كان ذا يد على ملك الغير أو أنّه من الخصوصيات التي يحتمل دخلها؟ يمكن جعلها من القسم الأوّل بتقريب أن يقال: إنّ المستفاد من الرواية بالمناسبة هو كون الملاك للحجية أبصريّة صاحب اليد من غيره، فلا يكون لمالكيّته دخل، فإذا أمكن استفادة ذلك من المناسبة بين الحكم و الموضوع يحكم بتسرية الحكم إلى مثل الزوجة و الخادمة و المملوكة لو أخبرن عن نجاسة ثياب الزوج، أو ظروف البيت، بل و يتعدّى أيضا إلى المربّية للطفل إذا أخبرت بنجاسة بدنه أو ثيابه، بل و إلى المولى إذا أخبر بنجاسة بدن

العبد أو الجارية أو ثيابهما، مع كونهما تحت يده و استيلائه.

و الحاصل: أنّ المناط هو الأبصريّة بالحال لا مطلقا، بل خصوص التي كان منشؤها الاستيلاء على الشي ء، نظير قولنا في حجية قول الثقة إنّ ملاكها الطريقية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 635

إلى الواقع، فإنّه ليست مطلق الطريقية، بل خصوص الطريقية الناشئة عن خبر الثقة، و هذا هو الفارق بين الزوجة و الجارية، حيث إنّ قول الزوج بنجاسة بدن الزوجة أو ثيابها، ليس مسموعا، و قول المولى في نجاسة بدن الجارية أو ثيابها مسموع، مع أنّ الأبصرية بحال الزوجة ربما يكون أكثر من الأبصرية بحال الجارية، لأكثرية الاستئناس مع الزوجة من الجارية، فإنّ الاستيلاء في الجارية موجودة، و في الزوجة غير موجودة، ألا ترى أنّه لا حقّ للزوج أن يأمر زوجته بإزالة النجاسة مثلا عن هذا المكان و هكذا، و هذا الحق ثابت في الجارية.

و بالجملة: فالملاك هو الاستيلاء و لو كان عن غير حق، و هو في الزوجة مفقودة غالبا، و في الجارية حاصلة غالبا، و على هذا فلا يبعد أن يقال بحجية قول الصبي المراهق أيضا بالنسبة إلى ما في يده، فإنّه أيضا أبصر بحال ما في يده عن غيره، و أبصريته ناشئة عن استيلائه و كونه ذا يد عليه.

[حكم سماع قول الشريكين بالنجاسة إذا كان بيدهما شيئا]

«مسألة 11: إذا كان الشي ء بيد شخصين كالشريكين يسمع قول كلّ منهما في نجاسته، نعم لو قال أحدهما: إنّه طاهر، و قال الآخر: إنّه نجس تساقطا، كما أنّ البيّنة تسقط مع التعارض، و مع معارضتها بقول صاحب اليد تقدّم عليه».

لا إشكال في أنّه إذا تعارض بيّنتان تساقطا، و أمّا إذا تعارض البيّنة مع إخبار صاحب اليد، فقد حكم في العروة الوثقى بتقديم البيّنة

و لم نعلم له وجه، و أنّ المعيار الكلّي في باب تعارض الأمارتين انّه إن استفيد من دليل حجية كل منهما الأمارية المطلقة على جميع التقادير كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو التساقط عند التعارض، و يحتاج في تقديم أحدهما المعيّن على الآخر إلى تنصيص خاص من الشرع، فيرفع به اليد عن القاعدة الأوّلية، و إن لم يستفد من دليل أحدهما إلّا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 636

الأمارية المقيدة بمعنى الثابتة على تقدير عدم وجود الأمارة الأخرى نظير حجية الاستصحاب و سائر الأصول، حيث إنّها مقيّدة بتقدير فقد الأمارات الشرعية، فلا اشكال أنّ المقدّم حينئذ هو الأمارة التي ثبت من دليلها الأمارية المطلقة، بل لا تقديم في الحقيقة باعتبار أنّ الأمر دائر بين الحجية و اللاحجة حينئذ.

و حينئذ فنقول في المقام: إن استفيد من دليل حجية البيّنة أنّ أماريته مقيّدة بحال فقد أمارة أخرى مثل قول ذي اليد فلا إشكال في تقدّم قول ذي اليد عند التعارض، و إن استفيد من دليل حجية قول ذي اليد ذلك فلا إشكال في تقديم البيّنة عليه، و إن استفيد من دليل كل منهما الأمارية المطلقة، أو لم يستفد من شي ء منهما شي ء من الإطلاق و التقييد، بل استفيد الحجية على سبيل الإهمال، فالقاعدة في الصورتين هو التساقط عند التعارض، و لا يخفى أنّ دليل كل من حجية البيّنة و حجية قول ذي اليد كما عرفت هو المفروغية المستنبطة من الأخبار، و إذن فلا خصوصية في دليل إحداهما كانت مفقودة في دليل الآخر، بل حالهما في الإطلاق و التقييد و الإهمال على حدّ سواء، فإمّا أن يقال في دليل حجية البيّنة مثلا أنّ له الإطلاق، فلا بد أن يقال

بمثل ذلك في دليل حجية قول ذي اليد، و إمّا أن يقال:

إنّه في مقام الإهمال من هذه الجهة و ليس في مقام البيان لا إطلاقا و لا تقييدا، فلا بدّ أن يقال به في الثاني أيضا، و لا يخفى أنّ مقتضى القاعدة على أي حال هو التساقط، لتساويهما في درجة الحجية بتساوي دلالة دليليهما، و إذن فلم يبق وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

و قد يتوهّم صحّة التمسّك على تقديم البيّنة على قول ذي اليد بمسلمية تقديم البيّنة في مقام الخصومات و المرافعات على اليد، حيث إنّ المنكر مع كون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 637

المال بيده إذا شهدت البيّنة على كونه لزيد مثلا يؤخذ المال من صاحب اليد و يسلّم إلى الزيد، و لا يعتنى بأمارية اليد على الملكية، فمن ذلك يعلم أنّ أمارية البيّنة مطلقة، و أمّا أمارية اليد فمقيّدة بحال عدم وجود البيّنة، فإنّ أمارية قول ذي اليد أيضا سعته من أمارية اليد.

و لكنّه توهم فاسد، و وجهه أنّ الشارع لم يجعل اليد في مقام فصل الخصومة فاصلا للخصومة، و إنّما جعل أثرها صيرورة صاحبها منكرا، و أمّا القاطع للخصومة فمنحصرة في الإيمان و البيّنات بمقتضى قوله: «إنّما أحكم بينكم بالإيمان و البيّنات» «1» و إذن فتقديم البيّنة في هذا المقام ليس من باب تقديم أحد الحجتين المعارضتين على الأخرى، بل لأجل أنّ الفاصل ليس إلّا البيّنة لا غيرها.

و بعبارة أخرى ليس في الحقيقة تقديما باعتبار أنّ الدوران بين الحجة و اللاحجة، و من الواضح تعيّن الأخذ بالحجة في قبال اللاحجة، فالحكم على طبق البيّنة في هذا المقام الذي يكون اليد فيه بنظر الشرع بلا تأثير أصلا من حيث فصل الخصومة لا

يصير دليلا على تقديم البيّنة في مثل باب النجاسة الذي قد أحرز من الشرع الحجية و التأثير لكل واحد من البيّنة و اليد إذا حصل التعارض بينهما، فإنّه من باب تعارض الأمارتين و الحجتين و المؤثرين، و مقام الخصومة من باب الدوران بين الحجة و اللاحجة و المؤثّر و اللامؤثر، فلا ربط بينهما أصلا.

ثمّ ليعلم أنّه في بعض المقامات تكون البيّنة مقدمة على إخبار ذي اليد محققا، و في بعض المقامات يكون إخبار ذي اليد مقدما على البيّنة محققا، مثلا لو أخبر البينة بالطهارة مستندا إلى قاعدة الطهارة، و لكن حكم ذو اليد بالنجاسة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18 ص 169، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 638

بحكم بتّي، فلا إشكال في تقديم قول ذي اليد، بل لا بيّنة في البين في الحقيقة، بل يقع الدوران بين القاعدة و إخبار ذي اليد، و من المعلوم تقدّم الثاني لأماريته، و كذلك لو أخبر ذو اليد بالنجاسة مستندا إلى استصحاب الحالة السابقة و شهد البينة بالطهارة البتيّة، فلا إشكال في تقدّم البينة، إذ في الحقيقة يقع الدوران بين قاعدة الاستصحاب و قول البيّنة، و من المعلوم تعيّن الأخذ بالثاني لكونه أمارة.

فمورد حكمنا بتساقطهما عند التعارض إنّما هو في ما إذا تعلّق أخبارهما بالطهارة و النجاسة الواقعيتين، دون المستندتين إلى أصل ظاهري، و كذا الكلام في تعارض البينتين فالحكم بتساقطهما مختص بالصورة المزبورة.

[في حكم اعتبار قبول قول صاحب اليد إذا كان قبل الاستعمال]

«مسألة 14: لا يعتبر في قبول قول صاحب اليد أن يكون قبل الاستعمال كما قد يقال، فلو توضّأ شخص بماء مثلا و بعده أخبر ذو اليد بنجاسته يحكم ببطلان وضوئه إلخ».

لا فرق في اعتبار قول ذي اليد بين وقوعه قبل العمل و وقوعه بعده، فكما

لو أخبر ذو اليد أنّ هذا الماء لي و هو نجس لا يصحّ الوضوء منه، كذلك لو توضّأ منه ثمّ أخبر ذو اليد بذلك أيضا يحكم بعدم الصحّة، و توهّم الفرق بين الصورتين بعدم الاعتبار في الثانية و الاعتبار في الأولى لم نعلم له وجه.

فإن قلت: لعل وجهه أنّ موضوع الحجة و هو اخبار ذي اليد متأخّر عن العمل، و هو لا يفيد القطع بالنجاسة من السابق، و لا يسري حجّيته أيضا إلى السابق، فيجب ترتيب آثار النجاسة من حين قيامه، و أمّا قبله فلم تكن النجاسة معلومة و لا قام عليها حجة، فيكون العمل السابق صحيحا بقاعدة الفراغ.

قلت: نعم يكون قيام الحجة و موضوعها متأخّرا، لكن لو كان للنجاسة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 639

السابقة أثر في اللاحق، فيجب ترتيب هذا الأثر في اللاحق بلا إشكال، فإن كان الطهارة شرطا واقعيا لصحة العمل وجب الإعادة بعد أخبار ذي اليد، لأنّ وجوب الإعادة أثر في اللاحق للنجاسة في السابق، و إن كانت شرطا علميا لم تجب الإعادة بعد أخبار ذي اليد، فلهذا يجب إعادة الوضوء بعد أخبار ذي اليد بنجاسة مائه، و لا يجب إعادة الصلاة بعد أخبار ذي اليد بنجاسة اللباس، لأنّ طهارة الماء شرط واقعي للوضوء، و طهارة اللباس علمي للصلاة، و يمكن أن يكون نظر المتوهّم إلى خصوص مورد لم يكن للعمل الماضي أثر في المستقبل أصلا، كما في شرب الماء النجس مع عدم ملاقاة شي ء من الأعضاء الظاهرة معه، فإنّ أخبار ذي اليد بعد ذلك لا يصير منشأ لأثر، لكن هذا لا يختص بإخبار ذي اليد بل يجري في البينة بل و العلم أيضا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 640

فصل في كيفية تنجّس المتنجسات

مسألة: وجه تنجيس المتنجس:

قد يقال إنّه الارتكاز العرفي، بمعنى أنّ قول الشارع: الدم نجس، و البول نجس، و المني نجس و هكذا، معناه أنّ هذه الأشياء قذر عند الشرع.

و أمّا كيفية التنجيس فموكول إلى نظر العرف في قذاراتهم، و لا يخفى أنّ العرف كما يحترزون من ملاقي نفس القذر، كذلك يحترزون أيضا من ملاقي ملاقيه أيضا، و يشكل بأنّ هذا الارتكاز ليس بثابت في الملاقي إذا بعد، كما في الملاقي السبعين مثلا، و المدعى أعمّ من القريب و البعيد.

و الحق أن يقال في دليل تنجيس المتنجّس: إنّا قد استفدنا من قول الشارع إنّ الماء القليل ينجسه النجس، إنّ الماء القليل الملاقي للنجس يصير نجسا، فيكون حاله حال أعيان النجسة، فكما أنّ النجس ينجس ملاقيه، كذلك الماء القليل الملاقي للنجس أيضا ينجس ملاقيه، فيكون ملاقيه نجسا، ثمّ هو أيضا ينجس ملاقيه، و هو أيضا بمقتضى كونه نجسا ينجس ملاقيه و هكذا.

و أمّا تسمية النجس بالذات بالنجس، و النجس بالعرض بالمتنجّس، فهو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 641

اصطلاح أحدثه الفقهاء و ليس مستفادا من الأخبار، هذا مضافا إلى رواية مذكورة في باب المياه من الوسائل ناصّة في تنجّس المتنجس في المرتبة الأولى.

مسألة: من الكبريات المسلّمة المبرهنة عدم جريان الاستصحابات المثبتة

أعني ما إذا كان ترتب الأثر الشرعي على المستصحب بتوسيط أثر غير شرعي، إلّا فيما إذا كان الأثر الواسطة خفية، بحيث لا يراه العرف شيئا و يرى الأثر الثاني الذي هو شرعي أثرا لنفس ذي الواسطة.

و وجه عدم الجريان فيما إذا كانت الواسطة جليّة أنّ المورد لا يكون من مصاديق «لا تنقض» فإنّه عدم النقض إنّما هو بلحاظ أثر نفس الشي ء و خصوص الشرعي من الآثار، فعدم نقض الموضوع الذي له أثر عادي مثلا و يكون لهذا

الأثر أثر شرعي لا يصح بلحاظ الأثر الشرعي، لأنّه ليس أثرا له بل للواسطة، فلا يكون عدم النقض بلحاظه عدم نقض هذا الشي ء، و عدم نقضه بلحاظ أثره العادي أيضا غير صحيح، لأنّ «لا تنقض» إنّما يشمل الآثار الشرعية دون غيرها.

و وجه الجريان في ما إذا كانت الواسطة خفية: أنّ العرف لا يرى الواسطة واسطة في البين، فيرى أثرها أثرا لذي الواسطة، و المفروض أنّه شرعي و الخطاب في «لا تنقض» أيضا يكون مع العرف، فيكون منزلا على الأفراد العرفية، دون ما تقتضيه الدقة العقلية، هذا مجمل البرهان في أصل هذه الكبرى.

و لكن قد يحصل الاختلاف غاية الاختلاف في تعيين مصاديقها، و أنّ الواسطة هل يراها العرف شيئا أو لا، و من جملة الموارد التي حصل فيها هذا الاشتباه مسألة ما لو كان في أحد المتلاقيين رطوبة مسرية قبل التلاقي، مع نجاسة أحدهما في حاله و الشك في بقاء الرطوبة المسرية.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 642

فإنّ من المسلّمات اعتبار الرطوبة المسرية في حصول التنجّس لأحد المتلاقيين من ملاقاة الآخر النجس، و لكن النجاسة ليست من آثار نفس هذه الرطوبة المسرية، بل هو أثر لسراية الرطوبة من ذي الرطوبة النجسة إلى الآخر، و أمّا مجرّد وجود الرطوبة المسرية النجسة في أحدهما مع الملاقاة بينهما بدون حصول السراية لمانع بعلاج و نحوه فلا يوجب التنجيس، فالنجاسة التي هي الأثر الشرعي أثر للسراية و هي أثر عادي لا شرعي للرطوبة المسرية التي هي المتيقّن في السابق المشكوك في اللاحق.

فقد يقال: إنّ استصحاب الرطوبة المسرية جارية و تفيد الحكم بالنجاسة، لأنّ الواسطة و هي السراية غير مرئيّة لدى العرف، و هذا يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في

الرسائل، حيث ذكر هذه المسألة في بحث الأصل المثبت الذي يكون الواسطة فيه خفية على سبيل التمثيل بناء على إظهاره الجزم بالحكم في هذه المسألة أيضا، دون أن يكون غرضه مجرّد تقريب المطلب بالمثال.

و قد يقال: إنّ هذا الاستصحاب غير جار، لأنّ الواسطة المذكورة يراها العرف واسطة، و لا يحتاج إلى دقّة عقلية قصر عنها فهم العرف، بل وساطتها من الواضحات، و الشاهد على درك العرف وساطتها أنّه لو وصل يدك إلى شي ء رطب قذر مثلا تنظر إلى يدك لاستعلام أنّه هل تأثّر و صار حاملا لشي ء من الرطوبة أو لا؟ و على الأوّل ترتّب على يدك أثر القذارة، و على الثاني لا ترتب.

و على هذا فيكون مقتضى قاعدة الطهارة هو الطهارة، و هذا الوجه يظهر تأييده من الميرزا الشيرازي- قدّس سرّه- على ما نقل عنه الأستاذ- دام ظله- أنّه كان يستشكل في كون الواسطة في هذه المسألة خفية في مجلس مذاكرته و درسه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 643

[في حكم تنجس المتنجس بنجاسة ثانية]

«مسألة 9: المتنجّس لا يتنجّس ثانيا و لو بنجاسة أخرى لكن إذا اختلف حكمهما يرتّب كلاهما».

لو تنجّس الثوب مثلا بالنجس الذي يكفيه الغسل مرّة كالدم، و قبل التطهير لاقاه النجس الذي يحتاج إلى تعدّد الغسل كالبول، فتارة نتكلّم في صورة القطع بذلك في تصوير النجاسة عقيب النجاسة، نظير ما تقدم في بحث عرق الجنب من حرام في تصوير الجنابة عقيب الجنابة، و أخرى نتكلّم بعد البناء على تصويره في صورة الشك في ملاقاة الثوب للنجس المحتاج إلى التعدد و عدمها بعد القطع بملاقاته للنجس الذي يكفيه المرة.

أمّا الكلام من الجهة الأولى، فنقول: لو كان اختلاف النجاسات في الوحدة الغسل و تعدّده راجعا إلى الاختلاف في

الحكم مع كون الموضوع في الجميع واحدا، بمعنى أن تكون النجاسة مرتبة واحدة، سواء كانت حاصلة من البول أو الدم أو غيرهما، و إنّما يكون الاختلاف في حكمها، فحينئذ لا يمكن حصول النجاسة عقيب النجاسة، فإذا كان لخصوص النجاسة بالبول أثر خاص و هو لزوم الغسلة الثانية، فلا يحكم بترتّب هذا الأثر، إلّا إذا كان الثوب مثلا طاهرا ثمّ لاقاه البول، و أمّا إذا كان حاملا للنجاسة بالدم فلا أثر لملاقاة البول حينئذ، لأنّ الأثر إنّما هو للنجاسة به و هي غير حاصلة.

و لكن الانصاف خلاف ذلك، لأنّا قد استكشفنا من الحكم بالوحدة في الدم، و بالتعدد في البول أنّ السبب اختلاف مرتبة القذارة فيهما عند الشرع شدّة و ضعفا، و أنّ نجاسة البول أشدّ من الدم.

و إذن فيتعيّن فيما إذا كان الثوب حاملا لنجاسة الدم، ثمّ لاقاه البول الحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 644

بأنّه يصير أنجس، بمعنى أنّ البول يكون مؤثّرا في المحل بمقدار زيادته على الدم و هو الغسلة الثانية، و أما الغسلة الأولى فيكون بين الدم و البول التداخل من جهتها.

و أمّا الكلام في الجهة الثانية، أعني أنّه بعد ما بنينا على تأثير النجاسة الشديدة في القذر الزائد عند طروّها بعد طروّ النجاسة الضعيفة لو علم بحاملية المحل للضعيفة و شك في حمله للشديدة أيضا، كما لو علم بملاقاة الثوب للدم و شك في أنّه قبل التطهير هل صار ملاقيا مع البول أو لا، فحينئذ هل يحكم بطهارة المحل بعد الغسلة الأولى، أو يحكم بنجاسته بمقتضى الاستصحاب إلى أن يحصل الغسلة الثانية؟ و نظير هذا الكلام أيضا يجري في المتماثلين، كما لو لاقى الثوب مثلا مع البول فغسل بالغسلة الأولى

و الثانية، و لكن احتمل وقوع قطرة بول عليه في حال الغسلة الثانية، فحينئذ هل يحكم بالطهارة بأصالة عدم وقوع القطرة، أو يحكم بالنجاسة و الاحتياج إلى غسلة أخرى؟

و محصّل الكلام فيه: أنّ الاستصحاب في الأوّل يكون من مصاديق الاستصحاب الكلّي القسم الثاني، لأنّ الشك إنّما هو في وجود الكلي، لأجل احتمال حدوث فرد محتمل البقاء مقارنا لحال وجود الفرد المقطوع الزوال، مثل ما لو علم وجود الزيد في الدار، ثمّ علم بخروجه منها، و لكن شك في وجود الإنسان فيها مع ذلك، لاحتمال وجود العمرو فيها حال وجود الزيد، و كان هو باقيا فيها، و المثال الأوّل أيضا كذلك، فإنّه علم أوّلا بنجاسة المحل بالدم، ثمّ علم زوال هذه النجاسة عنه و يشك مع ذلك في وجود النجاسة لأجل احتمال حدوث النجاسة البولية على المحل مقارنا لحال طروّ النجاسة الدميّة، و الاستصحاب في المثال

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 645

الثاني من قبيل استصحاب الكلي القسم الثالث، إذ الشك فيه في وجود الكلي ناش عن الشك في حدوث فرد محتمل البقاء مقارنا لزوال الفرد المقطوع الزوال، كما لو علم وجود زيد في الدار ثمّ علم خروجه منها، و مع ذلك شكّ في وجود الإنسان لأجل احتمال دخول العمرو مقارنا لخروج الزيد، و هنا أيضا علم طرو النجاسة البوليّة السابقة على المحل و علم زوالها، و لكن شكّ في النجاسة لأجل احتمال حدوث النجاسة البوليّة الثانية مقارنا لحال زوال الأولى، هذا.

و حينئذ نقول: لا شبهة و لا إشكال في أنّ المكلّف في المثال الأوّل، يكون له مقطوع سابق و مشكوك لاحق، و هو أصل النجاسة، و كذلك في المثال الثاني. و إذن فلا إشكال في

صحّة الاستصحاب لأصل النجاسة بلحاظ الأثر المرتب على القدر المشترك، و هو عدم جواز الدخول في الصلاة بقضية خطاب «لا تصل» في الثوب النجس، و إن كان لا يصحّ الاستصحاب في كل من الخاصين بلحاظ الأثر المختص، فلا يجوز استصحاب النجاسة الدميّة في المثال الأوّل لترتيب الغسلة الثانية كما هو واضح، و بعد جريان الاستصحاب في كلي النجاسة يحكم بعدم جواز الدخول في الصلاة، فيكون المكلّف ملجأ إلى غسلة أخرى حتى يجوز له الدخول في الصلاة.

و غاية ما يمكن أن يرد على هذا الاستصحاب أن يقال: إنّ الشك في أصل النجاسة في المثالين و إن كان ثابتا، و لكنّه ناش عن الشك في حدوث الخاص الثاني، و الأصل في السبب مقدّم على الأصل في المسبّب، فيجري حينئذ أصالة عدم تحقّق هذا الخاص، و يكون من أثره مع عدم تحقّق الخاص الأوّل الذي فرض القطع به عدم تحقّق أصل النجاسة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 646

و لكنّه أيضا مدفوع: لما ذكره المدققون من أنّ هذا الأصل غير جار لكونه من الأصول المثبتة، لأنّ ترتّب عدم الجامع على عدم أفراده عقلي، و ليس من الآثار الشرعية، و إذن فالأصل في المسبب و هو استصحاب أصل النجاسة يكون سليما عن الحاكم، و بذلك يشكل الحال في كثير من الموارد، و من جملتها أيضا ما لو كان محدثا بالأصغر فتوضّأ ثمّ شكّ في بقاء أصل الحدث لاحتمال تبدّل حدثه الأصغر بالأكبر في حال حصول الأصغر، كما لو كان نائما و استيقظ و احتمل الاحتلام في أثناء النوم، فإنّ استصحاب أصل الحدث بعد الوضوء جار، و الدفع أيضا يمكن بأنّ أصالة عدم حدوث الأكبر يرفع الشك في بقاء الحدث، و

الإشكال أيضا يتمشّى بأنّ ترتّب عدم الكلي على عدم أفراده عقلي فهذا الأصل، لا يجري، فيجري أصالة بقاء كلي الحدث، فلا يجوز الدخول في الصلاة، حتى يحتاط بإتيان الغسل.

و الحق أن يقال: إنّ الجوامع و الكليات مختلفة فمنها ما يكون ترتب وجوده على وجود أحد أفراده و عدمه على عدم جميع أفراده بحكم العقل و ترتيبه بدون وساطة الشرع أصلا، و ذلك مثل ترتّب وجود الإنسان على وجود زيد، و ترتّب عدمه على عدم جميع الأفراد، و في هذا القسم لا يمكن إجراء استصحاب عدم الفرد، حتى يرتّب عليه عدم الكلي أو وجوده حتى يرتّب وجود الكلي، لكون ذلك أثرا عقليا صرفا، فيكون استصحاب الجامع بلا مانع.

و منها ما يكون ترتب وجوده على وجود أحد أفراده، و عدمه على عدم جميعها مأخوذا بكلا طرفيه من الإثبات و النفي من الشارع، بحيث لو لا الاصطياد من بيانات الشرع و استكشافاته لما كان للعقل بنفسه استقلال و إدراك في شي ء من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 647

الطرفين، و ذلك مثل النجاسة و الطهارة و الحدث، فإنّ وجود النجاسة بوجود أحد الأمور العشرة مأخوذ من الشرع، و إلّا فلا يدرك العقل حصولها عقيب بعض هذه الأمور، مثل ملاقاة يد الكافر التي تكون في غاية اللطافة، و كذا في الدم و غيرهما، و كذلك عدم النجاسة بعدم جميع العشرة أيضا مستفاد من كلمات الشرع، و لو لا ذلك لاحتمل العقل حصولها بأمر آخر غير هذه العشرة، مثل ماء الأنف.

و بالإجمال لا إشكال في كون كلتا القضيتين من المثبتة و المنفية من الأمور التي تكون متلقاة من الشرع و يكون بيانها وظيفة له و إن كان لا يتكفّل لهاتين

القضيتين عبارة واحدة متلقاة من الشرع، لكنّهما مستفادان من مواضع متفرّقة من كلامه، و لا نقول: إنّ هذه الأمور مجعولة للشرع بل هي أمور واقعية، و لكن يقصر عن دركها العقل و يكون وظيفة بيانها و الكشف عنها للشارع، و هذا القدر كاف في شمول عموم لا تنقض لهذه الأمور و لا يلزم في عمومه كونها مخترعة له.

و حينئذ فتكون هذه الأمور برزخا بين الموضوعية و الحكمية، فتارة يترتّب عليها أثر الموضوع، كما في مورد استصحاب النجاسة لأجل ترتيب آثارها، و أخرى يعامل معها معاملة الحكم، كما في استصحاب الخمرية لأجل ترتيب النجاسة.

و هكذا الكلام بعينه في الحدث، فإنّ وجوده بوجود البول أو النوم أو المني و هكذا إلى آخر أسبابه إنّما هو مأخوذ من بيان الشارع، و كذلك عدمه عند عدم جميع هذه الأشياء أيضا مأخوذ من الشرع، فيكونان قضيتين من القضايا الشرعية، و حينئذ فإذا علم عدم حدوث فرد من النجاسة بالوجدان، أو علم حدوثه و زواله بالتطهير، و علم عدم فرد آخر محتمل الحدوث بالأصل، و المفروض أنّ عدم الأفراد الآخر أيضا وجداني، فقد تحقّق بذلك موضوع الحكم الشرعي و هو الطهارة و عدم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 648

النجاسة، و كذلك إذا علم بعدم حدوث الحدث الأصغر، أو حدوثه و زواله بالوضوء، و علم عدم خروج المني مثلا بالأصل، فقد تحقّق بذلك موضوع الحكم الشرعي و هو الطهارة من الحدث.

و أمّا قضيّة أنّ عدم الكلي عند عدم جميع أفراده يكون حكما عقليا التي صارت هي منشأ الإشكال في هذه الاستصحابات فليست بشي ء، و ذلك لما عرفت من أنّ أصل ترتيب وجود الكلي في هذا القسم على وجود أحد أفراده و

ترتيب عدم الكلي عند عدم جميع أفراده يكونان من الشرع و لا دخل للعقل فيهما أصلا.

نعم بعد تحقّق هذين الترتيبين من الشرع و أخذهما منه يصير ذلك منشأ لحكم العقل بالترتّب، و حكم العقل بالترتّب الذي يكون مضرّا بشرعية الأثر في باب الاستصحاب إنّما هو ما يكون من الابتداء و من غير ملاحظة ترتيب الشرع و جعله الملازمة بين الموضوع و المحمول و أمّا ما يكون بتوسيط ترتيب الشرع و بعد ملاحظته فليس مانعا من الاستصحاب، كيف و هذا المعنى من العقلية التي تكون بوساطة الشرع، يكون موجودا في جميع المحمولات الشرعية التي رتّبها الشرع على موضوعاتها، مثل إذا بلت فتوضّأ و نحوه، حيث إنّه بعد ورود الحكم و الجعل من الشرع يحكم العقل بعدم انفكاك المحمول عن الموضوع، فالمناط و المعيار هو الحكم الأوّلي الابتدائي بلا وساطة الشرع لا غير.

هذا حاصل الكلام في ما إذا علم بتنجّس المحل بالنجاسة الضعيفة و احتمل تنجّسه بالشديدة أيضا مقارنا لحال التنجّس بالضعيفة، أو علم بتنجّس المحل بنجاسة و احتمل تنجّسه بنجاسة أخرى مماثلة للأولى، أو مغايرة مقارنا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 649

لحال زوال النجاسة الأولى، حيث علم أنّ المرجع فيهما هو استصحاب عدم ملاقاة الشديدة في الأولى و عدم ملاقاة النجاسة الأخرى في الثانية، و بذلك يرتفع الشك في بقاء أصل النجاسة، فلا يجب الاحتياط في المسألتين بغسل آخر للمحل موافقا لمقتضى النجاسة المحتملة.

نعم يبقى الكلام في ما إذا علم تنجس المحل بنجاسة، و لم يعلم أنّ ما تنجّس به هو النجاسة الضعيفة أو الشديدة، كما لو علم بتنجّس الثوب، و لكن لم يعلم أنّه حصل بملاقاة الدم حتى يكفيه الغسل مرّة، أو بملاقاة البول

حتى يحتاج إلى الغسل مرتين.

و حاصل الكلام في ذلك أنّه قد يقال: إنّه بعد الغسل مرة يشك في بقاء أصل النجاسة، و نحن و إن سلّمنا في الفرع المتقدم جريان أصالة عدم حدوث الجزئي لرفع الشك في بقاء الكلي لا يمكن القول به ها هنا، لأنّ منشأ الشك في بقاء الكلي هنا حدوث نجاسة البول في المحل، و أصالة عدم حدوثه و إن كان رافعا للشك المذكور، و لكنّه لا يجري لأجل المعارضة بالمثل، فإنّ المفروض في المقام عدم كون الجزئي الآخر مقطوعا، كما كان هذا مفروضا في السابق، بل الجزئي الآخر و هو نجاسة الدم أيضا مشكوك الحدوث فأصالة عدم حدوث نجاسة البول معارضة بأصالة عدم حدوث نجاسة الدم، فإذا تساقطا بالتعارض يرجع إلى أصالة بقاء الكلي و هو أصل النجاسة بعد الغسل مرة، فيجب الاحتياط بإتيان الغسلة الثانية، و لكن الحق هنا أيضا عدم وجوب الاحتياط، و جريان الاستصحاب في الجزئي المقتضي للتعدّد.

بيان ذلك: أنّ أصالة عدم حدوث نجاسة الدم في المثال غير جارية، لعدم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 650

أثر لها شرعا، فإنّ الأثر الذي يراد بهذا الأصل ترتيبه إنّما هو نفي لزوم الغسل مرة، و لا يخفى أنّ المكلّف في هذا الفرض و أمثاله ممّا يكون أثر الفرد الضعيف و أثر الفرد القوي من قبيل الأقل و الأكثر، عالم بأصل التكليف و بتعلّقه بالأقل، لا بعنوان كونه الأقل، بل بما هو قابل للتحقق في الأقل و في الأكثر، مثلا يكون المكلّف في هذا المثال عالما بأصل تحقّق النجاسة و وجوب الغسل مرّة لا بعنوان كونها مرّة بشرط لا، بل بما هي مرة لا بشرط الملائم مع المرة بشرط لا و

المرّة بشرط شي ء.

و إذن فالمكلّف الذي يكون هذا حاله كيف يجوز له إجراء أصالة عدم حدوث نجاسة الدم لرفع وجوب الغسل مرة بالمرة. فهذا الأصل غير جار في حقّه، و حينئذ فبعد العلم بأصل النجاسة و أصل وجوب الغسل نشك في الاحتياج إلى الغسل مرّتين و عدمه، فإذا اجري أصالة عدم حدوث نجاسة البول رتّب عليه بلا واسطة عدم الاحتياج إلى الغسل مرّتين، فيكون وجوب الغسلة الثانية منفيا بهذا الأصل من دون معارضته بأصل مثله، و لا لزوم إعمال أصل مثبت.

و هكذا الكلام في كلّ ما كان أثر الفرد الطويل و أثر الفرد القصير من باب الأقل و الأكثر، سواء كانا استقلاليين أو ارتباطيين، كما لو علم بوجود الحيوان في الدار و تردّد بين كونه بقّا أو فيلا، و كان أثر وجود البق في الدار وجوب إعطاء درهم للفقير، و من أثر وجود الفيل فيها وجوب إعطاء درهمين، فالمكلّف بعد العلم المذكور يعلم باشتغال الذمة بدرهم واحد لا بشرط، و بذلك لا يجري في حقّه أصالة عدم وجود البق، إذ فائدته رفع اشتغال الذمة بدرهم واحد و هو على خلاف علمه، فيكون أصالة عدم وجود الفيل التي من أثرها عدم وجوب الدرهمين جارية بلا معارض.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 651

فيتحصّل من ضمّ هذا الأصل إلى الوجدانيات اشتغال الذمّة بالدرهم الواحد، و عدم اشتغاله بالزائد من الدرهم الواحد.

نعم الكلام المذكور و هو المعارضة بين الأصليين إنّما يتمّ في ما إذا كان أثر الفردين القصير و الطويل متباينين، كما لو كان أثر وجود البق في الدار مثلا وجوب صلاة ركعتين، و أثر وجود الفيل فيها وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فإنّ إجراء أصالة العدم في كل

من الفردين باعتبار عدم ترتّب الأثرين مناف للعلم الإجمالي بثبوت أحدهما فيتساقطان بذلك، فيرجع إلى استصحاب بقاء الكلي إذا كان له أثر شرعا، و وجب الاحتياط بالجمع بين الأثرين للجزئيين.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدس سرّه- حكم بجريان استصحاب الكلّي القسم الثاني، أعني: ما إذا استصحب الكلي في ضمن الفرد المردّد بين الفرد القصير و الفرد الطويل، و استشكل عليه صاحب العروة الوثقى- دام ظلّه- في حاشية المكاسب تبعا لبعض أنّ الشك في الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، فأصالة عدم حدوثه حاكمة على استصحاب الكلّي، و ذكر جواب الشيخ عن ذلك في الأصول و ذكر جوابا له ثمّ ذكر أنّ هذا الأصل أعني أصالة عدم الطويل غير معارضة بأصالة عدم القصر، إذ ليس للأصل الثاني أثر شرعي مثبت للتكليف، هذا كلامه- دام ظلّه- ملخّصا.

و قد عرفت ما فيه ممّا تقدم، و أنّ استصحاب الكلي في القسم الثاني جار بلا إشكال، كما ذكره الشيخ في ما إذا كان الجامع غير شرعي، كما نبّه نفس المحشي- دام ظله- أيضا على ذلك في كلامه، و أمّا إذا كان الجامع شرعيا، فحديث عدم المعارضة إنّما هو مختصّ بصورة ثبوت الأثر لكل من الخصوصيتين، و كون أثريهما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 652

من قبيل الأقل و الأكثر، و أمّا لو لم يكن لهما أثر أصلا بل كان الأثر للقدر المشترك أو كان لهما أثر و لكن كان الأثران متباينين، فحينئذ يكون الأصلان متعارضين و يكون استصحاب الكلي جاريا.

[حكم أن المتنجس منجس أم لا؟ و هل يجري عليه أحكام النجس]

«مسألة 11: الأقوى أنّ المتنجّس منجّس كالنجس، لكن لا يجري عليه جميع أحكام النجس، فإذا تنجّس الإناء بالولوغ يجب تعفيره، لكن إذا تنجّس إناء آخر بملاقاة هذا الإناء أو

صبّ ماء الولوغ في إناء آخر لا يجب فيه التعفير».

لو تنجّس الإناء بالولوغ، ثمّ لاقى هذا الإناء إناء آخر، فهل يجب التعفير في الثاني أو هو مختص بالأوّل؟ و كذلك لو تنجّس شي ء بالبول، ثمّ لاقى هذا الشي ء مع شي ء آخر، فهل وجوب الغسل مرّتين جار في الثاني، أو هو مختص بالأوّل؟ الكلام في ذلك مبني على أنّ حكم التعفير و الغسل مرّتين كان حكما تعبّديا على موضوع الإناء الذي ولغ فيه الكلب و الشي ء الذي وصل إليه البول مع قطع النظر عن نجاسته و من دون دخل النجاسة في موضوع هذين الحكمين، و من المعلوم أنّه على هذا لا يتعدّى في هذا الحكم التعبّدي إلى غير موضوعه، و لا يصدق على الإناء الثاني أنّه إناء ولغ فيه الكلب، و لا على الشي ء الثاني أنّه شي ء لاقاه البول، أو أنّ حكم التعفير إنّما هو لأجل النجاسة و رفعها، غاية الأمر لما كان هذا القسم من النجاسة بنظر الشارع أغلظ من غيره، حكم في رفعها بالتعفير أو المرّة الثانية أيضا.

و الحاصل أنّ الموضوع هو المتنجّس بالولوغ و المتنجّس بالبول، و حينئذ فيجب التعفير في الإناء الثاني، و يجب التعدّد في الشي ء الثاني، لأنّه يصدق على الأوّل أنّه تنجّس بنجاسة الولوغ، و على الثاني أنّه تنجّس بنجاسة البول.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 653

فصل في أحكام النجس و المتنجّس

اشارة

(فصل): «يشترط في صحّة الصلاة واجبة كانت أو مندوبة إزالة النجاسة عن البدن، حتّى الظفر و الشعر و اللّباس ساترا كان أو غير ساتر عدا ما سيجي ء من مثل الجورب و نحوه ممّا لا تتمّ الصلاة به»

يجب إزالة النجاسة عن الثوب و البدن للصلاة، و هذا ممّا لا إشكال فيه و يدل عليه:

التعليل الواقع في مكاتبة خيران الخادم في الثوب الذي أصابه خمر، فكتب: «لا تصلّ فيه فإنّه رجس» «1». و الأخبار الدالّة على العفو عن الدم دون الدرهم، حيث إنّ مفهومها عدم العفو عن ما زاد، و يتم في غير الدم بعدم القول بالفصل، و كذلك الأخبار الدالّة على جواز الصلاة في ما لا يتم به الصلاة مع كونه قذرا، فإنّ مفهومها عدم الجواز في ما يتم به الصلاة.

و الحاصل: يمكن القطع بأنّ الأخبار في هذين المقامين يكون في مقام الاستثناء عن كلية المنع عن الصلاة في النجس.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 38، من أبواب النجاسات، ص 1055، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 654

إنّما الكلام في المحمول: فهل يجب إزالة النجاسة عنه مطلقا و إن لم يكن بقدر الساتر، أو لا يجب مطلقا و إن كان بقدره، أو فيه تفصيل كاللباس، فيجب في ما كان منه بقدر الساتر، و لا يجب في الأنقص؟ المستفاد من الأخبار هو التفصيل في ما كان من جملة الملابس كالتكة و القلنسوة و الخاتم و السوار و الخلخال و الدملج و النعل و الخفّين و الدستمال و القباء و الرداء، فما كان يتم الصلاة فيه منفردا يشترط طهارته، سواء كان في محلّه أم لا، كالإزار إذا أمسكه تحت إبطه، و كلّما كان لا يتم الصلاة به منفردا فلا يشترط طهارته، سواء كان في المحل أم لا، كالخاتم إذا وضعه في جيبه.

و العفو مطلقا في غير الملابس، كالحيوان لو حمله على عاتقه مثلا، و كالدنانير و الدراهم، فإنّها و إن أمكن صيرورتها لباسا، لكن يحتاج إلى تصنّع كجعله ورقا رقيقا ليّنا، ففي مثل هذا العفو، سواء كان قليلا و صغيرا

أم كبيرا، و التفصيل في الأعيان النجسة بين الميتة فالعدم و بين غيرها فالعفو.

و قبل الشروع في الاستدلال لا بدّ أن يعلم أنّا إن قلنا بالعفو المطلق في المحمول، أو بالمنع المطلق، احتجنا إلى تشخيص مفهوم المحمول عن مفهوم اللباس بالرجوع إلى العرف لمغايرتهما في الحكم، و أمّا إن قلنا بالتفصيل فيه كاللباس فلا حاجة إلى ذلك كما هو واضح.

و حينئذ نقول: ربما يستدل على المنع مطلقا بما رواه في الوسائل عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه- عليه السّلام- قال: سألته عن الرجل يمر المكان فيه العذرة فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه و رأسه أ يصلّي فيه قبل أن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 655

يغسله؟ قال: «نعم ينفضه و يصلّي فلا بأس» «1» دلّ على وجوب النفض مع وضوح قلة ما ينتقل بالريح من أجزاء العذرة اليابسة، و لكن الإشكال فيه عدم وقوع التعبير بلفظ النجس، و وقوعه بلفظ العذرة، فإنّه من القريب احتمال اختصاص ذلك بالنجاسات الذاتية، دون العرضية.

نعم لو كان بلفظ النجس لما كان لهذا الاحتمال مجال، و الانصاف عدم دلالتها بالنسبة إلى النجاسات الذاتية أيضا، لأنّ ما تسفيه الريح من أجزاء العذرة يكون مثل الغبار، فالثوب يصير متلطّخا به، فيصدق عرفا أنّ الثوب حينئذ متنجّس، غاية الأمر لا يجب غسله و يكفي نفضه، فوجوب النفض ليس من باب حمل النجاسة بل من جهة تنجّس اللباس، فلا يمكن التعدّي إلى ما إذا وضع في جيبه قطعة عذرة يابسة، فتدبّر.

و قد يستدل على التفصيل بموثقة زرارة عن أحدهما قال: «كلّما كان لا يجوز فيه الصلاة وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء، مثل القلنسوة و التكة و الجورب» «2».

فإنّ الخدشة فيه أنّ كلمة فيه يخصص الحكم باللباس، فانّ الظرفية هنا لا تتصور لنفس العمل، أعني: الصلاة، بل للعامل، فإضافة الظرفية إلى الصلاة باعتبار الفاعل، فيخص عنوان ما يصلّي فيه بما كان مشتملا على المصلّي أو جزئه، و الحاصل كان مشغولا بالتلبّس و الاستعمال، مثل العباء و القلنسوة و الجورب و نحو ذلك إذا كانت في محلّها، و أمّا مثل السيف و السكين و المنديل و نحو ذلك و منها التكة و القلنسوة و سائر الملابس في غير محلّها بحيث لم يحصل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 26، من أبواب النجاسات، ص 1036، ح 12.

(2)- المصدر نفسه: ب 31، من أبواب النجاسات، ص 1045، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 656

التلبّس بها من أفراد المحمول، فلا يصدق فيها سوى المصاحبة دون الظرفية، فلا يقال: صلّى في السيف بل معه، و هكذا.

و لكن هذه الخدشة يمكن رفعها بأنّ استعمال كلمة «في» في الأخبار شائع في أمثال ذلك مما يكون المتحقّق فيها المصاحبة دون الظرفية، كما في موثقة ابن بكير الواردة في باب اللباس، من قوله: «فالصلاة في روثة و بوله و ألبانه» «1» مع أنّ الروث ممّا يبقى عينه على اللباس أو البدن، حاله حال المحمول، و كذلك وقع نظير ذلك في خبر آخر، و هو ما رواه الشيخ بإسناده، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد، عن أبيه، عن وهب بن وهب، عن جعفر، عن أبيه- عليهما السلام- أنّ عليا- عليه السّلام- قال: «السيف بمنزلة الرداء تصلّي فيه ما لم تر فيه دما، و القوس بمنزلة الرداء» «2» فكلمة «فيه» مستعملة في الأعم من الظرفية و المصاحبة، و الانصاف أنّه مع ذلك لا يمكن

رفع اليد عن الظهور المستقر لهذه الكلمة في الظرفية.

نعم يسلم عن هذه الخدشة مرسلة عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: «كلّما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده، فلا بأس أن يصلي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة، و التكة، و الكمرة، و النعل، و الخفّين و ما أشبه ذلك» «3» و وجه ذلك اشتماله على كلمة «معه» و لا يعارضه قوله مما لا يجوز الصلاة فيه، فإنّ ظهور «معه» في عمومه للمحمول أقوى بلا إشكال من ظهور كلمة «فيه» في ما تحقق فيه الظرفية، و لكن المانع فيه وجود الإرسال في سنده في موضعين: أحدهما محمد بن أحمد بن يحيى، عن العباس بن معروف، أو غيره،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 31، من أبواب لباس المصلي، ص 250، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 2، ب 57، من أبواب لباس المصلي، ص 334، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 31، من أبواب النجاسات، ص 1046، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 657

و الآخر عبد اللّٰه بن سنان، عمّن أخبره.

و لا يقال: إنّ الرواة كانوا في الصدر الأول تعلّمهم و تعليمهم في أخذ الروايات، فمن كان حفظه للروايات أكثر كان أعلم في ذلك الزمان، فكلّ شخص كان تلميذا لأحد كان رواياته أيضا عن هذا الأستاذ، و إذن فيحصل الاطمئنان بأنّ من روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى، و عبد اللّٰه بن سنان، كان شخصا عظيما صالحا لأستاذيته لذينك العظيمين.

فإنّه يقال: نعم هذا يصلح للتأييد دون الاعتماد، مضافا إلى أنّا راجعنا مستدرك العلّامة النوري- قدّس اللّٰه سرّه- فوجدنا مشايخ محمد بن أحمد بن يحيى

بين موثّقين و ضعفاء، و إذن فيحتمل كون غيره الواقع في هذا السند من مشايخه الضعفاء.

و لكن الإنصاف أنّ الرواية بعد ملاحظة عمل الأصحاب على طبقه في الجملة يكون سندها موثوقا بها، فالخدشة في السند غير وجيه فتدبر.

و إذن فقد يقال في تقريب عدم التفصيل مستدلا بالرواية المتقدمة، بأنّ عنوان ما لا يتم الصلاة فيه وحده أو لا يجوز الصلاة فيه وحده، الواقع في الروايات يستظهر منه أمران:

الأوّل: أنّ الموضوع فيه هو ما كان من الجنس الذي من شأنه أن يستر به البدن، و هي الأقمشة التي يتعارف ستر البدن بها، فمثل الحيوان و الإنسان و الدراهم و الدنانير ممّا ليس معدّا للتستر أصلا، أو يحتاج إلى تصنّع خارج عن موضوع هذا العنوان، فإنّ الظاهر أنّ وجه عدم تمام الصلاة و عدم جوازها فيه إنّما هو من جهة قلّته و صغره، مع كونه من جنس ما يستر به البدن، فالخاتم مثلا بدون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 658

حاجة إلى التصنّع لو كان كبير الحلقة عريض الجثّة لكان قابلا للتستر، و كذا الخلخال و السوار بخلاف الدرهم و الحيوان، و هذا من جهة ما في ذيل الرواية من قوله- عليه السّلام- «يصلّي فيه» و إلّا فلا يستفاد هذا من نفس عنوان ما يتم الصلاة فيه أو ما لا يتم.

و الحاصل فرق بين عنوان ما يصلّى فيه، و بين عنوان ما يتم و ما لا يتم، فالأوّل يعتبر فيه الفعلية، فإذا قيل: لا تصل في النجس فمعناه أنّ ما يصلّى فيه فعلا يعتبر فيه ذلك، و أمّا إذا قيل: ما لا يتم أو ما يتم حكمه كذا، فالشي ء و إن لم يستعمل في الصلاة فعلا أصلا،

يكون واجدا لأحد هذين العنوانين فعلا.

و الحاصل: أنّ القلنسوة و الإزار الموضوعين تحت الإبط حال الصلاة يصدق عليهما فعلا أنّ الأوّل ما لا يتم، و الثاني ما يتم، و لكن لا يصدق أنّه صلّى فيهما فافهم ذلك فإنّه مغتنم.

و إذن فقوله- عليه السّلام-: كلّما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز فيه الصلاة وحده «1»، في غاية الظهور بالنسبة إلى الملبوس أعني: ما يصدق عليه ما يصلى فيه، و بالنسبة إلى المحمول أعني: ما يصدق عليه ما يصلّى معه.

نعم يخرج عنه بواسطة قيد ممّا لا يجوز إلى آخر، نحو الحيوان و الدرهم و الدينار و القارورة لما ذكرنا، لكن يعارض هذا العموم قوله- عليه السّلام- في الذيل: «يصلّي فيه» فإنّه لا يشمل ما يصلى معه، و إن كان قابلا لتقسيمه إلى ما يجوز و ما لا يجوز، مثل الدستمال و القلنسوة و الإزار و القباء الموضوعة تحت الإبط حال الصلاة، و الأظهر تقديم ظهور العموم على هذا الظهور، لضعف الثاني لكثرة استعمال «في» في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 31، من أبواب النجاسات، ص 1045، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 659

الاخبار على المصاحبة.

و إذن فتبقى الأشياء التي ليست محلا للتقسيم إلى ما يجوز و ما لا يجوز، فشيخنا العلّامة- أعلى اللّٰه مقامه- ادّعى أنّ لنا عموما مستفادا من الاخبار، و هو اشتراط طهارة كلّ ما يصلّى فيه، و استدلّ لذلك بمكاتبة خيران الخادم، في اللباس المتنجس بالخمر، أو لحم الخنزير «لا تصلّ فيه فإنّه رجس». و بالخبر الوارد في الحديد «لا يجوز الصلاة في شي ء من الحديد فإنّه نجس ممسوخ». «1»

و في الأوّل أنّه إذا قيل: «إذا أصاب ثوبك خمر فلا تصل

فيه فإنّه رجس»، يتعدى من التعليل إلى سائر النجاسات إذا أصابت الثوب لا إلى غير الثوب، فإذا قيل: إذا جاءك زيد فأكرمه لأنّه عالم، يستفاد منه بمقتضى التعليل أنّ كل عالم على تقدير المجي ء واجب الإكرام، لا أنّ كل عالم جاء أم لم يجئ كذلك، و هذا واضح.

و في الثاني: أنّ الرواية غير معمول بها.

فإن قلت: لها ظهوران: الكبرى و التطبيق، فإذا لم يعمل في الثاني، فلم لا يعمل بها من جهة الكبرى، و هي أنّ الصلاة في النجس غير جائزة؟

قلت: يدور الأمر بين إبقاء النجس على ظاهره، و التصرّف في التطبيق، و بين التصرف في النجس و ليس الأوّل أولى من الثاني.

و الحاصل: ليس لنا عموم يدلّ على أنّ الصلاة في النجس غير جائزة، و إذن فيبقى ما ليس محلا للتقسيم المذكور تحت الأصل و هو البراءة.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 32، من أبواب لباس المصلي، ص 304، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 660

ثمّ يستفاد من قوله- عليه السّلام-: «و إن كان فيه قذر» حيث قال: قذر و لم يقل قذارة، و في خبر آخر: «فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء» إنّ عين النجس أيضا لا مانع من حمله في الصلاة، و لا يعارض برواية علي بن جعفر المتقدمة: «الرجل يمر بالمكان فيه العذرة» إلى آخره لما مرّ من عدم ارتباطه بمسألتنا، و أنّه من باب اللباس المتنجس فراجع.

ثمّ ليس لما ذكرنا معارض إلّا ثلاثة أخبار:

الأوّل: ما تقدّم من قوله- عليه السّلام-: «السيف بمنزلة الرداء» إلخ، فإنّه يقال: لا يخلو إمّا أن يكون السيف من الملابس أو لا، و على كلا التقديرين مقتضى ما ذكرت العفو فيه، إذ على الأوّل داخل في

قسم ما لا يجوز، و على الثاني فداخل في ما حكمت بالعفو فيه بالأصل.

و الجواب: أنّ هذا حق و لكن الرواية نزّله منزلة الرداء، فإن كان من الملابس يلحقه بعد هذا التنزيل حكم ما يجوز فيه الصلاة وحده و إن كان من غيرها يلحقه حكم الرداء من حيث إنّه من الملابس.

و الثاني رواية المنديل و هي ما رواه محمّد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، رفعه عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: صلّ في منديلك الذي تتمندل به، و لا تصلّ في منديل يتمندل به غيرك». «1» و المنديل هو الدستمال على ما يظهر من اللغة.

و جوابه: أنّ هذا نهي تنزيهي من جهة اتهام الغير و احتمال النجاسة، و لا يدل على أنّه لو علم النجاسة كان محرما بل يمكن الاستحباب معه أيضا.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، ب 49، من أبواب لباس المصلي، ص 325، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 661

الثالث: رواية خرقة الحناء، و هي ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن رفاعة «قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- عن المختضب إذا تمكن من السجود و القراءة أيضا أ يصلّي في حنائه؟ قال: نعم إذا كانت خرقته طاهرة» «1» حيث دلّت على اشتراط جواز الصلاة بطهارة الخرقة المشدودة على اللحية عند الخضاب، و هي ممّا لا يتم الصلاة لا محالة.

و الجواب أنّ نجاستها تسري إلى شعر اللحية لا محالة، فيكون المنع من هذه الجهة لا من جهة نجاسة نفس الخرقة أو الحناء تحتها.

ثمّ الكلام في جزء غير المأكول و الميتة كما ذكر في المتن فتدبر.

و الثاني: أن يكون مشتملا على بدن الإنسان فعلا و

في حال الصلاة، فاللباس المطوي الموضوع في الكيس و جميع أفراد المحمول خارج، لعدم كونها ظرفا للمصلّي حال الصلاة.

و بالجملة فموضوع هذا العنوان الذي هو كالمستثنى عن كليّة المنع في الصلاة هو ما كان من جنس الساتر و كان ظرفا للمصلّي فعلا، فهذا الموضوع محلّ كلّية المنع، و صار المستثنى من هذه الكلية صورة قلّة هذا الموضوع و صغره عن مقدار الساتر، و إذن فما كان من هذا الجنس فاقدا لوصف الظرفية الفعلية، و ما كان من غير هذا الجنس مطلقا خارجان عن المستثنى منه و المستثنى، فيكون كل من طرفي الجواز و المنع فيها بلا دليل، و حينئذ فلا إشكال في أنّ الشبهة فيها من مصاديق الشبهة بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، فإنّ الشبهة في أنّ المأمور به هل هو الصلاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3 ص 312، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 662

مع التقيد بقيد طهارة هذه الأشياء أو بدونه، فيدور الأمر حينئذ على ما هو المختار في تلك الشبهة، فإن اخترنا الاحتياط فالحكم بالمنع يكون من ذلك الجهة، و إن اخترنا البراءة فالحكم عدم المانعية مطلقا حتى في ما كان بقدر الساتر كما هو واضح، فالقول بالجواز مطلقا مبني على مقدمتين:

الأولى: استظهار الأمرين من الرواية، و الأخرى: القول بالبراءة في الشبهة بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 662

و المقدمة الثانية و إن كانت مسلّمة كما حقّق في الأصول، و لكن الانصاف عدم تمامية الأولى، و ذلك لعدم استظهار شي ء من الأمرين، بل استظهار خلافهما من الرواية.

أمّا التقيّد بخصوص جنس

الساتر فيمكن منعه، و القول بأنّ الموضوع أعم منه و من غيره، بواسطة التمثيل بالنعل و الخفّين الواقع في بعض هذه الروايات، و أمّا حيثيّة كونه ظرفا فعليّا للمصلّي فيمكن أيضا عدم اعتبارها بواسطة التمثيل بالتكة، فإنّ صدق الصلاة في السيف و السّكين و سائر أفراد المحمول، لا يقصر قطعا عن صدق الصلاة في التكة.

و اذن فتحصّل الظنّ من تلك الروايات أنّ مناط الحكم، كل شي ء كان مع المصلّي أعم من أن يكون من جنس الساتر و ملبوسا فعليّا، أو من غير ذلك، فإن كان هذا الشي ء ناقصا من مقدار الساتر فليس بمانع، و إن كان بمقداره أو أزيد فهو مانع.

ثمّ المناط في الزيادة و النقيصة إنّما هو على المادّة و الهيئة الحاصلة من الخياطة و شبهها، فإذا كان الشي ء بمادّته بمقدار الساتر و لكن بهيئته كان ناقصا منه و كان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 663

هيئته حاصلة من الطي و اللفّ، كما في العمامة و السراويل المطوي مثلا، فلا اعتبار بهذه الهيئة فهو معدود مما يكون بقدر الساتر، مضافا إلى الصحيحة الواردة في خصوص العمامة على عدم العفو.

نعم لو كان بالخياطة و شبهها فالاعتبار حينئذ بالهيئة، و هذا ما يساعد عليه فهم العرف.

ثمّ إن بنينا على خروج المحمول عن موضوع الأخبار و قلنا بالجواز المطلق، فإن كان المحمول النجس من أجزاء غير المأكول الممنوع في الصلاة، مثل دم الهرّة و نحوها، فلا إشكال في عدم جواز الصلاة من جهة كون المحمول من أجزاء غير المأكول، فإنّ جواز الصلاة فيه من حيث النجاسة إنّما كان دليله بناء على هذا القول هو عدم الدليل اللفظي مع البراءة في الشبهة بين الأقل و الأكثر، فلم يكن

في البين إطلاق أو عموم حتى يقال بشموله بحال كونه من أجزاء غير المأكول.

و أمّا بناء على ما اخترنا من دلالة الدليل اللفظي على التفصيل المذكور في الثوب و المحمول على السواء، فحينئذ لا بدّ من النظر في دلالة هذا الدليل من هذه الجهة، فقد يقال إنّه مطلق من هذه الجهة، و ذلك بملاحظة أنّ الغالب في النجس العارض أن يكون من أجزاء غير المأكول، كما يشهد به ملاحظة أعداد النجاسات، فإنّ أكثرها من غير المأكول.

نعم دم الإنسان و بوله و غائطه و منيّه و ميته خارجة من عنوان غير المأكول الممنوع في الصلاة، إمّا للانصراف و إمّا للسيرة، و لكنّه مع ذلك تكون الغلبة في جانب غير المأكول غير الإنسان، و إذن فحيث إنّ المبتلى به نجاسة المحمول من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 664

أجزاء غير المأكول غير الإنسان، فكان الحكم بجواز الصلاة مطلقا، إذ لو كان مقيّدا بعدم كونه من ذلك لكان مقام البيان و التنبيه، و لكن الانصاف عدم تمامية هذا الإطلاق، فإنّه إن كان المحمول النجس لا ينفك عن الجزئية لغير المأكول غير الإنسان أو كان غير هذا نادرا بحيث كان حمل الحكم في الرواية عليه مستلزما للّغوية كان الإطلاق تماما، و من الواضح عدم صحّة شي ء من الأمرين، و إذن فلا محيص عن كون الحكم المذكور حيثيتيّا ناظرا إلى حيث النجاسة، مع عدم التعرّض للحيثيات الأخر.

ثمّ إنّ عنوان الميتة أيضا، إن قلنا بأنّه عنوان مستقل في عدم جواز الصلاة فيه، و ليس من جهة النجاسة، بل هو معلّق على نفس هذا العنوان، كحرمة الأكل، و إن اجتمع مع الطهارة، كما في ميتة السمك و نحوه ممّا لا نفس له،

كما لا يبعد استظهار ذلك من روايات عدم جواز الصلاة مع الميتة، إذ لا يكون عنوان الميتة غير منفك عن النجاسة، و لا يكون غالب أفرادها أيضا نجسا حتى يقال إنّ هذا الحكم من جهة النجاسة، فحينئذ أيضا يستثنى من مسألة عدم مانعية المحمول الغير الساتر صورة كونه ميتة لما ذكرنا من أنّ الحكم حيثيتيّ، و لا إطلاق له.

نعم إن قلنا بأنّ المناط في عدم الجواز في الميتة هو النجاسة، كان الحكم مطّردا في الميتة أيضا.

[حكم إزالة النجاسة عن المساجد]

«مسألة 2: يجب إزالة النجاسة عن المساجد داخلها و سقفها و سطحها و الطرف الداخل من جدرانها، بل و الطرف الخارج على الأحوط».

كما يجب إزالة النجاسة عن الثوب و البدن للصلاة، كذلك يجب إزالته عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 665

المساجد، و هذا الحكم في ما إذا كان التنجيس مستلزما لهتك المسجد و إهانته ممّا لا إشكال فيه و لا كلام، فإنّ جميع أنحاء هتك المسجد محرّم، فإنّ هتك امرء مسلم حرام، فكيف المسجد الذي هو من شعائر اللّٰه الذي وجب تعظيمها و حرم توهينها، و أمّا التنجيس الخالي عن عنوان التوهين و الهتك فالدليل عليه من الأدلّة اللفظية وجوه:

منها: قوله تعالى وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ «1» و قوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «2» و يتم في غير المسجد الحرام بعدم القول بالفصل، و توهّم الاختصاص بالمشرك أيضا يدفعه تفريع الحكم على نجس، فيعلم أنّ كل نجس حكمه ذلك.

و أمّا الخدشة بأنّا و إن نسلّم كون لفظ النجاسة و ما يسبق منه ظاهرا في لسان المتشرّعة في النجاسة الشرعيّة، لكنّا نمنع ذلك في الأزمنة السابقة، فنمنع ظهورها في هذا المعنى، فلعلّ المراد بها في الآية

هو الخباثة الباطنية، يعني أنّهم لخبث بواطنهم غير قابلين لدخول المسجد الحرام، فيمكن دفعه بأنّا لسنا في مقام إثبات نجاسة المشرك بالآية، حتى يرد علينا الخدشة المذكورة، و إنّما الكلام في هذا المقام بعد مفروغية نجاسة المشرك بغير هذه الآية من الأخبار، و إذا ثبت نجاسة المشرك بالأخبار فلا إشكال في أنّ هذا يصير قرينة موجبة لاستظهار هذا المعنى من الآية أيضا، و أظهريته من الخبث الباطني.

و منها: الحديث النبوي المستدل به في الكتب الاستدلالية للأصحاب،

______________________________

(1)- الحج/ 26.

(2)- التوبة/ 28.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 666

و بذلك ينجبر ضعفه من حيث السند «جنّبوا مساجدكم النجاسة» «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، باب 34، من أبواب أحكام المساجد، ص 504، ح 2.

حقّ الكلام في النبوي: جنبوا مساجدكم النجاسة أن يقال: إنّ إرادة خصوص مسجد الجبهة خلاف الظاهر، إذ لا اختصاص لهذا الحكم بها، بل يجب حفظ جميع البدن في الصلاة عن النجاسة.

و أمّا إرادة موضع الجبهة من الأرض في حال السجود. فالتحقيق أنّ السجود عبارة عن الهيئة الخاصة، و محقّقها كما يكون وضع الجبهة، أو الذقن أو الخد مثلا، كذلك يكون وضع سائر الجسد على الهيئة المخصوصة دخيلا في تحققه، فإطلاق المساجد بقول مطلق لا يصح إلّا على جميع المحل الذي يحوي تمام الجثة المتهيأة بتلك الهيأة، و الاختصاص ببعض الأعضاء كالجبهة يحتاج إلى الإضافة، كأن يقال: مساجد الجبهة أو مساجد الركبة، أو مساجد اليدين أو القدمين.

ثمّ نقول: حال هذا اللفظ حال لفظ المرقد و ما يقال له بالفارسية (خوابگاه)، فكما أنّه لو كان للإنسان محل معدّ لرقدته و منامه في غالب الأوقات، يكون إطلاق قول القائل: عامل مع مرقدك كذا منصرفا إلى هذا المحل و لا يشمل

المحلّ الذي يتصف بفعلية هذا المبدأ فيه اتّفاقا، كذلك المساجد أيضا يكون المحل المعد لسجود المسلمين هو الأمكنة المسماة بالمساجد، فالسجود في غير هذه الأمكنة لا يوجب دخول محلّه في إطلاق هذا اللفظ، هذا مضافا إلى إمكان دعوى الانصراف إلى نفس الأمكنة أيضا.

ثمّ نقول: الجمع المضاف إلى الجمع، الظاهر منه هو أن يكون كل واحد من أفراد المضاف له إضافة إلى تمام المضاف إليه، فمساجد المسلمين عبارة عن الأماكن التي كل واحد يضاف إلى جميعهم، و يصح إطلاق مسجد المسلمين عليه.

نعم قد يتخلّف ذلك بقرينة مثل ما يقال أيدي المسلمين، فكل فرد من الأيدي مضاف إلى شخص واحد من الجماعة، و ليست يد واحدة مضافة إلى جميعهم، و على هذا فلا يشمل هذا اللفظ مثل المسجد الخاص بدار زيد مثلا، فإنّ زيدا من المسلمين لكن ليس مسجده مسجدا للمسلمين، و يلزم من شموله لكلا القسمين اجتماع اللحاظين، فانّ في أحدهما لا بدّ من ملاحظة إضافة كل فرد إلى جميع الأفراد بملاحظتهم على هيئة الاجتماع و الكل المجموعي، و في الثاني يحتاج إلى ملاحظة كل واحد منها مضافا إلى كل واحد من آحاد الجماعة بانفراده و خصوصيته، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الجماعة على نحو الكلّ الاستغراقي، و لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد، و حيث إنّ شمول المساجد العامة مقطوع فيكون المساجد الخاصّة مقطوع الخروج، إلّا أن يقال: انّ الجمع في كل من طرفي الإضافة ملحوظ على نحو الاستغراق، إذ في المساجد العامة أيضا يصح الإضافة إلى كل واحد من المسلمين، لا بعنوان شخصه بل بعنوان المسلم، فيقال: هذا مسجد هذا المسلم و هذا المسلم و ذاك و ذلك إلى آخرهم، ثمّ و حينئذ

فيصح شمول كلا القسمين.

و أمّا الكلام في المتعدية و غيرها، فإن كان النجاسة مصدرا فيكون المعنى «جنبوا» أي بعّدوا مساجدكم عن أن ينجس، فواضح اختصاص الحكم بالمتعدية، من غير فرق بين الحاصلة من نجس العين، و الحاصلة من المتنجس.

نعم على هذا يستفاد مطلب آخر من قوله: «جنبوا» فإنّه حينئذ في قوة «بعّدوا» فيفيد وجوب تبعيد المساجد عن التنجّس، فلو تهيأ أسباب التنجّس و لم يحصل التنجّس فعلا، كما لو كان فيه شي ء لو بقي في المسجد ينجر إلى سراية النجاسة منه إلى المسجد، فحينئذ يصدق أنّ المسجد قريب من أن ينجس لتهيؤ أسبابه، فيجب تحقيقا للبعديّة تبعيد هذا الشي ء و إخراجه، و إلّا لم يبعد المسجد عن النجاسة، و هذا بخلاف ما إذا جعلنا النجاسة اسم عين، فحينئذ يستفاد عرفا من لفظ «جنبوا» مطلق الإخراج، دون لزوم الطرح في المكان البعيد، و على كلّ حال فحينئذ أيضا لا يستفاد سوى المتعدية، فإنّ العرف يفهم من هذه العبارة أنّ وجه تبعيد النجاسات عن المساجد، عدم تعدّي النجاسة منها إلى المسجد، فتدبر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 667

و الخدشة في دلالة بأنّ المساجد كما يطلق على الأمكنة المعهودة التي تكون معبد المسلمين، كذلك يطلق على المواضع السبعة التي توضع على الأرض في حال السجدة، فإنّه يطلق عليها أيضا المساجد، و من مواضع إطلاقه قوله تعالى وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ «1» بناء على بعض التفاسير، و كذلك يطلق على الأرض التي توضع عليها الجبهة في حال السجود، و إن لم تكن من الأمكنة المتعارفة.

و إذن فمن الممكن أن يكون المراد بالحديث طهارة المواضع السبعة، أو مسجد الجبهة من الأرض، و لا يرد أنّ ذلك لا يجب إزالة النجاسة

عنها في جميع الأحوال، بل في خصوص حال الصلاة، و ظاهر الرواية هو الإطلاق، فإنّه يقال:

إنّها ظاهر في كون هذا الحكم لعنوان المساجد، لا لهذه الأشياء من حيث ذاتها، فيفيد أنّ الحكم أيضا دائر مدار العنوان، و بالجملة فما دامت المواضع تكون

______________________________

(1)- الجنّ/ 18.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 668

مسجدا فعليا، و موضع الجبهة تكون مسجدا فعليا يجب عنها الإزالة.

مدفوعة بأنّه لا إشكال في أنّ لفظ المسجد، و المجلس، و المفتاح، و أمثالها إنّما يكون المأخوذ في مادتها الشأنية و التهيؤ و الاستعداد، و لا يلزم الفعلية و التلبّس الفعلي، فالمسجد يعني ما يعد للسجود لا ما كان محلا له فعلا، و المجلس ما يعد للجلوس لا ما يجلس فيه فعلا، و المفتاح ما يفتح به يعني ما له شأنيّة ذلك و استعداده، فليس المفتاح مفتاحا في حال الفتح فقط، بل في جميع الأحوال، و هكذا المسجد و المجلس و هذا لعلّه من الواضحات.

و اذن فيدور الأمر بين أن يكون المراد بلفظ المساجد في الرواية هو الأمكنة التي هي معابد المسلمين، و أن يكون هي المواضع السبعة الموضوعة على الأرض في حال السجود، فإنّ المسجد بمعنى ما تهيّأ و استعد للسجود يصدق على كل منهما، دون الأرض التي توضع الجبهة عليها في حال السجود اتّفاقا، فإنّ إطلاق المسجد بهذا المعنى لا يصح فيه، و إذن فحيث إنّ من المقطوع أيضا عدم لزوم حفظ المواضع السبعة في جميع الأحوال عن النجاسة، يتعيّن أن يكون المراد بالمساجد في الحديث هو الأمكنة المتعارفة.

و منها: خبر القداح عن جعفر عن أبيه قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم» «1» فإنّ

تعاهد النعل و الفحص عنه يكون من آداب دخول المسجد و مستحبّاته، و لكن يمكن الاستئناس به على المطلب، فإن تنجّس أسفل النعل مع كونه من الشبهة الموضوعية التي لا يجب فيها الفحص، و يجوز معاملة الطهارة فيها بدونه جعل من آداب المسجد تعاهده و تفتيشه حفظا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، باب 24، من أبواب أحكام المساجد، ص 504، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 669

للمسجد عن النجاسة و احتياطا، فالنجاسة اليقينية أولى برعاية التجنّب عن تنجيس المسجد بها.

و منها: مرسل العلاء بن الفضيل، المروي في المنتهي عن الشيخ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: «إذا دخلت المسجد و أنت تريد أن تجلس، فلا تدخله إلّا طاهرا» «1»، و لكن الانصاف مخدوشية دلالته، فإنّ الطهارة إذا أضيفت إلى الإنسان، فالظاهر منها هو الطهارة من الحدث دون الخبث، فلا تدل الرواية على أنّ مريد الجلوس في المسجد لو كان في بدنه أو ثوبه خبث يجب تطهيره، حتى يدل على حرمة إدخال النجاسة في المسجد، و لكن الروايات المتقدمة مع الآيتين بضميمة عدم القول بالفصل و ملاحظة عدم نقل القول بالخلاف عن المتقدمين، كما يظهر من مراجعة الجواهر، الكاشف عن عدم وجود دليل يدل على خلاف ذلك في ما بأيديهم يورث الاطمئنان، و إنّما الموجود هو التأمّل و الإشكال عن بعض متأخّري المتأخّرين خدشة منه في دلالة الأدلة المتقدمة، أو سندها، بضميمة الأخبار الكثيرة الواردة في جواز إيجاد الكنيف في المسجد، بعد الطعم أو المواراة، و لكنّك عرفت قوّة الأدلّة سندا و دلالة.

و أمّا الأخبار المذكور فلا بدّ من مراجعتها من حيث إنّ السائل يسأل عن إيجاد الكنيف في المسجد، و الإمام يجيب بالجواز بشرط المواراة

لعدم نشر الريح، أو أنّه سئل عن كنيف كان في مسجد مخصوص انّ إبقائه جائز أو لا؟

فأجاب الإمام بالجواز مع المواراة، و الدلالة على مدّعى هذا البعض إنّما يتم على الأوّل، إذ على الثاني فليس إلّا قضية في واقعة، و من الممكن أنّه كان هذا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3 ص 516، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 670

الكنيف في جنب ذلك المسجد لا في جوفه، و لهذا لم يأمر الإمام بتخريبه و إعدامه، و أمر بمواراته و تسقيفه.

ثمّ إنّ هنا مقامات من الكلام:

الأوّل: إنّ الحكم غير مقصور على المسجد الموقوف الذي جرى عليه صيغة الوقف، بل هو دائر مدار صدق الاسم و إن لم يكن وقف، و عدم تبادر غير الموقوف في أذهاننا من هذا اللفظ- فإنّه يأبى الذهن عن إطلاق المسجد على البيت الذي يجعله صاحب الدار مخصوصا للصلاة و معدا لها- إنّما منشأ عدم وجداننا غير هذا المصداق، و إلّا فالمسجد عبارة عن المكان الذي جعل معدّا للصلاة فيه و العبادة، كالمجلس و المفتاح و نحو ذلك، و ليس غير الاعداد دخيلا في مسمّاه، و على هذا فلا مانع من إجراء حرمة التنجيس على البيت الذي يجعله صاحب الدار معدّا للصلاة بعد حصول الشأنية لهذا المكان و تسميته باسم المسجديّة، بل و إجراء جميع أحكام المسجد و آدابه.

و الثاني: إنّ التنجيس المحرّم في المسجد هل هو بأي كيفية؟ فيحتمل أن يكون خصوص ما كان موجبا للتعدّي و السراية إلى جزء من المسجد و يحتمل أن يكون أعم من المتعدية و من غيرها، لكن بشرط ملاصقة النجاسة مع جزء من المسجد، كوضع العذرة اليابسة مثلا على أرض المسجد مع جفاف الأرض أيضا مع

عدم حصول الهتك و التوهين، و يحتمل أن يكون أعم من المتعدية و الملاصقة و غيرهما، بأن يكون مطلق إدخال النجاسة في قضاء المسجد محرّما و إن لم يكن موجبا للسراية أو الملاصقة مع جزء من أرضه أو جدرانه أو سقفه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 671

فنقول: إن كان المدرك هو الإجماع فلا إشكال في أنّ معقده خصوص المتعدية، و غيرها إذا لم يكن فيه هتك و استخفاف فمحل للخلاف، و أمّا إذا كان المدرك هو الأدلّة اللفظية كما هو الواقع، و الانصاف عدم دلالة شي ء من هذه الأدلّة المتقدّمة على حرمة غير المتعدية، فإنّ آية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و إن كان بحسب الصورة أعم من حصول رطوبة في أبدانهم يوجب السراية إلى المسجد و عدمه، و لكن العرف يفهم من هذا الكلام أنّ وجه ذلك هو تحفّظ المسجد عن اللوث برطوباتهم، فإنّ دخولهم غالبا لا ينفك عن ذلك، بملاحظة أنّ هواء مكة- زادها اللّٰه شرفا و تعظيما- حارّ، و لا يخلو بدن مجاوريها عن العرق و الرطوبة، فبعد ملاحظة ذلك، يعلم أنّ تفريع الحكم على نجاستهم إنّما هو لأجل السراية.

و أمّا النبوي فليس المراد بالتجنيب هو التبعيد في ما بين المسجد و النجاسة، بل المتبادر من التجنيب عن النجاسة سواء أضيف إلى الإنسان أو غيره هو التبعد منه لأجل التحفظ عن سرايته، ألا ترى أنّه يفهم عرفا من قولنا: اجتنب عن النجاسة، أنّ ذلك لأجل أن لا تسري إليك، و كذلك «تعاهد النعل» فإنّه مخصوص بحال الرطوبة، فتحقق أنّ الأدلة لا عموم لها بالنسبة إلى غير المتعدية، و بعد ذلك فيكون مجرّد إدخال النجاسة في المسجد بدون تسرية و هتك مما لا دليل على

حرمته، فيكون جائزا بمقتضى الأصل.

و يؤيد ذلك بجواز اجتياز الحائض في غير المسجدين، مع أنّه من الغالب عدم خلوّها عن النجاسة في بدنها أو ثوبها، و قلنا: إنّ الغالب ذلك لئلّا تقول دليل جواز الاجتياز لا دلالة له على أزيد من الجواز من حيث حدث الحيض، فلا دلالة له من حيث النجاسة، فإنّ ذلك مدفوع بالغلبة على وجه يكون حمل دليل الاجتياز على غير هذه الصورة حملا على الفرد النادر، و كذلك السلس و المبطون لم نعهد من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 672

أحد الفتوى بمنع صلاتهما في المساجد و حضورهما للجماعة و الجمعة مع ما بهما من النجاسة الغير المنفكة، و كذا الحال في المستحاضة. فهذه مؤيّدات للمطلب بعد عدم العموم للدليل.

نعم لو كان له عموم تعيّن القول في أمثال هذا بأنّه من باب التخصيص، فلا يدل الجواز فيها على الجواز في غيرها.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى سيرة المسلمين أيضا، على عدم التجنّب عن دخول المساجد بمجرّد وجود نقطة دم جافة، مثلا على موضع من البدن أو اللباس و إذن فحرمة إدخال النجاسة الغير المتعدية يدور مدار الهتك، بخلاف المتعدية فإنّ لها موضوعية للحرمة.

و الثالث: إنّ الحكم المذكور هل هو مختصّ بداخل المسجد مثل أرضه و سقفه الداخل و باطن جداره و اسطواناته، أو يشمل طرف الخارج من جدرانه أيضا فيحرم تنجيسه أيضا، الحكم هنا محل للإشكال من حيث إنّ تنجيس المسجد هل يصدق عرفا على تنجيس طرف الخارج من الجدار أو لا؟ فإن كان المتبادر من هذه العبارة أعني: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» هو حفظ بواطنها عن النجاسة و لم يدخل في الذهن حفظ الظواهر، كان الظواهر خارجة عن هذا الحكم، و إن

كان المتبادر هو المساجد ببواطنها و ظواهرها فهي داخلة، و لا يبعد أن يكون المتبادر هو الأوّل، و لا يخفى أنّ تمام ذلك في ما إذا كان خارج الجدار بحسب الجعل و الوقف داخلا في المسجد، و أمّا إذا جعل خارجا منه فلا إشكال.

و الرابع: إنّ الحكم المذكور مختصّ بنفس المسجد أو يجري في فراشه و سراجه و الحاجز الذي يضرب للنسوان؟ الظاهر شمول الحكم لذلك، فإنّ ذلك و إن كان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 673

لا يسمّى باسم المسجد، و لكن الحكم مع ذلك يشملها بالتبعية، فحال ذلك حال الغلق الذي يحكم بانتقاله إلى المشتري في بيع الدار بتبعية الدار، مع أنّه لا يسمّى باسم الدار، و لكن العرف يعدونه من توابعه يحصل انتقاله بانتقال الدار، و كذلك هنا أيضا يعدون تنجيس الفرش المفروش من الحصير و القالي و غيرهما تنجيسا للمسجد.

و الخامس: إنّ الحكم المذكور مختصّ بظاهر أرض المسجد، أو يجري إلى تخوم الأرض، و على الأوّل فيمكن في رفع إزالة النجاسة عن المسجد، وضع حجر أو آجر على الموضع النجس بدون قلعه و إخراجه من المسجد، يدلّ على الأوّل- مضافا إلى إمكان استفادته من الأدلة أيضا، بمعنى أنّه لا يستفاد منها أزيد من حفظ ظاهر أرض المسجد من النجاسة، و وجود النجاسة في بعض أعماق أرضه بدون لزوم الهتك لا يضر- بعض الروايات التي تدلّ على جواز اتخاذ الأرض التي كانت حشا مسجدا، بعد مواراة الحش بالتراب.

[في أن إزالة النجاسة عن المساجد واجب كفائي]

«مسألة 3: وجوب إزالة النجاسة عن المساجد كفائيّ، و لا اختصاص له بمن نجّسها أو صار سببا فيجب على كلّ أحد».

لا إشكال في أنّ حكم وجوب إزالة النجاسة عن المساجد فوري و كفائي، فلا

يختصّ بمن باشر التنجيس أو صار سببا، بل يجب على عموم المسلمين كفاية، فلو كان أوّل وقت الصلاة مثلا فقضيّة فورية هذا الخطاب و وسعة وقت الصلاة لزوم تقديم الإزالة على الفريضة، فإنّ ذلك مقتضى حكم العقل في كلّ موضع وقع الدوران بين مضيّق و موسّع، فإنّ الموسّع في حكم العقل لا يقبل لمزاحمة المضيق و إن كان الأوّل في أعلى درجة من الشدة، و الثاني في أعلى درجة من الضعف، بل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 674

الحكم مطلقا على تقديم المضيق جمعا بين الغرضين، و على هذا فيجب في سعة الوقت تقديم الإزالة على الصلاة و إن فرض كون مصلحة الصلاة أقوى بمراتب من مصلحة الإزالة.

نعم لو كان الابتلاء بذلك في ضيق وقت الصلاة، كان من باب التزاحم فيراعى الأهم و الأقوى مصلحة، و هو الصلاة.

و أمّا في سعة الوقت، فالمتعيّن تقديم الإزالة، لكن لو عصى و ترك الإزالة و أتى بالصلاة في سعة الوقت، بنى صحة الصلاة و فسادها على النّزاع المعروف في الأصول من اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن الضد و عدمه، فإن قيل بالاقتضاء كانت الصلاة منهيا عنها فتكون فاسدة، لأنّ مناط صحّة العبادة حصول القرب بها، و لا يعقل حصول القرب بالعمل المنهي عنه، و إن قيل بعدم الاقتضاء، فقال المحقّق البهبهاني- قدّس سرّه- إنّ المتّجه حينئذ أيضا هو الفساد، فانّا و إن قلنا بأنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضده، فلا أقل من اقتضائه عدم الأمر بالضد، فإنّ التكليف بالضدين في زمان واحد لا يصدر من الحكيم، و إذن فيتعيّن كون الصلاة غير مأمور بها، فإذا انتفى الأمر انتفى الإطاعة و الامتثال، فينتفي القرب أيضا، فإنّه موقوف

على حصول الإطاعة و الامتثال الموقوف على تحقّق الأمر.

و لكن قد حقّقنا في الأصول في مبحث الضد أنّ الحق هو الصحّة على هذا القول كما هو المختار و وجّهنا ذلك بوجهين: الأوّل: بتصحيح الأمر إلى العبادة على نحو الترتّب. و الآخر بكفاية الإتيان بداعي جهة الأمر و الحسن الذاتي في العمل في المقربية، و لا يدور مدار وجود الأمر، فبناء على أحد هذين الوجهين تكون الصلاة صحيحة، و بناء على عدم تسليم الترتّب و عدم الكفاية تكون فاسدة، بناء على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 675

عدم الاقتضاء أيضا، فإن بنينا على اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن الضد، أو على عدم اقتضائه و لم نقل بالترتب و لا بكفاية الجهة فالحكم بالفساد مع الالتفات إلى النجاسة حال الصلاة واضح، و أمّا لو غفل عنها أو جهل و اشتغل بالصلاة، ثمّ بعد إتمامها انكشف كون المسجد نجسا، فهل يكون هذا مثل انكشاف فقدان بعض الشروط في الصلاة بعد تمامها، حيث يحكم بعدم الاجزاء مثل ما بنى على الطهارة الظاهرية ثمّ تبيّن كونه محدثا بعد الفراغ، أو ليس الحال بهذا المنوال؟

الحق بناء على القولين هو الثاني، و أمّا على القول الأوّل أعني اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن الضد، فلأنّ القائل بهذا معترف بأنّ الصلاة تامّة من حيث جهات المطلوبية الكائنة في ذاتها، بمعنى أنّ المقتضى للمطلوبية في نفسها تام، و ليس المصادفة للواجب المضيّق موجبا لنقصان في مطلوبيتها و اقتضائها حتى يكون هو مثل فقد شرط من الشروط الشرعية من الاستقبال و الطهارة و الساتر و نحو ذلك، و إنّما الحكم مع ذلك بالفساد لأجل حكم العقل بعدم إمكان تعلّق إرادة المولى بفعل الصلاة مع تعلّقها بالإزالة

المنافية لها، بل لزوم تعلّقها بتركها.

و الحاصل المانع تعلّق الإرادة من هذه الجهة بترك الصلاة مع كون هذه الإرادة فعلية على المكلف.

و إن شئت قلت: المانع هو هذه الإرادة لا بواقعها بل بتنجزها، حيث إنّه يحصل العصيان الفعلي حينئذ من المكلّف، فيمتنع معه حصول القرب، فإذا كان غافلا عن نجاسة المسجد لم يكن الخطاب بالإزالة و النهي عن الصلاة في حقّه متنجزين، فلم يتحقّق منه عصيان للمولى فلم يبق وجه لعدم مقربية العمل مع كون جهات مقربيته و حسنه في حدّ ذاته تاما، و بالجملة المقتضي للمقربية حاصل، و المانع منتف فلا وجه لعدم حصولها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 676

و أمّا على القول الثاني، أعني: عدم اقتضاء الأمر للنهي، و اقتضائه عدم الأمر مع عدم كفاية الجهة، فلا شك أنّ عدم الأمر بالصلاة جار عند هذا القائل، حتى في صورة الغفلة عن النجاسة و أمر «أزل» في حال الصلاة، فإنّه بعد كون الإرادة الواقعية للمولى متعلّقة بالإزالة لا يمكن تعلّقها بالصلاة التي هي ضدها أيضا و إن لم يكن المكلّف ملتفتا إلى ذلك، فإنّ تعلّق الطلب بالضدين في زمان واحد ممتنع من الحكيم مطلقا، و لا يدور قبحه على التفات المكلّف به و عدمه، و لكنّه مع ذلك يكون التحقيق صحّة الصلاة و إجزائها، و ذلك لأنّ من المقطوع حصول القرب الانقيادي في الأعمال التي لا يعلم بوجود الأمر فيها، و لكنّه يحتمله و لذا يأتي بها احتياطا.

و بالجملة القرب يناط بالتحرّك بأمر المولى، و التحرّك بالأمر ليس منحصرا في صورة وجود الأمر واقعا، بل يصدق مع علم المكلّف به بالجهل المركّب، بل و مع احتمال الأمر أنّه متحرّك بأمر المولى، غاية الأمر أنّه

إن لم يكن نفس العمل المأتي به ذا حسن أصلا في نظر المولى، و لم يكن أمر متعلّقا به واقعا كان محسوبا من القرب الانقيادي، و هو ما كان الفاعل فيه حسنا دون الفعل و لم يكن بعبادة، إذ هي ما كان الفاعل و الفعل كلاهما فيه حسنين، و المفروض في المقام أيضا أنّ المكلّف كان في حال الإتيان بالصلاة قاطعا بتوجّه خطاب «صل» إليه، فالحسن الفاعلي كان متحقّقا فيه بذلك بلا إشكال.

فإن قلت: نعم و لكن لما كان اعتقاده جهلا مركبا فليس المتحقّق في حقّه سوى القرب الانقيادي، دون العبادي.

قلت: بل يتعيّن أن يكون عباديا، فإنّ الحسن الفعلي هنا مفروغ عنه، فإذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 677

تحقّق بالبيان المتقدم الحسن الفاعلي أيضا، فقد تحقق معنى العبادة، و وجه مفروغية الحسن الفعلي أنّ الصلاة على حسب الفرض ليس فيها من حيث ذاتها و اجزائها و شرائطها الدخيلة في مطلوبيتها نقصان أصلا، غاية الأمر عدم إمكان الأمر به و توجيه الخطاب نحوه، فإذا تمّ في حقّ فاعلها الحسن الفاعلي و القرب الانقيادي كان العبادة بذلك تامّة بلا إشكال. هذا كلّه هو الكلام مع الغفلة و الجهل الابتدائي.

و أمّا لو علم بالنجاسة أوّلا، ثمّ نسيها فاشتغل بالصلاة، فحينئذ الحق هو التفصيل بين ما إذا كان طرو النسيان لا عن عمد و اختيار، بأن يكون مقدماته خارجة عن اختياره و لا يكون مسببا عن تقصيره في التحفظ، فهذا حاله حال الجاهل من الابتداء بعينه في كون فعله مقربا، فيكون صحيحا، و بين من كان طرو النسيان عليه بسوء اختياره و تقصيره بترك التحفّظ لذكره، فهذا و إن كان حاله عند الإتيان بالعمل حال الجاهل، و لكنّه

بالأخرة يكون كالعالم العامد، فلا فرق عند العقل بين من كان ملتفتا بأنّ المسجد نجس و أنّ الصلاة في سعة الوقت قبل الإزالة يكون على خلاف طريقية العبودية و صلّى مع ذلك، و بين من كان أيضا عالما بنجاسة المسجد فترك التحفّظ لهذا العلم حتى أوجب ذلك لصدور ذاك الطريقة الغير المرضية عنه في حال تخيّلها هو الطريقة المرضية، فهما عند العقل سيّان في التقبيح الفاعلي، لاستناد الطريقة الغير المرضية في كليهما إلى اختيار الفاعل.

مسألة: لا فرق في هذا الحكم بين المتنجّس و النجس

فكما يحرم تلويث المسجد بالنجس يحرم تلويثه بالمتنجّس أيضا، و ذلك لأنّ المتنجّس أيضا نجس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 678

عند الشرع و يلحقه أحكام النجس، غاية الأمر أنّه نجس بالواسطة و لا إشكال في ذلك «1»، إنّما الكلام في أنّ المحرم خصوص المعدية الملوثة أو مجرد إدخال النجس؟

فنقول: الأمر دائر بين الجمود على صرف اللفظ في قوله: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» فإنّه يقتضي الحمل على التباعد بين المسجد و النجاسة، و الالتزام بكون الموارد التي يكون على خلاف ذلك و علم من الشرع جوازها، مثل اجتياز الحائض في غير المسجدين، و حضور المستحاضة، و السلس، و صاحب القروح و الجروح للجماعة و الجمعة مخصصات لهذا الحكم الكلي. و بين أن يقال بأنّ الحكم المذكور ليس على ما يعطيه الجمود على لفظه، بل الحكم إنّما هو بلحاظ التلويث و هو مستفاد في العرف من أمثال هذه العبارة، فلا تكون الموارد المذكورة مخصّصات، و لا يخفى أنّه عند الدوران بين هذين فلا يكون الأولى هو الأوّل، بل الأولى هو الثاني، و القول بأنّا نستكشف من هذه الموارد أنّ الحكم بالاجتناب يكون بلحاظ التأثير و التلويث و التسرية، و إذن فيكون مجرّد

إدخال النجاسة بلا مانع.

نعم إلّا إذا كان موجبا للهتك، فحينئذ لا كلام في حرمته و لا اختصاص به، بل كل أفراد الهتك حرام، فلو فرض جريان الرسم في زمان أو مكان على كون شرب التتن في بيت رئيس القوم و كبيرهم هتكا له، كان الشرب في هذا الزمان و هذا المكان في المسجد حراما لكونه توهينا له.

______________________________

(1)- الحقّ في ذلك انّ النجاسة إن كانت مصدرا حتى يكون المعنى «جنبوا مساجدكم عن أن تنجس» فلا فرق بين أن ينجس من نجس العين كالخمر، أو من متنجس كالماء المتنجّس و إن كانت اسما، فالظاهر شموله لكلا القسمين أيضا، و ذلك لوضوح صدق النجس على الثوب أو الماء المتنجّس مثلا، فلا فرق على الوجهين من هذه الجهة، نعم يظهر بينهما الفرق من جهة أخرى، تقدمت الإشارة إليها فتدبّر. منه- رحمة اللّٰه عليه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 679

[حكم وجوب إزالة النجاسة عن المساجد و قد دخل وقت الصلاة]

«مسألة 4: إذا رأى نجاسة في المسجد و قد دخل وقت الصلاة يجب المبادرة إلى إزالتها مقدّما على الصلاة مع سعة وقتها، و مع الضيق قدّمها، و لو ترك الإزالة مع السعة و اشتغل بالصلاة عصى لترك الإزالة، لكن في بطلان صلاته إشكال، و الأقوى الصحّة».

قد مرّ أنّ وجوب الإزالة فوري، فإذا اجتمع مع الواجب الموسع مثل الصلاة في سعة الوقت، كان هو مقدما على الصلاة، كما هو القاعدة العقلية في كل مورد اجتمع فيه واجب مضيّق و موسّع، فإنّ قضيّة الجمع بين الغرضين تقديم المضيّق على الموسّع، فلو أخّر الإزالة عن الصلاة كان عاصيا بترك الإزالة، و لكن صلاته صحيحة أو فاسدة؟ قد مرّ الكلام و البحث في ما تقدّم و قد حقّق أيضا في الأصول، و لكن كل

هذا في ما إذا كان الابتلاء بتكليف الإزالة حاصلا قبل الشروع في الصلاة، فلو اشتغل بها ثمّ التفت في أثنائها بنجاسة المسجد أو حدث النجاسة في أثنائها، فهل يجب حينئذ قطع الصلاة و الإزالة أو يجب إتمامها ثمّ الإزالة؟

المسألة مبنية على وجوب الإتمام في الصلاة، أو عدم وجوبه.

فإن قلنا بالثاني، فالمكلّف كما كان قبل الشروع مخيّرا بين اختيار هذا الفرد من الصلاة، و اختيار فرد آخر، فكذلك بعد دخوله في هذا الفرد في سعة الوقت أيضا يتخير بين أن يوصلها إلى الآخر، و أن يرفع اليد عنها في أثنائها و يأتي بفرد آخر، فلا إشكال حينئذ في تعيّن القطع و المبادرة إلى الإزالة، لأنّه أيضا من موارد اجتماع المضيّق مع الموسّع، كما قبل الشروع.

و إن قلنا بالأوّل كما أنّه مذهب مشهور أصحابنا في خصوص الحج فريضة و نافلة، و الصلاة الفريضة، بل في النافلة أيضا، لكنّه قول نادر، فحينئذ يقع

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 680

التزاحم بين واجبين مضيقين، أحدهما الإزالة و الآخر إتمام الصلاة، و ليس التزاحم بين الإزالة و أصل الصلاة، لإمكان الجمع بين الإزالة في هذا الوقت و الصلاة في وقت آخر، فلا يكون فعل الإزالة مستلزما لترك أصل الصلاة، و إنّما التزاحم بينه و بين الإتمام، فإنّه لا يمكن الجمع بينهما، فيكون فعل الإزالة مستلزما لترك الإتمام و كلاهما مضيّق.

و القاعدة في باب التزاحم المضيقين هو مراعاة الأهم منهما، و تقديمه على المهم، و لا شك أنّ تعيين الأهم في هذه الموارد، إنّما هو بيد الشرع و من وظيفته و ليس للعقل فيه سبيل، و لهذا يكون لنا الجهل في غالب هذه الموارد بالأهم.

و منها هذا المورد فلا نعلم أنّ

الأهم بنظر الشارع أي من الإتمام و الإزالة، و لا شك أنّ القاعدة العقلية عند عدم العلم بالأهم من المتزاحمين هو التخيير بينهما، فيكون الحكم في المقام هو التخيير بين الإتمام و الإزالة، هذا.

و أمّا مسألة وجوب الإتمام فإن كان عليه إجماع فلا كلام، و أمّا إن لم يكن إجماع فربما يتمسّك له بالآية الشريفة لٰا تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ «1» و لكن قد خدش في دلالتها الشيخ الأعظم شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بأنّ الظاهر من الآية هو حرمة إبطال الأعمال السابقة التي وقعت صحيحة تامّة، فالمعنى- و اللّٰه العالم-:

لا تبطلوا أعمالكم السابقة التي عملتموها- بحيث صحّ نسبتها إليكم و يقال أعمالكم، صلاتكم و صيامكم- بارتكاب المعاصي التي توجب حبط تلك العبادات و الأعمال المتقدّمة، و أمّا العمل المتدرج الوجود الذي يصير عملا بعد انقضاء زمان آخر، فخلاف ظاهر الآية إرادة حرمة قطعه و هدمه، فإنّ صدق

______________________________

(1)- محمّد/ 33.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 681

الأعمال إنّما هو بعد تمام اجزائه المتدرجة و ليس قبل ذلك، فلا يقال لمن كان مشتغلا بالصلاة: إنّ هذا الذي بيده صلاته، بل يقال: إنّه مشتغل بصلاته، فالمراد أنّ صلاتكم التي أتيتم بها لا تبطلوها بما يوجب حبطها، و نظيره أيضا قوله تعالى لٰا تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذىٰ «1» فإنّ المراد به هو الحبط.

و بالجملة فظهور الآية في الحبط ممّا لا إشكال فيه، و إذن فالاستدلال بها في غير المحل.

نعم يمكن الاستدلال على الوجوب بوجه آخر، و هو أن يقال إنّه لم يعهد في الاخبار في شي ء من المركبات الشرعية من الوضوء و الغسل و التيمّم و غيرها وقوع التعبير عن الجزء الأوّل بالتحريم، و عن الجزء الآخر بالتحليل، مثل أن

يقال في الوضوء مثلا: تحريمه غسل الوجه و تحليله مسح الرجل، إلّا في موضعين وجد هذا التعبير فيهما في لسان الأخبار، أحدهما باب الصلاة، فعبر في الأخبار عن التكبيرة التي هي أوّل أجزاء الصلاة بالتحريمة، و عن التسليم الذي هو آخرها بالتحليل، و الآخر باب الحج، فإنّه قد عبر عن أوّل أفعاله الواجبة فيه أيضا بالإحرام، و عن آخرها بالإحلال، و اختصاص هذا التعبير بهذين البابين يفيد الاستكشاف التام، لأنّه إذا ورد المكلّف في هذين العملين يحدث في حقّه محرّمات تكليفية لم يكن عليه محرمة قبل وروده فيهما، و بعبارة يجب عليه بعد الورود الاشتغال بهما و صرف الإرادة عمّا ينافيهما، فيكون من أوّل الدخول في تكبيرة الصلاة إلى الانتهاء إلى التسليم ثابتا في محلّ تحريم الأكل و الشرب و غيرهما من منافيات الصلاة، و كذا من أوّل الدخول في الإحرام إلى أن ينتهي إلى الإحلال واقعا في موقع يكون في حمى

______________________________

(1)- البقرة/ 264.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 682

بالنسبة إلى أفعال مخصوصة مثل الصيد و نحوه.

و بالجملة يستظهر كمال الاستظهار من التعبيرين المذكورين في هذين البابين، دون غيرهما من الأبواب مثل الوضوء و الغسل و التيمّم خصوصا مع ملاحظة ذهاب المشهور إلى القول بوجوب الإتمام في خصوص البابين أيضا أن يكون المراد بالتحريم و التحليل هو التحريم و التحليل التكليفيين دون الوضعيين، بأن يكون المراد مجرّد بيان ما هو أوّل الصلاة و الحج و ما هو آخرهما، فإنّهما بهذا المعنى موجودان في غيرهما من المركبات الشرعية أيضا.

فإنّ غسل الوجه في الوضوء يكون تحريما بهذا المعنى و من أوّل الدخول فيه لا بدّ من مراعاة الشرائط و ترك الموانع للعمل، فكل عمل مركّب يكون

موقع الاحتراز عن أضداده أوان الشروع في أوّل جزئه. و لكن عدم معهودية هذا التعبير في لسان الأخبار بحيث يعلم اختصاصه بالبابين يعطي الاطمئنان بوجود خصوصية فيهما ليست في غيرهما، و هو أن يكون بالدخول فيهما إلى الفراغ منهما اعمال ما ينافيهما و يضادّهما محرما على المكلّف تكليفا، لكن ينتقض هذا الكلام في صلاة النافلة، فإنّه يطلق التحريمة و التكبيرة فيها، و ليس قطعها بحرام، و إتمامها بعد الشروع بواجب، فالعمدة ظهور الإجماع، و الخدشة بالاقتصار على المتيقن ممنوعة بانعقاده على عنوان عام، فالإجماع على القاعدة، فيرجع إليها في الموارد المشكوكة.

و نظير الكلام في هذه المسألة مسألة ما لو اتّفق الخلوة مع الأجنبية في أثناء الصلاة مع كون الصلاة منافية لرفع الخلوة بناء على كون الخلوة حراما، فإنّه يدور بين القطع المحرم و الخلوة المحرمة، و حيث لا يعلم الأهمية جاز الإتمام، بل هنا يتعيّن لأنّ أصل الحرمة في مسألة الخلوة غير ثابتة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 683

فإن قلت: في كلتا المسألتين شمول دليل الإبطال متوقف على عدم الأهمية في الإزالة و الخلوة واقعا، إذ معها يتحقّق البطلان لا الإبطال، و شمول دليل الإزالة و الخلوة معلوم.

قلت: نعم لو كان مجرد الأهمية في الواقع و لو لم يعلم بها المكلّف موجبة لبطلان العبادة، كما في صورة فقدان شرط من شروطها الشرعية، حيث لا يتوقف البطلان على علم المكلّف بفقدانها، و لكن ليس من هذا الباب، فلا يتصرّف في دليل العبادة، و لا يتقيّد بعدم الأهم، و إنّما هو من باب المزاحمة و الدوران مع تمامية جهات العبادة في نفس العمل، و حينئذ فالنقص منحصر في جهة القربة، فلو انصدم هذه الجهة بوجود المزاحم الأهم

فهو، و إلّا فلا وجه لبطلان العبادة، و لا يخفى أنّ الانصدام في جانب قصد التقرّب إنّما يتحقّق لو علم المكلّف بالأهمية، بل و لو علم في مسألة الإزالة.

نعم في مسألة الخلوة لو علم بأهمية الخلوة لا يحصل القرب، و الفرق أنّ الأولى من مصاديق مبحث الضد، و الثانية من مصاديق مبحث الاجتماع. فإنّ الكون الصلاتي لا يتّحد في الأولى مع ترك الإزالة المحرّم.

نعم هما متلازمان بدون ترتّب أحدهما على الآخر كما حقّق في محلّه، و أمّا في مسألة الخلوة فالكون الصلاتي متّحد مع الخلوة، فإنّ الخلوة عبارة عن الكون في المكان الخاص الذي تكون فيه الأجنبيّة و ليس معها من يحتشم جانبه، و هذا الكون متّحد مع الأكوان الصلاتية أعني: القيام و الركوع و السجود و غيرهما، كما في الصلاة مع الغصب بعينه.

فحينئذ لو أحرز أهميّة الخلوة بطلت الصلاة، للإخلال بجهة قربيّتها،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 684

فتحقق أنّ مع الجهل بالأهميّة يكون مصداقا للإبطال قطعا.

و أمّا أصل مسألة الخلوة فقد تعرّض لها في الجواهر في كتاب الطلاق في مسألة سكنى المطلّقة الرجعية مع الزوج في دار واحدة.

و الدال ممّا ذكروا من الأخبار، مرسل مكارم الأخلاق للطبرسي عن الصادق- عليه السّلام- قال: «أخذ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن النساء، ألا ينحن (نوحه نكنند) و لا يخمشن (صورت نخراشند) و لا يقعدن مع الرجال في الخلإ، إن لم يخدش في دلالتها أيضا لعدم حرمة النوحة على وجه الإطلاق و لو مع الخلو عن ذكر الأباطيل، فيصير المحصل في مسألة الخلوة أنّه إن كان ذلك قبل الشروع في الصلاة ترك الصلاة في ذلك المكان، لأنّه كالصلاة في الدار الغصبية، فإنّها لا

يجوز و إن قلنا في الأصول بجواز الاجتماع، إذ الظاهر أنّه لا يعمل به في الفقه في موارده، و إن اتفق في الأثناء فيتم الصلاة محقّقا لعدم إحراز أهمية جانب الخلوة، بل احتمال عدم الحرمة رأسا و الكراهة.

و إذن فالمتعين في مسألتنا، و هو دوران الأمر بين الإزالة و إتمام الصلاة هو التخيير بينهما، لما ذكرنا من عدم المعلومية من حال الشرع أهمية واحد منهما معينا.

نعم لو كان وجود النجاسة في المسجد موجبا لهتكه يمكن أن يقال حينئذ بأنّ المعلوم من الشرع حينئذ تقديم الإزالة، لكونها الأهم لكون وجوبها آكد و من جهتين: من جهة رفع النجاسة عن المسجد، و من جهة رفع الهتك عنه، و أمّا في غير هذه الصورة فلا سبيل إلى تحصيل العلم بالأهم، فلا محيص عن التخيير.

فإن قلت: بل في هذه الصورة يتعين الإتمام بمقتضى الاستصحاب، و ذلك لأنّ المكلّف كان وجوب الإتمام عليه متعيّنا قبل حصول المعارض، أعني

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 685

الالتفات بالنجاسة أو حدوثها، فيشك بعد حصوله في بقاء هذا الوجوب لأجل الشك في أقوائية هذا المعارض و عدمها، فيحكم في هذا الحال أيضا بتعيّن وجوب الإتمام استصحابا للوجوب الثابت عليه قبل حصول المزاحم.

قلت: لا مجال للاستصحاب هنا أصلا، و ذلك لأنّ لنا في المقام وجوبا شرعيا، و هو ما يكون بتشريع من الشرع مثل وجوب الإتمام و وجوب الإزالة، حيث إنّهما يكونان بتشريع من الشارع و فعليّة و تنجّزا.

أمّا أصل الوجوب الشرعي فهو مقطوع في كل من الإزالة و الإتمام، إذ نحن نقطع بتشريع الشارع الوجوب في هذين الموضوعين، فليس الوجوب الشرعي محلا للشك أصلا حتى يستصحب.

و أمّا الفعلية و التنجّز فهو مشكوك من أوّل

الأمر، و ذلك لأنّه يقبح من الحكيم توجيه الخطاب الفعلي بتتميم الصلاة مع كونه عالما بأنّه سيوجد لها في أثنائها معارض يكون أقوى و أهم منها، و هذا نظير ما يقال في بحث الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه في علم الأصول، فإنّه كما يقبح من الآمر العالم بالعواقب توجيه الخطاب الفعلي نحو من يصير في أثناء العمل فاقدا لبعض شرائط التكليف، كذلك لو علم بحدوث المعارض الأقوى للعمل في أثنائه، فهو من أوّل العمل لا يوجه التكليف بالعمل نحو المخاطب، و تظهر الثمرة في أنّه لو ترك العمل قبل حدوث المعارض، فليس للمولى مؤاخذته على هذا الترك لعدم كونه حراما عليه.

و حينئذ ففي المقام إن كان إزالة النجاسة الملتفت إليها، أو الحادثة في أثناء الصلاة أهم و أقوى عند الشارع من الصلاة، فالخطاب بالإتمام لم يكن فعليا على المكلّف من أوّل دخوله في الصلاة، و إن كان الإتمام عنده أقوى كان فعليا من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 686

الأوّل إلى الحال. فحيث ما يشك في الأهم منهما، فلم يعلم بفعلية خطاب «تمّم الصلاة» من أوّل الدخول فيها.

فتحصل أنّ أصل تشريع الوجوب ليس بمشكوك، و أمّا فعليته و إن كانت مشكوكة، و لكنّه ليس لها حالة سابقة معلومة، فلهذا ليس المقام مقام الاستصحاب، فيتعيّن القول كما تقدّم بالتخيير بين الإزالة و الإتمام، لعدم معلومية الأهم منهما.

[في حكم إزالة النجاسة عن المساجد عامّا أو خاصّا و حكم المكان المعد للصلاة في داره]

«مسألة 18: لا فرق بين كون المسجد عامّا أو خاصّا، و أمّا المكان الذي أعدّه للصلاة في داره فلا يلحقه الحكم».

ما ذكرنا سابقا من أنّ المسجدية غير ملازمة مع الوقفية، يكون على خلاف الفتوى و الأدلة، و ذلك لأنّه لو كان المدرك لحرمة التنجيس «جنبوا مساجدكم النجاسة» فلا

إشكال في أنّ مساجدكم، إنّما يكون إشارة إلى مساجد المسلمين و المساجد العامة، و إنّما يصير المسجد مسجدا بقول مطلق و للمسلمين إذا جعله المالك وقفا على مسجد المسلمين، و أمّا مجرّد كون بيت في الدار معدّا لصلاة أهل الدار فلا نسلّم انّه مسجد بقول مطلق، و لا يكون مسجدا للمسلمين، و إن كان المدرك هو الإجماع فمن المعلوم أنّ القدر المتيقّن منه مصاديق مسجد المسلمين.

مسألة: لو جعل عنوان المسجدية مخصوصا بطائفة خاصة

مثل أن يوقف المكان و يجعله مسجدا لخصوص الطلاب و العلماء.

ففي المسألة ثلاثة أقوال:

الأوّل: البطلان رأسا.

و الثاني: انّه يصير وقفا على المسجدية المطلقة العامّة لجميع المسلمين قهرا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 687

على نظر الواقف.

و الثالث: أنّه يصحّ بهذا الوجه الذي جعله وقفا.

و الحق أن يقال بقول رابع، و هو التفصيل بين الوقف و موضوع المسجدية التي تكون مناط الأحكام.

فأمّا الوقف فعلى قواعد الوقف يكون صحيحا و لا وجه للقول ببطلانه، كما لا وجه للقول بصحّته و صيرورته مسجدا عامّا على خلاف قصد الجاعل و الواقف، فهو وقف صحيح و يكون مسجد لهذه الطائفة بحيث لا يجوز صلاة غيرهم فيه إذا كان مزاحما لصلاتهم.

و أمّا الآثار المرتبة على المساجد من حرمة مكث الجنب و الحائض و حرمة التنجيس و غير ذلك فهي غير مرتبة عليه، فإنّ القدر المتيقّن من أدلّة تلك الآثار إنّما هو المساجد العامة المجعولة لعموم المسلمين.

مسألة: لا يبعد أن يقال: إنّ قوام عنوان المسجدية يكون بأحد شيئين:

أحدهما: الهيئة الخاصة و البناء المشتمل على الوضع الخاص المتعارف في المساجد، كما في عناوين المفتاح، و المقراض، و الميزان، حيث إنّ محقّق هذه هو الهيئة الخاصة من دون مدخلية للتلبس بمبادئها في تحقّق أسمائها، بل واجد الهيئة مسمّى بهذا الاسم و إن لم يتلبس بالمبدإ في زمان.

و الآخر: التلبّس بمبدإ السجود و العبادة، و هو يكون محقّقا لعنوان المسجد و موجبا لصدق اسمه إذا كان البناء على خلاف الوضع المتعارف في المساجد، مثل أن يكون بوضع الدور إذ حينئذ لا يسمّى عرفا بالمسجد إلّا بعد تلبّسه بمبدإ السجود في مدة، كما هو الحال في عنوان المجلس، فانّ صدقه يتوقّف على تلبس المكان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 688

بالجلوس في مدة، فلا يسمى من

الابتداء بالمجلس.

و حينئذ نقول: لا إشكال في جريان أحكام المسجد ما دام الهيئة الخاصة، أو شأنية التلبّس بالمبدإ باقيا، أمّا لو زال كلا هذين كما لو غصب المسجد غاصب، و جعلها خرابا و صار عرصة أو دكانا و انقطع عنها الصلاة فحينئذ لا إشكال في عدم إمكان إجراء هذه الأحكام بنفس أدلّتها، فإنّ موضوعها مقيّد ببقاء عنوان المسجدية، و قد فرضنا زوال هذا العنوان بعد زوال ما يكون قوامه به من الهيئة و التلبس، فيكون سلب المسجدية عنه صحيحا، نعم يصح أن يقال: إنّه كان مسجدا في السابق.

نعم يمكن إجراء هذه الأحكام باستصحاب ثبوتها في حال بقاء العنوان في خصوص الأرض، كما مر نظيره في باب الانقلاب، و حاصل ما مرّ أنّه لو لم يكن لدليل المنقلب عموم للمقام للانقلاب و عدم صدق موضوعه، و لم يكن على خلاف حكم السابق في المنقلب إليه أيضا دليل خاص، و لم يكن في البين تعدد وجودي في نظر العرف، فحينئذ لا مانع من استصحاب الحكم الثابت قبل الانقلاب بعده، فنقول هنا أيضا: إنّ دليل حرمة تنجيس المسجد الذي هو العنوان المنقلب ليس له عموم للعرصة و الدكان للانقلاب و عدم صدق الاسم، و ليس على جواز تلويث العرصة أو الدكان أيضا دليل خاص، و إنّما الحكم به من جهة الأصل، و ليس في البين أيضا تعدد وجود عند العرف، فإنّه يقال: هذه الأرض كانت في السابق محكومة بحرمة التنجيس، و نشك في حالها في الحال، فيكون مقتضى الاستصحاب بقاء الحرمة السابقة، و كذا الكلام بالنسبة إلى سائر مختصات المسجد.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 689

نعم لا يجري هذا الاستصحاب إلّا في خصوص الأرض، دون غيرها من البناء

الذي بنى عليها الغاصب.

مسألة: لو غصب المسجد غاصب و جعله سوقا، فهل يجوز المرور من هذا السوق؟

و هل يمنع الغصبية من نحو هذا التصرف لكونه تصرفا في المغصوب؟

نعم لا إشكال في جواز الصلاة فيه، و هذا الكلام جار في مطلق الأرض التي جعلها مالكها موقوفة على عنوان خاص فغصبت و بدل عنوانه الأوّلي بعنوان آخر، مثل ما لو جعل الأرض الموقوفة للجادة دارا، أو الأرض الموقوفة لمقابر المسلمين صحنا لبقعة، و كما مثلنا أوّلا من جعل الأرض المجعولة مسجدا سوقا.

فهل بعد طرو العناوين الثانوية غصبا يجوز لآحاد المسلمين التصرف في هذه الأراضي على غير الوجه المقصود للواقف، مثل المرور في السوق الذي كان مسجدا، و الصلاة أو الوضوء في هذا الصحن الذي كان مقبرة، و الجلوس في هذا الدار التي كانت جادة، كما كانت هذه التصرفات قبل زوال عناوينها جائزة، فإنّ التصرف الغير الصلاتي في المساجد لا مانع منه ما لم يزاحم المصلين، و كذا التصرف الغير الدفني لا مانع منه في المقابر ما لم يزاحم لعمل الدفن، و كذا التصرف الغير المروري لا مانع منه في الجادة ما لم يزاحم المارة، فهل تكون هذه التصرفات بعد إزالة العنوان غصبا أيضا جائزة أم لا؟

نعم لا إشكال في جواز التصرفات على الوجه الذي قصده الواقف، من الدفن في هذا الصحن، و الصلاة في هذا السوق، و المرور في هذه الدار.

فنقول: في المسألة وجوه ثلاثة:

الأوّل أن يقال: إنّ العمل المحرم في هذه الأراضي يختص بالغاصب، حيث

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 690

أزال الصورة الأوّلية و بدّلها بصورة أخرى لم يكن مقصودا للواقف و أمّا بعد وقوع هذا الحرام منه، تكون هذه التصرفات التي كانت جائزة قبل زوال الصورة باقية على جوازها بعد زوال الصورة بقضية الاستصحاب.

الثاني أن يقال:

إنّ مقتضى القاعدة في كل أرض جعلها مالكها موقوفة لطائفة خاصة لأجل عمل مخصوص، مثل المسجد حيث يجعل للمصلين لأجل أن يصلّوا، و الجادة حيث يجعل للمارة لأجل أن يمروا، و المقبرة حيث يجعل للمسلمين لأجل أن يدفنوا فيه موتاهم، أن يكون تصرف غير ذوي الحقوق بغير الوجه المقصود للواقف حراما، و إن لم يكن مزاحما لحق ذوي الحقوق، لكونه تصرفا في متعلق حق الغير، غاية الأمر أنّه خرج عن تحت هذه القاعدة ما قبل إزالة العنوان، لأجل السيرة و الأدلة الخاصة، و لكن لا يمكن اسراء هذه الأدلة إلى ما بعد زوال العنوان، فإنّ موضوع تلك الأدلة مقيدة ببقاء العناوين، فمدلولها جواز هذه التصرفات في المسجد ما دام مسجدا، و في الجادة ما دام جادة، و في المقبرة ما دامت مقبرة.

و أمّا بعد زوال هذه العناوين، فلا عموم لهذه الأدلة و لا مجال أيضا للاستصحاب، لمكان القاعدة المذكورة، و بالجملة فالمرجع حينئذ هو هذه القاعدة.

الثالث أن يقال: إنّ الوقف ليس تمليكا في حقّ الموقوف عليه حتى يكون من العقود و محتاجا إلى القبول، بل نقول: إنّه فك الملك و سلبه عن النفس، و ليس وراءه شي ء آخر.

نعم يكون للمالك حقّ أن يقيده على وجه مخصوص و يضعه بعد الفك على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 691

طريقة خاصة، فيكون هذا الوجه و الطريقة التي وضع المالك عليه متبعا، بمعنى أنّه لا يجوز اعمال عمل في هذا الموقوف كان منافيا و مزاحما لهذا الوجه و الطريقة، و أمّا إعمال الأعمال الغير المنافية مع ذلك فالقاعدة مقتضية لجوازها لأنّ الملك الموقوف يصير بعد الفك لا ملك، فلا يكون التصرفات المذكورة تصرفا في ملك أحد، و لا

في حقّ الغير، لأنّ المفروض عدم مزاحمتها لحقّ ذوي الحقوق، و على هذا فيكون جواز هذه التصرفات قبل زوال العنوان، و حال بقائه على طبق القاعدة، لا أن يكون من جهة الأدلة الخاصة، فيكون جوازها بعد الزوال أيضا باقيا بمقتضى القاعدة، و الظاهر من هذه الوجوه هو الأخير.

[حكم المجنب يرى نجاسة و يريد إزالتها]

«مسألة 14: إذا رأى الجنب نجاسة في المسجد فإن أمكنه إزالتها بدون المكث في حال المرور وجب المبادرة إليها، و إلّا فالظاهر وجوب التأخير إلى ما بعد الغسل».

لو رأى النجاسة في المسجد و كان جنبا، فإن أمكنه الإزالة من دون مكث و في حال المرور فلا كلام، و إن لم يمكن الإزالة بدون المكث، فقد صرح في العروة الوثقى بتعين المبادرة إلى الغسل، و تأخير الإزالة إلى ما بعده، و هذا الحكم محلّ للإشكال و بيانه يحتاج إلى مقدمتين:

الأولى: انّ الحق كما هو دام ظله أيضا معترف به، عموم بدلية التيمم عن الغسل و الوضوء في كل عمل اشترط في جوازه أو رجحانه الطهارة، ففي جميع غايات الوضوء و الغسل يكون بدلية التيمم و مشروعيته ثابتة، و ليس مشروعيته مختصة بغاية مخصوصة مثل الصلاة و الصوم و الطواف مثلا، و من جملة الغايات التي يشترط في جوازه الطهارة عن الحدث الأكبر هو المكث في المسجد فيكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 692

التيمم فيه مشروعا، و الدليل على هذا ظاهر أدلة تشريع التيمم، مثل قوله: «التراب أحد الطهورين» «1» و قوله: «ربّ الماء ربّ التراب» «2»، و قوله: «يكفيك التراب عشر سنين» «3» حيث إنّ ظاهرها أن التراب طهور رسمي بقول مطلق مثل الماء، غاية الأمر عند عدم الماء، خصوصا الحكم بالكفاية عشر سنين بملاحظة ابتلاء المكلّف

في هذه المدّة بغير الصلاة و الصوم، من مسّ القرآن و المكث في المسجد و نحوهما، و محلّ تفصيل الكلام في ذلك باب التيمّم.

الثانية: انّ الحقّ أيضا أنّ بدلية التيمم عن الغسل و الوضوء ليست مخصوصة بصورة العجز عن استعمال الماء، إمّا لفقدانه رأسا، و إمّا لوجود المانع من استعماله في بدن المكلّف من مرض و رمد و نحوهما، بل تكون ثابتة في صورة عدم التمكن من استعمال الماء لأجل الغاية المقصودة لضيق وقت هذه الغاية، غاية الأمر أنّ الفرق بين التيمّم لأجل الفقدان أو المانع من الاستعمال في البدن، و بين التيمم لأجل ضيق الوقت، أنّ التيمم لأحد الأولين نافع بحال هذه الغاية التي أتى بالتيمم لأجلها و بحال سائر الغايات، فإذا كان الغاية المأتي به لأجلها هو الصلاة فكما يجوز الدخول به في الصلاة يجوّز الغايات الأخر أيضا مثل مسّ الكتاب و اللبث في المسجد، و نحوهما، و أمّا التيمّم لأجل الضيق فلا يباح بسببه سوى الغاية المقصودة التي ضاق وقتها، دون سائر الغايات التي لم يصر وقتها ضيقا، و وجه ذلك أنّ المكلّف بالنسبة إلى هذه الغاية المقصودة غير متمكن من استعمال الماء، فهو داخل في قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً* «4» بالنسبة إلى هذه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2 ص 984، ح 15.

(2)- المصدر نفسه: ج 2 ص 984، ح 13.

(3)- المصدر نفسه: ح 12.

(4)- النساء/ 43، المائدة/ 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 693

الغاية، و أمّا بالنسبة إلى الغايات الأخر، فلكونه متمكنا من الاستعمال بالنسبة إليها يكون خارجا عن الموضوع.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: إذا رأى نجاسة في المسجد و كان جنبا فيجب عليه المكث لأجل الإزالة، و وقت هذا المكث

أيضا مضيق لا يسع الغسل، لأنّ الفرض كون الغسل محتاجا إلى مضي زمان ينافي الفورية العرفية في الإزالة، فيكون التيمم بدلا عن الغسل في هذه الغاية بمقتضى المقدمة الأولى، و الماء و إن كان موجودا و ليس في بدن المكلّف أيضا مانع من استعمال الماء، لكن مع ذلك يكون بالنسبة إلى هذا العمل الذي هو المكث غير متمكن من استعماله لضيق وقته، فيكون موضوعا للتيمم بمقتضى المقدمة الثانية، و إذن فيجب عليه التيمم و الإزالة أوّلا، و لا يجوز تأخيرها عن الغسل.

نعم لا يجوز بهذا التيمم إلّا الدخول في هذا العمل الذي هو المكث، فلا يباح به الدخول في الصلاة مثلا.

ثمّ لو لم نسلّم إحدى المقدمتين إمّا بأن نقول: لم يثبت بدلية التيمم إلّا في غاية مخصوصة، و هو باب الصلاة، و الصيام، و الطواف مثلا.

أو بأن نقول بأنّه و إن كان مشروعا في جميع الغايات، لكنّه مختص بصورة العجز عن استعمال الماء، إمّا لفقدانه، أو لوجود مانع منه في البدن و لا يشرع في الضيق.

أو سلمنا كلتا المقدمتين، و لكن فقد في حق المكلّف في هذا المقام جميع أسباب التيمم من التراب و غيره، فحينئذ يكون المقام من باب الدوران بين المضيقين، إذ يدور الأمر بين مخالفة حرمة المكث و موافقة الأمر بالإزالة فورا، و بين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 694

مخالفة هذا الأمر الفوري و موافقة النهي عن المكث بأن تبادر إلى الغسل و يؤخر عنه الإزالة، فالحكم بتعين الثاني يحتاج إلى إحراز أهميته عند الشرع من الآخر، و من المعلوم عدم إمكان العلم بذلك، بل يمكن الحكم بالعكس في ما إذا كان النجاسة ممّا يوجب مهتوكية المسجد، فيقال بتقديم الإزالة حينئذ،

و أمّا في غير هذه الصورة فالقاعدة العقلية هو التخيير بين الأمرين.

فتحصّل: أنّ الحكم بتعين الغسل مقدما على الإزالة، ممّا لا وجه له على كل حال، إذ لو سلمنا المقدمتين كان الحكم حينئذ تعيّن التيمم، و لو لم نسلمهما كان الحكم هو التخيير بين تقديم الإزالة على الغسل و تأخيرها.

تنبيه: لو رأت الحائض نجاسة في المسجد، فإن كان في حال تلبّسها بالدم فلا يمكن في حقّها شي ء من الغسل و التيمم، فيكون من باب التزاحم، و القاعدة هو التخيير بين الإزالة في الحال و تأخيرها إلى ما بعد الانقطاع، و إن كان في حال الانقطاع و قبل الغسل فحالها حال الجنب في جميع ما تقدّم.

مسألة: مرتبطة بأحكام المساجد، و بباب التيمم أيضا

كما ذكرها في العروة الوثقى في هذا الباب.

و هي أنّه لو صار جنبا و انحصر ماء الغسل في ماء الحوض الذي يكون في جوف المسجد، فإن أمكن الاغتسال بالمرور في غير المسجدين، بأن يمرّ من تحت الماء بدون مكث بقصد الغسل فلا إشكال، و إن لم يمكن الاغتسال بدون المكث فحينئذ هل يتعيّن عليه التيمم للصلاة لأنّه غير قادر على الغسل بملاحظة توقف الغسل على المقدّمة المنحصرة المحرمة، و هو المكث في المسجد مع الجنابة، فيكون مثل ما لو كان المقدّمة المتعيّنة للغسل تصرّفا في المغصوب، كأن يكون الوصول إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 695

الماء متوقفا على المرور من الأرض المغصوبة، فإنّه حينئذ يكون الغسل غير مقدور له، فينتقل إلى التيمم، فهل الحكم في المقام أيضا كذلك؟ الحق هو الفرق بين المقامين.

ففي هذا المقام يتعيّن عليه التيمم في خارج المسجد لأجل المكث، ثمّ الشروع في الغسل، و هذا الحكم أيضا متفرّع على المقدمتين المتقدمتين في المسألة السابقة. فالكلام

في المسألتين واحد، إلّا أنّ هذه المسألة تختص بورود إشكال هو أنّ أدلّة تشريع التيمم لا يمكن شمولها لهذا الفرد، إذ يلزم من شمولها أمر محال، و هو أن يكون وجود مشروعية التيمم مستلزما لعدمها.

بيان ذلك: أنّ حرمة المكث صار سببا لصيرورة المكلّف فاقد الماء و صيرورته كذلك صارت سببا لمشروعية التيمم في حقّه، فإذا صار التيمم مشروعا في حقّه جاز له المكث مع التيمم، و إذا جاز له المكث صار واجدا للماء، و بذلك يرتفع عنه مشروعية التيمم، و لكنّه فاسد و مجرّد مغالطة، و ذلك لأنّ وجدان الماء بالنسبة إلى الصلاة مسبب عن مشروعية التيمم لأجل المكث بحيث لو لم يكن هذا التيمّم مشروعا لكان فاقد الماء بالنسبة إلى الصلاة، و أمّا فقدان الماء بالنسبة إلى المكث بمقدار الغسل بأسرع وجه يمكن فهو على السواء بالنسبة إلى حالتي ملاحظة مشروعية التيمم لأجله، و عدم ملاحظتها.

و بالجملة: فقدان الماء بالنسبة إلى المكث المذكور صار سببا لمشروعية التيمم لأجل هذا المكث، و مشروعية هذا التيمم صارت سببا لوجدان الماء بالنسبة إلى الصلاة، و هو أوجب عدم مشروعية التيمم لأجل الصلاة، فلم يلزم من مشروعية هذا التيمم عدم مشروعية نفسه، بل عدم مشروعية غيره، فلم يلزم محال.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 696

و بتقرير آخر: أنّ التيمم أوجب جواز المكث، و جاء من قبل هذا الجواز التمكن من الغسل، فالتمكن من الغسل بعد كونه معلولا للجواز و متأخرا عنه رتبة كيف يمكن أن يوجب ارتفاع هذا الجواز.

مسألة: قد مرّ أنّه لو وقف عنوان المسجد على طائفة خاصة ففي المسألة ثلاثة أقوال:

البطلان من رأس، و الصحة مع الانطباق على العموم قهرا، و الصحّة على هذا الوجه الخاص، و قد عرفت أنّ المختار قول رابع، فحينئذ مساجد الشيعة و مساجد العامة

لا إشكال في أنّ نظر كل من هاتين في مساجدهم إلى خصوص أهل مذهبهم، بل المعلوم من حال كل منهما عدم رضاه بصلاة صاحبه في مسجده، و بعينه يكون الحال في ذلك في ما بين الفرقتين هو الحال في ما بين المسلمين و اليهود و النصارى بالنسبة إلى المساجد و البيع و الكنائس، و حينئذ فهل يكون هذا أيضا من قبيل وقف المسجد على طائفة خاصة حتى يكون محلا للإشكال، أو ليس من هذا القبيل؟

الحق عدم كونه من هذا القبيل، و وجه ذلك أنّ نظر الواقف إلى أهل مذهبه ليس نظرا تقييديا، بل هو نظر تطبيقي بمعنى أنّه لكونه معتقدا بأنّ المصلين منحصرون في أهل مذهبه فلهذا لا ينسبق نظره إلّا إليهم، و بعبارة أخرى:

حال وقف الواقف هنا حال بيع الغاصب، فكما أنّ بيع الغاصب منحل إلى أمرين: إنشاء أصل البيع و التطبيق، كذلك الوقف هنا أيضا ينحل إلى شيئين، مثلا الشيعة في مقام الجعل يجعل المسجد بقول مطلق، و يقصد محل العبادة للّٰه تعالى، و لكن لما يرى انحصار المصلّي في طائفة نفسه، فلهذا يقول مسجد طائفتي، و كذا العامي أيضا يجعل مسجد المسلمين و معبد اللّٰه تعالى، و لكن حيث يرى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 697

انحصار العبادة في عبادات أهل مذهبه، فلهذا ينسبق نظره إلى أهل مذهبه، و هذا تطبيق خطائي غير مرتبط بأصل الجعل مثل التطبيق في بيع الغاصب، فلو صلّى الشيعي في هذا المسجد كان صلاة واقعة في المحل، و الشاهد على كون النظر تطبيقيا لا تقييديا، أنّه لو سئل كل من الشيعي و السنّي عن هذا المكان لقال:

مسجد المسلمين من دون تقييد بجماعة خاصة، كما في الوقف على

جماعة الطلاب، هذا.

بل يمكن إجراء هذا الكلام في كنائس النصارى و بيع اليهود، فإنّهم أيضا يجعلون هذه الأمكنة معابد للّٰه تعالى، فلو سئلوا عنها لقالوا: هي معابد اللّٰه، غاية الأمر لما رأوا انحصار العبادة فيما بأيديهم لا يدخل في أذهانهم حال الجعل و الوقف إلّا أهل ملّتهم، و من هنا يصير تنجيس معابدهم محلا للإشكال، فإنّه و إن كان لا يشملها لفظ «مساجدكم» و لكنّه يحتمل جريان تنقيح المناط فيها.

مسألة: في الواجبات الكفائية التي علمنا أنّ غرض الشارع و نظره متعلّق بفعل واحد، غاية الأمر لا يوجه الخطاب إلى عنوان الواحد

بل إلى كل واحد واحد من آحاد جميع المكلّفين مستقلا على وجه لو أتى به واحد سقط من الباقين، و لو لم يأت به أحد عوقب الجميع، لو صار مكلّف واحد غير قادر على هذا الواجب الكفائي كما لو رأى ميتا و لم يتمكّن من إتيان مقدمات دفنه لا مباشرة و لا تسبيبا.

فإن كان غيره من سائر المكلّفين ملتفتين إلى تحقّق هذا الواجب الكفائي في البين فلا بأس عليه، و أمّا إن كانوا غير ملتفتين إليه و غافلين عنه، فهل يجب عليه إعلامهم بذلك أو لا؟ صرّح في العروة الوثقى في خصوص مسألة الإزالة عن

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 698

المسجد بعدم الوجوب.

و الأقوى هو التفصيل بأن يقال: إنّه إن كان عالما بأنّ سائر المكلّفين لو التفتوا لم يبادروا و لم يقدموا على الامتثال، فحينئذ لا إشكال في عدم وجوب الإعلام، إذ لا يترتب عليه فائدة إلّا وقوع هؤلاء في المعصية و استحقاق العقوبة، و ليس هنا من موارد الأمر بالمعروف أيضا، فإنّه فرع الدخول في موضوع التكليف، و الفرض خروجهم عنه لغفلتهم.

و أمّا إن كان عالما بأنّهم لو التفتوا لأقدموا على العمل و أنّ المانع إنّما هو عدم التفاتهم، أو كان محتملا ذلك،

فحينئذ يجب الاعلام في كلتا الصورتين.

أمّا في صورة العلم فإنّ المفروض أنّ مطلوب المولى أعم من مباشرة شخص خاص، و هذا المكلف قاطع بأنّه لو علم الغافلين لأقدموا على العمل، فهو قادر على تحصيل مطلوب المولى، فليس له عذر في تركه، و المثال العقلائي لذلك ان يرى عبد لمولى ولد هذا المولى مشرفا بالغرق، و كان غير قادر على إنقاذه، و كان لهذا المولى عبيد أخر كانوا قادرين على إنقاذه، و لكنّهم كانوا غافلين عن هذه الواقعة، فلو تكاهل هذا العبد عن إعلام هؤلاء العبيد برفع صوت و نحوه حتى صار الولد غريقا صحّ ذمّه و عقابه على هذا العمل عند العقلاء.

و أمّا في صورة الاحتمال فلأنّ المفروض أنّ غرض المولى قطعي، غاية الأمر أنّ المكلّف لا يعلم أنّه قادر على تحصيله أو لا، لعدم علمه بأنّ إعلامه يحدث الداعي في المكلفين أو لا، و قد تقرّر في الأصول و تقدّم في بعض المسائل المتقدمة أنّ الغرض المولوي إذا كان قطعيّا فاحتمال القدرة أيضا منجز، و ليس للعبد أن يقول: إنّي شاك في القدرة، فأكون شاكا في التكليف الفعلي، فمقتضى الأصل هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 699

البراءة، بل اللازم عليه عقلا هو الاقتحام في العمل حتى يتبين له الحال من العجز و الاقتدار، فالمجرى للبراءة إنّما هو الشك في أصل المطلوب- كما في المائع المردّد بين الخمر و الماء- دون الشكّ في التكليف البعثي مع العلم بأصل المطلوب.

و بالجملة، فأظنّ وجوب الإعلام في الصورتين من الواضحات، فالعجب من صاحب العروة حيث أفتى بعدم الوجوب.

فإن قلت: الحال في الإعلام هنا حال إيقاظ النائم لأجل أن يصلّي صلاة الصبح مثلا قبل فوت وقتها، و لا

إشكال في عدم وجوب الثاني فكذا الأوّل.

قلت: الفرق بين المقامين واضح، فإنّ الواجب الكفائي له ربط بجميع المكلّفين، حيث إنّ كل أحد يجب أن يأتي بالعمل هو أو غيره، فهو مربوط بالجميع، غاية الأمر انّ هذا المكلّف صارت قدرته محدودة بحدّ خاص، فيجب عليه أعمال القدرة بقدر الإمكان، و هذا بخلاف صلاة الصبح الواجبة على النائم، فإنّها غير مربوطة بغيره، فإنّ الغير لو أوقظه نال المصلّي بكمال، و لو لم يوقظه لم ينل هو أيضا بكمال، فهو غير مربوط بالغير على أيّ حال.

[في حكم وجوب إزالة النجاسة عن المشاهد المشرّفة]

«مسألة 20: المشاهد المشرّفة كالمساجد في حرمة التنجيس، بل وجوب الإزالة إذا كان تركها هتكا، بل مطلقا على الأحوط، لكن الأقوى عدم وجوبها مع عدمه، و لا فرق فيها بين الضرائح و ما عليها من الثياب و سائر مواضعها إلّا في التأكّد و عدمه».

ألحقوا بالمساجد المشاهد المشرفة و الضرائح المقدسة- على صاحبها السلام- في حرمة التنجيس و وجوب الإزالة.

و تفصيل الكلام أن يقال: إنّه لو كان تنجيس المشاهد أو تنجسها موجبا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 700

لهتكها، فلا إشكال في حرمة التنجيس و وجوب الإزالة، فإنّ هتكها أعظم حرمة من هتك المساجد قطعا، كما أنّ تنجيس أوراق المصحف و خطّه الشريف أو تنجّسه لو كان موجبا للهتك فحرمة تنجيسه و وجوب إزالة تنجّسه أوضح من كل شي ء، و أمّا لو لم يكن التنجيس أو التنجّس في المشاهد موجبا للهتك، فالدليل على حرمة الأوّل و وجوب إزالة الثاني غير واضح.

و يمكن أن يقال: إنّ لنا عنوانين أحدهما: الهتك، فلا إشكال في حرمته، و الآخر: الاحترام و لا إشكال في عدم وجوبه، فإنّ مراتبه غير محصورة و ليس له حدّ خاص، فمن جملة

مراتبه تقبيل العتبة في كل يوم و عدم وجوبه من القطعيات، و لكن لو فهمنا من الأدلّة المثبتة لحرمة التنجيس و وجوب الإزالة فورا و سائر الأحكام في المسجد أنّ كلّ ذلك من جهة احترام المسجد، فقد علم حينئذ وجوب الاحترام على هذه الوجوه الخاصة بنص الشارع و جعله، و إن كنّا مع قطع النظر عن هذا الجعل غير قائلين بعدم وجوب الاحترام بجميع مراتبه، و إنّما كنّا نقول بحرمة الهتك، و لكن بعد هذا الجعل نقول بوجوب خصوص هذه الأنواع الخاصة من الاحترام تعبّدا في المسجد، و حينئذ بضميمة القطع بأنّ احترام المشاهد أعلى و أعظم من احترام المساجد نقول: بجريان هذه الأحكام في المشاهد بطريق أولى.

و لكن الشأن في إثبات المقدّمة الأولى أعني: الفهم من تلك الأدلة كون الحكمة في تلك الأحكام هو الاحترام و هو غير معلوم، إذ من الممكن أن يكون سببا آخر مثل عدم تلوث المصلّين في المسجد.

ثمّ على تقدير فهم أنّ الحكمة في هذه الآداب في المسجد هو الاحترام لا يثبت أيضا هذه الآداب في المشاهد بمجرّد كونها أعظم احتراما من المسجد، إذ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 701

لعل لخصوصية المعبدية كان دخل في هذا النحو من الاحترام، و لم يكن للمشاهد اقتضاء ذلك مع أعظميتها، فإنّه يمكن أن يكون نحو احترام ثابتا لشخص محترم مع عدم ثبوته في الشخص الأشد احتراما، لخصوصيّة في الشخص الأوّل، فلاحظ انّ اسم النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لو ذكر يجب الصلاة عليه عند سماعه، و لا يجب عند سماع ذكر اسم اللّٰه الاشتغال بذكر مخصوص، مثل تبارك و تعالى و نحوه، و كذلك في سماع اللقب المخصوص للإمام

الثاني عشر- عجل اللّٰه فرجه و سلام اللّٰه عليه- يجب القيام، و لا يجب عند سماع شي ء من أسماء و ألقاب أمير المؤمنين- عليه السّلام-، مع كونه أشدّ احتراما، و حينئذ فمجرد وجوب إزالة النجاسة عن المسجد على نحو الموضوعية بدون الدوران مع الإهانة لعلّه كان احتراما مخصوصا بالمسجد، و المشهد مع أشدية احترامه لم يكن فيه هذا الاحترام، لخصوصية في الأوّل دون الثاني، كأن يكون لخصوصية المعبدية دخل.

و ربما يتمسك بالسيرة بمعنى أنّ وجوب الإزالة عن المشاهد و لو بدون الهتك مرتكز أذهان المسلمين، فنحن و إن لم نقل بوجوب الاحترام المطلق، و لكن هذا النوع الخاص قام عليه الارتكاز.

و فيه: أنّه إن كان مثل هذا الارتكاز محلا للاعتماد وجب الحكم بوجوب الوضوء على المحدث بالأصغر إذا أراد الدخول في الحرم كوجوب الاغتسال على المحدث بالأكبر، فإنّه قد صار من المرتكزات عند عوام المسلمين لزوم التوضّي على من كان محدثا بالأصغر عند إرادة التشرف في الحرم، و لم يقل بذلك أحد، و أيضا صار من المرتكزات تقبيل الضريح المقدس بعد الدخول في الحرم، فلو دخل شخص في الحرم و لم يقبّل الضريح، و خرج كان فعله مخالفا للاحترام الواجب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 702

بحسب المرتكز في أذهانهم مع أنّه لم يقل بوجوب ذلك أحد.

و بالجملة، فالإنصاف عدم إمكان الاتكال في الحكم بالوجوب على أمثال هذه السيرات و الارتكازات.

نعم عنوان الإهانة و هتك الاحترام شي ء آخر، و لا إشكال في حرمته في تلك الأمكنة المتبرّكة، بل في كل شي ء علم في الشريعة وجوب تعظيمه، و من المعلوم اختلاف عنوان الإهانة بالمقاصد و النيات، و كذلك بالأمكنة و الأعصار، مثلا لو كان من المتداول

في عصر حصول الإهانة لرئيس قوم بإخراج المقصر الذي لجأ ببيته عن بيته بدون إذنه، كان هذا العمل بالنسبة إلى المشاهد المشرفة أيضا هتكا، فلو لجأ مقصّر مستحق للحدّ الشرعي أو غيره بهذه الضرائح المقدسة فإن كان المتصدّي لإخراجه الحاكم الشرعي لأجل إجراء الحدّ الشرعي عليه فهو بمنزلة المأذونيّة من صاحب البيت في إخراجه، فإنّ الإذن في إجراء الحدّ عليه إذن في إخراجه.

و أمّا إن كان المتصدّي هو الحاكم العرفي، فحينئذ يكون الإخراج هتكا لهذا الحرم المحترم و محرما بلا إشكال، و هكذا كل عمل احتسب عند أبناء عصر أو أهل بلد المشهد الشريف هتكا و إهانة، و أمّا ما حكمي من وحيد البهبهاني- قدّس سرّه- من منع إخراج أواني كربلاء إلى خارج كربلاء، بمعنى أنّه ما دام هذه الأواني و الأباريق في أرض كربلاء لا يحرم تنجيسها و استعمالها في التخلية، و أمّا إذا أخرجت من أرض كربلاء فيحرم استعمالها حينئذ، فمحل منع بإطلاقه إن أراد الحرمة.

و الحق أن يقال: إن كانت هذه الأواني متخذة لأجل التبرك بها و التعظيم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 703

فيحرم إهانتها و التنجيس المستلزم لتحقيرها، و أمّا إذا كانت متخذة لأجل قضاء الحاجة بدون نظر إلى التبرك و التعظيم، فحالها حال سائر الأواني.

و بالجملة، المناط الكلّي في هذا الباب أنّ كل شي ء حصل له في الشريعة احترام فيحصل لا محالة له هتك، فإنّ الهتك عبارة عن خلاف الاحترام و نقضه، فكل عمل كان بالنسبة إلى هذا الشي ء هتكا و توهينا فهو محرم، و حينئذ يكون الكلام في مصاديق هذه الكبرى، مثلا الكفن الذي يديرونه بالمشاهد المشرفة و يلصقونه بالضرائح المعظمة لأجل تحصيل التبرك و التيمّن له، و

كذلك التراب الخارج الذي يوضع على الضريح المقدّس لأجل التبرك و استشفاء المرضى به لا إشكال في أنّه يحصل في المذهب لهما نوع احترام بسبب ذلك، و إذن فيحصل لهما هتك أيضا فيكون هتكه محرما، و كذلك قطعات قميص الكعبة المشرفة التي يقتسمهما الناس في كل سنة و يتخذونها بعنوان التبرك و التعظيم، و آلة الكنس التي قد تداولت في هذه الأزمنة أخذها بعنوان التبرك في بقعة المعصومة- عليها السلام- بقم عند تحويل السنة من متولي تلك البقعة الشريفة.

لا يقال: إنّ المناط في حصول التعظيم في هذه الأشياء لو كان مجرد الالتصاق بالضريح فهذا حاصل في اليد و العين و سائر جوارح الإنسان المتشرفة بمباشرة تلك الأمكنة المتبركة.

لأنّا نقول: الفرق أنّ تلك الأشياء قصد بإلصاقها الضريح التبرك الدائمي، و لم يقصد ذلك في التصاق الأعضاء، فالمقصود فيها هو حط الذنوب، و نحو ذلك من المقاصد المخصوصة بحال الالتصاق.

نعم لو فرض أنّ أحدا قصد بإلصاق يده و دلكها من الضريح المقدس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 704

صيرورتها متبركة لأجل أن يمسّها المرضى و يستشفون بها، فلا مانع من القول بأنّ أنواع إهانة هذه اليد من التنجيس الموجب للهتك و غيره حرام.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ حرمة التنجيس على وجه الموضوعية و في غير صورة لزوم الإهانة و الهتك في غير المساجد لم يثبت عليه دليل، و إنّما الثابت في غيرها هو حرمة الإهانة و الهتك، و أمّا الزائد على ذلك فلا.

و أمّا مكث الجنب في المشاهد المشرفة فربّما يتمسك في حرمته بالأخبار الواردة في خصوص دخول الجنب في بيوت النبي و الأئمة من القضايا الخاصة المتفقة لبعض أصحاب الأئمّة، و هي عدة أخبار.

منها: مرسلة

مائز بن الحسين: إنّ أعرابيا دخل على الحسين- عليه السّلام- فقال له: أما تستحي يا أعرابي تدخل على إمامك و أنت جنب». الحديث.

و منها: أربعة أخبار أخر، كلّها مشتملة على قضية أبي بصير- و الظاهر أنّه ليث المرادي- حيث إنّه دخل جنبا على أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- فقال له- على ما في بعض هذه الأخبار-: «يا أبا محمد أما تعلم أنّه لا ينبغي لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء».

و في آخر: «يا أبا بصير أما علمت أنّ بيوت الأنبياء، و أولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب».

و في الثالث: «يا أبا محمّد ما كان لك فيما كنت فيه شغل تدخل عليّ و أنت جنب» فقلت: ما عملته إلّا عمدا، قال: «أو لم تؤمن؟» قلت: بلى و لكن ليطمئن قلبي، و قال: «يا أبا محمّد قم فاغتسل» فقمت و اغتسلت و صرت إلى مجلسي و قلت عند ذلك إنّه إمام.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 705

و في الرابع: أنّ الإمام أحدّ النظر إليه و قال: «هكذا تدخل بيوت الأنبياء و أنت جنب» فقال: أعوذ باللّه من غضب اللّٰه و غضبك، و قال استغفر اللّٰه و لا أعود.

و الظاهر اتحاد الواقعة، ثمّ إنّه يمكن الخدشة في دلالة هذه الأخبار على الحرمة، خصوصا مع قوله في بعضها: «لا ينبغي» غاية الأمر استفادة الكراهة الشديدة من جهة بعض القرائن من إحداد النظر و الغضب و التوبيخ و لا دلالة في هذه على الحرمة، فإنّ صدور مثل ذلك من الإمام بالنسبة إلى أبي بصير الذي يكون بتلك المكانة من الجلالة يمكن أن يكون لأجل ارتكاب مكروه، و لا يلزم أن يكون لأجل الإقدام على الحرام.

ثمّ على فرض دلالتها على الحرمة و استظهارها

من مجموعها، كما يكون ظاهر قوله: «لا يدخلها الجنب» فإنّه نهي بصورة النفي، و هو أبلغ في إفادة التحريم من صيغة النهي، فحينئذ يمكن التفصيل في هذا الحكم بين الأشخاص في المشاهد، دون المساجد ففي المساجد يحرم المكث مطلقا، و أمّا في المشاهد فإذا كان قصد الشخص الاستفاضة من الإمام و الزيارة، يحرم عليه الدخول بحالة الجنابة، و أمّا إن لم يكن من قصده ذلك، مثل من كان منزله في بيت الإمام، و كان تردده في بيت الإمام لكونه منزله، فلا يحرم عليه المكث في حالة الجنابة، فعلى هذا يقال بمثل ذلك في حال مماتهم- عليهم السلام- فمن كان واردا على تلك الحرم المتبركة بل و على الصحن فضلا عن الرواق و الحرم بعنوان زيارة الإمام فيجب عليه الاغتسال لو كان جنبا، و أمّا لو لم يكن التردد بعنوان الورود على الإمام و الزيارة، بل كان لأجل ملاقاة شخص يكون في الحرم، أو كان من الخدام فكان تردّده لأجل الخدمة أو كان الغرض مجرّد التردد عن هذا المكان أو كان من الطلاب الساكنين في حجرات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 706

الصحن المقدّس، فكان تردده في الصحن لأجل تردده إلى حجرته، فلا بأس في ذلك لو كانوا جنبا.

[حكم التطهير إذا توقف على بذل مال]

«مسألة 12: إذا توقّف التطهير على بذل مال وجب، و هل يضمن من صار سببا للتنجّس وجهان: لا يخلو ثانيهما من قوّة».

لا إشكال في أنّ قضية وجوب الإزالة وجوب مقدماته أيضا، فلو كانت الإزالة متوقفة على بذل فيجب أيضا و لا يحسبه الباذل على عهدة غيره و لو من باشر التنجيس، فإنّ المفروض وجوب الإزالة عليه و على كلّ أحد من المكلفين من جميع المقدمات، فإذا بذل

المال فقد أدّى الواجب الكفائي الذي كان هو داخلا في أطرافه، فلا وجه لرجوعه في هذه الخسارة إلى غيره، و هذا واضح.

إنّما الكلام في أنّه لو كان في البلد أموال موقوفة على الخيرات العامة، أو على مصارف المسجد، فهل يجوز للمكلّف القادر على البذل من كيس نفسه أن يأخذ من هذه الأموال و يصرف في الإزالة و لم يبذل من كيس نفسه شيئا، أو لا يجوز ذلك و يتعين عليه أن يبذل من كيسه؟ المتعين هو الثاني، فإنّ البذل ليس مقدمة منحصرة لهذا الواجب، و إنّما هو أحد الأفراد للمقدمة، فالواجب إنّما يتوقّف على صرف المال من أيّ موضع كان و حصّل، و هذا المصرف يكون من الخيرات العامة فيكون مصرفا للمال الموقوف عليها، ألا ترى أنّه لو انحصر المال في هذا الموقوف جاز صرفه و كان صرفا في المحل.

و بالجملة، لا أظنّ الموقع للإشكال في الجواز، كيف و حفظ النفس أيضا واجب، و يجوز للمكلّف إذا كان الحفظ متوقفا على بذل المال أن لا يبذل من كيسه بل يأخذ الزكاة من غيره و يصرفه فيه بعنوان كونه من الصرف في سبيل اللّٰه الذي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 1، ص: 707

هو أحد مصارف الزكاة، و يؤدي الواجب الكفائي بذلك قطعا.

و بالجملة، المقدمة الوجودية للواجب المطلق لا انحصار لها بمحلّ دون محلّ، فيكفي حصولها من أيّ محلّ كان.

نعم لو قلنا بأنّ التكليف بالإزالة مختصّ بمن باشر التنجيس، أو أنّ التكليف أعمّ و لكن الخسارة المالية تستقرّ على المباشر للتنجيس، فلا يجوز حينئذ البذل من مال الوقف المذكور، و لكن الحق خلاف هذين المبنيين و كون المباشر و غيره على حدّ سواء إلّا في اختصاصه بالعمل المحرّم،

فإنّه عمل عملا حراما و صار هذا العمل الحرام موضوعا لتكليف جميع المكلّفين على سبيل الكفاية، و إذن فيكفي بذل المال من أين ما حصّل.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

الجزء الثاني

[المقدمة]

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف بريته و أكمل خليقته محمد و عترته المعصومين و اللعن على أعدائهم إلى يوم الدين

الكلام في الدماء الثلاثة

اشارة

أعني: الحيض، و الاستحاضة، و النفاس.

و يشبع الكلام فيها في فصول:

الفصل الأوّل في الحيض

اشارة

و هو دم خلقه اللّٰه تعالى في الرّحم لمصالح، و هو في الغالب أسود، أو أحمر، حار، غليظ، طريّ، يخرج بقوّة و حرقة. كما أنّ دم الاستحاضة بعكس ذلك.

و لا يخفى أنّ فائدة هذه العلائم و الصفات إنّما تظهر لمورد الاشتباه.

و حينئذ فيقال: كيف التوفيق بينها و بين الأصل المجمع عليه، الذي هو أنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 6

الأصل في الدماء أن تكون حيضا إلى أن يعلم خلافه، و هو الذي يعبّر عنه بقاعدة الإمكان، أعني: كل دم أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، فيقال عند الاشتباه:

يحكم بحيضية ما أمكن حيضيته، و إن لم يكن بهذه الصفات، بل و إن كان بصفات الاستحاضة، فمقتضى القاعدة هو أنّ الاعتبار في طريق التشخيص بالإمكان، و مقتضى أدلّة اعتبار الصفات كونها هي المرجع و الملاك عند الشك، و بينهما تعارض و تناف، و كذلك الحال في المرأة ذات العادة، فإنّ المرجع لها عند الشك و الاشتباه، هو عادتها، فيحكم بحيضيتها و إن لم تكن بهذه الصفات، و كانت بصفات الاستحاضة.

و بالجملة: فغير ذات العادة مرجعها قاعدة الإمكان و ذات العادة مرجعها عادتها. فلم يبق مورد للتميّز بالصفات.

و محصّل الدفع أن يقال: أمّا ذات العادة، فلا كلام في كون مرجعها عند الشك هو عادتها، بالتفصيل الذي في محله.

و أمّا غير ذات العادة، فليس مرجعها قاعدة الإمكان مطلقا، بل المتيقن من مورد القاعدة هو ما بعد الثلاثة أيام، و ذلك لأنّ لفظ الإمكان له إطلاقان: فتارة يطلق في مقابل اليقين، و أخرى في مقابل الامتناع، و حيث إنّ القاعدة لم يرد بها نص، فلا يمكن الرجوع في

تعيين مداليل ألفاظها إلى محاورات العرف، و أنّ المستفاد هو الإمكان الاحتمالي حتى تشمل ما قبل الثلاثة أيضا، أو أنّه الإمكان في مقابل الامتناع حتى تختص بما بعد الثلاثة، إذ لا يستقر الإمكان بهذا المعنى إلّا في ما بعدها، و أمّا في ما قبلها فيردّد الأمر بين الإمكان و الامتناع، لاحتمال انقطاع الدم فيما دون الثلاث، بل القاعدة معقد الإجماع فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 7

و لا شكّ أنّه الإمكان في مقابل الامتناع، فتختص بما بعد الثلاثة.

و حينئذ فالمبتدئة في اليوم أو اليومين ليست موردا لهذه القاعدة، و المفروض عدم ثبوت العادة لها.

و كذلك الحال في الدامية، أعني: المرأة التي يستمرّ بها الدم، حتى يتجاوز العشرة، و امتد إلى شهر أو شهرين مثلا، و لم تكن ذات عادة وقتية، فإنّه لا يمكنها الرجوع إلى قاعدة الإمكان، لكونها معارضة في كل قطعة بنفسها في القطعة الأخرى، و المفروض عدم ثبوت العادة أيضا، فيمكن في حقّ هاتين الرجوع إلى التميّز.

أمّا الأخيرة أعني: المستمرّة الدم غير ذات العادة، فهي المتيقن من مورد قاعدة التميّز، فإنّها مورد أكثر أدلتها، و إنّما الكلام في الأولى و هي المبتدئة في ما قبل الثلاثة، و دخولها تحت هذه القاعدة يحتاج إلى النظر في أدلّتها، و أنّه يستفاد منها العموم أو الإطلاق الشامل لها أو لا؟

فنقول: منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: «إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إنّ دم الاستحاضة بارد، و إنّ دم الحيض حارّ» «1» و هذا مطلق غير مقيّد بمورد خاص.

و منها: حسنة حفص بن البختري أو صحيحته قال: «دخلت على أبي عبد

اللّٰه- عليه السّلام- امرأة فسألته عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري أ حيض هو أو غيره؟ قال: فقال لها: إنّ دم الحيض حار عبيط، أسود له دفع و حرارة. و دم

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب الحيض، ص 537، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 8

الاستحاضة أصفر، بارد، فإذا كان للدم حرارة، و دفع، و سواد، فلتدع الصلاة.

قال: فخرجت و هي تقول: و اللّٰه أن لو كان امرأة ما زاد على هذا». «1»

و لا يخفى أنّ ظاهر الرواية، أنّ جواب الإمام في هذه الرواية ليس بيانا للتكليف التعبّدي في خصوص مورد السؤال الذي هو المستمرّة الدم، بل إنّما هو بيان لما هو علامة دم الحيض بقول مطلق، المشهودة عند جميع النسوان، و يؤيده أيضا قول السائلة: «و اللّٰه لو كان امرأة ما زاد على هذا» فإنّه مناسب لأن يكون الإمام منبّها لها، لما هي كانت تغفل عنها من علائم مطلق دم الحيض مع كونها عالمة بها بالتجربة.

و منها: مرسلة إسحاق بن جرير، قال: سألتني امرأة منّا أن أدخلها على أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت- إلى أن قال:- فقالت له: ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ قال: «إن كان أيام حيضها دون عشرة أيام، استظهرت بيوم واحد. ثمّ هي مستحاضة» قالت: فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر، و الشهرين، و الثلاثة، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: «تجلس أيام حيضها ثمّ تغتسل لكل صلاتين» قالت له: إنّ أيّام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة، و يتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال: «دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حارّ تجد

له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد»، قال: فالتفتت إلى مولاتها فقالت: أ ترينه كان امرأة؟! «2» و دلالته على الإطلاق أيضا بمثل ما تقدّم، و إن كان مورده المستمرة الدم

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب الحيض، ص 537، ح 2.

(2) المصدر نفسه: ص 537، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 9

التي يختلف عليها الحيض، و ليس لها عادة مستقرّة.

و حينئذ فيمكن بمقتضى إطلاقات هذه الأخبار [القول] بجريان قاعدة الرجوع إلى الصفات، في حقّ المبتدئة قبل مضي الثلاثة أيام أيضا، فيحكم بالحيضيّة مع وجدانها، و بالاستحاضة مع فقدانها و من جملة الشواهد القويّة على إعطاء الأخبار قاعدة كلية ما تقدم في رواية ابن البختري المتقدمة من قوله- عليه السّلام-: «إنّ دم الحيض، حارّ، عبيط، أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر، بارد. فإذا كان للدم، حرارة، و دفع و سواد، فلتدع الصلاة.».

وجه الشهادة: أنّ من المعلوم أن لون السواد، و صفة الحرارة، و الدفع، ليس لاستمرار الدم دخل في ثبوتها، و إنّما هي ثابت لذات دم الحيض في جميع أحوالها، و لا يعقل اختصاص دم الحيض بلون مخصوص، و حالة مخصوصة في حالة استمراره.

نعم يمكن اختصاص حكم هذه الصفات الغالبية بحالة الاستمرار بأن يكون اعتبار غلبتها و حجية هذه الغلبة مختصّا بصورة الاستمرار، و أمّا نفس تلك الصفات، فليست إلّا صفات غالبية موجودة في دم الحيض، و ليس قابلا للتعبد. و إذن فقوله: «دم الحيض حار عبيط إلخ» لا محيص عن حمله على مطلق دم الحيض، و لا شك أنّه مقدمة ممهّدة لتفريع قوله: «فإذا كان للدم حرارة إلخ» عليها، فلا محالة يكون هذا التفريع أيضا، مثل المتفرّع

عليه محمولا على مطلق دم الحيض.

فيكون الحاصل: أنّ هذه العلائم أمارات مجعولة لمعرفة دم الحيض في جميع الأحوال، من غير اختصاص لهذا الحكم بحالة دون حالة، و على هذا فيحكم في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 10

من شك في بلوغها، إذا كان الدم الخارج منها بصفات الحيض بالحيضيّة، فتكشف عن سبق البلوغ، كما لو علم بكون دمها حيضا، فإنّ الصفات أمارات تعبدية تقوم مقام العلم. هذا، و لكن لا يخفى أنّه لو كانت الأخبار بصدد إعطاء القاعدة، لزم تخصيص الأكثر فيها، فإنّ أكثر الموارد يكون هذه القاعدة غير معمولة، فانّ ذات العادة ترجع إلى عادتها و إن كانت بصفة الاستحاضة، فتكون العادة حاكمة على الصفات، و كذا الحال في المبتدئة بعد الثلاثة، لما تقدم من أنّ مرجعها قاعدة الإمكان، فهي تبني على الحيض و إن خلا الدم عن صفاته، بل و كذا الحال فيها بالنسبة إلى ما قبل الثلاثة، بناء على ما أيّده الأستاذ- دام ظله- و حكاه عن سيد مشايخه السيّد محمّد الأصفهاني- طاب مضجعه- من أنّ قاعدة الإمكان ليست بقاعدة تعبّدية كان مدركها الاخبار أو الإجماع، و إنّما مرجعها إلى أصل مسلّم مرتكز في الطبائع و النفوس، أعني: أصالة الصحّة. فإنّ دم الحيض دم صحيح يخرج من ذات المزاج الصحيح، و دم الاستحاضة دم فاسد يخرج من ذات مزاج فاسد، و مرتكز جميع النفوس في جميع الأعيان هو البناء على الصحّة، كما ترى في شراء البطيخ، و الرّقي، و الرمان، و أمثال ذلك مع عدم الاطّلاع على ما في جوفها، فإنّ ذلك ليس إلّا للبناء على الصحّة حتى يعلم الفساد و هذا وجه صحيح، و سائر الوجوه التي ذكروها في مدرك هذه

القاعدة، إمّا يرجع إلى هذا، و إمّا مخدوش.

و بالجملة: فعلى هذا فلا فرق في الحكم بالحيض في ما تراه المبتدئة، بين ما قبل الثلاثة، و ما بعدها لجريان البناء على الصحّة في كليهما، و إذن فلا يبقى لقاعدة التميز بالصفات مورد، سوى الامرأة الدامية غير ذات العادة، فلا محيص

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 11

عن حمل الكلام على كونه مسوقا لإعطاء الحكم، في خصوص موضوع الدامية غير ذات العادة، دون غيرها حتى لا يلزم التخصيص بالأكثر.

فتلخص عدم استفادة القاعدة الكلية منها، لا من جهة عدم الدلالة، و القصور في دلالتها، كما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بل الحق كما عرفت قوّة دلالة الأدلة على ذلك، بل لأجل صون الكلام عن التخصيص الكثير المستبشع فتبصر.

مسألة: لا إشكال في أنّ شرط الحيض: أن يكون قبل اليأس و بعد البلوغ

، و حدّ البلوغ تسع سنين، و حدّ اليأس في غير القرشية خمسون سنة، و فيها ستون سنة.

و القرشية: من انتسب إلى نضر بن كنانة، مثل الفاطمية، و الأموية، و التيمية، و العدية. و ألحق بها في هذا الحكم النبطية، و في تعيين موضوعها تأمّل و إشكال، و إن فسّرت بسكّان البطائح، أو الأباطح، في ما بين الكوفة و البصرة.

و كيف كان، فإن كان انتساب المرأة إلى نضر بن كنانة، أو إلى غيره معلوما فلا كلام، و إلّا فالأصل يقتضي عدم كونها قرشية، فإذا ثبت بالأصل عدم القرشية، حكم بكون دمها بعد الخمسين استحاضة، و لا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم كونها تميمية، و عدم كونها من بني مضر، و هكذا إلى آخر الطوائف غير قريش، فإنّ هذا الأصل غير جار لعدم ترتّب الأثر عليه، فإنّ الأثر أعني: عدم الحيض في ما بعد الخمسين إنّما هو لعدم القرشية، و

ليس لخصوصيات العناوين الخاصة الأخر دخل فيه أصلا، فلو فرض عدم تحقّق الانتساب إلى قريش، و لم يتحقق شي ء من النسب الآخر أيضا، كانت المرأة أيضا محكومة بكون حيضها إلى الخمسين و هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 12

واضح.

و إنّما الكلام في جريان الأصل الأوّل، أعني: أصالة عدم كون المرأة المشكوكة منسوبة إلى قريش، فإنّه يشكل ذلك بأنّ هذا الاستصحاب ليس له حالة سابقة، إذ لم يكن في شي ء من الأزمنة علم بحال المرأة، فإنّ الشك سار إلى أوّل أزمنة وجودها.

و أمّا عدم الانتساب الثابت قبل وجودها الذي هو السالبة بانتفاء الموضوع، فهو و إن كان معلوما قبل وجود المرأة، لكن استصحابه لا يثبت المدعى: من كون هذه المرأة الخاصة المشار إليها غير قرشية، إلّا على الأصل المثبت، فإنّ استصحاب عدم المحمول الثابت قبل وجود الموضوع إلى زمان وجوده، ثمّ حمل هذا السلب على الموضوع الموجود لا يكون إلّا مثبتا، مثل الماء الذي شكّ في كريته من أوّل زمان وجوده، فإنّ عدم الكرية المعلوم قبل زمان وجود الماء لو استصحب إلى زمان وجوده، فلا يثبت أنّ هذا الماء الموجود ليس بكر إلّا بالأصل المثبت.

و توضيح الجواب عن هذا الإشكال: أنّ السالبة يكون على نحوين مختلفين في العناية:

أحدهما: أن يرفع الحكم عن الموضوع المفروض الوجود، كما يقال: «زيد ليس بقائم» يعني أنّ زيدا الموجود ليس بقائم، و هذه حالها كالمثبتة، فكما أنّ المثبتة تحتاج إلى موضوع مفروض الوجود، حتى يوضع الحكم عليه، كذلك هذه تحتاج إلى موضوع كذلك حتى يرفع الحكم عنه.

و الثاني: أن يكون الموضوع هو الماهية المعراة عن الوجود و العدم، و ينفى ثبوت المحمول لهذا الموضوع، فلا محالة يكون أعم من وجود

الموضوع و من عدمه،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 13

و في الحقيقة يكون الموضوع هو النسبة بين المحمول و الماهية، فيقال: نسبة القيام إلى زيد، أعني: ماهية زيد الملاءمة مع وجوده و عدمه غير ثابتة، و هذا كما يصح مع وجود زيد يصح مع عدمه أيضا، و هذان على ما هو الحق يحتاجان إلى نوعين من العناية و ليس بينهما جامع. خلافا للأستاذ الخراساني، حيث ذهب إلى أنّهما مصداقان لمعنى واحد، و أنّ السالبة أبدا مستعملة في معنى واحد و كيف كان فعلى مختارة- طاب ثراه- يكون الاستصحاب في كل سالبة جاريا بلا لزوم إشكال، إذ لا يحتاج السالبة إلى موضوع موجود أصلا. و أمّا على مختارنا: فيختلف الحال في النوعين:

فإن كان موضوع الحكم من قبيل السالبة بالنحو الأوّل، فلا يجري الاستصحاب، لاحتياج هذا النوع إلى موضوع مفروض الوجود، و المفروض ثبوت الشك في جميع أزمنة وجوده، فلم يبق حالة سابقة معلومة، و ذلك كما في كرية الماء، فإنّ الكرية و عدمها اللّذين هما موضوعان للمطهرية و عدمها، إنّما اعتبرا في الأدلة محمولين على المياه الموجودة في الخارج، فكأنّه قيل: هذه المياه الموجودة في الدنيا أو المفروض وجودها فيها، إن كانت كرّا كانت مطهرة، و إن لم تكن كرا فليست بمطهرة. فلو شك في ماء أنّه هل كان في شي ء من أزمنة وجوده بقدر الكر، أو لا؟

لم يمكن إحراز عدم كريته بالاستصحاب لعدم الحالة السابقة.

و إن كان موضوع الحكم من قبيل السالبة بالنحو الثاني، كان الاستصحاب فيه بلا مانع لتحقق الحالة السابقة المعلومة فيه، لعدم حاجته إلى الموضوع المفروغ الوجود، و ذلك كما في هذا المقام، فإنّه لم يحمل حكم الحيضية إلى الستين و الخمسين

على النسوان الموجودات في الخارج، بل على الطبيعة المعرّاة عن الوجود و العدم،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 14

فكأنّه قيل: طبيعة المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة، إلّا أن تكون منتسبة إلى قريش، فجعل انتساب ماهية المرأة إلى قريش موضوعا للحيضية إلى الستين، و عدم تحقق هذا الانتساب موضوعا للحيضية إلى الخمسين، فإذا استصحب في الامرأة المشكوكة عدم تحقق الانتساب إلى قريش، كان الموضوع محرزا بالاستصحاب، فيترتب عليه حكمه.

و توضيح كون المقام من القبيل الثاني: أنّه قد يكون الموضوع، هو الموضوع و المحمول على نحو تقيّد الأوّل بالثاني، لا فرض كل منهما منفردا عن الآخر، كما لو قيل: إذا تحققت قضية «زيد قائم» فصلّ ركعتين، فحينئذ لا يمكن عند الشك في قيام زيد، مع العلم به سابقا أن يستصحب.

و قد يكون الموضوع هما على وجه التأليف، مثل أن يكون زيد مع قيامه جميعا موضوعا لوجوب الركعتين، فحينئذ بعد إحراز جزء واحد من الموضوع: و هو زيد، إمّا بالوجدان، أو بالأصل، يمكن إحراز جزئه الآخر، و هو قيام زيد بالأصل.

و حينئذ نقول: الموضوع لحكم التحيض إلى خمسين: هو المرأة، و رؤية الدم، و عدم الانتساب إلى قريش. و الموضوع للتحيّض إلى الستين: هو المرأة الخارجية، و دمها، و الانتساب إلى قريش.

فالجزء أن الأوّلان، أعني: المرأة الموجودة و رؤية الدم، كلاهما محرزان بالحس.

و الجزء الآخر و هو عدم الانتساب قد أحرز بالاستصحاب.

فإن قلت: القضية الموجودة في المقام إنّما هي هكذا: المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون قرشية، فلا بدّ أوّلا من إحراز أنّ فقرة «إلّا أن تكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 15

قرشية» ليست من قبيل «زيد قائم» بأن

يكون الموضوع فيه و هو المرأة مأخوذة بلحاظ الوجود الخارجي، و فهم هذا منه ثمّ التمسّك بالاستصحاب، و إلّا فإن استفيد من هذه الفقرة، أنّ الموضوع كون المرأة الخارجية قرشية، كما في «زيد قائم» فلا مجرى لهذا الاستصحاب، و الظاهر هو الثاني. فإنّ المرأة في صدر القضية، لا شبهة في أنّ المراد بها المرأة الموجودة في الخارج، و الضمير في «تكون» أيضا راجع إلى المرأة المذكورة في صدر القضية، فيكون الكلام في قوّة أن يقال: المرأة إن كانت قرشية تتحيّض إلى الستين، و إن لم تكن قرشية تتحيّض إلى الخمسين، و يكون مثل قوله: الماء إذا بلغ قدر كر إلخ. و على هذا فلا مساغ للاستصحاب.

قلت: فرق بين القضية المبتدئة و بين الواقعة موقع الاستثناء، يظهر هذا الفرق بمراجعة العرف، فتراهم يفرّقون بين ما لو قيل: المرأة إن كانت قرشية فكذا، و بين ما لو قيل: لا تكرم امرأة إلّا أن تكون قرشية، ففي الثاني ليس النظر إلّا إلى نفس القرشية، فكأنّه قيل: المانع من الحكم المذكور في المستثنى منه ليس إلّا القرشية، فنفس القرشية محطّ النظر دون كونها منتسبة إلى المرأة الموجودة، كما في القضية المبتدئة، فراجع وجدانك في أمثال هذا نحو «لا تكرم زيدا إلّا أن يكون ضيفا» أو «إلّا أن يكون عالما» و غير ذلك، حيث إن المفاد أنّه إلّا مع الضيفية، و إلّا مع وجود العلم فيه، و الحاصل أنّ المستثنى و إن كان في الصورة من قبيل مفاد كان الناقصة، لكن في اللب راجع إلى كان مفاد كان التامة. تأمل تعرف.

و إذن فيكون الاستصحاب في المقام جاريا و ليس هنا مثل باب الكرية، و وجه الفرق هو ما ذكرنا من

أنّ القضية هناك مبتدئة فلهذا يظهر منه مفاد كان الناقصة، و هنا مصدرة بأداة الاستثناء فلهذا يكون ظاهرا في مفاد كان التامة، و لو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 16

كان العكس: بأن كان القضية هناك هكذا: الماء ينفعل بالنجاسة إلّا أن يكون كرا. و هنا هكذا: المرأة إن كانت قرشية إلخ، كان الأمر بالعكس فتدبّر.

مسألة: لا إشكال في كون البلوغ شرطا في الحيض

فما تراه الصبية قبل بلوغها ليس بحيض، و هذا مدلول عليه بأخبار كثيرة، و لو خرج دم ممّن شك في بلوغها، فقيل: على فرض جمعه الصفات يحكم بالحيضيّة و يكشف عن سبق البلوغ، و لكنّه كما تقدّم، مبني على الفراغ عن أخذ القاعدة الكلية، من أخبار اعتبار الصفات و قد تقدّم الإشكال فيه. و إذن فيشكل الحال في هذه الصبية لأنّ الاستصحاب يقتضي عدم البلوغ، نعم لا إشكال في من شكّ في بلوغها حدّ اليأس، فإنّ الاستصحاب فيها موافق للحيضية.

مسألة: لا فرق في حكم القرشية و غيرها بين الحرّة و المملوكة

و حار المزاج و بارده، و أهل مكان و مكان. و هذا واضح.

مسألة: لا إشكال في اجتماع الحيض مع الإرضاع
اشارة

إنّما الإشكال في اجتماعه مع الحمل و عدمه، فإنّ فيه خلافا. و المشهور، و المحكي عن الصدوقين، و السيّد مدعيا عليه الإجماع في الناصريات، و العلامة في جملة من كتبه، و الشهيدين، و المحقّق الثاني، و جماعة من متأخري المتأخرين: هو الاجتماع، و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه. و عدم الاجتماع محكي عن الإسكافي، و المفيد، و الحلّي، و المحقق في الشرائع، و نسبه في النافع إلى أشهر الروايات. و كيف كان فالمهم التعرض لمدرك القولين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 17

أمّا ما تمسك به الأوّلون [: للاجتماع] فوجوه:
الأوّل: الاستصحاب

فإنّ المرأة قبل الحمل كانت بحيث تحيض في كل شهر، و الأصل بقاء هذه الحالة فيها بعد الحمل، و عدم ارتفاعها منها بسببه، فإنّ هذه الحالة أعني: التخلّق بالتحيض في كلّ شهر يعد حالة من حالات المرأة، و له حالة سابقة معلومة، و حالة لا حقة مشكوكة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، و هو استصحاب تعليقي موضوعه المرأة، و هو حاكم على الاستصحاب الفعلي، فإنّ الحامل التي ترى الدم، تشك في صيرورتها حائضا بذلك و عدمها، و لا شك أنّ الحالة السابقة فيها عدم التحيض.

و وجه الحكومة: أنّ الثاني مسبب عن الشك في الأوّل، فإنّ الشك في أنّ هذه صارت حائضا أو لا، مسبب عن الشك في أنّ الحمل أسقطها عن قابلية التحيض أو لا، فإذا أحرز بالأصل الأوّل، عدم حدوث حالة جديدة فيها بالحمل، و بقاؤها على ما كانت عليه قبله من التحيّض في كل شهر، كان الشك المسبّب عن هذا مرتفعا لا محالة، و لكن قد خدش في هذا الاستصحاب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته: بأنّه و إن كان يجدي لترتيب أحكام الحائض على المرأة:

من حرمة

الصلاة، و الصوم، و نحوهما من الأحكام التي موضوعها الحائض، و لكن لا يثبت بسببه كون هذا الدم حيضا فلا يترتب عليه أحكام دم الحيض: من نزح البئر عقيب وقوعه بالمقدار المعلوم، و عدم العفو عن قليله في الصلاة، و نحو ذلك ممّا كان موضوعه نفس دم الحيض.

و الحاصل: يوجب هذا الاستصحاب الحكم بأنّ هذه المرأة حائض، و لكنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 18

لا يوجب الحكم بأنّ دمه حيض، لأنّه بالنسبة إليه مثبت، فإنّه بعد الحكم بكون المرأة حائضا، و عدم خروج دم منها سوى هذا الدم بالوجدان يعلم بأنّ هذا الدم حيض.

و لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما هو ناش من جعل الموضوع في الاستصحاب هي المرأة، و لو جعلناه الدم سلم منه، بأن يقال: هذه المرأة كانت في السابق بحيث متى يخرج منها لادم في رأس كل شهر مثلا فدمه كان دم حيض، و الأصل بقاء ذلك فيها، ينتج أنّ الدم الخارج منها بعد الحمل في رأس كل شهر دم حيض. و لا يشكل بأنّ الدم الخارج في السابق غير هذا الدم فالموضوع متعدد، فإنّه ليس المقصود شخص الدم و إنّما هو جنسه.

فحال الدم هنا حال الغليان في العصير العنبي عند استصحاب كونه منجسا حال الزبيبية، فنقول: هذا في حال العنبية كان بحيث متى غلى كان غليانه منجسا، ففي حال الزبيبية أيضا يكون غليانه منجسا بالأصل، مع أنّ الغليان في الزبيب غيره في العنب. و الذي يسهل الأمر هو ما ذكرنا من أنّ المراد هو الجنس.

و كيف كان فحينئذ يثبت الحائضية للمرأة، و الحيضية للدم، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه بعد الحكم بأنّ هذا الدم دم حيض فخروجه

من المرأة محسوس، فتصير امرأة خرج منها دم الحيض. و لا نعني بالحائض إلّا هذا، فلا يحتاج الحكم بالحائضية بعد الحكم بالحيضية إلى واسطة، بخلاف العكس كما ذكرنا، و لعلّه- قدّس سرّه- أشار إلى هذا بقوله: فافهم.

الثاني: من الوجوه التي تمسّك بها للقول بالاجتماع، صدق الحيض لغة و عرفا

أمّا عرفا: فلأنّ العرف يحكم بأنّ الدم الخارج من الحامل بقانون العادة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 19

السابقة حيض، و ليس الحمل مانعا له عن هذا الحكم. و أمّا اللغة فلأنّ الحيض بحسبها إمّا سيلان الدم، أو الدم السائل، أو السيل المطلق، أو المقيد بكونه بقوة، على اختلاف التفاسير، و لا إشكال في أنّ الجميع صادق على ما تراه المرأة في حال الحمل بقوة.

و يحتمل قويا أن لا يكون الاستحاضة عند اللغة موضوعا على حدة غير الحيض، و إنّما أفردها عنه الشرع، و عليه فلا خفاء في صدق الحيض هنا لغة.

و الثالث: عمومات ترك الصلاة أيام أقرائها

و لكن هذه لا تفيد إلّا بعد إحراز كون ما بعد الحمل أيّام الأقراء، و هو أوّل الكلام، فالأولى جعل هذا من تتمة سابقه.

الرابع: الأخبار المستفيضة بل المتواترة

مثل صحيحة ابن سنان: أنّه سئل عن الحبلى ترى الدم أ تترك الصلاة؟ فقال: «نعم إنّ الحلبي ربّما قذفت بالدم». «1»

و نحوها موثقة أبي بصير، و صحيحة ابن الحجاج: عن الحبلى ترى الدم و هي حامل، كما كانت ترى قبل ذلك في كل شهر، هل تترك الصلاة؟ قال: «تترك الصلاة إذا دام» «2» و الظاهر أنّ المراد بدوامه عدم انقطاعه قبل ثلاثة أيّام.

و صحيحة ابن مسلم عن أحدهما- عليهما السلام-: عن الحبلى ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر؟ قال: «تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 576، ح 1.

(2) المصدر نفسه: ص 577، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 20

في حيضها، فإذا طهرت صلّت». «1»

و حسنة سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: جعلت فداك الحبلى ربّما طمثت؟ قال: «نعم، و ذلك أنّ الولد في بطن أمّة غذاؤه الدم، فربما كثر ففضل، فإذا فضل عنه دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة». «2»

قال الكليني: و في رواية أخرى: «فإذا كان كذلك تأخرت الولادة». «3»

و رواية رزيق: أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن امرأة حامل رأت الدم؟ قال: «تدع الصلاة» قلت: فإنّها رأت الدم و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض؟ قال: «تصلّي حتى يخرج رأس الصبيّ، فإذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة، و كلّ ما تركته من الصلاة في تلك الحال لوجع، أو لما فيه من الشدة و الجهد

قضته إذا خرجت من نفاسها»، قال: قلت:- جعلت فداك- و ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟ قال: «إنّ الحامل قذفت بدم الحيض، و هذه قذفت بدم المخاض، إلى أن يخرج بعض الولد فعند ذلك يصير دم النفاس، فيجب أن تدع في النفاس و الحيض، فأمّا ما لم يكن حيضا أو نفاسا فإنّما ذلك من فتق في الرحم». «4»

و صحيحة صفوان، عن أبي الحسن الرضا- عليه السّلام- عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيام، أو أربعة أيّام تصلّي؟ قال: «تمسك عن الصلاة». «5»

و مرسلة حريز، عن أبي جعفر، و أبي عبد اللّٰه- عليهما السلام-: في الحبلى ترى الدم؟

قال: «تدع الصلاة فإنّه ربّما بقي في الرحم الدم و لم يخرج، و تلك الهراقة». «6»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ص 579، ح 14.

(3)- المصدر نفسه: ص 579، ح 15.

(4)- المصدر نفسه: ص 580، ح 17.

(5)- المصدر نفسه: ص 577، ح 4.

(6)- المصدر نفسه: ص 578، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 21

و مضمرة سماعة، قال: سألته عن امرأة ترى الدم في الحبل؟ قال: «تقعد أيامها التي كانت تحيض، فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد، استظهرت بثلاثة أيام، ثمّ هي مستحاضة». «1» هذا ما ذكروه من الأخبار الدالة على الاجتماع، و هي كما ترى صريحة في ذلك.

و أمّا الوجوه التي تمسّك بها [: الآخرون] لعدم الاجتماع:
فمنها: أصالة عدم الحيض

و قد عرفت محكوميتها بأصالة بقاء التخلّق.

و منها: الإجماع

على صحّة طلاق الحامل، و عدم صحّة طلاق الحائض، ينتج أنّه ليس شي ء من الحامل بحائض، و فيه أنّه من الممكن أن يكون هذا تخصيصا في دليل عدم صحّة طلاق الحائض «2»، كما هو الحال في غير المدخولة، فإنّها أيضا كالحامل في كونها من اللواتي يصح طلاقهن في كل حال، مع أنّها تحيض بلا كلام، فكما يكون هذا الحكم فيه تخصيصا، فمن الممكن ذلك في المقام.

و منها: بعض الأخبار

مثل رواية السكوني، عن جعفر عن أبيه- صلوات اللّٰه عليهما- أنّه قال: «قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع الحبل، يعني أنّها إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة، إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة». «3»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 11.

(2)- المصدر نفسه: ج 15، ب 8، من أبواب مقدمات الطلاق، ص 276، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 579، ح 12.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 22

و دلالة هذه مبنية على كون التفسير المذكور، و هو قوله: «يعني أنّها إذا رأت إلخ» من الباقر- عليه السّلام-، و على فرضه فالجواب أنّ الرواية ضعيفة لا تكافئ الأدلة المتقدمة، مع إمكان الحمل على الغالب، فإنّ الحامل لا ترى الدم في الغالب، و في أوقات رؤيته أيضا ينقطع بعد قليل، فكون دمه متواليا إلى ثلاثة أيام في غاية الندرة.

و لو كان التفسير المذكور من السكوني فالأمر أسهل، فإنّا نقول: إنّ قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع الحبل»، قضية غالبيّة، و لا شك

في كون الغالب عدم اجتماع الحيض مع الحبل.

و منها: رواية مقرن المحكية عن علل الصدوق، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-:

أنّ سلمان- رضوان اللّٰه عليه- سألت عليا- عليه السّلام- عن رزق الولد في بطن أمّة؟ فقال: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالى حبس عليه الحيضة، فجعلها رزقه في بطن أمّة». «1»

و الجواب [أوّلا]: أنّه ليس بصدد بيان الحكم الشرعي، و ثانيا: لا دلالة له على أزيد من احتباس غالب دم الحيض في غالب الأوقات، فلا تنافي أن يزيد الدم على مقدار كفاف الولد أحيانا، فيقذفه الرحم، كما تدل عليه رواية سليمان بن خالد المتقدمة.

و منها: رواية حميد بن المثنى، عن أبي الحسن- عليه السّلام- عن الحبلى ترى الدفقة و الدفقتين من الدّم في الأيّام و في الشهر و الشهرين؟ قال: «تلك الهراقة، ليس تمسك هذه عن الصلاة» «2» و عدم دلالته واضح، فإنّ الحكم بعدم الإمساك

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 579، ح 13.

(2)- المصدر نفسه: ص 578، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 23

إنّما هو لأجل قلة الدم، و كونه في عرض الأيام، أو الشهر و الشهرين، دفقة واحدة أو دفقتين، كما يشعر بذلك أيضا قوله: «ليس تمسك هذه» فإنّه مشعر بالاختصاص و كون الحكم لأجل القلّة. و قد تقدم في موثقة أبي بصير و صحيحة ابن الحجاج تقييد الحكم بالحيضيّة بقوله: «إذا دام».

و منها: الأخبار المستفيضة بل المتواترة في استبراء السبايا بحيضة «1»

، و كذا الجواري المنتقلة ببيع أو غيره «2»، و الموطوءة بالزنا، و الأمة المحللة للغير، و في عدة المسترابة بالحمل.

و فيه أنّه يكفي في حكمة جعل هذا الحكم غلبة عدم اجتماع الحيض مع الحمل و هي مسلّمة، هذه أدلّة الطرفين، و قد عرفت أنّ

القوة و الترجيح، مع أدلة الاجتماع كما أنّه المشهور.

و هنا قولان آخران بالتفصيل جمعا بين أخبار الطرفين:
أحدهما: الفرق بين الحمل المستبين

فلا يجتمع مع الحيض، و بين غيره فيجتمع بل حصر هذا القائل الخلاف في هذا الأخير.

و التفصيل الآخر: الفرق بين ما تراه الحامل قبل العادة و في وقتها، و متأخرا عنها

بأقل من عشرين يوما، و بين ما تراه بعد العادة بعشرين يوما، ففي الأخير لا يكون حيضا، و في الباقي يكون حيضا.

و استشهد للقول الأوّل: بمصححة الصحاف قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14، ب 17، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 515، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ب 10، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 508، ح 1- 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 24

السّلام-: إنّ أمّ ولدي ترى الدم و هي حامل، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: فقال لي:

إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت ترى فيه الدم، من الشهر الذي كانت تقعد فيه، فإنّ ذلك ليس من الرّحم و لا من الطمث، فلتتوضأ و تحتشي بكرسف و تصلّي، و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر، فإنّه من الحيضة، فلتمسك عن الصلاة عدد أيّامها التي كانت تقعد في حيضها، فإن انقطع عنها الدم قبل ذلك فلتغتسل و لتصلّ» الخبر. «1»

و دلالته على هذا التفصيل غير واضحة، فإنّه و إن حملنا الفقرة الأولى الدالة على عدم حيضية المتأخر بعشرين يوما، على الحمل المستبين، بناء على أنّ المناط في الاستبانة التأخر عن العادة بهذا المقدار، و لكن الفقرة الأخيرة الدالة على حيضية ما ترى قبل الوقت و فيه مطلقة شاملة لحال الاستبانة أيضا.

و أمّا التفصيل الآخر، بين غير ذات العادة فدمه في أيّ وقت تراه حيض، و كذا ذات العادة بالنسبة إلى ما تراه قبل العادة بقليل أو

في العادة، و بين ذات العادة في ما تراه بعد العادة بعشرين يوما فليس بحيض. فهذه الرواية صريحة فيه، و هي بملاحظة اشتمالها على الحكم بعدم حيضية المتأخر بعشرين يوما، تكون مقيدة للمطلقات الحاكمة بالحيضية، من غير فرق بين المتأخر و غيره، إذ يكون معها من قبيل المطلق و المقيد المتنافيين.

نعم بعض روايات الجواز المتقدمة مقيدة بالعادة، و هي روايتا أبي بصير، و ابن الحجاج، و صحيحة ابن مسلم، و مضمرة سماعة فلا حظ. و لكنّها مع غيرها

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 577، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 25

و هي ستّ روايات أخر ليست من قبيل المطلق و المقيد المتنافيين، بل من المتوافقين المثبتين و لا يوجب حمل المطلقات على أنفسها، فإن كان مراد صاحب الحدائق بقوله: «و أخبار المسألة ما بين مطلق و مقيد و الواجب بمقتضى العادة المقررة، حمل مطلقها على مقيدها. انتهى». هو اخبار الجواز المتقدمة، فإشكال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عليه بأنّه ليس المقام مقام الحمل لعدم التنافي متوجّه، و إن كان مراده بالمقيد هذه المصححة باعتبار اشتمالها على الحكم المذكور كان كلامه صحيحا، و إشكال الشيخ عليه غير وارد.

و كيف كان فلا يشكل ما ذكرنا من حمل المطلقات على هذه المصححة: بأن كثرة المطلقات بحدّ تأبى عن التقييد، فانّ حمل المطلق على المقيد إنّما هو تابع لمساعدة العرف، و هي منتفية في ما إذا كانت المطلقات كثيرة، إذ حينئذ يبعد غاية البعد أن لا يكون القيد مذكورا فيها بكثرتها، مع كون أكثرها بمقام البيان، فيصير ذلك بمنزلة أن يكون في البين لفظ صريح في الإطلاق، و حينئذ فلا بدّ من العمل بالمطلق

و طرح المقيد، كما هو الحال في منع إرث الزوجة من العقار، حيث وردت مطلقات كثيرة دالة على المنع، و خبر واحد على التفصيل بين ذات الولد و غيرها.

فالحق كما قرر في بابه طرح هذا الخبر و العمل بالمطلقات، للقطع بأنّه لو كان قيد لما خلا عنه تلك الأخبار الكثيرة.

و الجواب: أنّ مطلقات مسألتنا ليست في الإطلاق بحيث تقاوم هذه المصححة، بل هي إلى التقييد أقرب منها إلى الإطلاق، و يتضح ذلك بملاحظة حال النسوان في الخارج، فإنّ الغالب فيهنّ ذات العادة المستقرة، و ذوات العادة منهن أيضا في الغالب لا يتخلف حيضهن عن عادتهنّ، فغير ذات العادة و ذات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 26

العادة التي تخلف حيضها عن عادتها كلاهما فرد نادر، فهذا سرّ أنّه يتبادر من المطلقات المقيد، و يشهد لفهم المقيد من هذه المطلقات: مضمرة سماعة، حيث ذكر السائل في كلامه المطلق، فإنّه سأل عن امرأة ترى الدم في الحبل، و هذا مطلق و الإمام- عليه السّلام- فهم منه ذات العادة التي ترى الدم في عادتها، و لهذا أجاب- عليه السّلام- بقوله: «تقعد أيامها التي كانت تحيض» و على هذا فليس تقييد في المطلقات، بل هي مقيدة بنفسها.

و حينئذ فأظنّ أنّ حمل الأخبار على هذه المصححة صاف عن شوب الإشكال، مضافا إلى كون نفس هذا التفصيل قريبا من الاعتبار أيضا، فإنّ العادة أمارة ضعيفة على عدم حيضية ما تأخر منها، و الحمل أيضا أمارة ضعيفة على عدم حيضية ما يجتمع معه، فالشارع قد ألغى هاتين في مورد انفرادهما، فلم يعتبر بالعادة في غير الحامل إذا رأت الدم بعد العادة مع شروط الحيض، و لا بالحمل إذا رأت الدم في العادة

أو قبلها أو بعدها بقليل، و لكن اعتبرهما معا في مورد الاجتماع، كما في الحامل عند تأخر الرؤية عن عادتها بعشرين، فجعل الأمارتين الضعيفتين في حال الانضمام أمارة معتبرة. هذا بحسب الدليل.

و أمّا بحسب القول فلم نعرف القول به من غير شيخ الطائفة- قدّس سرّه- في كتاب النهاية و كتابي الأخبار، مع أنّ النهاية مسوقة للجمع بين الأخبار دون ذكر الفتاوى، و حينئذ فلا يترك الاحتياط في المتأخر عن العادة بعشرين يوما، بالجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة، فإنّ عدم عمل الأصحاب بالرواية سبب للوهن السندي فيها، إمّا في أصل الصدور، و إمّا في جهة الصدور بأن يكون صادرة لتقية مثلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 27

ثمّ إنّه ربما يحكى من بعض، بعد فهم المنافاة و المعارضة بين أخبار طرفي المسألة، أعني: ما دل على جواز اجتماع الحيض و الحمل، و ما دلّ على أنّ اللّٰه تعالى لا يجعل الحيض مع الحبل، الجمع بينهما بحمل الأولى على ما يجمع الصفات، و الثانية على غيره بشهادة بعض الروايات:

مثل قوله- عليه السّلام- في رواية إسحاق بن عمار، عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم و اليومين؟ قال: «إن كان دما عبيطا فلا تصلّي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين». «1»

و رواية ابن مسلم عن الحبلى قد استبان حملها ترى ما ترى الحائض من الدم؟ قال: «تلك الهراقة من الدم، إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء» «2».

و الرضوي: «الحامل إذا رأت الدم في الحمل، كما كانت تراه تركت الصلاة، فإذا رأت أصفر لم تدع الصلاة».

و يمكن الجواب، أمّا عن الرواية الأولى: بأنّها ليست في

مقام التفصيل بين الجامع للصفات و غيره، بكون الأوّل حيضا واقعيا، و الثاني استحاضة واقعيا، بل لما كان رؤية الدم في الثالث غير معلوم، جعل المعيار قبل العلم بذلك هو الرجوع إلى الصفات، فإن انقطع الدم قبل الثلاثة، و قد تركت الصلاة لأجل وجود الصفات لزم عليها قضاؤها.

و يمكن حمل الروايتين الأخيرتين على ذلك، و لا أقل من إجمالهما بحيث

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 579، ح 16.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 28

تسقطان عن قابلية تقييد مطلقات الطرفين، هذا مضافا إلى أنّك عرفت عدم المنافاة بين الأخبار حتى تحتاج إلى الجمع.

مسألة: لو انصبّ الدم إلى فضاء الفرج فهل تصير المرأة بذلك حائضا أو لا؟

أعني: مطبق شفتيه بحيث كان ظهوره محتاجا إلى انفراج يسير في الرجلين، فهل تصير المرأة بذلك حائضا أو لا؟

مجمل الكلام: أنّه ليس للظاهر و الباطن في هذا الباب عنوان: بأن كان الحائض من خرج الدم من باطنه إلى ظاهره، حتى يحتاج إلى تعيين الحال في بعض المواضع، أنّه من الظاهر أو الباطن كما في باب التنجيس و التنجّس، حيث إنّه فرق بين ظاهر البدن و باطنه في التنجّس، فيقع الكلام في مثل مطبق الشفتين أنّه من الظاهر أو الباطن. و أمّا هنا فالموضوع هو المرأة التي خرج منها الدم أو ذات الدم، فالأولى الرجوع إلى العرف في صدق هذين العنوانين و عدمه، و لا يبعد أن يقال: إنّه إن انصبّ الدم في جوف الرحم، بحيث احتاج خروجه إلى إدخال قطنة أو إصبع فلا يصدق العنوانان، و أمّا إن وصل إلى ما بين شفتي الفرج و لم يتعدّ من ثقبته، بحيث كان إحساسه بالبصر محتاجا إلى انفراج ما بين الرجلين في الجملة، فهذه

يصدق عليها أنّها رأت الدم أو خرج منها الدم.

مسألة: اعلم أنّ لاشتباه الدم صورا
اشارة

الأولى: أن يشتبه دم الحيض بالاستحاضة:

بأن يعلم أنّه إمّا حيض أو استحاضة، إمّا بالعلم الوجداني، أو بالعلم الشرعي ..

ثمّ إنّ هنا سؤالا لم أجد في كلماتهم التعرض له، و هو أنّ القضية المشهورة في الأخبار أقل الحيض ثلاثة، و كذا قولهم: أكثره عشرة، هل هو حكم تعبّدي من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 29

الشارع في مورد الشك، بمعنى جعله هذين الحدين من علائم الحيض، و أماراته التي يستدل بها عليه شرعا عند الشك، فيكون ملغى مع العلم بالخلاف كما هو الحال في كل أمارة، يعني لو رأت دما أقل من الثلاثة أو أكثر من العشرة، و علمت من العلائم الخارجية بكونها دم حيض، يحكم عليها بأحكام الحائض، فالحكم المزبور نظير حكم الاستبراء للبول و المني، للحكم على الرطوبة المشتبهة بكونها بولا أو منيا معه و غيرهما لا معه، فلو علم اتّفاقا بعكس ذلك فلا إشكال في عدم الاعتبار بالاستبراء.

و بعبارة أخرى: هل يكون الحكم بعدم الأقلية من الثلاثة، و عدم الأكثرية من العشرة، نظير الحكم في الأخبار بكون الحيض أحمر حارا عبيطا، و نظير القاعدة المقررة: كلّ ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، حيث يعلم من مساقهما كونهما واردين لبيان الحال عند الاشتباه و التحيّر؟ أو أنّ الحكم المزبور ليس فيه تعبّد و تصرّف من الشرع، بل هو كشف و بيان لما هو الموضوع النفس الأمري لدم الحيض، فيكون مفاده أنّ دم الحيض لا يتخلّف عن الحدين أبدا، و ما كان متخلفا عنهما فهو واقعا غير دم الحيض؟ فلو كان أهل العرف يرونه حيضا مع التخلف، فهذا تخطئة من الشرع لهم، و بيان لفساد

نظرهم، و على هذا فيكون المتبع هاتين القاعدتين سواء صادفهما العلم بالحيضية، أو الشك، أو العلم بالخلاف؟

و الإنصاف: عدم دليل يعيّن أحد هذين الاحتمالين، و يوجب ظهور القضية فيه، إذ لا إشكال في أنّ الحيض أيضا موضوع من الموضوعات الخارجية، مثل البول، و المني، تعرفه النّساء كما تعرف البول و المني، و ليس موضوعا مستحدثا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 30

شرعيا مثل سائر الموضوعات الشرعية، حتى يقال: إنّ ظاهر الكلامين كونهما في مقام الجعل، بمعنى أنّ المقصود بهما أنّ الحيض الذي هو مجعول للشرع، يكون من مقوماته بحسب جعله هذان الحدّان، فإذا بطل هذا الاحتمال و قطع بخلافه، ينحصر الأمر في ما ذكرنا من الاحتمالين الأوّلين:

أحدهما: أن يكون كشفا للموضوع الواقعي، فيكون الحدّان من مقوّمات الحيضية بحسب نفس الأمر، و هذا الكلام تخطئة لنظر العرف حيث لا يراه محدودا بهما.

و الثاني: أن لا يكون الحدّان من مقوماته بل أمكن تخلّفه عنهما أيضا، و لكن المحدودية بهما كان هو الغالب، فاعتبر الشارع بهذه الغلبة و جعلها كاشفة تعبدية لمقام الشك، كما جعل سائر الصفات الغالبية لدم الحيض كواشف عنه لدى الشك، و لا يخفى عدم إمكان ترجيح أحد هذين المعنيين على الآخر، إذ لا مرجح لأحدهما.

[مطالب مرتبطة بمرسلة يونس]
اشارة

و هنا مطالب مرتبطة بالرواية، أعني: مرسلة يونس

أحدها: إنّ التعليل المذكور في صدرها للحكم بكون أدنى الطهر عشرة أيام، بقوله: و ذلك أنّ المرأة أوّل ما تحيض إلخ، كيف يرتبط بالمعلل

مع أنّ المذكور فيه ليس سوى الحكم بعدم زيادة الحيض على العشرة، و عدم نقصانه من الثلاثة على حسب اختلاف سنّ المرأة صغرا و كبرا، و من المعلوم أنّ الحكمين المذكورين، أعني: كون الحيض لا يزيد على العشرة و لا ينقص عن الثلاثة، لا يصلحان علّة لكون أدنى الطهر عشرة، إذ لا ملازمة بين الطرفين أصلا، لإمكان فرض قلّة الطهر من العشرة مع عدم زيادة الحيض على العشرة، و لو ضمّ إلى التعليل الحكم بأنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 31

الحيض في الشهر ليس إلّا مرة واحدة، فهو مع فساده لا يصحح العلّية، إذ هذا يناسب مع كون العشرين أدنى الطهر، و لو ضمّ إليه عدم زيادة الحيض في الشهر على المرتين، فهو مع فساده أيضا غير مصحح لإمكان أن تتحيّض في الشهر بأكثر الحيض مرتين، مع كون الطهر أقل من عشرة، كما لو رأت عشرة دما و خمسة بياضا و عشرة دما.

و بالجملة فالإنصاف: أنّ هذه الفقرة من الرواية مضطربة المتن، و لعلّه نشأ من نقل الراوي الرواية بالمعنى، أو كان بعد قوله: «أدنى الطهر عشرة» شي ء فسقط عن قلم الراوي، مثل: أنّ أدنى الحيض ثلاثة و أكثر عشرة، إذ حينئذ يلائم التعليل مع المعلل كما لا يخفى.

ثانيها: ذكر شيخنا المرتضى للفقرة الأخير من الرواية

و هي قوله- عليه السّلام-:

«و إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام، ثم انقطع الدم اغتسلت و صلّت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام، فذلك من الحيض» معنى آخر غير ما ذكرنا، يصير على هذا المعنى موافقا للمشهور القائلين بأنّ النقاء المتخلل بين عشرة الدم محكوم بالحيضية، و كون الطهر مطلقا ليس أقل من العشرة، و

هو أن يقال: إنّ قوله: «من يوم طهرت» قيد لقوله: «و لم يتم لها»، لا أنّه قيد للعشرة و بيان لمبدئها.

و محصل المعنى: أنّه إن كان رؤية الدم الثاني حين لم يتم عشرة أيّام بعد، يعني أنّ العشرة أيام من حين رؤية الدم الأوّل، لم يتحقق متمّمها من حين انقطاع الدم الأوّل إلى حين رؤية الدم الثاني.

و على هذا فيكون المقصود، الحكم بحيضية الدم الثاني إذا كان في عشرة الدم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 32

الأوّل، و نعلم ضمنا محكومية النقاء المتخلل بالحيضيّة من هذا التعبير أيضا، بخلاف ما حملنا عليه العبارة من كون المراد عدم مضي عشرة الطهر، بجعل مبدأ العشرة من حين انقطاع الدم الأوّل لا من حين رؤيته، إذ حينئذ لا يدل على حيضية النقاء، بل له ظهور أو صراحة في الحكم بعدم حيضية، فيكون دليلا على ما ذهب إليه صاحب الحدائق و بعض آخر: من كون النقاء المتخلل في عشرة الدم طهرا، مع كونه أقل من عشرة.

و لا يخفى أنّ المعنى الذي ذكره شيخنا و إن كان ليس بعيدا، إلّا أنّ العبارة المذكورة أظهر في ما ذكرنا: من كون المراد بالعشرة عشرة الطهر الملحوظ ابتداؤها من يوم الانقطاع.

ثالثها: قد استشكل في الجواهر على مضمون الرواية:

بأنّ ما اشتمله الفقرة الأخيرة منها من الحكم على المستمرة الدم، التي عادتها خمسة أيّام بجعل حيضها عشرة أيام، مخالف للقاعدة المسلّمة من كون المرجع لذات العادة إذا تجاوز بها الدم هو عادتها، فاللازم جعل الحيض في المثال: «خمسة» لا «عشرة» و هو كما ترى مبني على استظهار العادة من قوله- عليه السّلام-: «إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام» و هو في محل المنع، إذ لا يستفاد من هذه العبارة

أزيد من كون الحيض في هذه المرتبة خمسة، فكأنّه قيل: إذا حاضت المرأة خمسة أيام، كما يقال: مرض زيد و كان مرضه خمسة أيام، فإنّه مساوق مع قولك مرض زيد خمسة أيّام.

ثمّ لو قلنا بالتوالي في أقلّ الحيض، فلا إشكال أنّه من باب استظهاره من وقوع الثلاثة أيام ظرفا لما من شأنه الاستمرار، فإذا نسب الفعل الذي من شأنه ذلك إلى زمان، فالظاهر استيعابه تمام أجزاء هذا الزمان وجوده في كل جزء على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 33

الاتصال، فلو قيل: قعدت يوما، معناه القعود في تمام اليوم، و لا يكفي في صدقه القعود في ساعة منه، فكذا قولنا: حاضت المرأة ثلاثة أيّام ظاهر في استمرار حيضها في هذا الزمان، و لهذا يفهم أنّ الأيّام أيضا متوالية لا متفرقة حفظا للاستمرار، و إلّا فلا شبهة في أنّ نفس لفظة ثلاثة أيام، مطلقة قابلة للتوالي و التفرقة على حدّ سواء، و لا ظهور لها في خصوص شي ء منهما.

[في أنّ الحيض هل مثل الطهارة و الحدث، اسم للأمر الباطني أو أنّه اسم لنفس الدم أو سيلانه؟]

إذا عرفت ذلك، فحينئذ لا بدّ من التكلّم في أنّ الحيض هل مثل الطهارة و الحدث، اسم للأمر الباطني و المعنى القائم بنفس الزوجة، و خروج الدم كاشف عن ثبوت هذا المعنى في المرأة، كما أنّ الحدث أمر معنوي قائم بنفس الإنسان، و الأشياء المعهودة موجبات له و كواشف عن حدوثه؟ أو أنّه اسم لنفس الدم أو سيلانه؟

و تظهر الثمرة بين هذين في العشرة المتخلل فيها النقاء.

فعلى الأوّل يكون من المصاديق الواقعية للحيض، و يكون إطلاق الحيض في جميع العشرة على وجه الحقيقة.

و على الثاني يكون بحكم الحيض و من مصاديقه تعبدا لا واقعا: يعني أعطاه الشارع حكم الحيض مع عدم كونه منه واقعا، و يكون الإطلاق

على سبيل التجوّز.

و تظهر أيضا فيما إذا انقطع الدم عند تمام العادة، ثمّ عاد بعد ذلك قبل تمام العشرة، كما لو كان العادة خمسة أيام و انقطع الدم في آخر اليوم الخامس، و كان السادس و السابع بياضا، ثمّ رأت في الثامن الدم، فإنّ الاستصحاب على الوجهين يختلف حينئذ، فإنّ موضوعه على الثاني هو الدم أو سيلانه، و هو مفقود بالفرض في السادس و السابع، فلا يمكن استصحاب وجوده في الثامن، و على الأوّل هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 34

الحالة النفسانية القائمة بنفس المرأة، المحتمل بقاؤها و زوالها في السادس و السابع و الثامن، فيحكم ببقائها في الثلاثة بحكم الاستصحاب.

و تظهر الثمرة بين الوجهين أيضا في مسألة أخرى، و هي: أنّه على القول باعتبار التوالي في الثلاثة التي هي أقل الحيض، هل يعتبر استمرار الدم في جميع آنات الثلاثة كما عن المشهور؟ أو يكفي وجود الدم في كل يوم في الجملة كما عن بعض؟

و الحق: ابتناء المسألة على ما ذكرنا من الوجهين: و ذلك لأنّه لو كان الحيض عبارة عن الحالة النفسانية القائمة بنفس المرأة، الكاشف عنها رؤية الدم بالشروط المقررة، فالحقّ مع الثاني إذ الاستمرار المستفاد من وقوع الثلاثة ظرفا لأقل الحيض، لا ينتقض على هذا بواسطة عدم ظهور الدم في أكثر أجزاء الثلاثة، إذ المناط ليس هو استمرار خروج الدم، بل المعيار استمرار وجود هذه الحالة في المرأة، فيكفي في ذلك رؤية الدم في كل من الثلاثة دفعة واحدة، إذ يكون هذا أمارة على بقاء الحالة في نفس المرأة، فيكون الحيض نظير مرض كان من لوازمه الإغماء في كل يوم دفعة واحدة، إذ حينئذ و لو لم يكن نفس الإغماء دائميا،

لكن يحكم بدوام هذا المرض و استمراره، و يجعل عروض الإغماء، كاشفا عن وجوده، فكذلك هنا أيضا و إن لم يكن نفس الدّم دائميا، و لكنّه يستكشف بوجوده في كل يوم دفعة، بقاء حالة الحيض للمرأة في جميع أجزاء الثلاثة.

و أمّا إن قلنا: بأنّ الحيض عبارة عن نفس الدم السائل أو سيلانه، فلا محالة يعتبر الاستمرار حينئذ بالنسبة إلى نفس الدم، و حينئذ فليس معنى استمراره كون الدم سائلا من الفرج، بحيث لا ينقطع سيلانه في آن من آنات الثلاثة، فإنّ هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 35

أمر غير واقع في حقّ أحد من النسوان، بل المراد عدم تعطيل الرحم عن تقاطر ما قذفه من دم الحيض، و لا يضرّ في استمرار هذا المعنى تخلل الفترة اليسيرة، بمقدار خمس دقائق مثلا بين كل دفعتين، إذ لا بدّ أن يمضي هذا المقدار من الزمان، حتى يجتمع الدم بعد سقوط القطرة الأولى على منفذ الرحم يسيرا يسيرا، حتى يصير قطرة و يسقط، كما هو المشاهد في الثوب الذي يسيل منه الماء، بعد انقطاع سيلانه و حصول التقاطر منه، حيث يحصل هذا المقدار من الفصل بين قطرتيه، و لا يضر باستمرار تقاطره، و هذا ينطبق أيضا مع ما ذكره المشهور في تفسير الاستمرار، من كونها بحيث متى وضعت الكرسف، و صبرت هنيئة خرجت متلطخة، و لو بجزء يسير من الدم.

و الظاهر من الوجهين هو الثاني، بمعنى أنّ الحيض الظاهر كونه اسم عين، على خلاف الاستحاضة و العذرة و النفاس و القرحة، فإنّها أسماء معان و الدم يضاف إليها، و أمّا الحيض فهو نفس الدم. و لعلّه يمكن استفادة هذا من ملاحظة التعبيرات الواقعة في الأسئلة و الأجوبة

من الروايات، كما لو كان فيها التعبير بأنّ المرأة ترى الحيض، فإنّه ظاهر في كونه اسم نفس الدّم كما هو واضح.

[الكلام في كبريي المسألة و هما اعتبار التوالي في العشرة، و كذا المراد بالطهر هل هو جنس الطهر أو خصوص الطهر الفاصل بين الحيضتين؟]

هذا كلّه في الكبرى الأولى، أعني: أقل الحيض ثلاثة.

و أمّا الكبريان الأخريان، أعني: كون أكثر الحيض عشرة أيام، و كون أقل الطهر عشرة، فهما أيضا بإجمالهما موضع وفاق.

و إنّما الإشكال في الأولى منهما من حيث اعتبار التوالي في العشرة، أو كفاية العشرة الملتقطة من العشرتين أو العشرات، نظير ما مرّ من الكلام في أقل الحيض.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 36

و في الثانية من حيث إنّ المراد بالطهر هل هو جنس الطهر أو خصوص الطهر الفاصل بين الحيضتين؟ و الكلام الأوّل مبني على الثاني، إذ لو قلنا: بأنّ مطلق الطهر لا يمكن أن يكون أقل من العشرة، فلا محالة يكون العشرة التي هي أكثر الحيض مستمرة متوالية، و يكون أيام النقاء المتخللة بينها أقلّ من عشرة بحكم الحيض، و لا يكفي الالتقاط من جميع الشهر، لأنّ النقاء المتخلل إن كان بقدر أقل الطهر فطرفاه حيضتان بلا إشكال، و إن كان أقل منه لزم خلاف المفروض، إذ يلزم كون الطهر أقل من عشرة.

و إن قلنا: بأنّ المراد خصوص الطهر بين الحيضتين، و لا يضر أقلية الطهر المتخلل بين الحيضة الواحدة من العشرة، كان الالتقاط في عشرة الحيض جائزا بشرط أن لا يصل الطهر المتخلل إلى عشرة، و حينئذ فالمهم التعرّض لحال القاعدة الثانية.

فنقول: ليس على القول الأوّل فيها و هو كون المراد جنس الطهر دليل سوى ظهور هذه القضية، أعني: أقل الطهر عشرة أيام في كون المراد جنس الطهر. و على القول الآخر يلزم التقييد بما بين الحيضتين، و هو تقييد للإطلاق مع عدم قرينة

عليه في الكلام، و ظهور قولنا أكثر الحيض عشرة أيام في التوالي على نحو ما مرّ في أقلّ الحيض، مع اعتضاد هذين الظهورين بالشهرة العظيمة.

و أمّا القول الآخر و هو كون المراد خصوص الفاصل بين الحيضتين، فيدل عليه: ما تقدم في أقل الحيض من مرسلة يونس، بناء على ما اخترنا له من المعنى، و صحيحة ابن مسلم، و حسنته.

و هذه الثلاثة كافية لإفادة هذه المدعى، لقوة سند الجميع، و ظهور أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 37

صراحة دلالتها، بناء على أنّ المراد بالعشرة في الأخيرتين، التي حكم بكون الدم قبل تمامها من الحيضة الأولى، و بعده من حيضة أخرى مستقلة، هو عشرة الطهر لا عشرة الحيض، إذ على الثاني و إن كان الحكم بكون ما قبل تمامها من الدم من الحيضة الأولى صحيحا غير مناف لما ذكره المشهور، إلّا أنّه لا بدّ من تقييد الفقرة الثانية منه بما إذا تحقق الفصل بأقل الطهر بين الدمين و هو خلاف ظاهر الإطلاق، فيتعين الحمل على عشرة الطهر فيكون دالا على خلاف المشهور.

و الإنصاف: انعقاد الظهور لهما في هذا، بحيث يكون حملهما على الأوّل طرحا لهما لا عملا بهما.

ثمّ بعد وجود هذه الروايات الثلاث، لا يحتاج إلى التمسك لهذا القول بما لا دلالة له عليه، و هو أمران:

الأوّل: كون التقييد بما بين الحيضتين في جملة من معاقد الإجماع، فإنّه لا يدل على أنّ الطهر قسمان: ما يكون بين الحيضتين، و ما يكون بين الحيضة الواحدة، و أنّ الحكم بعدم الأقليّة من العشرة مختص بالأوّل، بل وجه التقييد أنّه لما لم يكن لجنس الطهر فرد عندهم غير هذا، نبّهوا على ذلك في ضمن الحكم المذكور، فكأنّه قيل:

الطهر عبارة

عمّا بين الحيضتين.

و الآخر: روايتا داود مولى أبي المغراء العجلي، و يونس بن يعقوب.

حيث حكم في الأولى: بأنّ المرأة تترك الصلاة متى رأت الدم، و تصلّي متى طهرت ما دام لم تنقض عادتها، و بعد انقضائها يكون الدم استحاضة.

و في الثانية: حكم بذلك إلى شهر، و بعد انقضائه تكون المرأة بمنزلة المستحاضة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 38

و لكن لا دلالة في الأولى، لاحتمال كون الحكم بإتيان العبادة في أيام النقاء من باب الاحتياط، و احتمال لحوقها ببقية الطهر، لا لأجل كونها طهرا حقيقيا. و لا في الثانية، و ذلك لأنّ الظاهر من مساق الرواية كونها حكما في موضوع المرأة المتحيرة التي لم تستقر لها عادة، و استمر بها الدم إلى شهر لكن في خصوص الشهر الأوّل، يعني أنّها في الشهر الأوّل الذي يستمر بها الدم لا بدّ أن تفعل هكذا، ثمّ إن حصلت لها هذه الحالة في الشهر الثاني أيضا، لحقها حينئذ ما تقرّر في حقّ المستمرة الدم، فالحكم بالصلاة في أيّام النقاء أيضا يكون من باب الاحتياط، بل يجب حمل الثانية على ذلك، و إلّا لزم كون الحيضة الواحدة أكثر من عشرة، أو كون الطهر بين الحيضتين أقل منها، كما لا يخفى على من لا حظ الرواية.

و بالجملة: لا دلالة للروايتين على هذا المدعى، لو لم يكن لهما الدلالة على الخلاف، و كذا لا حاجة بعد الروايات الثلاث المتقدمة، إلى الاحتجاج على الدعوى المذكورة، برواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه الواردة في عدّة الطلاق المفصّلة في ما إذا عجل بها الدم قبل الحيضة الثالثة، بين ما إذا كان قبل العشرة من الحيضة الثانية، و بين ما إذا كان بعدها بالحكم بكونه من

الحيضة الثانية في الأوّل، و من الحيضة الثالثة في الثاني، و دلالة هذه أيضا كما ترى تكون على حذو دلالة روايتي ابن مسلم المتقدمتين.

و لكن قد خدش شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في سندها، و ليس في سندها من يوجب الضعف سوى معلّى بن محمد، فإنّه قد اختلف أقوال أصحاب الرجال في حقّه.

فقال بعض: إنّه مضطرب الحديث و المذهب.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 39

و قال بعض: لم أطّلع على خبر يدل على اضطراب حديثه و مذهبه.

و عدّه بعض من مشايخ الإجازة.

و كيف كان: ففي الروايات الثلاث المتقدمة كفاية، و هي متقدمة على ظهور قولنا: أقل الطهر في إرادة الجنس. و قولنا: أكثر الحيض عشرة أيام في الاستمرار.

و على هذا فيشكل الحال في المسألة غاية الإشكال، إذ الموجود في أحد طرفيها عمل الأصحاب الخالي عن الرواية. و في الطرف الآخر الرواية الخالية عن العمل. فلا جرأة للفقيه في مخالفة الأوّل من جهة استبعاد أن لم تصل إليهم هذه الروايات، مع وضوح دلالتها، و قوّة سندها، فرفع يدهم عنها يوجب شيئا فيها، و لا في طرح الثاني بمجرّد هذا الاستبعاد، فلا محيص لغير القاطع بأحدهما من الاحتياط.

مسألة: العادة في الحيض: إمّا مفردة و إمّا مركّبة
اشارة

و المفردة أمّا وقتية، و إمّا عددية، و إمّا وقتية و عددية.

و المركّبة: مثل أن ترى في الشهر الأوّل ثلاثة من أوّله، و في الثاني أربعة من وسطه، و في الثالث خمسة من آخره. ثمّ رأت بهذا الترتيب في الدورة الثانية و الثالثة.

و فائدة تحقق العادة إنّما هي لمستمرة الدم، فلو كانت مسبوقة برؤية الدم في شهرين متماثلين في العدد، تجعل الحيض هذا العدد مخيرة بين جعله في الأوّل، أو الوسط، أو الآخر، أو في الوقت فترجع في العدد إلى

ما ترجع إليه المستمرة غير ذات العادة، فتجعله في هذا الوقت و لا تخيير لها، أو في الوقت و العدد فتكون ملزمة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 40

بأحدهما، و ليس لها أخذ الغير.

ثمّ العادة الوقتية قد تتحقق في أوّل الحيض، كما لو رأت مكررا و كان أوّل دمها في جميع المرات أوّل الشهر، و قد تتحقق في الوسط، كما لو كان وسط حيضها الحقيقي في جميع المرّات هو العاشر من الشهر، و قد تتحقق في الآخر، كما لو كان اختتام حيضها في الجميع في السادس، فيلزمها مراعاة الأوّلية، أو الوسطية، أو الآخرية عند الاستمرار.

ثمّ المهم في المقام، إنّما ملاحظة أنّه يمكن استفادة تمام هذه الأقسام من أدلّة العادة بمدلولها اللفظي، ثمّ بعد عدم إمكان الاستفادة من المدلول اللفظي إلّا في البعض، فهل يمكن استفادة البعض الآخر من جهة تنقيح المناط؟ فإن أمكن فهو، و إلّا فلا بدّ في تحقّق العادة من الرجوع إلى العادة العرفية المتوقفة على الرؤية، في قريب من عشرين مرّة متماثلة، إذ التخلّق و الاعتياد عند العرف لا يحصل بمجرد تماثل دفعتين، أو ثلاثة، أو أربعة بلا شبهة.

و الحاصل: أنّ المرجع، لا إشكال أنّه في حقّ المستمرة هو أيّام الحيض و القرء، بمقتضى القول النبوي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تحقّق لها عادة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» أعني: الأيام التي جرت خلق المرأة و عادتها بالرؤية فيها، و لا يتحقّق لها عند العرف أيام القرء، إلّا بعد تحقّق العادة على شي ء معين.

و بالجملة: لا إشكال في شمول الرواية ما إذا تحقّقت العادة العرفية، من دون فرق بين شي ء من الأقسام المتقدمة، فتكون المرأة ملزمة بالأخذ بما تحقّق العادة

فيه على نحو تحقّق العادة، و لا يجوز لها التخلّف بالنسبة إلى شي ء تحقّق العادة فيه، و يجوز بالنسبة إلى غيره، هذا، إلّا أنّ الإمام- عليه السّلام- صرّح في روايتين بتحقّق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 41

العادة في مرتين، و استدل بالنبوي و قال: إنّما اعتبرنا المرتين، لأنّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قال:

«أيام أقرائك» بصيغة الجمع، و لم يقل أيّام قرئك، فجعل- عليه السّلام- أقل الجمع اثنين، مع أنّه في اللغة ثلاثة على أقل الأقوال فيه.

و كيف كان فهاتان الروايتان لا إشكال في حجيتهما بالنسبة إلى موردهما، يعني ما دخل تحت مدلولهما اللفظي.

فنقول: تتحقق العادة بالنسبة إلى المورد بالرؤية مرتين متماثلتين، و يرفع اليد عن متفاهم العرف في النبوي، و هو العادة العرفية المتوقفة على أزيد من ذلك بواسطة النص الخاص، فيوضع حكم الإلزام بالأخذ بما توافق فيه المرّتان، على المرأة في خصوص المورد، فإنّه و إن لم تتحقّق العادة عند العرف بهذا القدر القليل، و لكنّها تتحقّق في نظر الشارع فهي معتادة بالعادة الشرعية، دون العرفية، و حينئذ فإن كان مورد الروايتين اللتين هما الدليل على العادة الشرعية، و الصارفة للنبوي عن العادة العرفية إلى الشرعية، بحيث يشمل جميع الأقسام المسطورة فنعم المطلوب، و كذلك لو كان خاصّا ببعضها و لكن أمكننا تنقيح المناط في البعض الآخر.

و يبقى الإشكال في ما لو كان خاصّا بالبعض، و لم ينقح المناط في البعض الخارج، إذ حينئذ لا وجه لإجراء العادة الشرعية إلى هذا البعض الخارج، فإنّ الدليل على التعبد بحصول العادة مرتين، المفروض كونه قاصرا عن شموله، و النبوي أيضا بحسب ما يتفاهم منه العرف، ليس المستفاد منه سوى العادة العرفية،

و تفسير الإمام تعبد لا بدّ أن يقتصر في مورده. و اذن ففي البعض المذكور لم يبق سوى القول باعتبار العادة العرفية، فإنّه الشي ء الذي يكون عليه دليل و غيره

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 42

بلا دليل، و حينئذ فلا بدّ من النظر إلى مدلول الروايتين، حتى يعلم أنّه كيف ما يكون كمّا و كيفا فأحدهما قوله- عليه السّلام- في مضمرة سماعة.: «فإذا اتفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها» «1».

فنقول: الاحتمالات في مدلول هذه القضية بحسب مقام الثبوت منحصرة في ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المراد هو الاستواء و التماثل المطلق: بأن يكون أيّام الحيض الأوّل، و أيّام الثاني متساويين و متماثلين في جميع الجهات، و هو: بأن يكون عددهما متحدا و وقتهما متحدا، فيحكم على هذا الاستواء بأنّه لو تحقّق بين مرّتين، كان العادة الشرعية متحققة، و كان المرأة محكومة بلزوم الأخذ بهذا الذي حصل لها العادة الشرعية فيه و هو العدد و الوقت، و على هذا فيكون مورد الرواية منحصرا في قسم واحد، و هو العادة الوقتية العددية، إمّا في خصوص المفردة أو مع المركبة، بناء على أنّ التوالي لا يفهم من لفظ الشهرين. و بعبارة أخرى، المناط يعلم أنّه ليس خصوص الشهرين المتواليين، بل المرتان و الحيضتان سواء كانتا متواليتين أم مفصولتين بحيضة مخالفة، و بالجملة فيبقى حينئذ سائر الأقسام من الوقتية المنفردة، و العددية المنفردة، سواء كانتا مفردتين أم مركبتين خارجة عن المدلول اللفظي، لقوله: «عدّة أيام سواء» لعدم تحقّق الاستواء من كل جهة فيها، فيبني الكلام على فهم الملاك و عدمه.

الثاني: أن يكون المراد الاستواء بين أيّام الحيضتين في الجملة، بحيث في أيّ جهة تحقّق الاستواء كان كافيا و موضوعا

لحكم لزوم الأخذ في هذه الجهة، فلو

______________________________

(1)- الوسائل: ب 7 من أبواب الحيض، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 43

حصل في العدد فقط كان لزوم الأخذ فيه فقط، و إن كان في الوقت فقط اختص لزوم الأخذ به، و إن كان في كليهما جرى اللزوم في كليهما، و على هذا فتشمل الرواية جميع الأقسام الثلاثة: من الوقتية، و العددية، و الوقتيّة العددية، إمّا في خصوص المفردة أو مع المركّبة على الكلام المتقدّم.

و الثالث: أن يكون المراد الاستواء في خصوص العدد، سواء تحقّق معه في الوقت أم لا، فموضوع الحكم و لزوم الأخذ حينئذ هو خصوص العدد، دونه مع الوقت عند تحقّقه، إذ هذا يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، بيان هذا الإجمال: انّ المفروض على هذا المعنى لحاظ المتكلّم للعدد بلحاظ التقييد و الدخل في الموضوع، و لحاظ الوقت على نحو الإطلاق، و معنى لحاظ الإطلاق أنّه وجودا و عدما على السواء، فلا يتفاوت الحكم لا بعدمه و لا بوجوده، فإذا قيل أعتق رقبة، فمعنى إطلاقه انّه لا فرق في حكم وجوب العتق، بين حالة الكفر، و حالة الإيمان، إلى غير ذلك من الحالات و الصفات، فالمتكلّم لم يلاحظ لوجود شي ء منها و لا لعدم شي ء منها دخلا، بل لم يفرق بين وجودها و عدمها.

و حينئذ فنقول: معنى كون المتكلّم ملاحظا لمعنى الاستواء في العدد على وجه الإطلاق بالنسبة إلى الوقت، انّه لم ير في حكمه في قوله «فتلك أيّامها» و وجوب الأخذ بها دخلا للمساواة الوقتية، و لا لعدمها، بل جعله بلا دخل في هذا الحكم، و لا شك في أنّ مجرّد هذا، أعنى: الجعل بلا دخل و التسوية بين الوجود و العدم،

لا يكفي للحكم بلزوم أخذ الوقت عند حصول التساوي فيه، إذ هو يحتاج إلى لحاظ التساوي الوقتي بلحاظ الدخلي و التقييدي، و لا يكفيه اللحاظ اللادخلي الإطلاقي، فإنّ الحكم هنا ليس مجرّد عدم التنافي، بل المقصود هو الحكم بلزوم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 44

الأخذ، و هو لا يتم إلّا بلحاظ الدخل، مثلا الحكم بأنّ الرقبة المؤمنة لو وجدت وجب عتقها متعيّنا، يحتاج إلى لحاظ وصف الايمان على وجه الدخلية، و هو مناف مع لحاظ الرقبة على وجه الإطلاق، فهنا أيضا قد علق حكم ملزمية المرأة على الأيام التي تحقّق فيها الاستواء العددي مطلقا، سواء كان وجد فيها الاستواء في الوقت أم لا، و هذا لا يفيد الملزمية، إلّا بالعدد، و لا يفيد الملزمية بالوقت أيضا عند انضمام الاستواء فيه، و إلّا لزم لحاظ الاستواء في الوقت على وجه الموضوعية و الدخل، و هو مخالف لما فرض من ملاحظته على وجه عدم الموضوعية و عدم الدخل.

و بالجملة فعلى هذا الوجه لا تشمل الرواية سوى العددية، و الوقتية العددية أيضا، من حيث العدد دون الوقت و دون الوقتية، فهذه الوجوه التي يمكن فرض ظهور اللفظ المذكور أعني قوله: «عدة أيّام متساوية» في كل منها، و قد عرفت أنّه على بعضها تختص بالعددية الوقتية، و على بعضها تشمل الجميع، و على الثالث تختصّ بالعددية، و ليس هنا وجه آخر يكون مفاد الرواية عليه اعتبار العددية و الوقتية العددية، من حيث العدد و الوقت معا. و قد حاول شيخنا المرتضى حمل الرواية على هذا، و أنت تعلم عدم استقامته على الوجهين الأوّلين. و أمّا على الوجه الأخير: بأن يؤخذ العدد على وجه القيدية و الوقت على وجه

الإطلاق، يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، كما بيّنا فاحفظ ذلك، فإنّه إشكال على شيخنا غير ممكن الذب، و أصله على ما نقله الأستاذ- دام ظله- من مجلس إفادة سيد الأساتيذ: الميرزا الشيرازي- قدّس اللّٰه نفسه الزكية. هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات و تعيين ما هو الأظهر من الوجوه الثلاثة: فالحق أنّه الوجه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 45

الأخير، و ذلك لأنّ إطلاق عدّة أيام متساوية صريح في العدد، و أمّا الوقت فيحتاج إلى تصريح و تقييد بقولنا في الوقت، و إذن فيبقى غير العددية خارجا عن مورد الرواية، و الإنصاف عدم إمكان تنقيح المناط فيها أيضا: بأن نعلم أنّ العادة عند الشارع في خصوص الوقت أيضا تكون بتساوي الحيضتين، كما علم بالدليل اللفظي في العدد، و إذن فلا محيص عن توقف حكم المرجعية، و لزوم الأخذ في الوقت على حصول العادة العرفية، المتوقفة على استواء الكرّات العديدة، و كذا في العادة المركبة، فإنّ الإنصاف خروجها أيضا عن مورد الرواية، و على هذا فيحصل التفكيك بين العادة المفردة العددية و سائر الأقسام، فالمعتبر في الأوّل هو الشرعية، و في الثاني هو العرفية، و لكن المتراءى من كلماتهم عدم الفرق بين الأقسام، في الحكم بتحقّق العادة في الجميع بالاستواء مرّتين.

ثمّ من الكلام في هذه الرواية يعلم الحال في الرواية الثانية، و هو قوله في مرسلة يونس الطويلة: «فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، و لا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأوّل حتى توالى عليه حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن انّ ذلك قد صار

لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه، و يكون سنّتها فيما تستقبل إن استحاضت قد صارت سنّة أن تجلس أقرائها، و إنّما جعل الوقت أن توالى عليه حيضتان أو ثلاث، لقوله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تعرف أيامها:

دعي الصلاة أيّام أقرائك، فعلمنا انّه لم يجعل القرء الواحد سنّة لها، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا». الخبر.

فإنّها أيضا لا تفيد سوى العادة العددية، لعدم تعرّضه للوقت بقرينة قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 46

«من سبع أو أكثر، فيكون المراد بقوله: «لوقته في الشهر» هو اليوم الذي تم فيه الدم كالخامس، أو السادس، أو الثامن، يعني كان انقطاع الدم في الشهر الثاني في زمان انقطاعه في الشهر الأوّل، فإن كان انقطاعه في الأوّل على سبعة أيام، كان في الثاني أيضا كذلك، و إن كان على خمسة في الأوّل فكذا في الثاني و هكذا، و يجري تمام الكلام في الرواية المتقدّمة هنا أيضا. فتدبر.

ثمّ إنّ المرسلة الشريفة لاشتمالها على فوائد كثيرة، ينبغي التيمّن هنا بذكرها بتمامها مع طولها اقتفاء بشيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

فنقول: روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس ابن عبد الرحمن، عن غير واحد، أنّهم سألوا أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الحائض و السنّة في وقته، فقال: «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم سنّ في الحيض ثلاث سنن، بين فيها كل مشكل لمن سمعها و فهمها حتى لم يدع لأحد فيه مقالا بالرأي، أمّا إحدى السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها، ثمّ استحاضت فاستمر بها الدم، و هي

في ذلك تعرف أيامها و مبلغ عددها، فإنّ امرأة يقال: لها فاطمة بنت أبي حبيش، استحاضت فاستمرّ بها الدّم فأتت أم سلمة- رضي اللّٰه عنها- فسألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم عن ذلك؟ فقال: تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها، و قال: إنّما هو عرق فأمرها أن تغتسل و تستثفر بثوب و تصلّي.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: هذه سنّة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في التي تعرف أيام أقرائها و لم تختلط عليها، ألا ترى أنّه لم يسألها كم يوم هي، و لم يقل: إذا زادت على كذا يوما فأنت مستحاضة، و إنّما سنّ لها أياما معلومة ما كانت لها من قليل أو كثير بعد أن تعرفها، و كذلك أفتى أبي- عليه السّلام- و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما ذلك عرق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 47

عاند أو ركضة من الشيطان فلتدع الصلاة أيام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضأ لكل صلاة قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: هذا تفسير حديث رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و هو موافق له، فهذه سنّة التي تعرف أيام أقرائها و لا وقت لها إلّا أيامها قلّت أو كثرت.

و أمّا سنّة التي كانت لها أيام متقدّمة، ثمّ اختلط عليها من طول الدم و زادت و نقصت، حتى أغفلت عددها و موضعها من الشهر، فانّ سنّتها غير ذلك، و ذلك أنّ فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالت: إنّي أستحاض و لا أطهر، فقال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و

سلم: ليس ذلك بحيض و إنّما هو عرق فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلّي، فكانت تغتسل في كل صلاة و كانت تجلس في مركن لأختها فكانت صفرة الدم تعلو الماء.

فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أما تسمع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أمر هذه بغير ما أمر به تلك، ألا تراه لم يقل لها: دعي الصلاة أيام أقرائك، و لكن قال لها: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي و صلّي، فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها، لم تعرف عددها و لا وقتها، ألا تسمعها تقول: إنّي أستحاض و لا أطهر. و كان أبي- عليه السّلام- يقول: إنّها استحيضت سبع سنين، ففي أقل من ذلك يكون الرّيبة و الاختلاط، فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره، و تغيّر لونه من السواد إلى غيره، و ذلك انّ دم الحيض أسود يعرف و لو كانت تعرف أيامها، ما احتاجت إلى معرفة لون الدم، لأنّ السنّة في الحيض أن يكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيضا كلّه، إن كان الدم أسود أو غير ذلك، فهذا يبين لك انّ قليل الدم و كثيره أيام الحيض حيض كلّه، إذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 48

كانت الأيام معلومة، فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم، و إدباره، و تغير لونه ثمّ تدع الصلاة على قدر ذلك، و لا أرى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قال: اجلسي كذا و كذا يوما فما زادت فأنت مستحاضة، كما لم تؤمر الأولى بذلك،

و كذلك أبي- عليه السّلام- أفتى في مثل هذا، و ذاك انّ امرأة من أهلنا استحاضت فسألت أبي عن ذلك؛ فقال: إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي و صلّي.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- فأرى جواب أبي- عليه السّلام- هنا غير جوابه في المستحاضة الأولى، ألا ترى أنّه قال: تدع الصلاة أيام أقرائها، لأنّه نظر إلى عدد الأيام و قال هاهنا: إذا رأيت الدم البحراني فلتدع الصلاة، و أمرها هنا أن تنظر إلى الدم إذا أقبل و إذا أدبر و تغيّر، و قوله البحراني شبه قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: إنّ دم الحيض يعرف، و إنّما سمّاه بحرانيا لكثرته و لونه. و هذا سنّة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في التي اختلط عليها أيّامها حتى لا تعرفها، و إنّما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيام و كثيره.

قال: و أمّا السنّة الثالثة فهي للتي ليس لها أيّام متقدّمة، و لم تر الدم قط، و رأت أوّل ما أدركت و استمر بها، فإنّ سنّة هذه غير سنّة الأولى و الثانية، و ذلك أنّ امرأة يقال لها حمنة بنت جحش أتت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالت: إنّي استحضت حيضة شديدة؟ فقال لها: احتشي كرسفا، فقالت: إنّه أشد من ذلك إنّي أثجه ثجا؟ فقال:

تلجّمي و تحيّضي في كل شهر في علم اللّٰه ستة أيّام أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما، أو أربعة و عشرين، و اغتسلي للفجر غسلا و أخرى الظهر و عجّلي العصر، و اغتسلي غسلا و أخرى المغرب و

عجّلي العشاء و اغتسلي غسلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 49

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: فأراه قد سنّ في هذه غير ما سنّ في الأولى و الثانية، و ذلك لأنّ أمرها مخالف لأمر هاتيك، ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا، أو أقل من ذلك ما قال لها: تحيّضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض، و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع، و كانت أيامها عشرا أو أكثر، لم يأمرها بالصلاة و هي حائض، ثمّ ممّا يزيد هذا بيانا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «تحيّضي»، و ليس يكون التحيّض إلّا للمرأة التي تريد أن تكلّف ما تعمل الحائض، إلا تراه لم يقل لها أياما معلومة تحيضي أيام حيضك، و ممّا يبيّن هذا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم. في علم اللّٰه، لأنّه قد كان لها و إن كانت الأشياء كلّها في علم اللّٰه و هذا بيّن واضح، إنّ هذه لم تكن لها أيّام قبل ذلك قطّ، و هذه سنّة التي استمر بها الدم أوّل ما تراه أقصى وقتها سبع، و أقصى طهرها ثلاث و عشرون حتى يصير لها أيام معلومة فتنتقل إليها.

فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث، لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهن، إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير، فهي على أيامها و خلقها الذي جرت عليه، ليس فيه عدد معلوم موقت غير أيامها، فإن اختلطت الأيام عليها و تقدّمت و تأخّرت و تغير عليها الدم ألوانا، فسنّتها إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته، و إن لم تكن لها أيّام

قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت فوقتها سبع، و طهرها ثلاث و عشرون، فإن استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقل من سبع أو أكثر من سبع، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، و لا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن، انقطع الدم لوقته في الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 50

علم الآن، انّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه، و تكون سنتها في ما تستقبل إن استحاضت فقد صارت سنّة ان تجلس أقرائها، و إنّما جعل الوقت ان توالى عليها حيضتان أو ثلاث، لقوله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تعرف أيامها: «دعي الصلاة أيّام أقرائك، فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام قرئك»، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا، و إذا اختلطت عليها أيّامها فزادت و نقصت، حتى لا تقف بها على حدّ و لا من الدّم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره و ليس لها سنّة غير هذا، لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم:

إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي، و لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: إنّ دم الحيض أسود يعرف، كقول أبي- عليه السّلام- إذا رأيت الدم البحراني فإن لم يكن الأمر كذلك و لكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد، و حالة واحدة فسنّتها السبع، و الثلاث و

العشرون، لأنّها قصّتها كقصّة حمنة حين قالت: إنّي أثجه ثجا». «1» انتهى الخبر.

قوله: «و السنّة في وقته» المراد بالسنّة ما كان مأخوذا من قول الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم، أو فعله، أو تقريره، أو واحد من نوابه- صلوات اللّٰه عليهم- في مقابل الفرض و هو ما كان مأخوذا من القرآن الكريم، لا أن يكون المراد بالسنّة المندوب في قبال الفرض بمعنى الواجب و قوله: «وقته» أي حيضه.

قوله- عليه السّلام-: «تعرف أيامها و مبلغ عددها» يعني كانت في ذلك الاستمرار عارفة بالوقت و العدد لحيضها معا، و كانت صاحبة عادة وقتية و عددية، و ليس قوله: «و مبلغ عددها» عطفا تفسيريا لقوله: «أيامها» حتى يكون المراد

______________________________

(1)- الفروع: ج 3، كتاب الحيض، ص 83، ح 1.

التهذيب: ج 2، باب 19، في الحيض و الاستحاضة و النفاس، ص 381، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 51

عرفان العدد فقط، و كونها صاحبة عادة عددية، فإنّ على ما ذكرنا على فرض كونه خلاف الظاهر شواهد من نفس الرواية، و من خارجها نذكر بعد ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

قوله- عليه السّلام- «فاطمة بنت أبي حبيش»- قال في مجمع البحرين: فاطمة بنت أبي حبيش- بمهملة و موحدة و معجمة مع التصغير، و اسمه قيس بن عبد المطلب- الأسدية صحابية.

قوله- عليه السّلام- «استحاضت» قد يطلق الاستحاضة في الاخبار في استمرار الدم و تجاوزه عن العشرة، دون ما كان في قبال الحيض، و الشاهد عليه تلك الرواية الشريفة.

قوله- عليه السّلام-: «فسألت» الضمير في سألت راجع إلى أم سلمة، و سلمة بفتح السين و اللام معا، كما يؤخذ من بعض كتب اللغة.

قوله- عليه السّلام-: «أو قدر حيضها» الظاهر أنّ الترديد

من الراوي.

ثمّ إنّ هذه الرواية بحسب ملاحظة صدرها في غاية الظهور و اتضاح الدلالة، على حصر سنن المستحاضة في الشقوق الثلاثة المذكورة فيها، بحيث إنّ الخارج عن هذه الشقوق معدوم، و ذلك لأنّه صرّح بأنّه قد بيّن كل مشكل في هذه الثلاثة، و لم يدع موضعا للمقال بالرأي بأن كان هنا مشكل لم يبيّن حكمه حتى يبقى فيه مجال للرأي، و إذن فالمهم ملاحظة تلك الشقوق و التكلّم في تعيينها بحسب الاستظهار من الرواية.

فنقول: ظاهر الشق الأوّل بحيث لا يكاد أن يتأمّل فيه هو صاحبة العادة الوقتية و العددية، و ذلك مضافا إلى شهادة غير موضع من الرواية عليه مثل قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 52

«و هي في ذلك تعرف أيامها و مبلغ عددها» و أمثاله، لأنّ الرواية جاعلة للمرجع للمرأة في القسم الأوّل إلى العادة ليس إلّا، و من جميع الجهات و الحيثيات. و جاعلة للمرجع لها في الشق الثاني بعد عدم الأوّل، هو التميّز ليس إلّا من جميع الجهات و الحيثيات، فتدل على أنّ المرأة التي تكليفها الرجوع إلى العادة، ليس تكليفها مطلقا الرجوع إلى الدم و بالعكس. و الحاصل: أنّ التميز ليس بمأخوذ مع العادة مطلقا، و هذا المعنى لا يستقيم إلّا: بأن يكون المراد بالمرأة في الشق الأوّل من تعرف أيامها وقتا و عددا، فإنّه لو كان الأعم منها، و من التي تعرف العدد فقط، أو الوقت فقط لما استقام هذا المعنى، إذ حينئذ لا مرجع للمرأة بالنسبة إلى الوقت في الأوّل، و العدد في الثاني سوى التميّز، فإنّ العادة في العدد إنّما تكون أمارة بالنسبة إلى إثبات القدر الخاص، و نفي الزائد، و الناقص، و لو مع وجود

التميّز على أحدهما، ففي هذه الجهة غاية الأمر ممانعة العادة عن التميز.

و أمّا بالنسبة إلى الوقت فلا معارضة لها معه، و أدلّة اعتبار الصفات بعمومها تشمله، و الإجماع أيضا قائم بذلك، أعني: على أنّ المرأة التي استقر عادتها على عدد معين في أوقات مختلفة، لو كان في دمها عند الاستمرار تميز تعيّن عليها جعل العدد المعين في أوقات التميز، و كذا بالنسبة إلى من استقر عادتها في الوقت المعين مع اختلاف العدد، فيتعين عليها اختيار العدد الذي وجد فيه التميز، دون الزائد و الناقص، هذا.

و الحال أنّا فرضنا أنّ الرواية تنادي: بأنّ من كانت من الشق الأوّل لا رجوع له إلى التميّز أصلا، و لا يجتمع مع الرجوع إلى العادة رجوع إلى التميز أصلا، فلو بني على عموم الشق الأوّل لذات العادة العددية، أو الوقتية ما تم هذا، فلا جرم لا بد من كون المراد به ذات العادة من حيث العدد و الوقت معا، و الحمل على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 53

الحكم الحيثيتي أيضا خلاف الظاهر: بأن يقال: إنّ المراد انّ من حصل له معرفة أيامها، فهي من حيث موضع هذا العرفان، لا رجوع له إلى التميّز، و لا منافاة لأن يكون له رجوع إليه من حيث آخر لا معرفة فيها، فانّ الظاهر أنّ المرأة في الشقّ الأوّل تعرف أيامها و لا تحتاج إلى صفات الدم أصلا، و لو بني على أنّ المراد بالمرأة في الشق الأوّل و إن كان ما ذكر، أعني: صاحبة العادة في الوقت و العدد، و لكن موضوع الشق الثاني و هو من يرجع إلى صفات الدم، هو فاقد كلتا العادتين أيضا، ففاقد كلتيهما إن كان واجدا للتميّز فهو

موضوع الشق الثاني، أعني: الرجوع إلى التميز، و إن كان فاقدا له فهو موضوع الثالث، أعني: الرجوع إلى الروايات. فتبقى صاحبة العادة في العدد فقط، و في الوقت فقط، سواء كانتا مع التميز أم بدونه خارجتين عن الشقوق الثلاثة، فلا تعرض لها في الرواية أصلا، فتعمل فيهما على القواعد: و هو الرجوع إلى العادة في مقدار العادة، و في غيره إلى التميز إن كان، و إلى الروايات إن لم يكن. فلا إشكال أنّ هذا يكون حينئذ عين المقال بالرأي. و مشكلا رابعا غير ما ذكر في الرواية، فإنّ الرواية ناطقة بانقسام المرأة إلى قسمين: الأوّل: من ينحصر مرجعه في العادة، و الثاني: من ينحصر في غيرها، ثمّ الثاني ينقسم إلى قسمين بحسب وجدان التميّز و عدمه، و على هذا يحدث في البين قسم رابع، و هو المرأة التي يكون المرجع لها العادة و التميّز معا، أو العادة و الروايات معا، فيصير هذا حكما غير مذكور في الرواية قد احتجنا في إثباته إلى المقال بالرأي، فكان اللازم تقسيم المرأة إلى خمسة أقسام، الثلاثة المذكورة، و الرابع، من تعرف عدد أيامها فقط دون وقتها، فهي تأخذ بعادتها في العدد و بالتميز في الوقت مع وجوده، و مع عدمه يتخير، و الخامس من تعرفها من حيث الوقت دون العدد، فتأخذ بالعادة في الوقت و بالتميز في العدد مع وجوده، و إلى الروايات مع عدمه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 54

و بالإجمال: الأمر في هذه الرواية يدور بين أمور ثلاثة:

[الأمر] الأوّل: أن يؤخذ بالحصر المستفاد من صدرها، و يحمل الحكم في الشق الأوّل، و الثاني على الحيثيتي:

بأن يقال: المرأة بالنسبة إلى ما تحقّق لها العادة فيه مأخوذة بالعادة، سواء

كان هو العدد فقط، أم الوقت فقط، أم هما معا، و بالنسبة إلى ما لا يتحقّق لها العادة فيه مأخوذة بالتميّز مع وجوده، و بالرواية في خصوص العدد مع عدمه. و لا يخفى انّه على هذا يستقيم الحصر مع دخول العادة في العدد فقط، و في الوقت فقط في الرواية، و قد عرفت أنّ هذا خلاف ظاهر الرواية، فإنّ ظاهرها الحكم الفعلي من جميع الجهات، و أنّ التي مرجعها العادة لا يكون التميّز مرجعا لها، و التي مرجعها التميّز لا تكون العادة مرجعا لها، و انّ مورد التميّز في صورة فقد العادة، و لا يحصل للمرأة حالة صارت معها موردا للعادة و التميّز معا، فتأمّل في الرواية بالتأمّل الصادق، حتى يظهر لك إن شاء اللّٰه تعالى حقيقة هذا.

و الأمر الثاني: أن نسلّم تعرّض الرواية للحكم الفعلي دون الحيثيتي و ظهورها في ترتب التميّز على العادة بحسب المورد، و لكن يقال بخروج صورة العادة الوقتية فقط، و العددية فقط عن مورد الرواية، ثمّ المشي فيهما على حسب القواعد، و هذا كما عرفت تصرّف في صدور الرواية و إغماض عنه، مع قوة دلالته على نفي الشق الرابع، بحيث يأبى عن التصرف، فيتعين حينئذ.

الأمر الثالث: و هو أن يبقى كلا الظهورين على ظهورهما بأن يقال: بحصر الأقسام في الثلاثة، مع كون الحكم في الشقين على نحو الترتب، من دون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 55

اجتماعهما في مورد و هو: بأن نحكم بدخول العادة الوقتية فقط و العددية فقط في الشق الثاني، و انّ المرأة لا تعتني مع وجود إحدى هاتين العادتين بها، بل تلاحظ أوصاف الدم فإن كان، كان هو المرجع له سواء طابق عادتها في العدد،

أو الوقت أم لا، و إن لم يكن فالمرجع لها الروايات من حيث العدد، و التخيير من حيث الوقت، فلا رجوع لها إلى عادتها الوقتية أو العددية بحال، و على هذا فموضوع الشق الثاني في الرواية، من ليس له العادة في الوقت و العدد معا، سواء كانتا معا منتفيتين أم انتفت إحداهما مع تحقّق الآخر، فالمراد عدم وجدان العادتين من حيث الجمع.

لكن يشكل على هذا: بأنّه يلزم أن تكون العادة الوقتية معتبرة في نظر الشارع، مع الانضمام بالعددية، و مع الانفراد فهو ملغى صرف كالمعدوم، و كذا العددية و هو مع غرابته و استبعاده مخالف في خصوص العددية، مع مضمرة سماعة المتقدمة الدالة على اعتبار العادة العددية في نظر الشرع مطلقا، سواء انضمت مع الوقتية أم لا.

و لكن يندفع الأوّل: بأنّه ليس من المستبعد في شي ء أن يكون تكرر الحيض مرتين، في العدد و الوقت معا معتبرا بنظر الشرع و أمارة، لأنّه بمنزلة أربع تكررات مرتان في العدد، و مرتان في الوقت، و أمّا التكرر مرتين في واحد منهما فقط، لم يكن له بنظره أمارية، فهذا أيضا نظير العدل الواحد، حيث إنّه بانفراده لا تكون أمارة شرعية و مع انضمام إلى مثله يكون، و يندفع الثاني: بأنّه بعد ما فهمنا ذلك من المرسلة حق الفهم، فالتصرف في المضمرة يكون سهلا، إذ دلالته على اعتبار الاستواء في العدد فقط ليست إلّا في أوّل درجة من الظهور، بحيث لا يقاوم مع مثل هذا الظهور الذي ذكرناه للمرسلة، فلا بدّ من رفع اليد عنه بقرينة المرسلة و حملها

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 56

على الاستواء من كل جهة، حتى ينطبق على الوقتية العددية معا، فيرتفع المنافاة من

البين.

ثمّ لا يخفى أنّ موضوع الكلام في المرسلة، إنّما هو في ما كانت المرأة متحيّرة بأن لا تكون في البين أمارة عرفية، لم يخطئها الشرع قائمة على تعيين التكليف بحيث لا يبقى معها التحيّر عرفا، إذ حينئذ تصير تحت الموضوع المشكل، و محتاجة إلى الرجوع إلى دار علم الرسول، و الأئمّة- صلوات اللّٰه عليهم- مثل فاطمة بنت أبي حبيش، و حينئذ فإذا حصل للمرأة إمّا في العدد فقط، و إمّا في الوقت فقط التكرر المحصل للعادة العرفية، مثل التكرّر في عشر سنين مثلا على نسق واحد، إمّا في العدد أو في الوقت، فهي بالنسبة إلى ما يحصل فيه هذا التكرر خارجة عن موضوع المتحيرة، لقيام الأمارة العرفية التي لم تعلم من الشرع تخطئتها على تعيين الحال.

نعم هي باقية في هذا الموضوع بالنسبة إلى ما لم يحصل فيه هذا التكرر، و حكمه مذكور في الرواية و هو الأخذ بالتميّز، فلا يشكل بأنّه ممّا ينقض به الحصر في الرواية، إذ هذه امرأة ترجع إلى العادة و التميّز معا، و المستفاد من الرواية نفي هذا القسم، فانّ الجواب أنّ هذا الحصر إنّما هو في موضوع المتحيرة المحتاجة إلى السؤال من الشرع، فالتفكيك بين العادة و التميّز بالأخذ بأحدهما في جهة، و بالآخر في أخرى غير متحقّق في هذا الموضوع، و المثال ليس على خلاف هذا، إذ يصدق مع ذلك انّ المتحيرة في الجهة التي هي متحيرة أبدا، إمّا مرجعها العادة فقط، و إمّا التميّز فقط، و لا يكون مرجعها في وقت هما معا، فتحصل من هذا انّ العديدة فقط، و الوقتية فقط لا تحصلان بالتكرر مرتين، مع حصولهما بالتكرر مرات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 57

عديدة تحصل

بها السجيّة و الطبيعة الثانوية.

إلّا أن يقال: إنّ المصرّح به في موضعين من كلمات شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- دعوى عدم القول بالفصل بين الحصول بأزيد من مرّتين، و بين الحصول بهما، فلا بدّ على هذا من القول بتحقّق الوقتية فقط و العددية فقط أيضا بالمرّتين، لعدم القول بالفصل، فيكون هذا قرينة على رفع اليد عن الحصر المستفاد من صدر الرواية.

و فيه مع أنّ هذا كما عرفت تصرف فاحش في الرواية مع إبائها عن مثله، انّه يظهر من شيخنا- قدّس سرّه- عدم جزمه بهذا الإجماع، ألا ترى أنّه بقي على التردّد و الإشكال في آخر كلامه، فلاحظ كلامه حتى يتبيّن لك الحال.

ثمّ لا فرق في حصول العادة بالمرتين، في ما قلنا بالتحقّق بالمرّتين فيه، وقتا كان أم عددا أم كليهما، بين تعدد الشهر الهلالي مرّتين و عدمه، فالمعيار على ما يستفاد من الرواية، إنّما هو توالي الحيضتين من دون مدخلية للشهر فيه، و التعبير به في المضمرة و المرسلة، إنّما هو لأجل انّ الغالب حصول التكرر فيهما، و إلّا فلو حصل التكرر في الحيض و القرء في الشهر الواحد تحقّق العادة، و ذلك انّ الإمام استشهد لاعتبار التعدّد بقول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، و منه يعلم أنّه ليس المعتبر في تحقّق العادة الشرعية، سوى التكرر في القراء الذي هو مسمّى الأقراء بصيغة الجمع، و على هذا فلو تكرّر العدد في شهر واحد مرتين متماثلتين، كأن رأت في أوّل العشر الأوّل من الشهر خمسة، و في أوّل العشر الثالث أيضا خمسة استقر لها العادة على الخمسة، فلو استمر بها الدم في الشهر الثاني كان حيضها خمسة، هذا في العدد،

و كذا يمكن تحصيل الوقت أيضا بالتكرر مرتين في الشهر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 58

الواحد، كما لو رأت مرتين في الشهر الواحد الدم في اليوم الحادي عشر من الطهر، و هو يحتاج إلى ثلاث حيضات بينها طهران متساويان، كما لو رأت أياما ثمّ طهرت عشرة أيام، فرأت من الحادي عشر إلى أيام ثمّ طهرت عشرة أيام، ثمّ رأت في الحادي عشر إلى أيام، ففي الدفعة الرابعة هي صاحبة عادة وقتية، بمعنى أنّ أوّل وقت حيضها كل حادي عشر من الطهر، و منه يعلم حصول العادة في الوقت و العدد معا، بالتكرر مرتين في شهر واحد، كما لو رأت في شهر واحد مرتين في الحادي عشر من طهرها إلى خمسة أيام، ثمّ انقطع، فلو استمر بها الدم في الشهر الثاني فهي تجعل أوّل الشهر خمسة أيام حيضا، و بعده عشرة أيام طهرا، و بعده خمسة أيام حيضا.

و هكذا الكلام في الأزيد من الشهرين الهلاليين، بمعنى أنّ تحقّق العادة في الوقت يتوقّف على مضي طهرين متساويين، المتوقّف على ثلاث حيضات حتى يتخلّل بينها طهران، و كان مقدارهما متساويا، كما لو كان خمسة و خمسين يوما فتصير المرأة ذات عادة بالتحيّض في رأس كل خمسة و خمسين يوما من الحيض السابق، و على هذا فلو رأت أوّل الشهر الأوّل خمسة و لم تر بقية الشهر، و لإتمام الشهر الثاني ثمّ رأت في أوّل الثالث خمسة، فلا تصير بمجرد ذلك صاحبة عادة وقتية، فلو استمر بها الدم في الرابع ليس سنتها جعل عدد الخمسة في الأوّل معينا، إذ لم تعتد بالرؤية في رأس كل شهر، لعدم اتّفاق توالي المرتين كذلك، لتخلّل الشهر الثاني بياضا في البين، و

لم تعتد أيضا بالرؤية في رأس كل خمسة و خمسين يوما، إذ لم يتكرّر عليها ذلك مرّتين، فيحتاج إلى مضي الشهر الثالث و الرابع، ثمّ رؤية الدم في أوّل الخامس حتى يحصل لها العادة على النحو الثاني، فيثمر لها لو استمر الدم في السادس.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 59

نعم ربما يقال: إنّ المتحقّق في حقّ هذه المرأة قبل مضي هذه المدة، و إن لم يكن الاعتياد بالتحيّض في رأس كل شهر، و لكنّها تعتاد بذلك بأنّه متى تحيض كان حيضها في أوّل الشهر، و لكن هذا لا يفيد في الحكم يكون هذا الدم المرئي في أوّل الشهر حيضا عند الاستمرار، كما هو المهم، و العادة بهذا النحو لا تنهض إلّا بعد إثبات أصل الحيضية كما هو واضح، فتدبر.

ثمّ من هنا يعلم إمكان تحقّق العادة الملفقة، مثل ما لو رأت في شهر ثلاثة و في شهر أربعة، ثمّ في الرابع ثلاثة و في الخامس أربعة، فيحصل لها العادة الملفقة من العددين، بمعنى انّها لو صارت في الشهر السادس دامية إلى أشهر عديدة، فهي تجعل حيضها في كل فرد ثلاثة، و في كل زوج أربعة، و الدليل على ذلك ما ذكرنا: من أنّه ليس المعتبر سوى تكرر القرء مرتين على نسق واحد، من دون لزوم كون ذلك في شهرين هلاليين، إذ حينئذ و إن كان لم يحصل التكرر مرتين على النهج الواحد في شهرين متواليين، و لكن حصل في الأزيد من الشهرين، أعني:

مدّة مائة و عشرين يوما، ففي هذه المدة يصدق انّه قد تكرر القرء مرتين متواليتين على نسق واحد، و لا يستفاد من قوله: «أيّام أقرائك» إلّا تكرر النسق الواحد في مرّتين متواليتين، و هنا

أيضا حصل هذا، فإنّ الدورة الثانية حصلت موافقة للدورة الأولى موالية لها، غير مفصولة بما يخل بالنظام. و بالجملة بعد إلغاء قيد الشهر الهلالي أظن أنّ هذا في غاية الوضوح.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا من أوّل الرواية إلى هنا، تحقّق العادة الوقتية و العددية معا بالتكرّر مرتين، و عدم تحقّق الوقتية فقط و العددية فقط بهما، و لا فرق في العددية الوقتية أيضا بين حصول مرتيها، في شهرين هلاليّين، أو أقل منهما،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 60

و أقلّه تسعة و عشرون يوما و لا بين المفردة بأن يكون قوامها بوقت واحد و عدد واحد، و الملفقة و هي ما تكون قوامها إمّا بوقتين و عدد واحد، أو بعددين و وقت واحد، أو بعددين و وقتين. فتدبر.

هذا كلّه هو الكلام في صاحبة العادة الوقتية و العددية، و الناسية لهما و المبتدئة، كما هي موضوعات الشقوق الثلاثة في الرواية.

فربما يقال إنّ هنا، مع قطع النظر عن صاحبتي العادة الوقتية و العددية، قسمين آخرين لم يذكر في الرواية حكمهما:

الأوّل: من تكرّر عليها الدم مرات عديدة و كانت في الجميع مختلفة و لم يستقر لها عادة، و هي المضطربة بالمعنى الأخص.

و الثاني: من استقر لها العادة ثمّ حصل لها النسيان لعادتها، من غير سبق اختلاط أيام يورث الإغفال و النسيان، فعلى هذا يلزم إهمال الرواية لحكم أربعة أقسام، مع ما تراها عليه من الدلالة القوية في غير موضع على الحصر، بحيث لا يكاد يصححه القول بانّ تخصيص الأقسام المذكورة في الرواية بالذكر، إنّما هو لأجل كونها غالب الأفراد و ندرة وجود غيرها، فإنّ المرأة إذا كانت معتادة فالغالب حصول الاعتياد في الوقت و العدد معا، و إذا كانت

على اختلاط و عدم العادة، فالغالب حصول الاختلاط و الاختلاف بالنسبة إلى كلا الأمرين.

ثمّ واجدة التميّز غير ذات العادة بالفعل أيضا الغالب كونها ذات أيام متقدمة، ثمّ اختلطت عليها بواسطة كثرة الدم و قلّته، و فاقدة التميّز غير ذات العادة بالفعل تكون في الغالب مبتدئة، فالأمر في كل من الشقوق الثلاثة مبني على غالب الأفراد مع إهمال الفرد النادر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 61

و لكنّك خبير بإباء الرواية عن هذا الحمل أشد الامتناع، و الذي ينبغي أن يقال: إنّ حكم جميع الأقسام المسطورة منحصر في السنن الثلاث، غاية الأمر عدم شمول موضوعاتها للجميع، لكن لنا قرينة تدل على ملغائيّة خصوصية الموضوعات، و هو قوله- عليه السّلام- في المرسلة الطويلة في ذيل كلامه الذي بمنزلة الملخص لما فصله أوّلا من السنن الثلاث: «فإن اختلطت عليها فزادت و نقصت حتى لا تقف بها على حد و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره، إلى أن قال: فإن لم يكن كذلك و لكن الدم أطبق عليها، فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها قصّة حمنة حين قالت: إنّي أثجه ثجا» فإنّ هذا الكلام في غاية الظهور في أنّ وجه الحكم في المبتدئة بالرجوع إلى الروايات كون دمها متحد اللون، فلذا لو كانت الناسة أيضا بهذه الحالة و القصّة كانت مرجعها أيضا الروايات، و يعلم منه بالمفهوم أنّ وجه الحكم في الناسية على وجه الإطلاق بالرجوع إلى التميّز، إنّما هو لكون لون دمها مختلفا، فلو كانت المبتدئة أيضا بهذه القصّة كان مرجعها أيضا هو التميّز.

فيعلم منها قاعدتان كلّيتان شاملتان لكل غير ذات عادة، من

غير فرق بين الناسية بقسميها المذكورين، و المبتدئة، و المضطربة.

الأولى: كلّما كان الدم مختلف اللون و واجدا للتميّز كان المرجع هو التميز.

و الثانية: كلّما كان الدم متحد اللون كان المرجع هو الروايات، و حينئذ فموضوعات الشقوق الثلاثة ذات العادة الفعلية من حيث العدد و الوقت، و واجدة التميّز و فاقدته، فيلزم ملغائية العادة في الوقت فقط، أو العدد فقط عند الشرع و عدم حصولها بمرتين، فتكون داخلة تحت أحد القسمين الأخيرين، أعني

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 62

واجدة التميّز و فاقدته.

ثمّ لو كان لنا دليل دلّ على رجوع المبتدئة إلى عادة أهلها أو أقرانها، لم يكن منافيا لهذه الرواية، إذا الدليل يكون حاكما عليها، و جاعلا لأيام الأهل و الأقران كأيام نفس المرأة، فمن كان لأهلها أو أقرانها أيام معلومة، و ليس لها أيام معلومة، فهي من أفراد من كانت لها أيّام معلومة الذي هو موضوع الشق الأوّل، و ليس من أفراد من ليس لها أيّام معلومة الذي هو موضوع الشقين الأخيرين، فلا منافاة في البين.

هذا غاية التوجيه للرواية و لكنّه بعد محل نظر و إشكال، فإنّه كما ترى طرح للعددية فقط و الوقتية فقط، و تحقّق الثانية و إن كان محلا للخلاف إلّا أنّ تحقّق الأولى الظاهر ثبوت الإجماع عليه، مع اعتضاده بظهور مضمرة سماعة

و كيف ما كان فهنا فروع
الأوّل: انّه لا إشكال في عدم تحقّق العادة العددية بتكرر الجامع

في ضمن العددين المختلفين، الأربعة في ما لو رأت في أحد الشهرين أربعة و في الآخر خمسة، و هي المسمّى بالعادة العددية الناقصة، و وجه ذلك أنّه أخذ بقرء واحد، و نص الرواية انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لم يجعل القرء الواحد سنّة، و إنّما سنّ الأقراء، فإنّ ظاهر تعدّد القرء مرتين

بعدد واحد، كون كل منهما بهذا العدد بشرط لا و هذا واضح.

الثاني: لو تعدّد أيام محكومية المرأة بالحيضية مرتين متماثلتين

و لم يكن مجموعها دما بل تخلّل فيها النقاء أيضا، بناء على أنّ النقاء المتخلّل في ضمن العشرة من الحيض تعبّدا، فله صورتان إمّا يتساوى أيام الدم و أيام النقاء معا،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 63

و إمّا أن تختلفا، فإن اختلفت كأن رأت في شهر أربعة دما، ثمّ واحدا نقاء، ثمّ ثلاثة دما، و في آخر ثلاثة دما، ثمّ اثنين نقاء، ثمّ ثلاثة دما، حيث إنّ عدد أيام محكوميتها بالحيضية و إن كانت في كليهما ثمانية، إلّا أنّ عدد أيّام الدم مختلف، فإنّه في الأوّل سبعة و في الثاني ستة، فالمستفاد من الأدلّة عدم تحقّق العادة أصلا، وجه ذلك أنّ دليل العادة منحصر كما عرفت في المضمرة و المرسلة المتقدمتين، و ظاهر كليهما كون العبرة بأيام الدم، فإنّ الحيضة اسم للدم مثل البول، دون الحالة القائمة بالمرأة الكاشف عنها الدم، و القرء أيضا اسم للدم، فلا يستفاد منهما سوى تساوي الدمين، و حينئذ لا بدّ من النظر إلى دليل إلحاق النقاء بالحيض و لا إشكال أنّه تنزيل، فلا بدّ أن يؤخذ به في القدر المتيقّن من الآثار، فإن ثبت التنزيل في تمام الآثار بأن كان النقاء مثل سيلان الدم حقيقة عند الشرع في الأحكام المخصوصة، و في تحقّق العادة كان العادة في المقام متحقّقة، فإنّ أيام الدم الحقيقي و إن كانت غير متساوية، و لكنّها مع الدم التنزيلي تصير متساوية، و أمّا إن لم يثبت التنزيل إلّا في الأحكام المخصوصة، فلا سبيل إلى تحقّق العادة في المقام كما هو واضح.

و لا يخفى أنّ دليل التنزيل على ما عرفته سابقا، ليس بأزيد من

الإجماع أو الشهرة العظيمة، فيكون لبيا و يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، و هو التنزيل في خصوص الأحكام المخصوصة: من ترك الصلاة و ترك اللبث في المساجد و أمثالهما.

و أمّا إن اتفقت أيّام الدم أيضا، كما لو رأت في الأوّل ثلاثة دما، ثمّ اثنين نقاء، ثمّ ثلاثة دما، و كذا رأت في الثاني فالمحكي في المسألة حينئذ أقوال ثلاثة:

الأوّل: أخذ العادة من مجموع أيّام الدم و النقاء، فتصير العادة في المثال ثمانية، و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 64

و الثاني: أخذها من مجموع أيام الدم بدون النقاء، فتكون العادة في المثال ستة، و هو الذي قوّاه صاحب العروة الوثقى- دام ظلّه.

و الثالث: أخذها من خصوص أيّام الدم المتصلة دون النقاء، و دون الأيام المنفصلة بالنقاء، فتكون العادة في المثال ثلاثة.

و الحق هنا أيضا اختيار قول رابع، و هو عدم حصول العادة رأسا، و يدل عليه- بعد ما ذكر من استفادة أيام الدم من دليلي العادة و قصور دليل تنزيل النقاء عن شمول جميع الآثار، فإنّ قضية ذلك نفي القول الأوّل و هو الأخذ من مجموع الدم و النقاء- أنّ المستفاد من الدليلين أمران آخران أيضا.

الأوّل: الاتصال و الاستمرار بين أيّام الدم، فكما ذكرنا سابقا انّ ظاهر قوله:

«أقل الحيض ثلاثة» استمرار الدم فيها، كذلك ظاهر قوله: «إذا اتفق شهران عدّة أيّام سواء» هو الاستمرار في تلك العدة أيام، و كذا ظاهر قوله: «إذا انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء» هو كونه مستمرّا إلى هذا الوقت، و سرّه ما تقدّم من أنّ نسبة الفعل الذي من شأنه الاستمرار إلى مقدار من الزمان، مثل مرض زيد ثلاثة أيام، ظاهرة في استمرار هذا الفعل

في جميع أجزاء هذا الزمان.

و بالجملة: الملازمة ثابتة بين فهم الاستمرار في المقامين، فلا يمكن التفكيك بينهما، و إذن فلا دليل على أخذ العادة من مجموع أيّام الدم المنفصلة كما هو القول الثاني.

و الثاني: كون انقطاع الدم في آخر زمانه انقطاعا لا عود له بعده عن قريب، فظاهر قوله: «إذا انقطع الدم لوقته» أن يكون انقطاعه بحيث لم يلحقه دم آخر محكوم بكونه من الحيض السابق، فعلى هذا لا يشمل الثلاثة المتصلة قبل أيّام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 65

النقاء في المثال، فإنّها و إن كانت أيّام دم متصلة، و لكن لم ينقطع عليها الدم بوجه لم يعد في جملة العشرة، فالقول الثالث أيضا على خلاف الدليل، فبقي القول بعدم حصول العادة رأسا متعيّنا.

الفرع الثالث: لا إشكال في أنّه بعد ما رأت مرّتين متماثلتين، لو رأت على خلافهما مرتين متماثلتين أيضا كان المرتان الأخيرتان معتبرتين

و تتغيّر العادة إليهما و تكون العادة الثانية ناسخة للأولى.

و الدليل على ذلك أنّ الظاهر من المرسلة، كون العبرة بالأيام التي لا فاصلة بينها و بين الاستمرار، و ذلك أنّه حكم فيها بأنّ من كانت ذات أيام معلومة فاستمر بها الدم فهي على أيامها، يعني على أيامها السابقة على الاستمرار المتصلة به، دون الأيام المعلومة الكائنة قبل هذه الأيام المعلومة لو كانت.

و إنّما الإشكال فيما لو رأت مرّة أو مرّتين مختلفتين على خلاف العادة الأولى، فالظاهر من كلماتهم الفرق بين المرّة و المرّتين، و بين المرّات العديدة على غير نسق واحد، فقالوا بزوال العادة في الثانية و كون المرأة ملحقة بالمضطربة، و عدم زوالها في المرة و المرتين، و وجه ما ذكروه تخيّل أنّ حكم الشارع بحصول العادة بالمرتين المتوافقتين تخطئة منه لنظر العرف، فلا بدّ من معاملة العادة الحقيقية معهما، بعد تنبيه الشرع على كونهما من أفرادها.

و لا يخفى

أنّ العادة الحقيقية في مورد حصولها عند العرف، لا تزول بالمرة الواحدة المخالفة، و لا بالمرتين المتخالفتين، بل يحتاج إلى مرات عديدة على خلافها، فيعامل هذا مع الفرد الذي نبّه عليه الشرع.

و بالجملة تخطئة الشرع لنظر العرف إنّما ثبتت في ما يثبت به العادة، دون ما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 66

يزيل العادة، فنظره في الثاني متّبع. هذا حاصل وجه ما ذكروه.

و أنت خبير بأنّ مبناه على فهم كون الحكم المذكور تخطئة، و معه لا محيص عن هذا الوجه، و لكن يمكن الخدشة في هذا المبنى و أنّه حكم تنزيلي، مع العلم بعدم تصرّف للشرع في الموضوع: أي نعلم أنّ موضوع العادة لا يتحقّق بالمرّتين حتى بعد حكم الشرع هذا. و لكن ألزمنا الشرع بترتيب آثار العادة عليه تعبّدا، فهذا من قبيل مواضع التنزيل، مثل قوله: «الطواف بالبيت صلاة» فإنّه ليس تخطئة للجزم معه بعدم كون الطواف صلاة، و مثل قوله لكثير الشك: «شكك علم و ليس بشك»، مع أنّه بحسب الوجدان يصح سلب اسم العلم عنه، و لا يصح سلب اسم الشك، و ليس هذا من قبيل مواضع التخطئة مثل البيع الربوي، حيث إنّ العرف زعموا أنّه ليس أكلا بالباطل، فنبّأهم الشرع بأنّه أكل بالباطل، أو أكل المارّة حيث زعم العرف أنّه أكل بالباطل، فنبّه الشرع أنّه غير أكل بالباطل، و ليس في هذه المواضع جزم و وجدان بعد حكم الشرع هذا، للعرف على خلافه، ففي هذه المواضع قد تصرّف الشرع في الموضوع و خطّأ نظر العرف على الخلاف، و العرف أيضا يدرك ذلك، و أمّا في المواضع التي يكون الجزم العرفي بعد حكم الشرع باقيا بحاله، فالعرف يدرك في مثل تلك المواضع

التنزيل.

فإذا ثبت كون الحكم هنا تنزيلا يلزم الاقتصار على القدر المتيقّن، و هو ما إذا لم يحدث مخالفة المرتين المتماثلتين أصلا حتى مرة واحدة، إذ عند حصول ذلك يحتمل كونه ناقضا عند الشرع لهذا الحكم التعبّدي، كما يحتمل أن لا ينتقض بالمرّات العديدة المتخالفة.

و بالجملة بعد قصور دليل التنزيل عن شمول صورة الخروج عن النظام،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 67

و لو في ضمن مرة واحدة يرجع إلى نظر العرف، و أنّهم يرون المرأة داخلة في موضوع من لها أيّام معلومة، أو في موضوع من ليس لها أيّام معلومة، و على أيّ حال فيحكم عليها بحكم هذا الموضوع، فإنّ نظرهم إنّما يكون ملغى في مقدار شمول دليل التنزيل، و أمّا في غيره يكون متبعا، و لا إشكال في أنّهم حاكمون في المرأة المسطورة بكونها ممّن ليس لها أيّام معلومة، فيحكم عليها بعد ذلك بحكم العمومات المتكفّلة لموضوع من ليس لها أيّام معلومة، مثل المرسلة فيكون مرجعها التميّز أو الروايات.

الفرع الرابع: لا إشكال في أنّه لو علّق الحكم في الدليل على عنوان واقعي، بدون أخذ العلم به في الموضوع لا طريقا و لا موضوعا

فكما في صورة إحراز هذا العنوان بالقطع يترتّب عليه حكمه، فكذا عند إحرازه بأمارة شرعية أو أصل شرعي، و حينئذ فعنوان تساوي الشهرين و اتّفاقهما، الذي وقع موضوعا في الدليل لحكم أخذ العادة و تحقّقها، و كذا عنوان انقطاع الدم لوقته من الشهر الأوّل، كما وقع في الدليل الآخر لو أحرز بالقطع لا إشكال في ترتب حكمه و هو ثبوت العادة الشرعية، و كذا يقوم مقام القطع به قيام أمارة شرعية عليه أو أصل شرعي، كما لو أحرز حيضية خمسة أيام من أوّل الشهر الأوّل، و كذا من الثاني بمساعدة قاعدة الإمكان، فإنّ تلك القاعدة سواء كان مبناها الغلبة أو أصالة الصحّة، تكون من جملة الأمارات

و لها الكاشفية عن الحيضية الواقعية، و معنى الأمارية أن يكون مع قطع النظر عن حكم الشرع في البين شي ء آخر، له غلبة المطابقة مع الواقع و الكاشفية عنه و كان حكم الشارع على طبقه، كما أنّ المراد بالأصل جعل الحكم في موضوع الشاك، مع عدم وجود كاشف غالبي في البين كان الحكم على طبقه،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 68

و إذن فالقاعدة و الصفات في موضع اعتبارها كالمستمرة تكونان من الأمارات، إذ لهما الكاشفية النوعية الغالبية عن الحيض الواقعي، ألا ترى تعبير الإمام في مقام اعتبار الصفات بقوله: «دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حار، عبيط، يخرج بحرقة و دفع، و أسود يعرف» و ألا ترى مقالة بعض النسوان عقيب استماع هذا الكلام، فليس اعتبارها إلّا من أجل غلبة مطابقتها، و غلبة حكايتها عن الحيضية، و هذا بخلاف الأخذ بالروايات عند مرجعيتها، كما في فاقدة التميّز غير ذات العادة، فإنّ الحكم فيها ليس لأجل أمارية غالبية لشي ء، بل هو مجرّد تعبّد من الشرع مجعول في موضوع الامرأة الشاكة المتحيّرة، و لهذا قد عبّر الإمام في هذا المقام بقوله: «تحيضي في كل شهر في علم اللّٰه سبعة أو ستة» و ليس المراد بالتحيّض هو الحيض الواقعي، و إنّما هو التعبّد في الظاهر بأحكامه.

فإن قلت: قد ذكرت عدم الفرق بين إحراز موضوع الحكم، إذا كان نفس الواقع بدون مدخلية العلم كما في المقام، بالقطع و بالأمارة المعتبرة، و بين إحرازه بالأصل العملي، فكما لو علمت المرأة وجدانا بحيضية الدم في الخمسة الأولى من شهرين، صارت ذات عادة في الثالث، و كذا لو كانت الخمسة الأولى من الشهرين محكومة بالحيضية، بحكم قاعدة الإمكان و أماريتها يتحقّق

أيضا لها العادة في الثالث، و كذا لو استمر بها الدم و كانت غير معتادة فكان مرجعها التميّز، و كان التميّز مع الخمسة الأولى و بقيت على حالة الاستمرار إلى الشهر الثاني و فيه مع وجدان التميز في الخمسة الأولى، فإنّها لو بقيت على الاستمرار أشهرا عديدة بعد مضي الشهرين بالوصف المذكور، كان تكليفها الأخذ بالخمسة الأولى في كلّ من بقية الشهور، و إن كان على خلافها التميّز، فكذلك الحال في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 69

الأصل العملي، فلو كان قضية أصل حيضية الخمسة الأولى من الشهرين ترتب حكم الاعتياد بناء على ما ذكرت، فالأخذ بالروايات داخل في قسم الأصل، فلا وجه لمئونة الفرق بينه و بين القاعدة و الصفات بعد اتحاد الثمرة.

قلت: بل الثمرة ظاهرة، و هي أنّ مجرى الأمارة لو لم يكن بنفسه موضوعا للحكم، و كان له لازم عقلي كان هو الموضوع له، يحكم بعد جريانها بثبوت هذا اللازم ثمّ يترتب أثره، و هذا بخلاف الأصل فإنّه لا يفي بذلك لما حقّق في الأصول:

من عدم حجية الأصل المثبت و المقام من هذا القبيل، فانّ ما هو المجرى أوّلا و بالذات للأمارة أو الأصل، هو حيضية هذا اليوم و هذا و هذا إلى ستة أيام مثلا في كلّ من الشهرين، و ما هو موضوع لثبوت العادة الشرعية عنوان ثالث منتزع من هذا، و هو عنوان اتّفاق الشهرين و تساوي الدمين، فإنّ لازم حيضية هذا و هذا إلى خمسة أيّام في الشهر الأوّل، و كذا في الثاني عقلا هو الاتّفاق بين الشهرين و التساوي بين الدمين، فلهذا تكون القاعدة و الصفات معتبرتين في المقام، دون الروايات.

نعم لو فرض وجود أصل عملي كان مجراه

نفس عنوان الاتّفاق بدون واسطة كان جاريا و معتبرا، و لكن الظاهر أنّه لا أصل بهذا الوصف.

ثمّ ربّما يستبعد في أخذ العادة من التميّز: بأنّه يلزم فيما لو كان التميّز في غير الشهرين الأوّلين على خلاف هذه العادة، تقدّم العادة المأخوذة من التميّز على التميّز، و هو زيادة الفرع على الأصل، و لكنّه مجرّد استبعاد لا يعبأ به في مقابل ما تقدّم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 70

مسألة [أن الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض و في أيام الطهر طهر]

هنا قاعدتان كلّيتان مستفادتان من الأخبار:

الأوّل: انّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض.

و الأخرى: أنّهما في أيّام الطهر طهر.

و لا يخفى أنّ ظاهرها ثبوت العادة الطهرية كالحيضية، فلو حصل للمرأة كرارا عديدة يوجب التخلّق و الاعتياد العرفي، رؤية الحيض في خمسة في رأس الشهر، ثمّ البياض في خمسة و عشرين يوما، فهي عرفا امرأة تعرف أيّام حيضها و هي خمسة أيّام من أوّل كل شهر، و أيّام طهرها و هي خمسة و عشرون بعد تلك الخمسة.

فمقتضى القاعدتين في حقّ هذه المرأة، أنّها كلّما رأت صفرة أو كدرة في الخمسة الأولى تحكم بالحيضية، و كلّما رأتهما بعد الخمسة و في الخمسة و العشرين بعدها تحكم بكونهما استحاضة، لأنّها رأتهما في أيّام طهرها، فالقاعدة الأولى لا مخالفة فيها الشي ء، و أمّا الثانية فهي مخالفة لأمرين التزم بهما الكل أو الجل.

أحدهما: و هو المسلّم قطعا، أنّه لو رأت ذات العادة بعد انقضاء أيام عادتها، و مع فصل أقل الطهر دما و استمر إلى ثلاثة أيام، سواء كان أحمر أم أصفر، فهو حيض مستقل و ليس باستحاضة، فالحكم بالحيضية في هذا الدم بعد استقرار الثلاثة ليس محلا للكلام، و إن كان في أوّل رؤيته خلاف جار في المبتدئة، و القاعدة

في صورة اصفرار الدم ناطقة بعدم الحيضية حتى بعد استقرار الثلاثة.

و الثاني: انّ المرأة ذات العادة التي نقصت عادتها عن عشرة أيام، لو تعدّى الدم عن أيّام عادتها فهي تستظهر، و تحتاط باعمال عمل الحيض على اختلاف في مقدار أيّام الاستظهار حسب اختلاف الروايات، ثمّ بعد تلك الأيام إن بقي من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 71

العشرة شي ء فهي تعمل عمل المستحاضة، فإن تجاوز الدم عن العشرة انكشف كون جميع الدم المتجاوز عن العادة استحاضة، و إن انقطع على العشرة أو ما دونها، انكشف حيضية جميع المتجاوز عن أيّام العادة إلى العشرة أو ما دونها، و هذا كما ترى مخالف مع مقتضى القاعدة من وجهين:

الأوّل: من حيث الحكم بالاستظهار، فالمرأة المتقدمة في المثال المتقدّم، لو رأت بعد انقضاء الخمسة التي هي أيّام طمثها صفرة قبل انقضاء العشرة، فمقتضى القاعدة هو الحكم بالاستحاضية و الطهرية من أوّل الأمر. و مقتضى ما ذكر لزوم الانتظار و التربّص مدّة الاستظهار.

و الثاني: من حيث الحكم بحيضية الدم المتجاوز عن العادة، عند الانقطاع على العشرة أو ما دونها، كما لو رأت المرأة المفروضة بعد خمستها خمسة أخرى متصلة صفرة، ثمّ انقطع الصفرة على العاشر، فالخمسة الأخيرة بمقتضى القاعدة لكونها أيّام الطهر محكومة بالطهرية، و بمقتضى ما ذكر محكومة بالحيضية.

ثمّ ربّما توجه القاعدتان لأجل ارتفاع هذه المخالفات عن البين، و تفسّر أيّام الحيض بأيّام إمكانه، و أيّام الطهر بأيّام امتناع الحيض و وجوب الطهر، و معه لا إشكال في ارتفاع جميع المخالفات الثلاثة من البين كما هو واضح، و لكنّه حمل للفظ على خلاف ظاهره، فإنّ الظاهر من أيّام الحيض، و أيّام الطهر، هي الأيام التي اعتادت المرأة برؤية الدم

فيها أو لعدم رؤيته فيها و هو أيضا واضح، فإذن لا يمكن الجمع بين ظاهر القاعدتين مع ما ذكروه في المقامات الثلاثة. هذا.

و لكن الإنصاف أنّ من لاحظ الأخبار المذكورة في الوسائل، في باب أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض، و في أيّام الطهر طهر، و هي كما ذكره

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 72

شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مستفيضة، لا يرتاب في أنّ المراد فيها بالصفرة و الكدرة في أيّام الطهر، ليس هو حدوث الصفرة في أيّام الطهر في أيّ موضع منها كان، بل المراد بقاء الدم الذي رأته المرأة في أيّام حيضها، و امتداده إلى ما بعد انقضاء أيّامها، و رؤية الصفرة أو الكدرة في هذه الأيام اللاحقة المتصلة بأيّام عادتها، فهذه الصفرة و الكدرة بخصوصهما هما المراد في تلك الأخبار بالصفرة و الكدرة في أيّام الطهر.

و لا يخفى أنه حينئذ يرتفع مخالفتها من الحيثية الأولى مع ما ذكروه: و هو الحكم بحيضية الدم أو الصفرة الحادثين بعد انقضاء العادة و فصل أقلّ الطهر، فإنّها على هذا ليست بمتعرّضة لحدوث الصفرة في أيّام الطهر، بل أيّام الطهر ظرف لنقائها، و لا لأيام الطهر المنفصلة عن العادة بأقل الطهر، بل لخصوص ما كان متصلا بها. و لا بأس بالتيمّن بذكر بعض هذه الأخبار مع الإشارة إلى وجه استظهار ذلك منها.

فنقول: منها صحيحة ابن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1»

فإنّ تعقيب قوله: «و إن رأت الصفرة» لقوله «حتى تنقضي أيامها» له ظهور في كونه في مقام بيان ما

بعد الانقضاء، يعني يكون الحال في الصفرة التي تراها المرأة ما دام عدم انقضاء عدد أيامها، هو البناء على حيضيتها، فهنا موضع استدراك لأنّ الحال فيها بعد انقضاء عدد هذه الأيام، لو رأتها بعدها ما ذا فحينئذ

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 4، من أبواب الحيض، ص 540، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 73

تعرض الرواية لحكم هذه الصورة، و قال: «و إن رأت في غير أيامها» فالمراد ليس هو الغير المطلق، بل خصوص ما كان متصلا بأيام العادة ممّا يتوهم كون الدم المرئي فيه من الحيضة السابقة، و هذا كما ترى مختص بصورة تجاوز الدم عن أيام العادة بعد رؤيته فيها، و ليس صورة حدوث الصفرة في غير أيام العادة محلا لتعرض الرواية.

و منها: قوله- عليه السّلام- في مرسلة يونس القصيرة: و كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض. و كلّ ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض «1».

وجه الاستظهار في هذا ظهور كلمة «بعد» في البعدية المتّصلة، ألا ترى أنّه لو قيل أجيئك بعد المباحثة أو بعد الظهر، فظاهره هو الزمان المتصل بهما عرفا، و ظاهره أيضا بيان حكم ما إذا رأت الصفرة في أيام العادة، ثمّ رأتها في الأيام التي بعدها متصلا بها.

و أظهر من هذا رواية إسماعيل الجعفي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيام عادتها لم تصل، و إن كانت صفرة بعد انقضاء أيام قرئها صلّت. «2»

و أظهر من الجميع المحكي عن قرب الإسناد، عن عبد اللّٰه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر- صلوات اللّٰه عليهما- قال:

«سألته عن

المرأة ترى الصفرة أيام طمثها كيف تصنع؟ قال: تترك لذلك الصلاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 4، من أبواب الحيض، ص 540، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 540، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 74

بعدد أيامها التي كانت تقعد في طمثها، ثمّ تغتسل و تصلّي. فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها، يجزيها الوضوء عند كل صلاة و تصلّي» «1».

و هذه الأخبار يفسّر بعضها بعضا فإنّ الظاهر اتحاد السياق في الجميع، فلو فرض إجمال في بعضها فالأخير شارح له و رافع لإجماله، و على هذا فهذه الأخبار متحدة السياق مع عدّة أخبار أخر، تدل على لزوم الاغتسال عقيب انقضاء العادة بلا فصل.

مثل رواية يونس الطويلة الصريحة في المستحاضة المعتادة لا وقت لها إلّا أيّامها.

و قوله- عليه السّلام- في آخر المرسلةُ: «تعمل عليه و تدع ما سواه، و يكون سنتها فيما تستقبل إن استحاضت».

و قوله- عليه السّلام- في المضطربة المأمورة بالتحيّض سبعا «ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقل من سبع لما قال لها تحيّضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة» فإنّ المستفاد منه أنّ الشارع لم يكن ليأمر بترك الصلاة بعد العادة.

و مثل صحيحة معاوية بن عمار: «المستحاضة تنظر أيّامها فلا تصلّي فيها، و لا يقربها بعلها، و إذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر». «2»

و موثقة ابن سنان في المرأة المستحاضة التي لا تظهر، قال: تغتسل عند صلاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 4، من أبواب الحيض، ص 541، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ص 542، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 75

الظهر و تصلّي- إلى أن قال:- لا بأس يأتيها بعلها إذا

شاء إلّا أيّام حيضها. «1».

و موثقة سماعة: المستحاضة تصوم شهر رمضان إلّا الأيام التي كانت تحيض فيها. «2»

و رواية ابن أبي يعفور: المستحاضة إذا مضت أيام قرئها اغتسلت و احتشت. «3»

و رواية مالك بن أعين: عن المستحاضة، كيف يغشاها زوجها؟ قال:

«تنتظر الأيام التي كانت تحيض فيها، و حيضها مستقيمة فلا يقربها في عدّة تلك الأيام». «4»

و صحيحة زرارة عن أحدهما- عليه السّلام- قال: «النفساء تكفّ عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها، ثمّ تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة». «5»

و ذيل مرسلة داود بن أبي المغراء المتقدمة عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و قد تقدّمت في مسألة أقل الطهر، قال: قلت: امرأة يكون حيضها سبعة أيام أو ثمانية أيام حيضها دائم مستقيم، ثمّ تحيض ثلاثة أيام ثم ينقطع عنها الدم، و ترى البياض لا صفرة و لا دما، قال: «تغتسل و تصلّي» قلت: تغتسل و تصلّي و تصوم ثم يعود الدم، فقال: «إذا رأت الدم أمسكت عن الصلاة و الصيام» قلت: فإنّها ترى الدم يوما و تطهر يوما، فقال: «إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر

______________________________

(1)- الوسائل: ب 1 من أبواب الاستحاضة، ص 605، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ب 2 من أبواب الاستحاضة، ص 609، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ب 1 من أبواب الاستحاضة، ص 608، ح 13.

(4)- المصدر نفسه: ب 3 من أبواب الاستحاضة، ص 609، ح 1.

(5)- المصدر نفسه: ب 3 من أبواب النّفاس، ص 611، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 76

صلّت، فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلّت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة».

ثمّ مجموع هذه الأخبار بكلتا طائفتيها- و هي كما ترى تكون

في الكثرة بحدّ يوجب القطع بمضمونها، و هي الاغتسال عقيب العادة بلا مهلة، و لو مع رؤية الدم لها- معارضة مع شيئين:

الأوّل: قاعدة الإمكان في ما إذا انقطع الدم على العشرة فما دون، فانّ الحكم بحيضيّة الجميع إنّما هو بتلك القاعدة و لا مدرك له سواها.

و أمّا روايتا ابن مسلم «ما كان قبل العشرة فهو من الحيضة الأولى، و ما كان بعدها فهو من الحيضة المستقلة» قد عرفت في ما تقدّم ظهورهما في عشرة الطهر، و دلالتهما على هذا المطلوب موقوف على حملها على عشرة الحيض.

و أمّا أخبار حيضية الدم ما لم يتجاوز العشرة فهي واردة في المبتدئة، فانحصر المدرك في القاعدة و لا يخفى المعارضة بينها مع تلك الأخبار، فإنّ مقتضى القاعدة هو حيضية ما تجاوز عن العادة لدى الانقطاع على العشرة، و مقتضى الطائفة الأولى من تلك الأخبار هو كونه استحاضة.

و الثاني: أخبار الاستظهار البالغة حدّ التواتر المعنوي، فلاحظ بابها في الوسائل، و المراد بالاستظهار كما في بعضها، و الاحتياط كما في البعض الآخر ليس هو الاحتياط الدائر في ألسنة الفقهاء، حيث يريدون به الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، بل المراد كما يشهد به ملاحظة جملة من تلك الأخبار، هو ترك العبادة مع سائر تروك الحائض، و بعبارة أخرى: التلبّس بوظائف الحائض،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 77

و حينئذ تكون منافاتها مع الأخبار المتقدّمة، من حيث إنّ هذه الأخبار حاكمة بتأخير غسل الحيض عن أيام الاستظهار. و تلك الأخبار بأسرها دالّة على لزوم تلك الأعمال عقيب انقضاء العادة بلا فصل.

إذا عرفت وجه التعارض من الجهتين، فوجه دفعه من الجهة الأولى مع قاعدة الإمكان، أمّا في أكثر الطائفة الثانية فواضح، لأنّ موضوعها

المستمرة و لا مجرى لقاعدة الإمكان مع الاستمرار للمعارضة بالمثل.

و أمّا في بعض هذه الطائفة ممّا يكون موضوعه أعم، و جميع الطائفة الأولى أعني أخبار الصفرة، فقد يقال بأنّ المراد من أيام الحيض: هي الأيام التي تكون للمرأة فيها أمارة شرعية على الحيض، فعلى هذا لا تنافي بين الحكم على الإطلاق بأنّ الدم في غير أيام الحيض استحاضة، و بين التفصيل بين التجاوز عن العشرة و عدمه، و الحكم في الثاني بكون الدم مع كونه في غير أيام العادة حيضا، فإنّه و إن كان في غير أيام العادة، إلّا أنّه يكون في أيام الحيض بذاك المعنى، يعني قد رئي في أيام يكون الدم فيها بحكم الأمارة الشرعية، و هي قاعدة الإمكان حيضا، فيصير محصل المراد من تلك الأخبار، أنّ كل دم صادف مع الأمارة على الحيضية فهو حيض، و كل دم لم يصادف معها فهو استحاضة.

فحينئذ يقال أمّا التي ينقطع دمها على العشرة فما دون، فجميع ما رأته من الدم سواء في العادة أم بعدها في جملة العشرة حيض، لأنّه في أيام العادة صادف مع العادة، و في غيرها مع قاعدة الإمكان. و أمّا التي يتجاوز دمها عن العشرة، فالمصادف للأمارة في حقّها ليس إلّا خصوص ما رأته في العادة، فإنّ قاعدة الإمكان ملغاة في حقّها، و إنّما الأمارة الشرعية في حقّها متمحّضة في الأيام التي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 78

صارت لها خلقا معروفا ليس إلّا، بدليل المرسلة الطويلة فيرتفع التنافي بين تلك الأخبار مع القاعدة أصلا كما هو واضح.

و فيه أنّ هذا الحمل مع إمكان دعوى كونه حملا على خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من أيام الحيض هي أيام العادة، يدفعه التصريح في

بعض تلك الأخبار بأيام العادة، و أنّها تعدّها و تحكم بالحيضية بعددها، و بالاستحاضة بعد تمام عددها، و هذا غير قابل لهذا التوجيه كما هو ظاهر.

فالتحقيق أن يقال: بما أنّ المدرك لنفس هذه القاعدة، ليس هو الدليل اللفظي و ينحصر في اللبي، فالأمر في مورد تعارضها مع الأخبار سهل، فيمكن رفع اليد عن القاعدة في خصوص مورد الأخبار: بأن يقال: بأنّ المتجاوز عن العادة الغير المتجاوز عن العشرة ليس بحيض، و إنّما هو استحاضة.

لكن الكلام في اجتماع هذا الحكم مع أخبار الاستظهار الدالّة على وجوب التحيّض، بعد تجاوز العادة بمقدار يوم أو يومين، أو ثلاثة أو إلى العشرة.

فقد يتوهّم أنّهما من قبيل المطلق و المقيّد، بمعنى أنّ الطائفة الأولى تدل على أنّه يجب الحكم بعد تجاوز العادة بالاستحاضة، سواء كان الدم متصلا بالعادة أم بعدها بفاصلة يوم أو يومين أو ثلاثة. و مفاد الثانية أنّه يجب هذا الحكم في خصوص ما تراه المرأة بعد العادة بفاصلة يوم أو يومين، و لكنّه بمعزل عن التحقيق، فإنّه ليس مساقهما مساق الإطلاق و التقييد، بل هما من باب المتباينين، و هما نظير قول القائل أوّل زمان مجيئي إياك أوّل الظهر، و قوله الآخر: أوّل زمان المجي ء بعد انقضاء ساعة من الظهر، فإنّه حيث يكونان في مقام التحديد يرى بينهما التباين، و مثل قول الشارع: أوّل وقت صلاة المغرب استتار القرص، و قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 79

أوّل وقتها ذهاب الحمرة فكذا هنا أيضا، مفاد الطائفة الأولى أنّ أوّل وقت الحكم بالاستحاضة ما بعد العادة، متصلا بها. و مقتضى الثانية أنّه بعدها بفاصلة يوم أو يومين، و من الواضح التنافي بينهما على وجه التباين.

و ربما يتوهّم الجمع

بحمل أخبار الاستظهار على الاستحباب، يعني يستحب للمرأة إذا رأت الدم بعد عادتها أن تتحيّض إلى يوم أو يومين، مع جواز أن تبني على كون الدم استحاضة من أوّل التجاوز عن العادة، و هذا مختار أكثر المتأخّرين، بل ربّما ينسب إلى عامتهم، و على هذا فتكون الأوامر الواقعة بصيغة الإخبار في الطائفة الأولى، من قبيل قوله: «و إذا رأت الصفرة بعد أيّام عادتها اغتسلت و صلّت» محمولة على مجرّد الجواز، لكونها واقعة عقيب الحظر، لمسبوقيتها بأيام العادة الموجود فيها النهي عن العبادة.

و لكن الإنصاف أنّه أيضا لا يستقيم في بعض أخبار الطائفة الأولى، فإنّ بعضها بهذه العبارة: «الصفرة بعد أيّام الحيض ليس من الحيض» أو أنّه «إذا رأت الدم بعد أيام حيضها فهي مستحاضة» ممّا يكون بصدد بيان الواقع، و أنّ الدم بحسب نفس الأمر استحاضة، و معلوم أنّ مفاد هذا وجوب العبادة و أعمال الاستحاضة و عدم تجويز تركها، مع أنّه إذا أغمض عن هذا أيضا فما الموجب لحمل أخبار الاستظهار على الاستحباب، و الأخبار الأخر على الجواز المرجوح، فإنّه يمكن العكس أيضا، فيقال: إنّ مفاد الأخبار الأخر، إنية إذا رأت المرأة الدم بعد عادتها، فيستحب لها أن تأتي بالعبادة و أعمال المستحاضة. و مفاد أخبار الاستظهار ثبوت الرخصة لها في ترك العبادة، مع ترك محرّمات الحائض، و إذا دار الأمر بين هذا و بين ما ذكروه، فلا مرجح لما ذكروه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 80

و هنا جمع آخر استقر به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته: و هو أن تحمل أخبار الاستظهار على ظاهرها من الوجوب، و لكن يقال: إنّه ليس المراد بالاستظهار إلّا طلب ظهور الحال، و لا معنى لطلب ظهور

الحال إلّا بالنسبة إلى المرأة التي رجت الانقطاع لدون العشرة، و أمّا الآئسة عن الانقطاع و القاطعة بالتجاوز عن العشرة، فلا استظهار في حقّها و لا احتياط و لا انتظار، كما وقع التعبير بهذين أيضا في بعض أخبار الاستظهار، و بالجملة فمورد أخبار الاستظهار خصوص المرأة التي يكون لها رجاء انقطاع الدم على العشرة و ما دونها، و على هذا أيضا ينزّل اختلاف الأخبار في تعيين مدة الاستظهار، فإنّه ربّما يحصل تبيّن الحال و اليأس عن الانقطاع بانتظار يوم واحد، و ربّما يحصل بيومين و قد يحتاج إلى الصبر ثلاثة، و قد يحتاج إلى انتظار العشرة.

و مورد الأخبار الأخر خصوص المرأة الآئسة عن الانقطاع، و العالمة ببقاء الدم إلى ما بعد العشرة فلا استظهار مشروعا في حقّها، بل تبني على سبيل الوجوب من أوّل الأمر على الاستحاضة، و الشاهد على هذا الجمع رواية إسحاق بن جرير المذكورة في أخبار الاستظهار المفصّلة بين هاتين الصورتين، فإنّه سأل فيها عن المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها، قال: إن كان أيام حيضها دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثمّ هي مستحاضة، قال: «فانّ الدم يستمر بها الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال: «تجلس أيام حيضها و تغتسل لكل صلاتين» «1» فإنّ المرأة التي استمر بها الدم بهذه المدة الطويلة، يحصل لها اليأس عن انقطاع الدم لدون العشرة، فيكون مورد الأخبار الأخر هذه المستمرة و صاحبة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 13 من أبواب الحيض، ص 556، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 81

العادة المستقيمة، التي لا يتخلّف الدم عن عادتها حتى بشي ء يسير كرات عديدة، فإنّها أيضا لو اتفق تجاوز الدم عن عادتها يحصل لها

اليقين بأنّ هذا الدم استحاضة و يستمر إلى ما بعد العشرة، و الإنصاف أنّ هذا الحمل حمل بعيد لا يمكن المصير إليه.

أمّا أوّلا فلأنّ فرض يأس المرأة عن انقطاع الدم لدون العشرة فرض بعيد لا يمكن حمل مثل إطلاق قوله: «و كلّ ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» عليه، فإنّه حمل للمطلق على الفرد النادر.

و أمّا ثانيا فلأنّ مجرد كون المرأة ذات عادة مستقيمة لا تتخلّف، لا يوجب حصول العلم لها بتجاوز الدم عن العشرة.

نعم يمكن دعوى أنّه يوجب العلم بأنّه نشأ من مرض و علّة حدثت في الباطن.

و أمّا ثالثا: فمجرّد كون الحمل على معنى قريبا بالاعتبار، لا يوجب حمل اللفظ عليه ما لم يكن عليه في الكلام شاهد، و ليس هنا شاهد في الكلام، بل هو في كلا الطرفين آب عن هذا الحمل، إذ لو كان المراد هو التفصيل على النهج المذكور أمكن تغيير التعبير، و أنّه مع الرجاء يكون الحكم كذا و مع اليأس كذا.

و أمّا رابعا: فلأنّه- قدّس سرّه- معترف بعدم جريان هذا الحمل في خصوص صنف خاص من الأخبار الأخر، و هي الدالة على أنّ الصفرة في غير أيام الحيض ليس من الحيض، و التزم فيها بأنّ أيّام الاستظهار داخلة في أيام الحيض تنزيلا، و لا يخفى أنّه مع هذا الالتزام لا يبقى حاجة إلى الحمل المذكور، كما يأتي أنّه بنفسه جمع مستقل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 82

و قد يجمع بحمل أخبار الاستظهار على ما إذا رأت بعد العادة الدم الجامع للصفات، و حمل الأخبار الأخر على ما إذا رأت الصفرة. و فيه أنّ في كلتا الطائفتين ذكرا لكلا القسمين، فذكر الدم الرقيق الذي هو الصفرة في

أخبار الاستظهار، و ذكر الدم و الحمرة في الأخبار الأخر فلا حظ.

و قد يجمع بجعل أخبار الاستظهار في مقام التنزيل الموضوعي، فيكون لها الحكومة على الأخبار الأخر: بمعنى أنّ مفاد الثانية أنّ كلّ ما رأت المرأة في غير أيام حيضها فهو استحاضة، و مفاد الأولى أنّ اليوم و اليومين عقيب العادة أيضا يكون في نظر الشارع من جملة أيام الحيض. و لكنّه أيضا خلاف ظاهر أخبار الاستظهار، فإنّه لا يخفى على من لاحظها أنّه ليس لها لسان التنزيل الموضوعي، فإنّه ذكر فيها أيام الاستظهار في قبال أيام الحيض، فلسانها هكذا: إذا رأت بعد أيام حيضها دما استظهرت، و هذا ظاهر أنّه ليس من باب التصرّف في الموضوع أصلا.

و ربّما يجمع بحمل أخبار الاستظهار على غير المستمرّة، أو المستمرّة في خصوص دورتها الأولى. و حمل الأخبار الأخر على المستمرة في الدورة الثانية فما زاد، و هذا أيضا حمل بعيد، فإنّه ليس في الأخبار الدالّة على أنّ الصفرة في غير أيام الحيض ليس من الحيض، دلالة و لا اشعار على هذا القيد أصلا، بل الموضوع فيها مطلق المرأة. هذه أنحاء ما قيل أو يقال لتصوير الجمع العرفي بين أخبار المسألة.

و قد عرفت عدم تمامية شي ء منها، و بعد انقطاع اليد عن الجمع العرفي، فليس المقام مقام الرجوع إلى المرجّحات السندية، فإنّ المفروض أنّ الأخبار في كلا الطرفين بالغة حدّ التواتر و القطع بالصدور، فلا إشكال في أصل الصدور، و أمّا جهة الصدور فهي أيضا متساوية فيهما إذ كل منهما متوافق مع رأي العامة. فإنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 83

أخبار الاستظهار موافق مع «مالك» الذي هو أحد أئمّتهم الأربعة و غيرها مع غيره.

و إذن فأظن أنّه

لا محيص عن القول بالتخيير في الأخذ بإحدى الطائفتين، و طرح الأخرى على الخلاف المقرّر في محلّه: من ثبوت هذا التخيير للمجتهد أو للمقلّد، بمعنى أنّ المجتهد يختار أحد الخبرين ثمّ يفتي بمضمونه معيّنا، أو أنّه يلقي التخيير إلى المقلّد و يوكل الاختيار إليه، فهو يختار أيّهما شاء، و هل هذا التخيير بدوي أو استمراري على كل من الوجهين؟ هو أيضا محل للخلاف المقرّر في محلّه. فإن أخذ بأخبار الاغتسال بعد العادة وجب على المرأة البناء على وظائف المستحاضة، و إن طرح هذه و أخذ بأخبار الاستظهار وجب التحيّض و الاحتياط في يوم واحد على سبيل القدر المتيقّن.

ثمّ تكون المرأة مخيّرة بين الأخذ بالمدة الأقل و الأكثر، و حيث لا معنى للتخيير بين الأقل و الأكثر لرجوعه إلى التخيير بين الفعل و الترك، فإنّ معناه: أنّه يجب على المكلّف على نحو التخيير إمّا فعل الزائد و إمّا تركه، و هذا راجع إلى الإباحة دون العبادة، فلهذا يجعل متعلّق التخيير بناء المكلّف نظير ما يقال في التخيير بين الخبرين المتعارضين، فيقال: إنّ المرأة مختارة في التحيّض و البناء على الحيضية في يوم واحد، و بين التحيّض و البناء عليها في يومين و هكذا، فليس التخيير في العمل الخارجي، بل في العمل القلبي و هو البناء، نظير ما يقال في الخبرين المتعارضين إذا دلّ أحدهما على الوجوب و الآخر على التحريم، فإنّ مجرّد العمل الخارجي لا يكفي في الأخذ، و إلّا لزم كون المكلّف أبدا آخذا بأحدهما لعدم خلوّه من الفعل و الترك، و نظير التقليد في ما إذا كان المجتهدان متساويين في جميع الجهات، فإنّه حينئذ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 84

يجب البناء القلبي على

متابعة أحدهما، بخلاف ما لو كان أحدهما أعلم فإنّ متابعته في الواقع كافية.

و على هذا يخرج من باب الأقل و الأكثر، و يكون من باب التخيير بين المتباينين لتباين البنائين، أعني: البناء على حيضيّة العدد الأقل و البناء على حيضيّة العدد الأكثر، كما هو أوضح من أن يخفى.

مسألة: لو رأت الدم ثلاثة أيام متواليات، ثمّ رأت النقاء أقل من عشرة، ثمّ رأت الدم ثانيا، و كان مجموع الدمين مع النقاء بينهما زائدا على العشرة فله صور:

الأولى: أن يكون كلا الدمين جامعا لصفات الحيض.

و الثانية: أن يكون كلاهما فاقدا لها.

و الثالثة: أن يكون الأوّل واجدا و الثاني فاقدا.

و الرابعة: بالعكس.

و على كل التقادير إمّا أن يكون تمام أحد الدمين، أو بعضه، أو بعض كل منهما متفقا في العادة، أو لا: بأن لا يكون شي ء من أحدهما واقعا فيها. هذه صور المسألة.

و قد حكم شيخ الجواهر في رسالة نجاة العباد في جميعها بحيضية الدم الأوّل دون الثاني، بمعنى أنّه استحاضة و النقاء في البين طهر. و علّق في هذا المقام شيخنا المرتضى بأنّه إذا كان ذلك بحكم العادة صحيح، و إذا كان بمجرّد الإمكان أو الصفات ففيه إشكال. و وافق معه الميرزا الشيرازي- قدّس سرّهما-، و الميرزا محمّد تقي الشيرازي- دام ظلّه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 85

فنقول: نظر شيخ الجواهر- أعلى اللّٰه مقامه- في الحكم بحيضية الأوّل مطلقا، و استحاضية الثاني كذلك، إلى أسبقيته من الثاني في الزمان، فحكم الحيضية سواء كان بالعادة، أم بالصفات، أم بقاعدة الإمكان يجري فيه، و لا يجري في الدم الثاني: أمّا جريانه في الأوّل فلأنّه في ظرف زمان وجود الدم الأوّل لم يكن له معارض أصلا، فإنّ المعارض هو الحكم في الثاني و هو منتف بانتفاء موضوعه. و أمّا عدم الجريان في الثاني: فلأنّه بعد الحكم بحيضية الدم الأوّل فالثاني ممّا يمتنع أن يكون حيضا، لعدم فصل

أقل الطهر أو الزيادة على العشرة. و نظر المحشّين في صورة انحصار منشأ الحكم بالحيضية في كلا الدمين، إمّا في الصفات، و إمّا في قاعدة الإمكان إلى أنّ قاعدة الصفة، أو الإمكان المفروض تساويهما بالنسبة إلى كلا الدمين، لأنّ المفروض أنّ كلا من الدمين واجد للصفة، و متّصف بالإمكان في حدّ ذاته، فإذا لم يمكن إجراء القاعدة في كليهما و امتنع الجمع، فلا مرجّح لإجرائها في أحدهما دون الآخر، لأنّ المفروض أنّ إجرائها في كل من الدمين رافع لموضوعها في الدم الآخر: بمعنى أنه كما أنّ إجراءها قاعدة الإمكان في الدم الأوّل، يخرج الدم الثاني عن هذه القاعدة إخراجا موضوعيا و من باب التخصّص، و كذا في قاعدة الصفات، فإنّ موضوع القاعدة الأولى ممكن الحيضية، و الثانية محتمل الحيضية، و بعد جريان إحدى القاعدتين في الدم الأوّل، يخرج الدم الثاني عن هذين العنوانين، إذ يصير ممتنع الحيضية و غير محتمل الحيضية، فكذلك الحال في العكس بعينه بلا فرق، فإنّ إجراء إحداهما في الدم الثاني موجب لخروج الدم الأوّل عن تحت القاعدة بالخروج الموضوعي و على نحو التخصّص لعين البيان لأنّ حيضية كل من الدمين يكون من أثرها الشرعي امتناع حيضية الآخر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 86

فإن قلت: نعم، و لكن الدم الأوّل حين وجوده لم يكن له معارض، و بعد حصول معارضه خرج عن المبتلائية للمكلّف، و لازم ذلك أن تكون أصالة الطهارة في كل منهما جاريا لمسبوقيتهما بالطهر، فيلزم الحكم بعدم حيضية شي ء منهما.

و أمّا الترجيح بالسبق الزماني فهو فاسد: و وجه فساده أنّ الحاكم إنّما يعلّق الحكم بالموضوع في لحاظه، و لا يخفى أنّه لا تقدّم و لا تأخّر في عالم لحاظه

بين المتقدم الزماني و المتأخّر الزماني، بل هما ملحوظان معا في عرض واحد، فإذا لم يمكن شمول العموم لكلا الفردين فترجيحه أحدهما بإدخاله في العموم دون الآخر ترجيح بلا مرجّح. و إذن فيتحصّل عدم إمكان إجراء القاعدة في شي ء من الدمين.

نعم لا يمكن بعد ذلك الحكم بالطهارة في الجميع، و الرجوع بعد تساقط الفردين من القاعدة بالمعارضة، إلى أصالة الطهر الجارية في كل منهما لمسبوقيته بالطهر، لأنّ العلم الإجمالي حاصل بحيضية أحدهما، فإنّ القاعدتين مأخوذتان في حكم ثالث منتزع من مجموعهما، و هو عدم كون كلا الدمين طهرا، و إذن فتقع المعارضة بين الأصلين المذكورين أيضا، مثل القاعدتين و يجري فيهما الكلام فيهما.

لا يقال: حين وجود الأوّل كان الثاني معدوما، و حين وجود الثاني صار الأوّل معدوما، ففي كل حال يكون أحدهما خارجا عن محل الابتلاء، و العلم الإجمالي أيضا حاصل بعد الخروج، فإنّه إنّما يحصل بعد رؤية الدم الثاني بعد إجراء قاعدة الإمكان في الأوّل بحسب الظاهر، ثمّ انكشف بطلانه و كونه مجرى للأصل، و لكن هذا الأصل في الزمان المتأخّر ليس له أثر حتى يعارض الأصل الجاري في الدم الثاني، فهذا نظير خروج أحد الإناءين عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فإنّه لا مانع من إجراء الأصل في الآخر، ثمّ بعد استعمال الثاني لو دخل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 87

الأوّل في محل الابتلاء، فلا مانع من إجرائه فيه أيضا.

لأنّا نقول: هذا قياس مع الفارق. لأنّ إجراء أصالة الطهر في زمان رؤية الدم الثاني بالنسبة إلى الأوّل لها أثر شرعي، و هو قضاء الصلوات المتروكة في أيام الدم الأوّل، و لا يمكن إجراء القاعدة و لا الأصل في جميع الدمين،

و لا في واحد منهما فلا محيص عن الاحتياط بالجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة في كلا الدمين. نعم لا إشكال في طهرية النقاء المتخلّل.

هذا حاصل تأييد مرام المحشّين. و لكنّه بعد محل إشكال و نظر، و وجهه أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر في الرسائل في باب التعادل و التراجيح، وجوها لتقديم الأصل في الشك السببي على الأصل في المسببي، و أحدها مبني على القول بعدم حجية الأصل المثبت، و عدم القول بحجية الاستصحاب من باب الأمارة، و هو خال عن الإشكال، لأنّ تقريبه: أنّ إجراء الأصل في السبب، حيث إنّ من آثاره جريان الحكم في المسبّب يكون رافعا لموضوع الشك المسببي، و مخرجا له عن موضوع الأصل و على وجه التخصّص بخلاف الأصل في المسبّب، فإنّه حيث ليس من آثاره بيان الحكم في السبب، فالشك فيه باق بحاله موضوعا فلا محيص عن الإخراج الحكمي، و التخصيص في جانب السبب، مثلا لو غسل الثوب المتنجّس بالماء المشكوك الطهارة و النجاسة، فمقتضى الاستصحاب في الماء الطهارة، و من آثارها الحكم بطهارة الثوب المغسول به، و أمّا استصحاب النجاسة في الثوب فليس من آثارها الحكم بنجاسة الماء، نعم هما متلازمان.

مسألة: لو رأت المرأة دمين لم يفصل بينهما أقل الطهر، و كان كل منهما في حدّ ذاته قابلا لأن يكون حيضا

كما لو رأت ثلاثة، ثمّ رأت دما آخر في الحادي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 88

عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر، من ابتداء الدم الأوّل، فحكم شيخ الجواهر في رسالته العملية بحيضيّة الأوّل، و كون الثاني استحاضة، و عبارته صريحة في الإطلاق بالنسبة إلى صورة كون الأوّل فاقدا، و الثاني جامعا لصفات الحيض، و ظاهره في الإطلاق من حيث كون الثاني في العادة و عدمه، و استشكل شيخنا المرتضى في حاشيته في إطلاق

الحكم.

أقول: نظر شيخ الجواهر- قدّس سرّه- ليس إلّا إلى أسبقية الدم الأوّل زمانا، فإذا جرى فيه قاعدة الإمكان و ليس فه في هذا الزمان معارض، ثمّ بعد ذلك يمتنع كون الدم الثاني حيضا، فيكون الإمكان في الأوّل واردا على الإمكان أو الصفات أو العادة في الثاني، و هذا محل الإشكال أي إذا علمنا بأنّ فردين من عام يجب تخصيصه بأحدهما، و لا يمكن جمعهما في حكم العام، فإذا كان أحدهما أسبق زمانا فكون مجرّد سبق أحدهما زمانا، مرجحا له في الحكم، و تعيّن التخصيص في الآخر محل إشكال، بل التحقيق أنّه لا أثر للسبق الزماني أصلا، و ذلك لأنّ المعتبر في هذا الباب عالم لحاظ الحاكم و المتكلّم، و اشكال أنّ المتكلّم إذا قال: كل دم وجد في الخارج، و أمكن أن يكون حيضا [فهو حيض] يكون الفرد المتقدّم زمانا لهذا العنوان، مع الفرد المتأخّر ملحوظين في لحاظه، و انطباق هذا العنوان عليهما في عرض واحد، فهو لو خصّص أحدهما بالحكم كان ترجيحا بلا مرجح.

و الحاصل جميع الأفراد المندرجة في الزمان موجودة في عالم اللحاظ في عرض واحد، ألا ترى لو قال: أكرم العلماء و كان مبغوضا له الجمع بين إكرام فردين، كان أحدهما أقدم من الآخر بسنين كثيرة فلا يوجب مجرّد ذلك مرجحيته في نظر هذا المتكلّم، بل لا بدّ من إجمال العام في كليهما، ففي المقام أيضا قد علم بأنّ العام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 89

و هو قوله: «كلّ ما أمكن إلخ» لا يمكن الجمع في حكمه بين هذا الدم و الدم الآخر المرئي بعد انقضاء أيام أخر، فلا محيص عن إجماله و سقوطه عن الحجية في كلا الطرفين.

لا يقال: فعلى

هذا لو علم إجمالا بأنّ واحدا من الأمارة القائمة في الزمان المتأخّر، و من القائمة من تلك السنخ قبلها بسنين عديدة مخالفة للواقع، و أنّه ليسا معا مرادين تحت عموم حجية سنخ هذه الأمارة، مثل قوله: «صدق العادل» يلزم أن يرفع اليد عن كلتا الأمارتين مع فرض فصل سنين كثيرة بينهما.

لأنّا نقول: لا بدّ لدفع هذا من ذكر مطلب أجنبي بالمقام: و هو أنّه فرق بين الأصل و الأمارة في صورة العلم الإجمالي بمخالفة الواقع، فلو علم إجمالا بمخالفة أحد الأصلين للواقع، فلا يوجب سقوط الأصلين مطلقا، بل في خصوص ما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالتكليف، كما لو علم بأنّ أحد الإناءين نجس، و كان الأصل في كليهما هو الطهارة، و أمّا لو كان العلم متعلّقا بنفي التكليف فحينئذ الأصلان جاريان، كما لو علم بطهارة أحد الإناءين و كان الأصل فيهما هو النجاسة، و وجه ذلك أنّه في الأوّل يلزم المخالفة القطعية من إجراء الأصلين معا و لا يلزم في الثاني كما هو ظاهر.

و أمّا الأمارة: فلو علم إجمالا بمخالفة أحد فرديها للواقع، فهي بالنسبة إلى كلا الموردين تسقط عن الحجية مطلقا، سواء كان العلم متعلّقا بالتكليف أم بنفيه، مثلا لو علمنا بعد ورود أكرم العلماء بخروج أحد فردين معينين عن هذا الحكم، بمعنى مجرّد عدم كونه لازم الإكرام لا بمعنى كونه محرّم الإكرام، فأصالة العموم بالنسبة إلى كليهما ساقطة عن الحجية، و لكن يستثنى من هذه الكلية في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 90

طرف الأمارة مورد، و هو ما إذا علم بمخالفة إحدى الأمارتين و كان إحديهما موردا للابتلاء و الأخرى غير مورد له، بل كانت أجنبية عن المكلّف رأسا، فهذا العلم

مطلقا لا يورث سقوط الأمارة المبتلى بها عن الحجية، مثل ما لو علم العبد بعد قول المولى: أكرم العلماء، بأنّ زيدا العالم إمّا خارج عن هذا العام، أو خارج عن عموم أكرم العلماء الذي قاله هندي لعبده، فهل يرى أحد من وجدانه صيرورة العام بمجرّد ذلك مجملا.

إذا عرفت ذلك فنقول: ما ذكرت من مثال الأمارتين المفصولتين بالأزمنة المتطاولة، إذا علم بمخالفة إحديهما للواقع يعتبر فيهما ما ذكرنا من الميزان، فربّما لا يحصل الإجمال لأجل أنّ الطرف خارج عن مورد الابتلاء، كما لو علمنا بأنّ العام الوارد في حقّنا إمّا هو مخصّص بالمورد الفلاني، و إمّا العام الوارد في حقّ حاضري مجلس الخطاب، مثل سلمان، و أبي ذر، و المقداد و أمثالهم- رضوان اللّٰه عليهم-، فلا إشكال انّ العام لا يصير بمجرّد ذلك مجملا.

و الحاصل أنّ ما ذكرنا من أنّ الأمارتين المختلفتين زمانا بالسبق و اللحوق، إذا علم بمخالفة إحديهما للواقع، فلا محيص عن إجمال كلتيهما و سقوطهما معا عن الحجية، إنّما هو في صورة كونهما معا محلا للابتلاء، و لا إشكال أنّ مسألتنا من هذا القبيل، فإنّ قاعدة الإمكان لو كانت جارية في الدم الأوّل، وجب أعمال المستحاضة في الثاني، و إن كانت جارية في الثاني وجب قضاء الصلوات الماضية في زمان الدم الأوّل، و تروك الحائض في الثاني.

و حاصل ما ذكرنا من الإشكال على شيخ الجواهر- قدّس سرّه- عدم كون السبق الزماني صالحا للمرجحية، و لكن يحدث من هذا إشكال آخر في مقام آخر،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 91

و هو أنّ جميع أهل العلم طرّا متفقون بكلمة واحدة: على أنّ الأصل في الشك السببي مقدّم عليه في المسببي، و لكنّهم مختلفون في علّته

و جهته.

فبعضهم يقول علّة ذلك أنّ الأصل في السبب إذا جرى يزول به الشك في المسبّب، لأنّه بنفسه قائم بإثبات الحكم فيه لكونه من آثاره الشرعية، و يكون خروج المسبّب عن حكم الأصل لانتفاء الموضوع و هو الشك. و بالجملة يكون خروجه تخصّصا لا تخصيصا.

و أمّا لو جرى الأصل في المسبّب فهو لا يزيل الشك في السبب، إذ ليس الحكم فيه من الآثار الشرعية لهذا الأصل، فلا ينهض بإثباته لعدم حجية الأصل المثبت، فيلزم خروج السبب مع كون موضوع شكه باقيا عن حكم الأصل، فيلزم التخصيص في دليل الأصل، فإذا دار الأمر بين إجراء الأصل في السبب و المسبب و لم يمكن الجمع بينهما كان الأوّل أولى، لأولوية التخصّص على التخصيص، هذه مقالة بعضهم في بيان وجه هذا الحكم و لا كلام معهم هنا و لا إشكال، و آخرون منهم و هم بين طائفتين القائلين بحجية الأصل المثبت، و القائلين بكون الاستصحاب من الأمارات، يقولون بأنّه ليس الأمر دائرة في المقام بين التخصّص و التخصيص، بل بين التخصيصين، و ذلك لأنّ الأصل في كل واحد منهما لو جرى رفع الشك في الآخر، لأنّ المفروض أنّ الأصل في المسبب أيضا متعرض لحال السبب كالعكس، إمّا لحجية الأصل المثبت، و إمّا لأمارية الاستصحاب.

و من الواضح كون المثبت من الأمارة حجة فليس الوجه لتقديم السببي ما ذكروه، بل الوجه هو كون الشك السببي بحسب الرتبة و الطبع متقدّما في عالم الكون و التحقّق على المسببي، و إن كان لا فصل بينهما بحسب الزمان، بل هما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 92

موجودان في زمان واحد كما هو الحال في كل علّة مع معلولها، و إذن فالشك السببي في

رتبة حدوثه ليس له معارض فيجري حكم الأصل فيه، و بعد ذلك لا يبقى محل للمسببي. هذا.

و قد ذكر شيخنا في الرسائل عدّة وجوه لتقديم السببي و ذكر هذا من جملتها.

فنحن نستشكل عليه- قدّس سرّه- و نقول: كيف التوفيق بين هذا الحكم و بين الاستشكال في هذه المسألة، و ما الفرق بين التقدّم الزماني و التقدّم الرتبي، فإنّه كما قلنا في الفردين اللذين بينهما التقدّم و التأخّر الزماني، إنّ نسبة العام عند التزاحم و عدم إمكان الجمع إليهما في لحاظ الحاكم و المتكلّم على حدّ سواء فترجيحه لأحدهما بلا مرجح، كذلك نقول في الفردين اللذين بينهما تقدّم و تأخّر رتبي لعين ما ذكر هنا، إذ في عالم اللحاظ يمكن تحقّق المسبب في عرض السبب، بل و مقدّما عليه، و لهذا كثيرا ما يحصل الانتقال من المعلول إلى العلّة و ليس إلّا لأنّ الوجود اللحاظي ليس حاله كالخارجي حتى يكون التقدّم فيه للسبب ليس إلّا، بل ذلك مخصوص بالخارجي، و إذن فكما قلتم بأنّ التقدم الرتبي مرجح لحيازة الحكم، فلا بدّ أن تقولوا به في الزماني فلا وجه للتفكيك، إذ التقدّم الزماني لا إشكال في عدم قصوره عن الرتبي، بل هو أولى من الرتبي.

بيان ذلك يحصل ببيان كيفية تقدّم العلّة على المعلول. فنقول: رب وجود و تحقّق و كون لا يحويه الزمان كما في الوصل و الفصل، فإنّهما يتحقّقان في الخارج بحقيقة التحقّق و يوجدان بحقيقة الوجود، و لكن ليس مقدار التحقّق فيهما إلّا آنا عقليّا غير قابل للتّجزية، فيكونان خارجين عن الزمان، لأنّ الزمان من الأمور التدريجية و كل جزء فرض منه فله أوّل و آخر و قابل للتّجزية، فكيف يمكن احتواء

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 2، ص: 93

ما لا ينفك عن التّجزية على ما لا يقبلها.

إذا عرفت ذلك: فالتحقق و الكون اللازم الحصول في العلّة مقدّما على تحقّق المعلول، هو من هذا القبيل من التحقّق أعني: الثابت في الآن العقلي، فيكون مقدار أسبقية العلّة على المعلول، آنا عقليّا و أمّا الفردان اللذان بينهما السبق و اللحقوق الزمانيان، فأحدهما مقدّم على الآخر بمقدار يزيد على الآن بكثير، فإذا ثبت المرجحية عند التزاحم للتقدّم بمقدار الآن، يثبت للتقدّم بمقدار آنات كثيرة بالغة حدّ التّجزية بطريق أولى.

و يمكن التفصّي عن هذا الإشكال، بأن يقال: إنّهم و إن علّلوا تقدّم السببي في الحكم بتقدّمه، لكن ليس التقدّم بما هو علة لهذا الحكم، بل المناط هو المنشئية و التوليد. و تقريب التعليل حينئذ بأنّا إذا راجعنا العرف و العقلاء، وجدناهم لو حصل لهم شك و نشأ و تولّد منه شك آخر، فهم بحسب الطبع مجبولون بالتوجّه سمت المنشأ، فيتفحصون ابتداء لما يكون عاجلا له، و إذا يئسوا عن علاجه انتقلوا إلى الشك المتولّد منه و التتبع في علاجه و ما لم يحصل هذا اليأس، فهم مجبولون باعمال طرقهم و أماراتهم في رفع الشك الذي هو المنشأ، و إذا ثبت بناؤهم على هذا فنقول: الشارع أيضا واحد من العرف، و يكون بناء كلامه على ما يفهمونه فهو في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إذا رأى شكّين أحدهما مولّد للآخر، فمع إمكان الجمع فلا كلام و مع التزاحم فهو يرجح الشك السببي، بحسب ما هو قضية بناء العقلاء، و ينعقد من هذه الجهة أيضا لكلامه ظهور في ترجيحه.

ثمّ نقول: امّا الأصول فحيث إنّ موضوعها هو الشك، و لا شبهة في أنّ إجراء الأصل في السبب يزيل

الشك عن المسبب، فبجريانه يرتفع موضوع الأصل في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 94

المسبب، فلهذا لا يحصل تردّد و تحيّر للحاكم بعد وصول النوبة بالمسبب، إذ يرى موضوع عمومه متبدّلا.

و أمّا الأمارات فهي على قسمين: الأمارة المطلقة، و الأمارة المجعولة حيث لا أمارة، ففي القسم الأوّل و إن كان مقتضى البناء المذكور تقدم الإمارة في السبب في الجريان، إلّا أنّ موضوع الأمارة حيث ليس مقيّدا بالشك، و إن كان بغرض رفعه مثل الأخبار حيث إنّه بغرض رفع الجهل و ليس خطابه مع عنوان الجاهل، فلهذا بعد جريان الإمارة في السبب و وصول النوبة إلى المسبب يكون الموضوع باقيا، فلهذا يحصل حينئذ للحاكم التردّد و لم يبق له وجه لترجيح أحدهما.

و أمّا الأمارة التي أماريتها حيث لا أمارة، و بعبارة أخرى تتقدّم على الأصول و تتأخّر عن سائر الأمارات، مثل الاستصحاب على قول، فموضوعها لما يكون مقيّدا بعدم أمارة أخرى و لو من سنخها، فلهذا إذا جرت في السبب بحسب الطبع الارتكازي لم يبق موضوع لفردها الآخر في المسبب، لأنّ المفروض تحقّق الإمارة في البين.

و إن قلت: على تقدير القول بأنّ الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة، فليس المراد مطلق الأمارة، بل خصوص ما كان من غير سنخه.

قلت: نعم على هذا الفرض يحصل التوقّف فيها أيضا كالأمارة المطلقة، لكن هو خلاف ما يقولون به فإنّهم يجعلونها أعم ممّا تكون من سنخها، كمن يقول بأصليته حيث يجعل أيضا اليقين الذي هو غاية الاستصحاب، أعم ممّا جاء من سنخه أو من غيره، فلهذا يجعل الاستصحاب في السبب رافعا لموضوع المسبب فتفطّن.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 95

فتحصل ممّا ذكرنا: أنّ المناط في الترجيح لدى التزاحم، هو المنشئية المفقودة

في التقدّم الزماني و الموجودة في الرتبي، فيرتفع الإشكال عن شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و يكون تفكيكه بين المقامين في محلّه.

و حينئذ نقول: إذا سقط قاعدة الإمكان عن كلا الدمين، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر، مثل ملاحظة أنّ أحدهما واقع في العادة أو لا؟

فعلى الأوّل يجب الحكم بحيضية ما كان في العادة سواء كان صفرة أم غيرها، و استحاضية الآخر و إن كان حمرة.

و أمّا إن لم يكن الأمر كذلك إمّا بأن تكون المرأة غير معتادة أصلا، و إمّا بأن يكون الدمان متفقين في غير العادة جميعا، فحينئذ إن كان أحدهما واجدا لصفات الحيض، و الآخر للاستحاضة، أو كان صفة الحيض في أحدهما أقوى من الآخر، فإن قلنا بعموم اعتبار الصفات لغير المستمرة أيضا كان الحكم بحيضية الواجد متعيّنا، و إن قلنا باختصاصه بالمستمرة أو لم يكن تمييز في البين أصلا، فحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي و هو مختلف بحسب المقامات.

فإن كانت المرأة عالمة من الخارج: بأنّ أحد الدمين بتمامه حيض و لم تحتمل التلفيق، أو كان الدم الأوّل بقدر أقل الحيض بلا زيادة، فلا إشكال انّ هنا طهرين متيقّنين كل منهما متعقّب بدم مشكوك، و ذلك لأنّ ما قبل الدمين كان طهرا متيقّنا، و تبدّل اليقين بالشك عند رؤية الدم الأوّل، و بعد انقضائه تبدّل الشك أيضا بيقين الطهر، فإنّ النقاء المتخلّل طهر قطعا لفرض عدم احتمال التلفيق، ثمّ زمان هذا اليقين أيضا يمتد إلى زمان رؤية الدم الثاني، فتبدّل بالشك فيه فيكون هنا استصحابان متعارضان، و يكون الحال فيهما بعينه كما تقدّم في تعارض قاعدة الإمكان في الدمين و بعد تساقطهما، فالمقام ممّا يلزم فيه الاحتياط لمكان العلم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 96

الإجمالي بالتكليف، مع سقوط الأصل عن كلا الطرفين، فيجب على المرأة عند رؤية الدم الثاني الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، و على فرض عدم الاحتياط في الدم الأوّل يضاف قضاء الصلوات الماضية أيضا إلى ذلك، فانّ العلم الإجمالي ثابت بين قضاء الصلوات الماضية و تروك الحائض في اللاحق، و بين أعمال المستحاضة في اللاحق كما هو ظاهر.

و أمّا لو كانت محتملة للتلفيق، و لم تكن عالمة بعدمه لا بالوجدان و لا بالقواعد الشرعية، كما لو كان الدم الأوّل خمسة أيام، ثمّ رأت البياض خمسة أخرى، ثمّ رأت الدم خمسة أخرى، فإنّه يمكن تلفيق ثلاثة من الدم الأوّل مع تمام النقاء، و يومين من الدم الثاني و كون ذلك حيضا واحدا، فتكون محتملات هذه الصورة ثلاثة.

الأوّل: حيضية الأوّل بتمامه، و استحاضية الثاني كذلك.

و الثاني: العكس.

و الثالث: التلفيق بالنحو المزبور، فحينئذ يمكن جر الطهر اليقيني الثابت قبل الدم الأوّل فيه و في أيّام النقاء، و لا يمكن في الثلاثة التي هي الدم الثاني، للعلم بنقض الحالة السابقة الطهرية إمّا به و إمّا بسابقه، لكن هذا الاستصحاب لا يثبت حيضية هذه الثلاثة، فتكون مردّدة بين الحيضية و الاستحاضيّة بدون أصل يقتضي إحديهما، فيجب فيها الاحتياط مع ضم قضاء الصلوات الماضية بحكم استصحاب الطهر، فلا ثمرة عملية بين هذه الصورة و بين سابقتها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 97

مسألة: [في قاعدة الإمكان]

قاعدة الإمكان في الجملة من المسلّمات ظاهرا، و يمكن الاستدلال عليها بقوله- عليه السّلام- في أخبار تعجيل الوقت بعد الحكم بحيضية ما تراه قبل الوقت بيوم أو يومين: «فإنّه ربّما يعجل بها الوقت»، و لا إشكال انّ لفظة «ربما» ليست دالة على

أزيد من الاحتمال، يعني من المحتمل أن يكون في المقام الشخصي تعجيل الوقت، و هذا تعليق للحكم بالحيضية على مجرّد احتمالها، فيدل إمّا على كون نفس الكبرى و هي «كلّ ما احتمل فيه الحيضية فهو حيض» مسلّمة عند المخاطب، و لهذا لم يستشكل على الإمام بأنّ ذلك لا يوجب سوى مجرّد الاحتمال و هو غير كاف، و إمّا على استفادة الكلية من نفس هذا الكلام، فالمخاطب و إن لم يكن هذا المطلب مرتكزا في خاطره، و لكنّه ينتقل إليه بنفس هذا التعبير و التعليل، كما في قول القائل: أكرم زيدا لأنّه عالم، حيث يستكشف منه أنّ كل عالم يجب إكرامه، و كذا هنا إذا أجاب الإمام بأنّ هذا الدم حيض لأنّه محتمل الحيضية، لأجل احتمال تعجيل الوقت يستكشف منه القاعدة المذكورة، كما لو صدر مثل هذه العبارة من فقيه في مقام الإفتاء، فإنّه لو قال: لما تحتمل أن يتعجّل بها الوقت، فلهذا يكون دمها حيضا لم يبق له محمل سوى استكشاف القاعدة منه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 98

فإن قلت: إنّ لفظة «ربّما» الظاهر كونها للتكثير، فتدل على غلبة تعجيل الوقت، فيكون دليلا على جعل الشارع هذه الغلبة أمارة معتبرة على التعجيل، فيكون أجنبيا عن المرام.

قلت: لو سلّمنا كونها للتكثير فليس لها دلالة أيضا على أزيد من الاحتمال، فإنّ المراد بها حينئذ غلبة وقوع التعجيل في الخارج لا أغلبيّة وقوعه من عدمه.

و بالجملة فمعناه أنّه كثيرا ما يتعجّل بها الوقت، و ليس معنى ذلك أنّه قليلا ما لا يتعجّل بها الوقت، بل من الممكن أن يكون عدم التعجيل أيضا كثيرا، بل أكثر من التعجيل، فلا تكون الغلبة و الكثرة في جانب التعجيل مفيدا سوى الشك

و الاحتمال المساوي لا الراجح بالحيضية، فيفيد ما ذكرنا من تعليق الحكم بالحيضية على سبيل القطع و الجزم بنفس مجرّد احتمالها.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن لمّا كان مورد الرواية المعتادة فلا يمكن التعدّي إلى غيرها، فغايته ثبوت القاعدة في خصوص المعتادة، و من المعلوم أنّ المدّعى أعم من ذلك.

قلت: مع إمكان أنّ لنا أن ندّعي العموم و التعدّي بواسطة عموم التعليل، فإنّ العبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد، يمكن دفع ذلك بأنّه إذا ثبت القاعدة في المعتادة التي لها مرجع مثل العادة، ثبتت لمن ليس لها عادة بطريق أولى، و مثل هذه الرواية أيضا الروايات الواردة في حيضية ما تراه الحبلى معلّلا بأنّه «ربما قذفت الرحم بالدم» أو «ربما بقي في الرحم شي ء».

ثمّ إنّا نتبع في معنى القاعدة على هذا ما يستفاد من الرواية، فنقول في كل موضع أمكن أن يقال: إنّه ربما يكون حيضا فهو مورد للقاعدة، و لازم ذلك أن

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 99

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 99

يكون موضوع القاعدة هو الإمكان الاحتمالي، فتكون جارية في المبتدئة أيضا بمجرّد رؤية الدم، سواء كان مع الصفات أم بدونها، كما هو أحد الأقوال فيها، فتفطن. لكن على هذا يرد في البين إشكال، و هو أنّه على هذا لا يحتاج الحكم بالحيضية إلى مئونة أزيد من وجود نفس الدم، مع ثبوت الاحتمال فيه، و لا حاجة مع هذين إلى ملاحظة عادة أو صفة، فيلزم على هذا لغوية العادة و الصفة، إلّا في مورد امتنع فيه جريان هذه القاعدة للمعارضة مثل المستمرة و

نحوها، و أمّا في غير ذلك فالقاعدة مقدمة على العادة و الصفة جميعا، لأنّ من المقرر في محلّه أنّه لو اقتضى ذات شي ء حكما، و اقتضى وصف هذا الشي ء الطاري عليه أيضا هذا الحكم، فهذا الحكم مستند و معلّل إلى الذات دون هذا العرض، لأنّ مرتبة الذات مقدّمة في الكون على ما يعرض عليها، و لا إشكال أنّ استناد المعلول يكون إلى أسبق علّتيها، و على هذا فلا بدّ من حمل الأخبار الدالّة على اعتبار العادة أو الصفة على خصوص المستمرة و نحوها من كل مورد سقط فيه القاعدة عن الأمارية و العلامية بالمعارضة.

و لا يخفى عليك أنّ بعضها و إن كان قابلا لهذا الحمل، و لكن البعض الآخر يأبى عنه و هو طائفتان منها:

الأولى: الأخبار المطلقة الدالة على أنّ الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض، و في غيرها ليس بحيض، فإنّها كما ترى دالّة على اعتبار العادة: بمعنى الحكم على الدم المرئي في غيرها بكونه استحاضة، من غير اشعار فيها بكون ذلك حكما لخصوص ما سقط فيه القاعدة عن الحجية، بل الموضوع فيها مطلق المرأة كما مرّ غير مرّة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 100

و الثانية: أخبار الاستظهار، فإنّها دالة على أنّ ما بعد أيام الاستظهار إلى تمام العشرة استحاضة، و هذا اعتبار للعادة مع أنّ ما بعدها أيضا قد يكون موردا للقاعدة، و هو ما إذا احتمل انقطاع الدم على العشرة أو ما دونها، و على هذا لا بدّ و أن تحمل تلك الأخبار على خصوص مورد لم يكن هذا الاحتمال في البين: بمعنى أن يكون الحكم بالاستحاضة مقيّدا بحال يأس المرأة عن الانقطاع، و قطعها بالنقاء إلى ما بعد العشرة، و

يكون الاستظهار مقيّدا بحال رجائها و احتمالها الانقطاع، فيكون الحكم في تلك الأيام بالحيضية موافقا للقاعدة و لأجلها.

و أنت خبير بأنّ هذا الحمل أيضا ممّا تأبى عنه هذه الأخبار أشد الامتناع، فلاحظها حيث لا يكون في أحد الحكمين فيها إشعار بشي ء من القيدين، بل كل منهما مطلق بالنسبة إلى كلتا الحالين.

و يمكن أن يقال: بأنّ القاعدة أمارة حيث لا أمارة، بمعنى أنّها مشتركة مع الأصل في أنّ موضوعها الشاك بما هو شاك، فهي أمارة مجعولة في موضوع الشاك مع لحاظ هذا القيد فيه، و على هذا فتكون العادة و الصفة مقدمتين عليها، لأنّ كلا منهما أمارة مطلقة فإذا كان في البين عادة أو صفة، فهنا ليس بحسب الشرع حالة احتمال و ترديد، إذ لا يتحقّق الاحتمال مع قيام الأمارة المعتبرة الشرعية، فليس حينئذ مجال للإتيان بلفظة «ربما» فلهذا يكون الحكم في مورد العادة أو الصفة بالحيضية لا محالة مستندا إليهما دون القاعدة، فينحصر مورد القاعدة في غير مورد العادة و التميّز، كأن لم تكن المرأة ذات عادة أصلا، و لم يكن الدم بالصفة أو رأت في غير عادتها مع عدم الصفة.

إلّا أن يقال: إنّ ظاهر الأخبار أنّه كما تكون العادة و الصفة عند ثبوتهما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 101

علامتين على الحيضية، كذلك تكون الصفرة في غير أيام العادة أيضا علامة و أمارة للاستحاضة، فيلزم عدم جريان القاعدة في غير مورد ثبوتهما أيضا.

و بالجملة فقوله: «الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض» كما يدل على أنّ الحكم بالحيضية يكون لأمارية العادة و مستندا إليها، كذلك قوله: «و في غير أيام الحيض ليس بحيض» يدل على أنّ الحكم بعدم الحيضية يكون لأمارية الصفرة للاستحاضة، فيكون

محصل الفقرتين أنّ الصفرة في أيام الحيض ليس لها علامية و أمارية للاستحاضة، بل الترجيح لعلامة الحيض و هي العادة، و أمّا في غير أيام العادة فهي علامة على الاستحاضة غير معارضة، و على هذا فحيث قد فرض أنّ القاعدة إنّما هي مشروعة في موضوع الاحتمال و التحيّر، و هو لا يحصل إلّا بعدم الطريق الشرعي الرافع للتحير، إمّا بتعيين الحيضية أو بتعيين الاستحاضية، فلا جرم تكون الصفرة أيضا علامة مقدمة على القاعدة.

و يمكن دفع ذلك بأنّ ظاهر الفقرة الأولى و إن كان أمارية العادة، و لكن ليس الفقرة الثانية ظاهرة في أنّ الصفرة علامة للاستحاضة، بل مفادها ليس بأزيد من نفي العلامية للحيض من جهة الصفرة، فيكون محصّل الفقرتين أنّ الصفرة في أيام الحيض حيض مطلقا، و أمّا في غير أيّام الحيض فلا يحكم مطلقا بحيضيته، بل ربما تكون حيضا لو كان هنا أمارة أخرى على الحيضية، و ربما تكون استحاضة لو لم يكن أمارة أخرى أيضا، فالفقرة الثانية على هذا تكون في مقام نفي علامية الصفرة للحيض، و نفي الحيضية المطلقة في قبال الحكم بها في الفقرة الأولى، لا في مقام إثبات علاميتها لنفي الحيض و الحكم بنفي الحيض مطلقا، و بعبارة أخرى يكون مفادها سلب المطلق لا السلب المطلق، فيكون المتحصل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 102

منها لا علامية الصفرة فيرتفع الإشكال.

و يمكن أن يخدش في أصل دلالة هذين الصنفين من الروايات، أمّا روايات الحمل فبأن يقال: إنّ الحكم بالحيضية فيها ليس معلّلا بالاحتمال، و ذلك لأنّ السائل إنّما كان منشأ شبهته هو تخيّل أنّ الحيض لا يمكن أن يجتمع مع الحمل، مع الفراغ عن سائر شرائط الحيضية و موانعها، فالإمام

ذكر لرفع هذا التخيل «أنّ كثيرا ما يجتمع الحيض مع الحبل» فالحكم بالحيضية معلّلا بذلك ليس إلّا دفعا للمانع من جهة الحمل، و حيث إنّ الفرض هو الفراغ عن سائر الشروط، فالحكم في الحقيقة مستند إلى المجموع، و يشهد لهذا أي لعدم كون الحكم في تلك الأخبار مستندا إلى محض هذا الاحتمال، التصريح في بعضها بالتفصيل بين صورة جامعية الدم للصفات و بين غيرها، فخصّ الحكم بالصورة الأولى.

و أمّا روايات التعجيل فبأن يقال: إنّها ذات احتمالين:

أحدهما: أن يكون المذكور فيها حكما على موضوع الاحتمال مع عدم التعرض لغيره: بأن كان السائل سأل عن الدم الذي تراه المرأة قبل عادتها بيوم أو يومين، أي عن حكم هذا الدم على نحو الإطلاق، من دون أن يأخذ في ذهنه مقدمة أخرى مفروغا عنها، فأجاب الإمام في هذا الموضوع «بأنّ الدم حيض لأنّه يحتمل تعجيل العادة» و هذا ظاهر أنّه دليل على القاعدة.

و الثاني: أن يكون جهة شبهة السائل خصوص تخلّف الدم عن العادة، بحيث لو لا هذه الجهة لما كان له ترديد في الحكم بالحيضية لاجتماع الأسباب المقتضية لها، فأجاب الإمام دفعا لهذه الشبهة «بأنّه كثيرا ما يتعجّل العادة» فحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 103

بالحيضية جزما من حيث إنّ الأسباب موجودة و المانع المتوهم مانعيته ليس بمانع، و على هذا فليس في الرواية دلالة على القاعدة، إذ لم يعلم أنّ الحكم بالحيضية بعد دفع احتمال المانعية، هل هو لأجل هذه القاعدة أو لغيرها كالصفات، فإذا دار الأمر بين هذين الاحتمالين سقطت الروايات عن الحجية و صحّة الاستدلال، هذا هو الكلام في هذه الروايات.

و ممّا يستدلّ به على القاعدة المذكورة الإجماع، و لا يخفى أنّ معقده أنّ

كلّ ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، فلا بدّ في تنقيح المراد من لفظة «الإمكان» فنقول: من جملة معاني هذه اللفظة، الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع بالذات، و الوجوب كذلك، و المراد به ما يقابل هذين، و المراد بالامتناع بالذات: هو أن يكون الشي ء بحيث كان تصور ذاته كافيا في الجزم بامتناعه، من دون حاجة إلى إقامة برهان مثل اجتماع النقيضين، كما أنّ الامتناع بالغير: عبارة عن كونه بحيث احتاج الجزم بامتناعه إلى مئونة برهان مثل شريك الباري، و من الواضح أنّه ليس هذا المعنى مرادا في المقام، و لا بدّ أن يعلم أنّ الامتناع الفعلي، و الوجوب الفعلي، لا واسطة بينهما حتى تسمّى تلك الواسطة بالإمكان، و ذلك لأنّ الشي ء إمّا لا يكون نقص في مقدّمات فعليته و تحقّقه في الخارج أصلا، و بعبارة أخرى قد تم جميع أجزاء علّته التامة، و إمّا يكون فيها النقص بعد، و بعبارة أخرى ما تم أجزاء علّته التامة، فعلى الأوّل هو واجب بالعرض، و على الثاني ممتنع كذلك، و ذلك لامتناع انفكاك المعلول عن علّته وجودا و عدما، فالإمكان الفعلي غير متحقّق حتى يكون محتمل الإرادة هنا.

نعم يمكن ملاحظة الإمكان في مرحلة الوقوع و التحقّق الخارجي بالنظر إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 104

جملة معينة من الشرائط و الموانع لوجود الشي ء «1»، فيقال: لا مانع و لا محذور في وقوع هذا الشي ء في الخارج من حيث هذه الشروط و الموانع، و يعبّر عن هذا الإمكان الإضافي بالإمكان الوقوعي، و هذا محتمل الإرادة في المقام: بأن يلاحظ الإمكان و عدم الامتناع بالإضافة إلى خصوص الشرائط، و الموانع الشرعية المقرّرة للحكم بحيضية الدم في الظاهر، لا بالنسبة

إلى تمام ما له دخل في حيضيته واقعا و في علم اللّٰه.

و من جملة معاني هذه اللفظة أيضا الاحتمال في مقابل القطع بأحد الطرفين، و هو أيضا محتمل الإرادة فصار أمر اللفظة في معقد الإجماع مردّدا بين هذين المعنيين، و تظهر الثمرة بينهما في أنّه على الأوّل، لا مجرى للقاعدة في أوّل زمان رؤية الدم، قبل إحراز استمراره إلى ثلاثة أيام، فإنّ من جملة الشرائط الشرعية لحيضيته ذلك، فقبل إحرازه يكون الدم شبهة مصداقية للقاعدة، لأنّ أمره دائر بين أن يكون ممتنعا واقعا، و هو على تقدير عدم حصول هذا الشرط، و بين أن يكون ممكنا و هو على تقدير حصول، و أمّا على الثاني فيجوز التمسّك بالقاعدة في أوّل الرؤية، لأنّ الدم حينئذ مصداق حقيقي للمحتمل الحيضية الذي هو موضوع القاعدة.

ثمّ لا يخفى أنّه عند الدوران بين ارادة هذين في لفظ «الإمكان» الواقع في معقد الإجماع يتعيّن الحمل على الأوّل، لأنّه أخص موردا من الثاني كما عرفت، فيكون قدرا متيقنا من الإجماع الذي هو الدليل اللبّي.

______________________________

(1)- بمعنى عدم المحذور بحسب الموانع من وجوده، بحيث لو لم يوجد كان مستندا إلى عدم المقتضى، و أمّا عدم المحذور في وجوده من جميع الجهات حتى من حيث تحقّق المعلول بدون علّته، فهو معنى الوجوب دون الإمكان- منه عفى عنه-

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 105

فيرد الإشكال حينئذ بأنّه لا بدّ على هذا في الحكم بالحيضية، مستندا إلى القاعدة من انتظار انقطاع الدم على العشرة أو ما دونها، كانتظار استمراره إلى الثلاثة، إذ كما أنّ من شرائط الحيض الاستمرار إلى ثلاثة، كذلك عدم التجاوز عن العشرة، فقبل إحرازه أيضا لم يحرز كون الدم من أفراد ممكن الحيضية، و

يكون التمسّك تمسّكا في الشبهة المصداقية و هو خلاف الإجماع، فإنّهم متّفقون على جريان القاعدة بعد الثلاثة، و إنّما الخلاف مخصوص بما قبلها.

إلّا أن يذب عن هذا الإشكال: بأنّ هذا الشرط يمكن إحرازه قبل مجي ء اليوم العاشر بالأصل الشرعي، و هو أصالة عدم حدوث الدم في الزائد على العشرة، فإنّ من المقرر في محلّه أنّه لو تحقّق مجرى الأصل في الزمان الآتي، و كان له أثر شرعي بالنسبة إلى الزمان الحاضر كان الأصل جاريا، و يترتّب عليه الأثر في الزمان الحاضر.

إلّا أن يقال: بأنّه يرد على التمسك بهذا الأصل لإحراز هذا الشرط، مضافا إلى توقّفه على القول بالأصل المثبت، لأنّ لسان الأصل إنّما هو عدم حدوث الدم الزائد، و لازمة عقلا هو اتصاف الدم الموجود في الزمان الحاضر بالإمكان، فلا يفيد لإثبات هذا الذي هو المهم إلّا على الأصل المثبت، أنّه معارض بالأصل الجاري في العكس، و هو أصالة بقاء الدم إلى ما بعد اليوم العاشر، فإنّ نفس الدم أمر وحداني يستمر باستمرار الزمان و الزمان ظرفه، فبهذا الاعتبار لا إشكال في جريان استصحاب البقاء.

نعم شخص الدم الحادث في خصوص الزائد بحيث جعل الزمان قيدا مشخّصا للموضوع، يكون مقتضى الاستصحاب عدمه فالاستصحابان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 106

متعارضان.

و يمكن دفع الثاني بما مرّ سابقا من عدم التعارض بين استصحابي الوجود و العدم، لأنّ كلا منهما جار على تقدير و لا يجري الآخر على هذا التقدير، و ليس ملاحظة الزمان تارة قيدا و أخرى ظرفا تحت اختيارنا و مشيتنا، بل المتبع في ذلك لسان الدليل الدال على اشتراط عدم التجاوز عن العشرة، فلا بدّ من ملاحظة أنّ المستفاد منه أي من النحوين، و أمّا الإشكال

الأوّل، و هو عدم إثبات الأصل المذكور اتصاف الدم بالإمكان فوارد لا محيص عنه، و هو وارد أيضا على التمسّك لعدم اجراء القاعدة قبل الثلاثة بأصالة عدم حدوث الدم في ما بعد، فإنّه أيضا كالتمسّك على الاجراء بعدها بهذا الأصل، فكما لا يثبت به في الثاني اتصاف الدم بالإمكان، لا يثبت به في الأوّل اتصافه بعدم الإمكان، فتدبر.

و يمكن أن يقال: إنّ الإمكان بحسب الشرائط فقط: يعني كل دم أمكن و لم يمتنع حيضيته من حيث الشرائط: من قبيل البلوغ و عدم اليأس و الاستمرار إلى ثلاثة أيام، فهو محكوم بالحيضية، و أمّا عدم التجاوز عن العشرة فليس من شرط حيضية هذا الدم، إذ يمكن أن يكون هذا حيضا و تجاوز الدم العشرة مع ذلك، بل التجاوز يجعل المقام من باب التّزاحم و ذلك لتحقّق دمين جامعين للشرائط مع عدم الجمع لهما في الحيضية، فإنّه استفيد من الشرع أنّ كل دمين لم يفصل بينهما العشرة، فليس لهما الجمع في الحيضية، و على هذا فالحكم بالحيضية يكون معلّقا على مضي الثلاثة لإحراز الشرط، و لكن لا يكون معلّقا على مضي العشرة و انقطاع الدم عليها أو ما دونها، لأنّ غاية ما يلزم لو اتفق التجاوز هو التزاحم، و بناء العرف إنّما هو العمل بأحد المزاحمين ما لم يروا و يعلموا المزاحم الآخر، ألا ترى أنّهم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 107

يعملون بالعام قبل الظفر بالخاص، و بالخبر الواحد قبل الظفر بالخبر الواحد الآخر المعارض، هذا حال قبل التجاوز.

و أمّا بعد حصوله فيرجع عن الحكم الحيضية إلى ما تقتضيه القواعد الأخر، و ربما كان مقتضاها الحكم باستحاضية أوّل الدم و حيضية آخره، و ليس هذا منافيا

لقاعدة الإمكان و خرقا للإجماع، إذ على هذا يكون الإجماع منعقدا على نفس القاعدة بوصف كونها قاعدة، و من المعلوم أنّ الحكم على نحو القاعدة معناه الرجوع عنه لو ورد خاص بخلافه، و بعبارة أخرى معقد الإجماع هو إثبات الحكم ما لم يعلم خلافه، فإذا علم الخلاف خرج عن موضوع الإجماع.

نعم لو كان إجماع على كل واحد واحد من الآحاد كان الرجوع المذكور خرقا له.

و حاصل هذا الوجه: أخذ الإمكان من حيث الشرائط دون الموانع، و جعل معقد الإجماع هو الحكم على نحو القاعدة. و لو ثبت الإجماع على الحكم بالحيضية بعد مضي الثلاثة مطلقا، يكشف عن ثبوت الإجماع على هذا النحو، و لكن الشأن في ثبوت ذلك، و الانصاف عدم إمكان الجزم به، و حينئذ يمكن دعوى الإجماع على معنى آخر أخص من هذا المعنى، و هو قدر متيقّن بالإضافة إليه.

و هو أن يقال بثبوته على حيضية المنقطع على العشرة، فإن كان من المعلوم الانقطاع عليها حكم بالحيضية من غير فرق بين جامعية الصفات و غيرها و بين ما قبل الثلاثة و ما بعدها، و أمّا مع عدم العلم بذلك فلا يحكم بالحيضية على نحو الإطلاق و حتى بعد الثلاثة، بل المرجع هو القواعد الأخر.

و حاصل هذا الوجه: أخذ الإمكان من حيث الشرائط و الموانع معا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 108

فبناء على هذا المعنى للإمكان، نقول في مقام الجمع بين قاعدة الإمكان مع الأخبار أنّ لنا ثلاث طوائف من الأخبار:

الأولى: الأخبار المتقدمة في أوّل الرسالة الدالّة على إيجاب الرجوع إلى الصفات، معلّلا بأنّ دم الحيض ليس به خفاء، و موضوعها و إن كان هو المستمرّة، لكن لا ريب في استفادة الكلّية منها، لوضوح

أنّ عدم الاختفاء من صفات ذات الدم و لا يختصّ به عند الاستمرار، و لهذا قالت السائلة ففي بعض هذه الأخبار «أ ترينه كان امرأة» و بالجملة لا إشكال في أنّ المستفاد منها أنّ كل دم أحمر أو أسود حيض، و كل دم أصفر استحاضة.

و الثانية: أخبار المتقدمة أيضا الدالّة على أنّ الصفرة في أيام الحيض حيض، و في غير أيام الحيض استحاضة، و كان في بعضها بدل الصفرة «الدم».

و الثالثة: الأخبار الاستظهار، فنقول: مع الغضّ عن الطائفة الثالثة التي هي أخبار الاستظهار: يعني مع فرض أنّ لنا الطائفتين الأوليين، مع قاعدة الإمكان فقط إنّ الجمع العرفي موجود. بيانه أنّا ذكرنا سباقا أنّ وجه رفع اليد عن الكلية المستفادة من الطائفة الأولى، هو لزوم التخصيص المستبشع على تقدير الحمل عليها، إذ لا يبقى تحتها سوى المستمرة، لأنّ غيرها إمّا مشمولة للعادة، أو لقاعدة الإمكان، و لكن على هذا نقول: الفرد الذي جعلناه القدر المتيقّن للإجماع على قاعدة الإمكان، و هي العالمة بانقطاع الدم على العشرة إمّا معدوم رأسا، و إمّا نادر ملحق بالمعدوم، و بعد الإغماض عنه، فالباقي و هو الأفراد الكثيرة من النساء، كلّها مشمولة لأخبار الصفات.

نعم قد استثني من هذه الأفراد من رأت الدم في أيّام عادتها، فإنّها تحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 109

بالحيضية و إن كان بصفة الصفرة كما هو مدلول الطائفة الثانية، فيقدّم الإجماع على الكلية المذكورة بالنسبة إلى الفرد النادر، و يقدّم الطائفة الثانية المتعرّضة للدم في أيام العادة أيضا عليها، و وجه تقديم الثانية أنّ النسبة بينها و بين الكلية ليس هو العموم من وجه: بأن كان مفاد الكلّية أنّ كل دم أحمر حيض و إن كان

في غير أيام العادة، و كل دم أصفر استحاضة و إن كان في أيام العادة، و كان مفاد الثانية أنّ كل دم في العادة حيض و إن كان أصفر، و كل دم في غيرها استحاضة و إن كان أحمر، بل مفاد الكلية و إن كان ما ذكر، و لكن مفاد الطائفة الثانية إنّما هو التصريح: بأنّ الصفرة في أيام العادة حيض، و بعبارة أخرى ليس شمولها للصفرة كشمول الأولى لأيام العادة على نحو الشمول و الإطلاق، بل يكون على نحو التصريح، فيكون لها نظر حكومة على الكلية المذكورة، فتكون مقدمة على الكلّية قهرا.

نعم يبقى الكلام في أنّه كما مرّ يكون في بعض أخبار الطائفة الثانية بدل الصفرة «الدم» و لفظ الدم على ما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- اختياره يكون منصرفا إلى خصوص الأحمر، بشهادة مقابلته في بعض الأخبار مع الصفرة، و ملاحظة مرادفه في الفارسية و هو لفظ «خون» حيث إنّه منصرف عن الصفرة و يقابلها و يقال لها «خونابه» و على هذا فلا يمكن تقييد الفقرة الثانية من هذه الأخبار الدالّة على استحاضية الدم في غير أيام العادة بخصوص الصفرة جمعا بينها و بين الكلية المذكورة، إذ يلزم حمل المطلق و هو لفظ «الدم» على الفرد النادر و هو الصفرة، و بعد سدّ باب هذا التقييد انتفى الجمع العرفي بين هذا الصنف من الطائفة الثانية و بين الكلّية.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 110

و لكن يمكن أن يقال بثبوت الجمع العرفي هنا أيضا، بأن يقال: إنّ التبادر و الانصراف المذكور لا إشكال في أنّه حصل من الإطلاق، و لا من حاق اللفظ بمعنى أنّ المنفهم من حاقه مع الغض عن الإطلاق، هو

المعنى الأعم و ليس انفهام الخاص إلّا بملاحظة الإطلاق، و ما كان كذلك يمكن انفكاكه عن اللفظ، ألا ترى أنّ لفظة «شكر» في الفارسية له انصراف إلى خصوص الأبيض، بحيث يكون تقييده به باردا و مثل التقييد في قولك (ماست سفيد)، و لكنّه قد ينفك منه هذا الانصراف و يكون تقييده صحيحا و واقعا في المحل، كما في مقام إطلاق الطبيب في نسخة المعالجة للمريض، ألا ترى أنّهم يقيّدونه و يكتبون (شكر سفيد) و هذا بخلاف الشخص الصحيح إذا أراد الشراء فلا يقول للعطار مثلا (شكر سفيد مى خواهم) فنقول: نظير هذه اللفظة لفظة (خون) فلا ينافي تبادر خصوص الأحمر منه عند الإطلاق، انفكاكه عنه و صحّة التقييد في بعض المقامات، ألا ترى أنّه لو قيل: (زن جوانى خون ديده) يتبادر منه الأحمر، و لو قيل:

(زن پيرى خون ديده) ليس له هذا الانصراف، و وجهه أنّ في مورد المرأة المسنّة لا يكون الدم بصفة الحمرة إلّا في شاذ من الأوقات، و الغالب كونه بصفة الصفرة.

و إذن فيمكن أن يقال: إنّ حال الدم المتجاوز عن أيام العادة المتعارفة، مع فرض الرؤية فيها حال الدم المضاف إلى المرأة المسنّة، فإنّ الفرد الغالب في هذا أيضا هو الأصفر، لأنّه في زمان فتور الدم و انتهائه، و الغالب فيه التبدّل إلى الصفرة، و على هذا فيكون الفرد النادر في أوّل الدم هو الأصفر و في آخره هو الأحمر.

و بالجملة المدّعى إثبات عدم الانصراف لا الانصراف إلى الخلاف: بمعنى أنّ تقييد الفقرة المذكورة بخصوص الأصفر بحكم الكليّة المذكورة، لا يكون من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 111

قبيل التقييد بالفرد النادر.

هذا كلّه مع قطع النظر عن أخبار الاستظهار. و أمّا مع

النظر إليها، فلو كان المذكور في تمامها لفظ الدم كان الأمر سهلا لوجود الجمع العرفي، و هو حمل الدم على الجامع فيكون الحكم بالحيضية على طبق الكلية، و كان الاختلاف في عدد الأيام باليوم الواحد و اليومين و الثلاثة و حيت العشرة، منزلا على الاختلاف في عدد ما يفصل بين العادة و تمام العشرة، ففي ما كان العادة تسعة واحد و في ما كانت ثمانية اثنان و هكذا، و لكنّه قد عرفت في ما تقدم أنّ الأمر ليس كذلك، لوجود الدم الرقيق في بعض تلك الأخبار و لا محمل له سوى الصفرة، فالحكم بالحيضية لا يجامع الكلية المذكورة بوجه، و لهذا ذكرنا أنّه لا جمع عرفيا بين هذه و الطائفة المتقدمة، و ليس أيضا من مقام الرجوع إلى المرجح السندي، لكون كلا الطرفين متواترا قطعيا فلا يبقى سوى التخيير الأصولي، أعني: التخيير في الحجية. و حينئذ فإن أخذنا بالطرف الآخر للتخيير و هو غير أخبار الاستظهار، فقد عرفت أنّه يتحقّق بين تينك الطائفتين من الأخبار مع قاعدة الإمكان جمع عرفي، و يصير الأمر في غاية السهولة ..

[الفصل الثاني] في الاستبراء:

اشارة

لا يخفى أوّلا عدم التنافي بين أخباره و أخبار استحاضيّة ما زاد عن العادة، أو عن أيام الاستظهار حيث تدل على حيضية الدم عند خروج القطنة متلطخة، حتى لو كان ذلك عند انقضاء العادة، أو أيام الاستظهار، و هما يدلّان على كون الزائد استحاضة، وجه عدم المنافاة ورود الأخبار، الأول في كل مورد كان حيضية الدم عند خروجه مفروغا عنها، مثل أثناء العادة و أثناء أيام الاستظهار لو قلنا بوجوبه، و الشاهد قوله: «انقطع الدم فلا تدري أطهرت أم لا»، ففرع الجهل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 112

على الانقطاع، يعني: لو كان غير منقطع ما شك في حيضيته، فعلى هذا لا إطلاق لها بالنسبة إلى المعتادة خمسا، إذا انقضى الخمس و استظهرت بثلاثة فصار ثمانية، ثمّ انقطع الدم ظاهرا مع احتمال بقائه في الباطن في التاسع فلا يشرع في حقّها الاستبراء، إذ لو كان الدم في الظاهر كان محكوما بعدم الحيضية، كما أنّه لو قلنا باستحباب الاستظهار كان عمل الاستبراء في أيامه مستحبا، و من هنا ظهر ما في عبارة من عبّر بما ظاهره الإطلاق لما بعد الاستظهار مع قوله باستحبابه.

و حق العبارة أن يقال: لو انقطع الدم لدون عشرة مع احتمال بقائه في الباطن، و كان بحيث لو ظهر في الخارج كان محكوما بالحيضية وجب الاستبراء بإدخال القطنة، فإن خرجت نقية وجب الغسل، و إن خرجت متلطخة فالمبتدئة و من لم تستقر لها عادة تصبر ان ما دام خروج القطنة متلطخة، إلّا أن تمضي العشرة و كذا من له العادة عشرا، و أمّا من له عادة أقل منها تصبر أيضا ما دام التلطّخ ما لم تخرج عن العادة وجوبا، و بعدها ما لم ينقض الاستظهار استحبابا على القول بالاستحباب، و على القول بالوجوب في كليهما وجوبا، و أمّا بعدهما فليس بواجب و لا مستحب بل يحكم بالاستحاضة.

ثمّ إنّ في أخبار الاستبراء احتمالات:
الأوّل: الإرشاد

بمعنى أنّ المراد الإرشاد إلى عمل كان فائدته خروج الغسل و سائر العبادات عن معرضية الفساد و اللغوية، و عن كونها بحيث ربما ظهر فسادها بانكشاف وقوعها في حال الحيضية، و كذا الصون عن وقوع أعمال وظيفة الحائض على تقدير اختياره باستصحاب الحيض في غير المحل، لانكشاف الطهر حينه في المستقبل.

و الحاصل كأنّه قال: إن أردت أن لا يقع عملك متزلزلا و قابلا لأن

ينكشف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 113

وقوعه مع عدم الموضوع فعليك بعمل الاستبراء، و إن أردت تركه فلك الخيار، و هذا خلاف الظاهر من صيغة الأمر، فإنّ إرادة الإرشاد خلاف ظاهرها في كل مقام بل الظاهر هو المولوية.

الثاني: الوجوب النفسي:

بأن يكون واجبا بلحاظ نفسه في قبال سائر الواجبات النفسية الثابتة في الشريعة، من دون ملاحظة واجب آخر في إيجابه، و هذا أيضا خلاف الظاهر كما يظهر وجهه من الشق اللاحق.

الثالث: الوجوب الشرطي:

بأن يكون واجبا لأجل المقدمية الوجودية و الشرطية لصحّة الغسل، فكما أنّ صحته منوطة ببعض أمور أخر، كذلك في حقّ هذه الحائض المترددة تناط الصحة بالاستبراء أيضا فلا يصح بدونه، و هذا ظاهر من قوله: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة» فانّ الظاهر الأوّلي من هذه العبارة كون وجوب الاستدخال مشروطا بإرادة الغسل، مثل: «إن استطعت فحج» و لكن هذا المعنى مقطوع عدم إرادته من العبارة، إذ لا يحتمل أحد أن يكون من الواجبات النفسية في الشريعة هو عمل الاستبراء أجنبيا عن الغسل و غيره، و كان مشروطا وجوبه بإرادة المكلّف الغسل.

و هذا جار أيضا في قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا «1» يعني:

إذا أردتم القيام فنقطع بعدم إرادة كون الغسل واجبا نفسيا مشروطا وجوبه بإرادة القيام، فإذن لا بدّ من الحمل على أنّ المراد بعد الفراغ عن وجوب الصلاة و فهم المخاطب له و تداوله في ما بينهم، فكأنّه قال: حين ما تريدون الصلاة التي صار من شغلكم إرادتها يجب عليكم الغسل، و هذا المعنى يفيد الشرطية و إلّا لم يكن

______________________________

(1)- المائدة/ 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 114

ارتباط بين الغسل و بين الصلاة، بل لا بدّ من أن يكون ذلك لأجل أنّ حصول المطلوب يتوقّف عليه، لكونه مقيّدا بمصاحبته و كذا الكلام في ما نحن فيه حرفا بحرف، و لكن هذا، أعني: الحمل على الشرطية يستلزم بطلان الغسل حتى مع نسيان الاستبراء، أو عدم التمكن منه لفقد الشرط المعتبر

شرعا، و هذا خلاف ما يلتزمونه من صحته عندهما لو انكشف براءة الرحم حالهما في المستقبل.

فإن قلت: لو كان بيان شرطية الشرط بقولنا: فلان شرط لكذا كان له الإطلاق لجميع الحالات: من الذكر، و النسيان، و القدرة و عدمها، و أمّا لو كان بيانها بصيغة الأمر فحيث إنّ الخطاب لا يمكن توجيهه إلّا نحو القادر و الذاكر، فلا جرم تصير الشرطية في حق الناسي و غير القادر بلا دليل و غير مشمول لإطلاق الدليل.

قلت: قد بيّن جواب ذلك في محلّه: و هو أنّه و لو سلّمنا عدم صحة توجيه الطلب نحو الناسي كغير القادر، لكن نقول فيه و غير القادر أنّا نأخذ في إثبات الشرطية بإطلاق المادة، إذ لا مانع من جريانه فيهما و المانع إنّما هو في جانب الهيئة، فالهيئة و إن كانت مقيّدة عقلا بغيرهما، و لكن نفهم من إطلاق المادة و عدم تقييده بحال من الأحوال، أنّ الشرط نفسه في جميع الأحوال، فإذن لا يبقى وجه لما ذكروه من الصحّة في تينك الحالين.

و يمكن أن يقال في توجيهه: بأنّ الوجه في رفع الشرطية حالهما قضية حديث رفع النسيان و ما لا يطيقون، فإنّه بعد فرض شموله لغير المؤاخذة من الآثار الأخر بقرينة استشهاد الإمام به، لفساد الحلف الإكراهي بالطلاق و العتاق، لا مانع من العمل به لرفع الآثار الوضعية من الشرطية، و الجزئية، و غيرهما عند نسيان الإتيان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 115

بموضوعيهما في الخارج لا عند نسيان نفسهما، إذ رفعهما حينئذ مستلزم للدور، للزوم تقيدهما بالعلم بهما، غاية الأمر أنّك تقول: إنّا نقطع في كثير من موارد في الشريعة لم يسقط الشرط أو الجزء بنسيانهما، فرفعهما بنسيان الموضوع خلاف

المعهود من الشريعة، كما لا يخفى على لاحظ الشرائط و الأجزاء للصلاة و غيرها، فجوابك أنّ تلك الموارد خرجت عن الحديث بالإجماع.

فإن قلت: هذا الوجه الذي [ذكرت] من حمل الأخبار على الوجوب الشرطي غير معقول من الأصل، لاستلزام تقدّم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها مع كونه معلولا له و من ترشحاته، و ذلك لأنّك قلت: إنّ الاستبراء شرط و مقدمة وجودية للغسل، و المفروض أنّ المرأة مرددة في وجوب الغسل عليها و عدمه، للشك في تحقّق شرط وجوبه من نقاوة الرحم، فكيف وجب عليها ما هو شرط صحّة الغسل مع أنّه شاك في وجوب أصل الغسل.

قلت: من الممكن أن يوجب الشارع مقدمة واجب عند الشك في وجوب ذاك الواجب من باب الاحتياط، و لأجل صون شرط الواجب على تقدير وجوبه، فيكون وجوب المقدمة حينئذ وجوبا طريقيا لحفظ الواقع: يعني أريد به حفظ شرط الغسل لو كان واجبا في الواقع: بأن كانت المرأة طاهرة، فتفطّن.

ثمّ إنّ للوجوب الشرطي هنا احتمالين:

الأوّل: كون الشرط نفس العمل الخارجي الأركاني الذي هو إدخال القطنة.

و الثاني: كونه أمرا آخر يكون ذلك العمل الخارجي محقّقا و محصّلا له، و هو إحراز نقاوة الباطن و الظاهر هو الثاني، لقوله: «فإن خرجت أي القطنة نقية وجب الغسل»، فرتّب وجوب الغسل على ما حصل من إدخال القطنة، و هو إحراز

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 116

النقاوة.

ثمّ شرطية نتيجة العمل الخارجي بحسب عالم التصوّر يمكن على نحوين:

الأوّل: أن يكون الشرط هو النقاوة بواقعها و لو لم يكن معها إحراز.

و الثاني: أن يكون الإحراز أيضا دخيلا في الشرط. و تظهر الثمرة في ما لو غسلت بدون الإحراز، ثمّ تبيّن كونها نقية حين الغسل، فعلى الأوّل يصح،

و على الثاني [لا يصحّ] لعدم وجود جزء ممّا هو الشرط واقعا و هو الإحراز.

و الثاني و هو شرطية الإحراز، و العلم بالنقاوة أيضا ذو احتمالين:

الأوّل: أن يكون ملاك اشتراطه حصول الجزم في القربة للمكلّف، و لا ينافي ذلك ما قرّر في محلّه: من عدم شرطيته في العبادة عقلا، إذ يمكن وجود خصوصية في خصوص هذا المقام في نظر، أوجبت المطلوبية بهذا النحو من القرب، أعني:

الجزمي دون الرجائي.

و الثاني: أن يكون وجهه و علّته أمرا آخر غير ذلك لا نعلمه، و على الأوّل يسهل الأمر في الناسية للاستبراء و غير المتمكنة.

أمّا الأولى فلوجود ما هو الشرط واقعا فيها، و هو الجزم في القربة إذ مع النسيان يقطع العمل بصورة الجزم.

و أمّا الثانية فلأنّ شرطية الجزم في القربة إنّما هي مقيّدة بحال التمكّن من تحصيله، و أمّا مع عدم التمكن فالرجاء كاف بالاتفاق، حتى من القائل باعتبار الجزم في العبادة، فتدبر.

هذا كلّه بحسب التصوّر و أمّا بحسب مقام الإثبات فلا يبعد أن يقال: إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 117

الظاهر كون الشرط هو الإحراز، و إطلاق المادة مثبتة للشرطية حتى في حالي النسيان و عدم التمكّن، كما تقدّم و لكن نرفعها بحديث الرفع.

الاحتمال الرابع في الأخبار: هو الوجوب المولوي الطريقي

بأن يكون الشارع غير رافع اليد عن الواقع، بل يريد من المكلّف الواقع على ما هو عليه، يعني إن كانت هذه المرأة حائضا فلم يرفع اليد عن اعمال وظيفة الحائض، و إن كانت طاهرة فلم يرفع اليد عمّا هو وظيفتها، و هذا نظير سائر الوجوبات الطريقية المقرّرة في الشريعة، التي يكون المطلوب فيها طريقيّتها إلى الواقع، و استكشاف الواقع بها لما رآه من كونها غالب المطابقة معه، مثل الأمر بالتعبّد بخبر الواحد،

و الأمر بعدم نقض اليقين بالشك، و الأمر بتصديق العادل و غيرها، و من لوازم الوجوب الطريقي استحقاق العقوبة على مخالفته في تقدير واحد، و هو صورة المطابقة مع الواقع دون الاستحقاق مطلقا و في جميع التقادير حتى في صورة المخالفة، و بهذا يمتاز عن الوجوب النفسي و المقدّمي، حيث يترتب استحقاق العقوبة على مخالفة الأوّل مطلقا، و لا يترتّب على مخالفة الثاني عقوبة أصلا، و إن قلنا بأنّها تورث الاستحقاق على مخالفة ذي المقدمة.

و الحاصل أنّ حال الاستبراء في حقّ المرأة الشاكّة حال وجوب الفحص الذي يحكم به العقل في الشبهات الحكمية، حيث لا يجوّز اعمال الأصول بمجرّد عروض الشك، بل يلزم الإنسان بالفحص لئلّا يفوت عنه الواقع على تقدير وجوده بمحلّ وصول يد المكلّف إليه لو تفحّص عنه، فهنا أيضا أوجب الشرع الاستبراء لاستكشاف الحال من الحائضية و الطاهرية لئلّا يفوت عنها الواقع،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 118

فيجوز لها إدراكه بطريق آخر غير الاستبراء، مثل الاحتياط، فانّ الغرض الأصلي هو إدراكه، كما يجوز في الشبهات الحكمية ترك الفحص و الأخذ بالاحتياط، و لا يستفاد بناء على هذا الوجه الشرطية من هذه الأخبار، فيكون الصحة في حقّ الناسية و غير المتمكّنة على القاعدة لو انكشفت البراءة، و الظاهر انّ هذا أظهر من الاحتمالات السابقة، فإنّ قوله: «فإن خرجت نقية اغتسلت» في غاية الظهور في أنّ الشرط نفس النقاوة دون إحرازها، و انّ المقصود من الاستبراء استعلام حال الواقع.

فإن قلت: نعم و لكن خلاف ظاهر قوله: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل» حيث تقدّم ظهوره في الشرطية.

قلت: الغالب في النساء انّه متى انقطع الدم في الظاهر يرتّبن أحكام الطاهر، و لا يتنبّهن لاحتمال بقاء

الدم في الباطن فيشتغلن بالغسل بمجرّد ذلك، فقوله: «إذا أرادت الحائض» بمنزلة قوله: «إذا حصل الشبهة بواسطة الانقطاع في الظاهر وجب استعلام الحال و العمل بالواقع على ما هو عليه» فعبّر عن صورة الاشتباه بما صار الغالب عنده مع عدم التفطّن له من إرادة الغسل، إذ قلّما ينفك إرادتهن الغسل عقيب الانقطاع عن الاشتباه المزبور، و يجتمع مع القطع بنقاء الباطن.

بقي الكلام في أنّ ما وجه ما ذهب إليه الفقهاء من الحكم ببطلان الغسل، مع وقوعه بدون الاستبراء مع التنبّه و لو انكشف كونه في حال البراءة؟ و يمكن أن يكون مبناه ما ذهبوا إليه من اعتبار الجزم في القربة في العبادة، و عدم كفاية القربة الرجائية مع التمكّن من الجزم، و على هذا لا مجرى للاستصحاب، إذ مع الوجوب الطريقي لا محل للأصول العملية للورود أو الحكومة على المقرّر في محله، و لكن في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 119

مورد انتفاء هذا الوجوب كما في المرأة العمياء الفاقدة للمرشد، حيث لا يعقل تكليف غير القادر لا مانع من إجراء الأصل. هذا في غير القادرة، و أمّا في الناسية فهي داخلة تحت عموم الخطاب بالاستبراء، إذ قد قرر في محلّه عدم المانع من توجيه الخطاب نحو الناسي.

نعم لا يعقل توجيهه بهذا العنوان، و إذن فالأصل غير جار في حقّها كالذاكرة، و لا بدّ من التكلّم في هذا الأصل انّه هل هو استصحاب الحيضية أو عدمها.

فنقول: فرع شيخنا المرتضى ذلك على القول بأنّ الأمور التدريجية، مثل الماء الخارج عن المادّة شيئا فشيئا و مثل المشي و الحركة، هل هي قارّة و أمر واحد مستمر، أو هي في كل زمان وجود مستقل غيره في الزمان الآخر،

فإن قلنا بالأوّل فالحالة السابقة هو الوجود و إلّا فهو العدم كما هو واضح.

و الحق أن يقال: إنّ الاستصحاب في المقام يقتضي الحكم بالحيضية مطلقا، و على كلا القولين: أمّا على الأوّل كما هو الحق فواضح.

و أمّا على الثاني فلاستصحاب أحكام الحيض الثابتة قبل الشك، و أمّا دعوى أنّه مسبب عن الشك في وجود الدم، و المفروض أنّ الأصل في طرفه يقتضي العدم فمدخولة بانّا لا نسلّم تسبّبه عن خصوص ذلك، بل عن أحد أمرين إمّا هو و إمّا النقاء المتخلّل، إذ هو أيضا سبب للحكم بالحيضية و ملحق بالدم، فأصالة عدم الدم لا ينفع إلّا لرفع الحيضية المسببة عنه، و لا يرفع الحيضية المسببة عن الأمر الآخر إلّا بالتلازم العقلي، إذ الدم إذا كان معدوما إلى آخر العشرة، فلازمه العقلي عدم النقاء المتخلّل فإنّه يحتاج إلى دمين في طرفيه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 120

فإن قلت: إنّا نجري الأصل في هذا السبب كما أجريناه في السبب الآخر، و يصير الأصل الحكمي محكوما لكليهما، و ذلك لأنّ النقاء المتخلّل أمر حادث يحتاج إلى احتفاف نقاء بدمين، فالأصل عدم تحقّق هذا الأمر الحادث.

قلت: هذا الأصل غير جار لعدم إحراز الموضوع فيه، فيبقى الأصل الحكمي سليما، و وجه عدم الإحراز انّه يمكن تعلّق الحكم بهذا الموضوع على نحوين:

الأوّل: وجود النقاء المتخلّل على نحو مفاد كان التامة، و اعتبر الموضوع معروضا للوجود، و هذا يصح استصحابه عند الشك في تحقّق كل من النقاء و وصف تخلّله، إذ تحقّقه يتوقّف على تحقّق كلا الأمرين فالشك في كل منهما يكفي لاستصحاب عدمه.

و الثاني: تخلّل النقاء على نحو مفاد كان الناقصة: بأن لوحظ النقاء بعناية الوجود فيصير معروضا لحالتي التخلّل و

عدمه، فترتّب الحكم على حالة تخلّله، و هذا لا يصح استصحابه إلّا مع إحراز أصل النقاء متّصفا بأحد الحالين في السابق، ثمّ الشك في بقاء تلك الحال في اللاحق، و أمّا مع الشك في أصل وجوده فلا يمكن استصحاب عدم التخلّل الثابت قبل وجود النقاء، لأنّ المفروض أنّ الموضوع أخذ على نحو كان الناقصة و عدمه هو مفاد ليس الناقصة، مع عناية الوجود في الموضوع لا هي مجردا عن هذه العناية، و المقطوع السابق هنا هو الثاني و هو غير موضوع، و الأوّل الذي هو الموضوع ليس له حالة سابقة لا عدمية و لا وجودية، إذ صيرورته ذا حالة سابقة إنّما هي بعد وجود أصل النقاء. و أمّا عدم كلا الحالين بعدم معروضهما فليس بموضوع رتب الأثر عليه شرعا، و حيث إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 121

الدليل في مسألة إلحاق النقاء المتخلّل ليس لفظيا حتى يستظهر منه أحد الوجهين، و إنّما هو الإجماع على أنّ أقل الطهر العشرة يبقى الأمر متردّدا بينهما، و معه لا يصح الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع. و حيث إنّ توضيح الحال يحتاج إلى بسط المقال مضافا إلى كون المسألة من المهمّات التي يتفرّع عليها فروع كثيرة في الفقه لا بأس بالتكلّم فيها.

توضيح مسألة أصولية

فنقول: اعلم أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر في الرسائل عند بيان اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب كلاما حاصله: أنّ إحراز وجود الموضوع في الخارج شرط في الآثار التي موضوعها الوجود، و ليس بشرط في الآثار التي موضوعها الماهية، مثلا لو أريد استصحاب حياة زيد فهو صحيح مع الشك في وجوده، و أمّا لو أريد استصحاب قيامه فهو لا يصحّ إلّا مع إحراز وجوده.

و ذكر بعض الأساتيذ-

قدّس سرّه- في تعليقته هنا ما حاصله: أنّ المراد ببقاء الموضوع المعتبر في الباب هو إثبات الحكم في القضية المشكوكة، لعين ما ثبت له في المتيقّنة، بمعنى أنّ المتيقّن لو كان قيام زيد، فلا يثبت بالاستصحاب القيام لعمرو بل اثبت لموضوع نفسه و هو زيد، و أمّا إحراز وجود زيد فليس من بقاء الموضوع المعتبر، فمع الشك في وجوده أيضا يصحّ استصحاب القيام إذ بالاستصحاب لم يثبت القيام إلّا لزيد، و جعل هذا توضيحا لمرام الشيخ و ذكر أنّ الداعي إلى ذكره اشتباه بعض الطلبة و فهمه من العبارة خلاف المراد، فكأنّه فرض المطلب من الواضحات في الغاية، حتى رأى نسبة الخلاف إلى الشيخ جسارة بالنسبة إليه فجعله شرحا لمرامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 122

أقول: هذا كلامه- قدّس سرّه- في الموجبة و من المعلوم جريانه في السالبة أيضا، بل قد يقال: إنّه فيها بطريق أولى فإنّ السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع أصلا، و منشأه جعل السالبة في تمام المقامات بمعنى واحد، فقولنا: زيد ليس بقائم عند عدم وجود زيد و عند وجوده و عدم قيامه، يكون بمعنى و لا يختلف السلب حسب اختلافهما، و هذا أيضا هو الظاهر من المنطقيين حيث ذكروا أنّه لا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع يعني لا يعتبر في السالبة، و ذكروا أيضا أنّ موضوع الموجبة أعمّ من موضوع السالبة، و الحق خلاف ما ذكره في كلا المقامين، أعني: في الموجبة و السالبة، امّا في السالبة فلأنّا إذا راجعنا الوجدان نرى معنيين مختلفين للسلب، و نرى السلب بعناية الوجود في الموضوع غير السلب بدونها كما يعلم بالمراجعة، و حينئذ فنقول: إذا قال المتكلّم: إذا كان زيد قائما صل

ركعتين فهو لا حظ وجود زيد بالمعنى الحرفي، و رأى له بهذه الملاحظة حالين: أحدهما القيام و الآخر عدمه، فجعل لكل منهما حكما، فالموضوع إنّما هو هاتان الحالتان المنوطتان بوجود زيد، و دخل وجوده إنّما هو عقلي حيث لا يعقل القيام و عدمه الربطيّان بدونه، و المتكلّم ساكت عن تقدير عدم زيد و غير متعرض له فهاهنا دعويان:

الأولى: أنّه لو شك بعد وجود زيد و اتصافه بإحدى الحالتين، في اتصافه بإحديهما لأجل الشك في أصل بقاء زيد، فلا يجوز استصحاب شي ء من وجوده و من وجود حالته المعلومة في السابق.

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس بموضوع رتّب عليه الأثر، إذ قد عرفت ملاحظته بالمعنى الحرفي. نعم لو كان ملحوظا بالمعنى الاسمي، كما لو قال زيد إن وجد و قام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 123

كان دخيلا شرعا و صح استصحابه، و لكنّه خلاف الفرض. نعم هذا الاستصحاب من أثره عقلا وجود التفصيل بين القيام و القعود.

و أمّا الثاني: فلأنّ الحالة السابقة إن كان هو القيام، فإمّا أن يستصحب القيام النفسي أعني: ما هو مفاد كان التامة فهو غير الموضوع، و إمّا أن يستصحب القيام الربطي و هو فرع أن يكون موضوعه و هو وجود زيد محرزا، إذ الوجدان حاكم بانّ القيام الربطي مغاير في المعنى مع النفسي، مثلا تارة نقول: قيام زيد أو ربط القيام بزيد متى تحقق صلّ ركعتين، و تارة نقول: إذا كان زيد قائما صلّ ركعتين، فالأوّل يحتاج إلى زيد و قيام و ربط بينهما، فكل من هذه الثلاثة لم يتحقّق تحقّق عدم ذاك المعنى، و أمّا الثاني فليس له إلّا عدم واحد و هو انتفاء القيام مع وجود زيد، و أمّا عدمه

بانتفاء زيد فغير متصوّر في القضية و لم يتعرّض له أصلا، فهذا المعنى متى أريد استصحابه يحتاج إلى وجود زيد و بدونه لا يتم.

نعم هنا أمر آخر أيضا يصح استصحابه: و هو أنّ هذه القضية، أعني: زيد قائم لم تكن بموجودة، لكن حاله أيضا حال عنوان قيام زيد أو ربط القيام بزيد، حيث إنّه أيضا له حالة سابقة عدمية، و لكن كل ذلك أجنبي عمّا هو الموضوع في المقام و هو القيام الربطي، و من ذلك يعلم الكلام في السلب، حيث عرفت اختلاف المعنى في السوالب المختلفة في عناية الوجود في الموضوع و عدمها.

و الدعوى الأخرى: أنّه لو شك من الابتداء في وجود زيد، فشك من هذه الجهة في قيامه و عدم قيامه، لا يصح الاستصحاب أيضا لا في عدم نفسه و لا في عدم قيامه.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ وجوده غير ذي أثر شرعا، و إنّما العقل يرتّب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 124

عليه الأثر المجعول شرعا، بمعنى أنّه إذا قال الشارع: زيد إن قام صلّ ركعتين، و إن لم يقم فلا يجب صلاة ركعتين، فالشرع و إن لم يلاحظ وجود زيد على نحو يصح الحكم عليه و لا به، و لكن العقل يحكم بأنّ وجود زيد موجب لحصول التفصيل المذكور، و عدمه موجب لعدم هذا التفصيل، و أمّا مع عدمه فهل الحكم هو الإثبات مطلقا، أو النفي مطلقا، أو في البين تفصيل آخر فغير معلوم، و إنّما الموضوع الذي رتّب عليه الشارع الأثر هو الحالة القيامية و حالة عدم القيام، الملحوظتان في حالة وجود زيد من باب عدم انفكاكهما عن وجوده عقلا، لا من باب دخله في الموضوع شرعا، مع أنّه

لو قلنا بجريان الاستصحاب لهذا الأثر العقلي فليس بنافع في المقام، لما أشرنا إليه من عدم معلومية الحال عند عدم وجود زيد، لا معلومية عدم الحكم و إنّما المعلوم عدم التفصيل.

و أمّا الثاني: بأن نستصحب عدم القيام الربطي دون النفسي، حيث إنّه كان منعدما عند انعدام الموضوع، فلأنّ هذا العدم له شق ثالث نظير العمى و البصر إذا فرضا في موضوع خاص مثل الإنسان، فانّ العمى بمعنى عدم البصر، فإذا قلت: لا عمى في هذه الدار، فهو يناسب لأن لا يكون فيها إنسان أصلا، و لأن يكون فيها إنسان و لكن كان واجد البصر، فهاهنا أيضا لوحظ القيام و عدمه في تقدير حفظ وجود زيد، فعدم عدم القيام بهذا المعنى له شقّان: أحدهما: وجود التقدير مع وجود القيام، و الثاني: عدم أصل التقدير، و الذي يكون مقابلا هو قيام زيد مع عدم القيام في لحاظ حفظ التقدير، و أمّا عدم التقدير فمقابل لوجود التقدير و كلاهما خارجان عن تحت الحكم الشرعي، و إنّما أثر الأوّل عدم الحالين و أثر الثاني وجود أحدهما بحسب العقل، فثبت أنّ استصحاب عدم عدم القيام لا فائدة فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 125

إذ هو يتحقّق بعدم التقدير، و هو غير الموضوع الذي رتّب عليه الأثر شرعا، و على تقدير الاستصحاب للأثر العقلي و هو ارتفاع التفصيل عن البين لا ينفع، إذ يبقى الأمر مردّدا بين الإثبات المطلق و النفي كذلك و التفصيل بنحو آخر.

و الحاصل أنّ الوجود و العدم المطلقين لا ثالث لهما، فلا جرم كل منهما وقع موردا لحكم وقع الآخر موردا لنفيه. فالشارع و إن لم يصرّح بكلا الطرفين لكن تصريحه في أحدهما يكون بمنزلة الترتيب

في الآخر، و أمّا الوجود و العدم الملحوظان في تقدير وجود أمر آخر، فلهما شق ثالث هو عدم التقدير و هو خارج عن ترتيب الشرع، بل لم يلحظه الشرع و سكت عنه و لم يحكم فيه بنفي و لا إثبات، و حاله حال سائر الموضوعات الأجنبية عن هذا الموضوع، حيث إنّه ساكت عن حالها في هذا الحكم، فاستصحاب وجود التقدير أو عدمه غير مربوط بهذا الحكم.

فتحصّل من جميع ما ذكر أنّ هذا الاستصحاب، أعني: استصحاب عدم النقاء المتخلّل غير جار في المقام، و استصحاب عدم الدم فقد عرفت عدم حكومته وحده على استصحاب الحكم، فيبقى استصحاب الحكم سليما عن الحاكم. هذا كلّه على فرض القول في الأمور التدريجية بعدم الاتحاد و البقاء على ما هو خلاف التحقيق، و إلّا فالتحقيق هو البقاء و معه لا كلام في جريان الاستصحاب في طرف الحيضية دون الطهرية.

ثمّ إنّ بعض الأساتيذ ذكر في بعض تحقيقاته مثل ما ذكر: من عدم ابتناء استصحاب الحيض على القولين في التدريجيات، بل لو قلنا بعدم البقاء فيها كان مقتضاه أيضا هو الحيضية و لكنّه قرّره على نحو آخر.

و حاصله: أنّ ما هو موضوع الأحكام إنّما هو الحدث دون الدم، و الدليل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 126

عليه أنّها ثابتة في حال عدم الدم، كما في النقاء المتخلّل، و لا شك أنّ الحدث أمر واحد قابل للاستمرار بلا كلام، و إن كان الدم غير قابل له فالاستصحاب جار فيه مطلقا.

و فيه أوّلا: أنّا لا نسلّم كون الموضوع هو الحدث و لا الدم، بل نقول: إنّه شيئان الدم و النقاء المتخلّل.

و ثانيا: نقول: يرد عليه أيضا ما ورد على استصحاب الحكم من المحكومية، فإنّ

الشك في بقاء الحدث مسبب عن الشك في تحقّق محصّله و هو أحد الأمرين، فإذا كان الاستصحاب عدمهما كان حاكما على استصحاب الحدث، فيحتاج إلى الجواب الذي ذكرنا.

و الحاصل أنّه أيضا مشترك مع الاستصحاب الحكمي في الإشكال، و الجواب أيضا و إن كان واحدا لكن المقصود انّه ليس بحيث لم يكن الاشكال جاريا فيه رأسا، هذا كلّه هو الكلام في غير المتمكنة من الاستبراء.

و أمّا الناسية له فلها حالات ثلاث:

الأولى: أن ينكشف بعد الالتفات الوفاق، و كون أعمالها واقعة في حال الطهر، و لا إشكال حينئذ على ما استظهرناه من استفادة الوجوب الطريقي و عدم الشرطية.

و الثانية: أن ينكشف بعده الخلاف، و هذا أيضا لا كلام في الحكم ببطلان الأعمال المشروطة بالطهارة الصادرة منها في زمان الطهر، و وجوب قضاء الصوم الصادر منها فيه، و في زمان الحيض ناسيا للاستبراء.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 127

و الثالثة: أن لا ينكشف بعده شي ء من الأمرين، بل تبقى على حالة الترديد و الشك، و المهم هنا بيان الحال في هذا القسم، و لا إشكال أيضا في العبادة الصادرة منها التي لا قضاء لها مثل الصلاة، و إنّما الشك في قضاء الصوم، فإنّها لو كانت طاهرة حال الغسل كان جميع ما وقع عقيبه صحيحا، و لو كانت حائضا حاله كان باطلا، و عليها قضاء الصيام الواجب عليه زمان الحيض، و مطلق العبادات بعده إلى زمان الالتفات، و عروض هذا الشك.

و التحقيق انّ الاستصحاب حينئذ لا مانع في حقّها و إن كان محكوما في الزمان المتقدّم، أعني: زمان الغسل لمكان التكليف الاستبرائي الثابت في ذلك الزمان الحاكم على الاستصحاب، و لكنّه لا مانع من جريانه في الزمان المتأخّر الذي هو زمان الالتفات و عروض

الشك المزبور، بأن نستصحب في هذا الزمان المتأخّر وجود الدم في الباطن الثابت في حال القطع بالحيضية، من الزمان المتقدّم إلى حال الشك منه على ما هو التحقيق، أو نستصحب الأحكام على خلافه ليتفرّع عليه بطلان الغسل و فساد الصوم الواقع بعد ذلك في أيام الحيض، و مطلق العبادة الواقعة في أيام الطهر لو كانت، ليكون أثره الفعلي إتيان الغسل في الحال و قضاء جميع ذلك، و لا يتصوّر مانع من هذا الاستصحاب، فإنّ وجود الحاكم له في الزمان المتقدّم و هو زمان وجود المشكوك، لا يضرّ به في الزمان المتأخّر بعد فرض تمامية أركانه، و وجود الأثر الفعلي له في هذا الحال كما هو المفروض.

و الحاصل أنّ المعتبر في الاستصحاب وجود معلوم و وجود مشكوك و كون الأوّل سابقا على الثاني، و لا يعتبر التقدّم و التأخّر في نفس القطع و الشك، فلو وجدا دفعة و كان متعلّق القطع سابقا على متعلّق الشك كفى، كما في مقامنا حيث عرض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 128

للمرأة في الزمان المتأخّر قطع و شك دفعة، بالنسبة إلى وجود الدم في قطعتين من الزمان المتقدّم، و متعلّق القطع وجوده في القطعة السابقة، و متعلّق الشك وجوده في اللاحقة.

و حينئذ فإن لم يكن مانع عن الاستصحاب في حال تحقّق الوجود المشكوك:

بأن يكون أركانه من القطع و الشك موجودة، و كان له أثر شرعي و لم يكن له حاكم فهو، و أمّا إن لم يجر إمّا من جهة عدم تمامية الأركان، أو عدم الأثر، أو وجود الحاكم ثمّ تمت هذه الشرائط في المستقبل، فلا مانع من جريانه في المستقبل لوفاء عموم «لا تنقض» لشمول هذا المورد، مثلا لو كان

المكلّف قاطعا بكونه محدثا، ثمّ غفل و دخل في الصلاة غافلا، و بعد الفراغ منها رفع غفلته و عرض له حالة الترديد في الإتيان بالوضوء قبل الصلاة و عدمه، فإنّه و إن كان في الحال المتقدّم، أعني: بين الصلاة و القطع بالمحدثية، لم يكن الاستصحاب مشروعا في حقّه، لأنّ دليله متوجه إلى من كان شاكّا بعد ما كان قاطعا، و المفروض انّه في تلك الحال كان غافلا و لم يكن في نفسه حالة الترديد و الشك، فلم تكن الأركان في حقّه تامّة و لكن لا مانع من هذا الاستصحاب بعد الفراغ من الصلاة، لكون الأركان حينئذ تامة لحصول الشك مع وجود الأثر المبتلى به الفعلي، ففي المقام أيضا و إن لم تكن المرأة في الحال المتقدّم مشروعا في حقّها الاستصحاب، مع كونها شاكة لأجل وجود الحاكم، و لكن لا مانع منه في المتأخّر بعد ارتفاع الحاكم و وجود الأثر الفعلي هذا.

ثمّ مع قطع النظر عن الاستصحاب، فحكم المرأة المزبورة بحسب العقل ما ذا؟ فهل هو الاحتياط أو البراءة؟ فإنّها عالمة إمّا بوجوب القضاء إمّا في هذا الزمان، و إمّا وجوب الأداء في الزمان الماضي، لأنّها إن كانت حائضا حال الغسل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 129

كانت مكلّفة بقضاء الصوم في المستقبل، و إن كانت طاهرة كانت مكلّفة بأدائه في ذلك الزمان، و عليه هذا التقدير تقطع بعدم التكليف في الحال، إذ المفروض أنّها أتت بالأداء مع شرط صحته، و هذه المسألة جزئي من جزئيات كبرى، و هي أنّ موضوع حكم العقل بوجوب القطع بالفراغ بعد القطع بالشغل، هل هو القطع التفصيلي بالشغل في خصوص زمان حصول نفس هذا القطع، أو يكفي القطع بالشغل و

لو بعد ضم القطعة الحاضرة من الزمان إلى القطعة السابقة؟ بحيث لو لوحظ القطعة الحاضرة فقط لم يكن هناك علم بالتكليف بل كان مشكوكا؟

و لا شك أنّ هذا أمر يكون تعيينه بيد العقل، و لا بدّ من السؤال عنه و العرض عليه.

فنقول: لا يبعد أن يقال: إنّ الموضوع هو الثاني، أعني: الأعم، و الشاهد على هذا وجود الحكم القطعي من الوجدان بوجوب الاحتياط، في مثل ما إذا فرض وجود واجب توصّلي موسع وقته واقعا، كما أوجب المولى على عبده الذهاب إلى دار زيد ممتدا وقته من أوّل الظهر إلى الغروب، و لكن لم يطّلع على ذلك العبد في أوّل الظهر، و هكذا إلى أن يبقى من الوقت مقدار يسع الذهاب فالتفت حينئذ إلى ذلك التكليف، و لكنّه احتمل أن يكون قد ذهب إلى دار زيد في أحد من الأجزاء السابقة للوقت، فيكون الأمر المذكور ساقطا عنه، لأنّ الأوامر التوصلية تسقط بالإتيان بمتعلّقها في حال الغفلة عنها أيضا، فإنّ هذا الشخص إذا نظر إلى مجموع أجزاء الوقت، يقطع بثبوت التكليف المزبور بالنسبة إليه في هذا المجموع، و أمّا إذا نظر إلى خصوص الزمان الحاضر كان شاكّا، لاحتمال السقوط بالإتيان في الأجزاء السابقة، و لا خفاء في أنّ حكم العقل في هذا المثال، لزوم المبادرة إلى الامتثال، و عدم التقاعد عنه بمجرّد الاحتمال المزبور.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 130

فنقول: في ما نحن فيه أيضا لو قطع النظر عن الزمان المتقدّم، و نظر إلى الزمان الحاضر فقط، فليس هنا علم بثبوت الخطاب لاحتمال وقوع الأداء في محلّه بشرطه، و لكن إذا ضم إليه الزمان المتقدّم حصل العلم بثبوت خطاب من الشرع في هذا المجموع، و إن كان

الشك في متعلّقه أنّه القضاء في هذا الزمان أو الأداء في الزمان المتأخّر.

لا يقال: فعلى هذا لا بدّ من الحكم بالاجتناب عن الإناء الموجود إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسته، أو إناء آخر مفقود بعد فقد الإناء الآخر، لأنّه لا علم له بثبوت التكليف في خصوص زمان حصول العلم، و إن كان له علم بثبوته في المجموع منه و من الماضي.

لأنّا نقول: هذا النقض في غير محلّه، لأنّا إذا وجدنا أنّ حكم العقل في الكبرى المزبورة بالاجتناب، نحكم به في جميع جزئياتها. فنقول إذن بوجوب الامتثال في مثال الإناء و لا يلزم منه محذور، إذ ليس مسألة تعبدية بل عقلية و العقل حاكم بوجوبه كما عرفت.

ثمّ إنّه لا فائدة للاستبراء في ما إذا علمت برجوع الدم قبل العشرة، فإنّه لو كان نقاء في البين كان نقاء متخلّلا و ملحقا بالدم، و لا إشكال في ذلك في صورة حصول العلم، كما أنّه لا إشكال في عدم سقوط الاستبراء بمجرّد الظن بالعود لعدم كونه حجّة، و إنّما الكلام في ما إذا حصل الظن الاطمئناني به، فهل هو حجّة حتى يكون كالعلم؟ أو لا حتّى يكون كمجرّد الظن؟ و تحقيق ذلك يبتني على تحقيق حجية الاطمئنان بطريق الكلية، و في جميع المقامات من تشخيص الموضوعات الشخصية و غيرها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 131

فنقول: بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الذي في قبال الاطمئنان، لا نعني به العلم العادي الذي يكون خلافه خرقا للعادة، مثل العلم بعدم سقوط السقف مع أنّه غير ممتنع عقلا، بل بمعنى أن يكون الخلاف محتملا أيضا بحسب العادة، و لكن كان في الضعف بحيث لا يساعد العقلاء من اتبعه.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ

بقاء هذه الحجيّة لا يحتاج إلى تنصيص من الشرع، بل هو حجة حتى يرد من الشرع في مقام نص على عدم كفايته و لزوم العلم، فيقتصر في ذلك على ذلك المقام كما في مقام العلم بالنجاسة، حيث قال:

حتى ترى في منقاره دما، و كما في مقام الشهادة «على مثل هذا فاشهد أو دع»، فيكون هذا برزخا بين العلم و الظن: من حيث إنّ العلم غير قابل للجعل في شي ء من طرفي الإثبات و النفي، و الظن قابل له في كليهما، و هذا قابل له في الثاني دون الأوّل.

فإن قلت: ما المخصّص لعموم أدلّة حرمة العمل بالظن، و النهي عن اقتفاء غير العلم بالنسبة إلى هذا مع كونه ظنّا و غير علم.

قلت: أمّا أدلّة حرمة العمل بالظن فهي منصرفة إلى الظنون الغير الاطمئنانية عرفا، و أمّا النهي المذكور فالاطمئنان و إن كان بحسب اللفظ داخلا في موضوعه لصدق غير العلم عليه، إلّا أنّه غير شامل له بحسب الملاك، إذ نعلم أنّ الملاك الذي يكون في العلم، و بلحاظه خص النهي بغيره موجود في الاطمئنان، و هو سكون النفس و خروجه عن التزلزل و الاضطراب.

ثمّ إنّ الأخبار مختلفة في كيفية الاستبراء، ففي بعضها و هو خبر صحيح ذكر مطلق إدخال القطنة، و في بعض آخر تقييده برفع الرجل، و في ثالث تقييده بذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 132

مع زيادة تقييد الرجل باليمنى، و في رابع مع زيادة تقييدها باليسرى، و قد يقال:

إنّه إذا تعارض الأخيران في تعيين الخصوصية، يبقى المقيّد بالنسبة إلى مطلق رفع الرجل سليما، فيتعيّن تقييد المطلق به، و لكنّه مخدوش بأنّ سياق الخبر المطلق يشهد بكونه بصدد البيان، و من البعيد عدم

ذكر القيد مع ذلك، و المقيّد أيضا لا صراحة له و لا ظهور في وجوب الكيفية، لاحتمال كونه بالنسبة إليها مسوقا للإرشاد إلى ما يكون أسهل و أقرب إلى تحصيل العلم بالحال، مع عدم وجوب في سوى نفس الاستدخال، و من المعلوم أنّ من شرط التقييد كون المقيد ظاهرا في الإلزام بالنسبة إلى خصوص القيد.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 133

[الفصل الثالث في مسائل الاستمرار و التجاوز عن العشرة]

فصل في مسائل الاستمرار و التجاوز عن العشرة إذا جاوز دم المرأة عن العشرة، فذات العادة تجعل عادتها حيضا و الباقي استحاضة، و هذا الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه، و القدر المتيقّن منه ما إذا كان الدم في تمام الشهر بصفة واحدة، أمّا الحمرة، أو الصفرة، أو كان في البين اختلاف في اللون و لكن كان مطابقا مع العادة: بأن كان ما في العادة واجدا لصفة الحيض، و غيره واجدا لصفة الاستحاضة.

و إنّما الكلام في ما إذا كان في البين تميّز و لكن خالف مع العادة، سواء كان الجمع بين حيضية ما في العادة و واجد التميّز ممكنا: بأن احتواهما عشرة واجدة أو كان بينهما عشرة فاقدة، أم لم يمكن كصورة فقد هذين الوصفين: بأن اشتمل عليهما عشرتان مثلا و لم يفصل بينهما عشرة، فحينئذ لا إشكال أنّ مقتضى دليل اعتبار العادة بإطلاقه يشمل المقام، و كذلك دليل اعتبار التميّز.

و بعبارة أخرى دليل العادة لسانه لزوم الرجوع في حال الاستمرار إلى العادة مع وجودها، و دليل التميّز لسانه لزوم الرجوع إليه في تلك الحال مع وجدانه، و بين ذينك عموم و خصوص من وجه، إذ للعادة و التميّز مورد اجتماع و لكلّ منهما مادّة افتراق، فيشكل الحال في مورد اجتماعهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 2، ص: 134

فذهب قوم إلى تقديم العادة و هم المشهور المعظم. و آخرون إلى تقديم الصفة. و ثالث إلى التخيير، فتختار أيّهما شاءت، و ربما ينتصر لمذهب المشهور من تعيّن تقديم العادة بقوله في مرسلة يونس الطويلة: «و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم» و هو غير مفيد لأنّ عدم الاحتياج ليس بصريح في عدم الأمارية في عرض العادة، و كون التميّز لغوا مع وجودها، بل أمره دائر بين هذا و بين أن يكون التميّز أيضا أمارة، و لكن حيث إنّ تشخيص الصفة يحتاج إلى ملاحظة لون الدم في جميع الشهر، ثمّ رعاية وجود السواد في أي موضع، ثمّ مراعاة مراتب الشدة و الضعف بين الدماء السود، و هذا أمر صعب و هذا بخلاف الرجوع إلى العادة حيث إنّه في غاية السهولة، فلهذا قال- عليه السّلام-: إنّه مع وجود العادة التي هي الطريق السهل، لا حاجة إلى اختيار الطريق الآخر الصعب، و كذلك لا شاهد لهذا القول في ما في هذه المرسلة أيضا: من قوله «تدع ما سواه» لأنّ هذا بيان لسان أماريته، فإنّ معنى أماريته أنّ ما في العادة حيضا دون غيره، كما أنّ لسان التميّز أيضا هو أنّ واجده حيض دون فاقده.

و بالجملة هذا حكم حيثي فلا نظر له إلى وجود امرأة أخرى و عدمها.

و الحق هو المذهب المشهور من تقديم العادة، و ذلك لدلالة فقرأت من الرواية من حيث المجموع عليه:

إحداها: قوله- عليه السّلام-: «الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض».

و الثانية: قوله- عليه السّلام- بعد الحكم بحيضية ما في العادة، و عدم حيضية الزائد و سؤال السائل و إن سال؟ قال- عليه السّلام-: «و إن سال

مثل المثعب». وجه الدلالة أنّ الظاهر كون المراد بهذا السيلان، هو كثرة الدم التي عبّر عنها في كلام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 135

النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم «بإقبال الدم» فيكون من صفات الحيض.

فإن قلت: هذا ليس صريحا في المدّعى، لإمكان وجود السيلان في أيام العادة أيضا، فلم يكن في الدم اختلاف و الحكم بمقتضى العادة قد عرفت انّه ممّا لا إشكال فيه في هذه الصورة.

قلت: يتم المطلوب و تحصل الصراحة بضميمة الفقرة السابقة إلى هذه، و هي قوله: «الصفرة و الكدرة إلخ»، فبعد الانضمام يصير المعنى أنّه لو كان الدم في أيّام العادة فاقدا كان محكوما بالحيضية، و بعدها لا يحكم بالحيضية و إن كان الدم في ما بعد متصفا بصفة الحيض، و هذا صريح في صورة اختلاف الدم صفة.

فإن قلت: هب و لكن الحكم بتقديم العادة مع ذلك غير مثمر لما ذكرته سابقا، من أنّ هذا بيان لسان حجيته و أماريته، فهو في حدّ ذاته مقتض لحيضية أيام العادة دون غيرها، حتى في صورة الاختلاف في الدم و اقتضائه خلاف ذلك.

قلت: إذا أخذ في دليل حجية الأمارة وجود أمارة أخرى على خلافها، إمّا على وجه الإطلاق أو التقييد، فلا يعقل مع ذلك كون الأمارة الأخرى في عرض الأولى، إذ معنى كونهما في عرض واحد أنّ دليل حجية هذا غير متعرّض لذاك، و لا دليل حجية ذلك متعرّض لهذا، و أمّا لو فرض التعرّض و النظر في دليل إحديهما بالنسبة إلى الأخرى، فهذا يكشف عن كون الأولى مقدمة رتبة على الثانية، و أنّ الثانية غير مجعولة في رتبة وجود الأولى فافهم.

ثمّ إنّ القدر المتيقّن من العادة التي حكم بتقدّمها على

التميّز عند التخالف، إنّما هي الحاصلة من التساوي في الأخذ و الانقطاع سواء كان الحكم بالحيضية، بالعلم الوجداني أم بقاعدة الإمكان، و إنّما الإشكال في الحاصلة من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 136

التميّز أنّها هل تقدّم على نفس التميّز عند التخالف أو لا؟ بمعنى أنّه لو تساوى الأيام الواجدة للتميّز من الشهر الأوّل و الثاني عددا و وقتا، كما لو اتّفق سواد لون الدم في الخمسة الأولى من الأوّل و صفرة البقية، و اتفق كذلك من الشهر الثاني ثمّ امتد الاستمرار إلى الشهر الثالث فانعكس الأمر، مثلا: بأن حصل الصفرة في الخمسة الأولى و السواد في الخمسة الثانية ثمّ تبدّل بالصفرة إلى آخر الشهر، حيث إنّ مقتضى التميّز في هذا الشهر الثالث حيضية الخمسة الثانية، و مقتضى العادة الحاصلة من تساوي الدمين المتواليين في شهرين، المحكوم بحيضيتهما من جهة التميّز حيضية الخمسة الأولى، فهل تقدّم الأوّل أو الثاني؟ قولان: مال إلى أوّلهما المحقّق الثاني، معلّلا بأنّ العكس مستلزم لزيادة الفرع على الأصل، و نفي عنه البعد سيدنا الطباطبائي- دام ظلّه- في رسالته العملية.

و أقول: وجه الإشكال في تقديم هذه العادة يمكن أن يكون أحدا من أمرين:

الأوّل: الخدشة في دلالة دليل تنزيل التميّز منزلة الحيض الواقعي، و أنّ المتيقّن من هذا التنزيل إنّما هو الآثار الحالية المبتلي بها المرأة: من ترك الصلاة، و الصوم، و حرمة اللبث، و المس و غير ذلك، و أمّا بالنسبة إلى الأثر الآخر الذي هو عبارة عن حصول العادة بتساوي المرتين فلا يعلم، إذ ليس هذا أثرا كان محطّا لنظر المتخاطبين، فانّ الغرض منه استكشاف حال المرأة عند وجود التميّز، و أنّ التكليف الفعلي لها ما ذا فلا ينافي كونه

بصدد مقام البيان، لعدم معلومية شموله لمثل هذا الأثر، إذ لم يعلم كونه بهذا الصدد زيادة على رفع الجهل عمّا هو المحتاج إليه فعلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 137

و الحاصل أنّه يعتبر في الأخذ بالعموم الآثاري في دليل التنزيل، كالأخذ بالعموم الأحوالي في المطلقات عدم وجود منصرف إليه، و لا قدر متيقّن بحسب مقام التخاطب في البين، ألا ترى أنّ قولنا: «زيد أسد» تنزيل له منزلة الأسد في خصوص الشجاعة دون سائر الصفات، لأنّها المنصرف إليها، و كذلك الحال في كون بعض الآثار قدرا متيقّنا في مقام التخاطب، فإنّه أيضا مانع عن تعميم التنزيل إلى جميع الآثار، و هذا الوجه جار كما ترى في العادة الحاصلة من قاعدة الإمكان، فإنّ الحيضية بسببها أيضا إنّما هي بتنزيل الإمكان منزلة الواقع، فيقتصر على التقدر المتيقّن و هو غير حصول العادة بدفعتين متساويتين، لا سيّما أنّ الدليل هنا لبّي و هو الإجماع، و يلزم الاقتصار على المتيقّن من هذه الجهة أيضا.

و الإنصاف أنّ هذه الخدشة في غير المحل، فإنّ التميّز جعل شرعا أمارة و طريقا للحيضية، و جعل الطريقية و إن كان في اللب راجعا إلى التنزيل أيضا بمعنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، إلّا أنّ العنوان الأوّلي هو الطريقية، و معنى الطريقية أن يعامل مع المؤدّى كل ما يعامل مع الواقع حين العلم به، فلا حظ الطرق التي هي طرق عند العقلاء ممّا سوى العلم، فهل تراهم إذ بنوا على طريقيّة أمر و قام على وجود موضوع له آثار، يفرّقون و يفكّكون بين آثار هذا الموضوع؟ بل يجعلون حاله حال العلم بحصوله، فالشارع إذا جعل قول العادل حجة و طريقا فالذي يتفاهمه العرف من ذلك، أنّه يعامل

مع ما أوصل إليه هذا الطريق معاملة نفس الواقع مطلقا، بدون تفاوت مع العلم.

نعم يمكن تخصيص الطريقية في مقام الجعل ببعض الآثار، إلّا أنّ هذا أمر لا يدخل في الأذهان، و لا بدّ لتفهيمه من نصب دلالة محكمة و تنصيص مؤكد،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 138

و حيث لم يكن فالطريقية المستفادة من كلامه تنصرف بالطبع إلى الإطلاق، و لهذا تراهم يفرّقون بين الأمارات و الأصول، حيث يأخذون في الأوّل بالآثار العقلية و العادية و ما بتوسطها من الشرعية، و يكتفون في الثانية بالشرعية المرتبة بلا واسطة، مع أنّ الأمر لو كان كما ذكر للزم الاقتصار في الطرق أيضا على ذلك، لأنّه المتيقّن من دليل التنزيل بلا إشكال، و إن كان لحكمهم بذلك في الطرق وجه آخر مقرّر في محله: من انحلال الحكاية إلى حكايات عديدة بعدد اللوازم و الآثار.

و لهذا أيضا لم نر أحدا استشكل في المقام في حصول العادة بقاعدة الإمكان، مع اشتراكها مع التميّز في الخدشة كما عرفت.

و الثاني: الخدشة في دليل حصول العادة بالمرّتين المتساويتين، بعد تسليم عدم الخدشة في عموم دليل تنزيل التميّز بالنسبة إلى جميع الآثار: بأن يقال: إنّ التميّز و إن كان معرّفا للحيض الواقعي بما له من الآثار كالعلم، إلّا أنّ موضوع هذا الأثر الذي هو حصول العادة قصير، و ليس هو تساوي الحيضتين مطلقا، بل المستفاد من أدلّة هذا المقام أنّ المساواة الحاصلة بين الدمين: من حيث الأخذ و الانقطاع الواقعة في غير حال الاستمرار، و اختلاط الحيض بالاستحاضة تصير مرجعا في حال الاستمرار الحاصل في الأزمنة المستقبلة.

و بعبارة أخرى موضوع حصول العادة الحيضتان المتواليتان المتساويتان لكن لا مطلقا، بل خصوص ما إذا حصلتا في الزمان

الّذي خلت المرأة عن استمرار الدم، بحيث لهذه الخصوصية أيضا دخل في الموضوع. بحيث لو قطع المستمرة بحيضيّة عدّة أيام من الشهر الأوّل، و اتفق ذلك في مماثلها من الشهر الثاني لم يحصل الموضوع لهذا الأثر. فافهم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 139

و الشاهد على ذلك قوله- عليه السّلام- في أوّل المرسلة الطويلة: «أمّا إحدى السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها، ثمّ استحاضت فاستمر بها الدم» و قوله- عليه السّلام- في أواخرها: «فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه، و تدع ما سواه و يكون سنّتها في ما تستقبل إن استحاضت».

و الإنصاف أنّ هذا الوجه تام لا مدفع له.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّه بعد فقد العادة و وجود التميّز الجامع لشرائط الحيضية، كعدم النقصان عن الثلاثة، و عدم الزيادة على العشرة، و بلوغ الفاقد المتخلل بين واجدين لم يثبت حيضية أحدهما، ترجع المستمرة إلى التميّز و هو المتيقّن من السنة الثانية المذكورة في المرسلة. و إنّما الكلام في صورة حصول الاختلاف في لون الدم سواد أو غيره، و لكن بغير هذا النحو لفقد أحد الشروط الثلاثة في واجد التميّز، فهل هي مشمولة للسنة الثانية أو لا؟ الظاهر الثاني، لأنّها متعرّضة لتعيين محل الحيض بعد الفراغ عن اجتماع شرائط الحيض في هذا المحل، من البلوغ، و عدم اليأس، و الشروط الثلاثة المذكورة، فهي في مقام أنّ الحيض يجب وضعه في الواجد دون الفاقد، امّا كون الواجد جامعا للشرائط و قابلا للحيضية فمفروغ عنه و ليس الكلام إلّا فيه.

فإن قلت:

ما الداعي إلى إخراج هذه الصور عن الخبر إلّا ملاحظة رعاية هذه الشروط الثلاثة، و رعايتها لا تنافي إدراج تلك الصور في الخبر، و ذلك لإمكان حفظ مدلول الخبر و القواعد الثلاث معا بالحكم بحيضية الواجد و تكميله من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 140

الفاقد، حتى يبلغ ثلاثا أو تنقيصه حتى يصل إلى العشر، أو تكميل الفاقد المتخلّل من أحد طرفيه أو كليهما، حتى يبلغ العشر ثمّ الحكم بحيضيّة الثلاث في الأوّل، و العشر في الثاني، و ما بقي من الطرفين في الثالث، و إذن فلا وجه لما ذكره الفقهاء من ذكر الشروط الثلاثة للأخذ بالتميز، و هل هو إلّا تقييد في الدليل بلا مقيّد.

قلت: هذا و إن كان عملا بفقرة من الخبر إلّا أنّه طرح لفقرته الأخرى، فإنّه مشتمل على حكمين: لزوم وضع الحيض في الواجد، و لزوم وضع الاستحاضة في الفاقد، و العمل على كلا الحكمين بدون تصرّف في أحدهما، إنّما يحصل في مورد اجتماع الشروط الثلاثة، و أمّا في غيره فلا يتم إلّا بالتصرّف إمّا في الأوّل أو الثاني، مثلا إذا كان الواجد اثنين فلو أكمل بالواجد من الدماء الفاقدة، فهذا و إن كان عملا بالفقرة الحاكمة بجعل ما بالصفة حيضا، لكنّه تقييد في الفقرة الحاكمة بوضع الاستحاضة في غيره، إذ قد استثنى على هذا من هذا الحكم يوم واحد، و مراعاة القواعد الثلاث، كما تحصل بذلك تحصل أيضا بالتصرّف في الفقرة الأولى: بأن يحكم بكون تمام الدم في الشهر استحاضة، و حيث لا مرجح لأحد هذين التصرفين يسقط الخبر عن الحجية بالنسبة إلى هذه الفروع رأسا.

فإن قلت: لا إشكال في أنّ قاعدة الإمكان و إن كان معارضة بالمثل في جميع

دماء الشهر، و لكن المعارضة في تعيين الخصوصية، و أمّا حيضية بعض من دماء الشهر في الجملة فلا معارضة فيها من حيثها.

و بالجملة فالعلم الإجمالي حاصل بوجود حيض في تمام الشهر، و عدم كون الجميع استحاضة، و إذن فيدور الأمر في هذه الفروع بعد نفي احتمال استحاضة الكل، بين جعل تمام عدد الحيض في الفاقد، و بين جعله في الواجد ثمّ تكميله أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 141

تنقيصه حسب ما يقتضيه المقام، و لا إشكال أنّ الثاني أوفق بأخبار التميّز من الأوّل، فيكون هو المتعيّن إذ فيه الجمع بين الأدلّة في المقامات الثلاثة.

قلت: ما ذكرته مبني على فرض العموم في موضوع الرواية، بالنسبة إلى صورة جامعية الواجد للشروط الثلاثة و غيرها، و كونها بصدد البيان من هذا الحيث، ثم تقييدها بملاحظة الشروط الثلاثة بصورة جامعيتها، و لكن قد عرفت أنّ الفرض خلاف الواقع، و أنّه ليس في الرواية تعرّض إلّا لحيث تعيين محل وضع الحيض، بعد الفراغ عن قابلية نفس المحل في حدّ ذاته، بدون الحاجة إلى جعله قابلا بالتكميل أو التنقيص، و إذن فلا محيص عن عدم مشمولية الفروع المذكورة للسنة الثانية، و أمّا السنة الثالثة فهي أيضا غير شاملة لها، لأنّ الموضوع لهذه السنة على ما يستفاد من ذيل المرسلة عند بيان الملخص، هو المرأة التي لا عادة لها و لا تمييز، و لكن أطبق عليها الدم و كان دمها على لون واحد فلا حظ، و المفروض اختلاف اللون في تلك الفروع، و إذن فلا محيص عن الاحتياط في جميع تلك الفروع، اللّٰهمّ إلّا أن تعمل في الشهر الأوّل باستصحاب الطهر حتى يبقى من الشهر ثلاثة أيام، فحينئذ تبني على الحيض

لانقطاع الاستصحاب بواسطة معلومية انتقاض الطهر السابق، أمّا بهذه الثلاثة أو بما تقدّمها، ثمّ تعمل في الشهر الثاني باستصحاب الحيض إلى العشرة، ثمّ تحكم بعده بالطهر إلى آخر الشهر، ثمّ تبني على استصحاب الطهر في الثالث حتى تبقى ثلاثة و هكذا.

و من هنا ظهر ما في حكمهم بالأخذ بالروايات في هذه الفروع ملزمين لاحتساب التميّز من العدد، إذ قد عرفت أنّ هذه خارجة عن مورد الرجوع بالروايات، و على فرض عدم الخروج فما الملزم لاحتساب التميّز من العدد، بعد بقاء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 142

موضوع السنة الثالثة مع الثانية، بحيث لا تدخل المرأة في أحدهما إلّا و تخرج عن الآخر، فهذان الحكمان مبنيّان على اجتماع عنوانين متناقضين في المرأة.

ثمّ بعد فقد التميّز هل المرجع مع ثبوت عادة الأهل هي، أو العدد في الروايات؟ مقتضى المرسلة هو الثاني، و مقتضى مقطوعة سماعة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول هو الأوّل، و المقطوعة هكذا: «سألته عن جارية حاضت أوّل حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر، و هي لا تعرف أيام أقرائها؟ فقال: أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كان نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة و أقلّه ثلاثة» «1».

و الإنصاف عدم الجمع العرفي هنا، إذ لا يخفى على من لاحظ المرسلة أنّها آبية عن التقييد: بأن يقال: إنّ مقتضاها رجوع فاقدة التميّز إلى العدد سواء ثبت لها عادة أهل أم لا، و مقتضى الثانية تقييد ذلك بالصورة الثانية، و لا يشكل بعدم التصريح في المقطوعة بفقد التميز، و من هذه الجهة أيضا معارضة مع المرسلة، فإنّه يمكن دفع ذلك بأنّه من باب ذكر الفرد الغالب، فانّ غالب أفراد الفاقدة هو المبتدئة و بالعكس، و الشاهد على ذلك أنّه جعل في

المرسلة موضوع السنة الثالثة أيضا هو المبتدئة، مع تصريح في ذيلها بأنّ المناط فقد التميّز، و الحاصل رفع التنافي من هذه الجهة و إن كان بمكان من الإمكان، و لكنّه من الجهة الأولى في غاية الصعوبة و الإشكال، فإنّه مع ظهور عدّة مواضع من المرسلة، بل صراحتها في أنّه بصدد مقام البيان بحيث لم يبق لأحد مقال بالرأي، كيف يمكن الحكم بإهمالها لمثل هذا المطلب، فالتنافي بينها و بين المقطوعة تبايني، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية لو كانت و إلّا فالتخيير، و الظاهر ثبوتها في طرف المرسلة،

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 143

ثمّ إنّه زاد بعض العلماء بعد فقد عادة الأهل الرجوع إلى عادة الأقران و ليس له وجه موجّه، كما يظهر من مراجعة طهارة شيخنا المرتضى بحيث ينبغي القطع بعدمه، و كيف كان فلا كلام في الرجوع إلى العدد في الجملة.

إنّما الكلام و الإشكال في تعيينه، و أنّه السبع في كل شهر، أعني: الشهر اليومي الذي هو عبارة عن ثلاثين يوما دون الهلالي، أو الستّ كذلك، أو ثلاثة في شهر، و عشرة في آخر، إمّا مخيّرة في تقديم أيّهما شاءت أو مع تعيّن تقديم الأوّل، أو مع تعيّن تقديم الثاني، أو التخيير بين جميع هذه الأعداد الأربعة بحسب الدورات، أو تعيين ما كان منها موافقا لمزاج المرأة، فإن كانت حارة المزاج تعيّن عليها السبع، و إن كانت باردة تعيّن الست، و إن كانت متوسطة المزاج تعيّن الثلاث في شهر و العشر في آخر إلى غير ذلك من الاحتمالات، حتى ذكر شيخنا المرتضى أنّ الأقوال في هذه المسألة تنتهي إلى عشرين قولا، و منشأه الاختلاف

الواقع في الأخبار، و اختلاف القائلين في فهم مدلولها و تضعيف سندها و تقويته، فأحد الأخبار هو المرسلة التي قد عرفت الاختلاف في نفسها، ففي موضع تعيين السبع و في آخر الترديد بينه و بين الست، و الباقي ثلاث روايات موثقتا ابن بكير مع المقطوعة المتقدمة في عادة الأهل.

أمّا إحدى الموثقتين: «ففي المرأة إذا رأت الدم في أوّل حيضها فاستمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيام، ثمّ تصلّي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام، و صلّت سبعة و عشرين يوما» «1».

و أمّا الأخرى: «ففي الجارية أوّل ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 144

مستحاضة، إنّها تنتظر بالصلاة فلا تصلّي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض، فإذا مضى ذلك و هو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة، ثمّ صلّت فمكثت تصلّي بقية شهرها ثمّ تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة، و تجلس أقل ما يكون من الطمث و هو ثلاثة أيام، فإن دام عليها الحيض صلّت في وقت الصلاة التي صلّت، و جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض» «1».

هذه أخبار الباب و أنت ترى ما فيها من غاية التنافر، و التهافت، و التكاذب، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في توجيه الجمع العرفي بينها أن يقال:

المرأة لها التخيير بحسب الواقع بين اختيار تلك الأعداد، من السبع، و الست، و الثلاث، و العشرة، فيؤخذ تصريح كل من الأطراف و يرفع اليد به عن ظاهر الآخر، فانّ صريح المرسلة كفاية السبع في

جميع الشهور، و ظاهرها عدم كفاية غيره و كذلك ظاهر الروايات الثلاث- بعد حملها على الدورات، يعني: تنزيلها على تقسيم حالات المستحاضة إلى شهرين شهرين، ثمّ الأخذ في أحدهما بأكثر الحيض و في الآخر بأقلّه، و الإغماض عمّا ربما هو ظاهر الموثقتين: من جعل العدد عشرة في الشهر الأوّل، و ثلاثة في غيره من الشهور للتالي، و عمّا ربما هو ظاهر المقطوعة من ثبوت التخيير فيما بين الحدين أيضا دون اختصاصه بنفس الحدين- لا إشكال أنّه نفي غير ذلك و صريحها إثبات هذا، و لا يلزم الإشكال على هذا الجمع بعدم المعقولية لاستلزامه التخيير بين الفعل و الترك، لرجوعه إلى تخيير المرأة في اليوم الرابع إلى العاشر بين فعل التحيض و تركه، لأنّ ذلك مندفع بأنّ التخيير إنّما هو

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 145

في البناء كما في أيام الاستظهار، بناء على حمل أخباره على التخيير فتبني إمّا على وجوب التحيّض أو على عدم وجوبه، لا أنّها مخيّرة بين نفس البناء على كونها حائضا شرعا و عدمه.

و لكن هذا الجمع مع ذلك لا يمكن الذهاب إليه، إذ في المرسلة ما ينفي التخيير صريحا و هو قوله: «أقصى وقتها سبع و أقصى طهرها ثلاث و عشرون» فحيث جعل أقصى حيضها السبع نفى صريحا لما زاد على السبع و هو العشرة، و حيث جعل أقصى طهرها الثلاث و العشرين نفى صريحا لما نقص عن السبع كما هو واضح، فكما أنّه صريح في إثبات السبع صريح في نفي الزائد عليه و الناقص عنه.

ثمّ إذا تعذّر الجمع العرفي فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية، و لا يخفى أنّها مع

المرسلة و لا يقدح إرسالها، لأنّ المرسل يونس بن عبد الرحمن، و ذلك لقوّة سندها و شهادة متنها على صدورها عن الإمام- عليه السّلام-، و إذن فيتمحّض الكلام في التنافي الواقع في نفس المرسلة: من جهة تعيين السبع في موضع و أنّه أقصى الحيض، و أنّ الثلاث و العشرين أقصى الطهر، و الترديد بينه و بين الستّ في آخر، و الأمر من هذه الجهة سهل، إذ لا يخلو الأمر من شيئين كون الترديد من الإمام و كونه من الراوي، فعلى الأوّل كان السبع طرفا للتخيير فهو مأذون فيه قطعا، و على الثاني فيرفع الإجمال عن كلام الراوي في محل ترديده، بكلامه الآخر الخالي عن الترديد، و إن كان الكلامان صادرين في مجلس واحد، و لا يكشف اتحاده عن ثبوت الترديد في كلا المقامين، لإمكان عدم سماع الراوي عند نقل الإمام- عليه السّلام- عن النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم خصوص أحد العددين، و سماعه عند مقالة نفس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 146

الإمام خصوص السبع، فنقل ما سمع في المقام الثاني و لم ينقل شيئا معيّنا في الأوّل، مع إمكان جعل الثاني قرينة قطعية على أنّ الأوّل أيضا هو السبع، للزوم الكذب إذ يلزم الإخبار بالسماع في شي ء لم يسمعه.

و الحاصل، الأمر غير خارج عن هذين و إن كان تقرّب الأوّل أصالة عدم كون الترديد الواقع في كلام الناقل منه، و كونه من المنقول منه ما لم يكرر لفظ «قال» أو ما أدّى معناه، و تقرّب الثاني أنّه لو كان من المنقول منه، فما وجه حكم الإمام في الثاني بأقصائية الثلاث و العشرين للطهر، إذ على هذا كان أقصى الطهر أربعا و

عشرين، و على كل منهما يكون الأخذ بالسبع مجوّزا و مأذونا فيه، إمّا لكونه أحد فردي التخيير، و إمّا لمكان الظهور اللفظي القاضي بذلك.

ثمّ على تقدير تكافؤ طرفي التعارض في المقام، نظرا إلى أنّ الروايات الثلاث أيضا قد تلقّاها الأصحاب بالقبول، يتعيّن التخيير بين الأخذ بأي الخبرين، فيقع الكلام في أنّ هذا التخيير هل هو للمجتهد خاصّة؟ أو يعم المقلّد أيضا كما هو مقرر في أصول الفقه؟ و الحق في ذلك كما حقّق في الأصول هو الثاني.

و توضيحه أنّ النزاع واقع في كلية التكاليف الثابتة في أصول الفقه: من العمل بخبر الواحد، و عدم نقض اليقين بالشك في الشبهات الحكمية، و التخيير الخبري في مثل المقام من مقامات تكافؤ الخبرين المتعارضين، أنّها تكاليف في حقّ المجتهد خاصة و لا حظّ للمقلّد فيها، أو أنّها مثل التكاليف الفرعية ثابتة في حقّ جميع المكلّفين: من غير فرق بين المجتهد و المقلّد، و الحقّ أنّ نسبة خطاب صلّ و نحوه، و خطاب «لا تنقض»، و خطاب «إذن فتخيّر» على نهج واحد في كونهما متوجهين إلى عامة المكلّفين، من دون اختصاص بطائفة خاصة، فكما أنّ خطاب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 147

صلّ لا تخص بأحد منهم فكذلك هذه الخطابات.

نعم غاية ما هناك أنّ الفهم أمر مخصوص بالعالم، و تعيين مفاد الألفاظ، و تشخيص ظواهرها و غير ذلك من مقدمات الاستنباط خاصّة له، و لا حظّ للعامي فيه لعدم قدرته عليه، فيكون فهم العالم طريقا و حجة للعامي بأدلّة التقليد، و أمّا نفس العمل الذي هو المأمور به في تلك الأوامر فيشترك فيه الفريقان، و تظهر ثمرة الوجهين في المقام في أنّه على القول بكونه للمجتهد دون المقلّد، فهو

في مقام عمل نفسه و في مقام الإفتاء يختار أي الخبرين شاء، و يعمل أو يفتي بمضمونه و ليس للمقلّد التعدّي عنه، و على القول الآخر ففي مقام الإفتاء يفتي بالتخيير في البناء على أي العددين شاء المقلّد، فيقع اختيار التعيين إلى المقلّد.

ثمّ على كل حال، فالعدد المأخوذ أيّا ما كان من تلك الأعداد المذكورة، فهل لها التخيير في وضعه في [أيّ] موضع من الشهر شاءت؟ أو يتعيّن الوضع في الأوّل؟ و المراد بالشهر هنا هو الثلاثون يوما، المفروض ابتداؤها من أوّل رؤية الدم، و هنا و إن كان احتمال تعيّن الوسط أو الآخر، أو التخيير بين اثنين من هذه الثلاث، لكن غير ما ذكر من الاحتمالين، أعني: التخيير في جميع الشهر، أو التعيين في الأوّل لا قائل به فالمقطوع عدمه، فالأمر مردّد بين الاحتمالين ليس إلّا، و إذن فقبل الخوض في ما يستفاد من الدليل، نتكلّم في الأصل العقلي في مورد الدوران بين التخيير و التعيين.

فنقول: إنّه و إن وقع الخلاف في الدوران بينهما في سائر المسائل الفرعية، الخالية عن التعبد و النسبة إلى الشرع أنّ العقل حاكم بالبراءة أو الاحتياط، فإنّه من أفراد الدوران بين الأقل و الأكثر، و لكنّه ينبغي عدم الخلاف هاهنا في كونه هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 148

الاحتياط، و لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن، و وجه ذلك أنّ المقام نظير الدوران بين التعيين و التخيير في الحجة: بأن تردد الأمر بين أن يكون الحجة هو الشي ء الفلاني بالخصوص، أو هو و شي ء آخر على وجه التخيير، بحيث يجوز للمكلّف الأخذ بمدلول كل منهما، و نسبته إلى الشرع و الحكم بأنّه ما قاله الشارع، فإنّهم بكلمة واحدة قائلون بالاحتياط،

حتى القائلين بالبراءة في الفرعيات عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و وجه ذلك أنّ مورد جواز نسبة حكم إلى الشرع موقوف إلى بلوغ الإذن من الشرع، و هو موقوف على الاطلاع بالإذن، و لا يكفي وجود الواقعي، و إذن فلو نسب حكم لم يعلم الإذن فيه من الشرع تفصيلا، و لو وقع طرفا للعلم الإجمالي كان تشريعا محرّما و لو كان بحسب الواقع مأذونا فيه، و إذن فالالتزام بمدلول إحدى الحجتين، أعني: ما كان قدرا متيقّنا بعنوان أنّه ورد الحكم به من الشارع مقطوع الجواز، و ليس بتشريع لمعلومية إذن الشرع فيه، و أمّا الحجة المشكوكة و الأخذ بها و الالتزام بمدلولها على أنّها حكم اللّٰه معلوم الحرمة، فإنّه يكفي في عدم الحجية الشك فيها.

فنقول: من هذا القبيل ما نحن فيه، فانّ المرأة التي لا تريد الاحتياط، و ليس لها أمارة على الحيضية من العادة، و التميّز، و قاعدة الإمكان، و ليس في حقّها استصحاب حكمي أيضا و أرادت أن تصدر منها الوظائف الخاصة بعنوان أنّها وظائف الحائض، فلا يتحقّق ذلك منها إلّا بتحقّق التحيّض الذي يعبّر عنه بالفارسية (خود را به حيض زدن)، و لا ينفك عنه، يعني: الإتيان بالوظائف الخاصة، بعنوان أنّها أحكام اللّٰه في حقّها من جهة معاملة الحائض معها، و هذا المعنى لا إشكال أنّه قبل إحراز الإذن فيه من الشرع، تشريع محرّم لتضمّنه النسبة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 149

إلى الشرع، فإذا فرض أنّ الأمر بالتحيّض الصادر من الشرع، دار أمره بين أن يكون تعيينيّا، بالنسبة إلى التحيّض في الجزء الأوّل من الثلاثين يوما، و أن يكون تخييريا، بالنسبة إلى التحيّض في كل من أجزائه، كان القدر

المتيقّن هو الإذن في التحيّض في الجزء الأوّل، و يكون التحيّض في سائر الأجزاء، نسبة حكم إلى الشرع مع احتمال عدم إذن الشرع فيه، فيكون تشريعا محرّما. هذا كلّه بحسب الأصل العقلي.

و أمّا الكلام بحسب ما يستفاد من الدليل: فالحق أنّه التعيين في أوّل الشهر، و يظهر لذلك من فقرتين في المرسلة.

[الفقرة] الأولى: قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «تحيّضي في كل شهر في علم اللّٰه ستة أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثا و عشرين» و الاستدلال به على المدّعى يبتني على استظهار مطلبين منه، بحسب ما يتفاهم منه عرفا.

الأوّل: كون قوله: «في كل شهر»، ظرفا لكلتا الفقرتين من التحيّض و الصوم، و أمّا دعوى أنّ المستفاد منه ليس إلّا أنّ الوظيفة في كل شهر، هو التحيّض سبعة أيام متصلا بعده بثلاثة و عشرين تطهرا، من دون تعرض لكون التطهر في شهر التحيّض، فيصدق لما إذا كان التحيّض في آخر الشهر الأوّل، و التطهر في أوّل الشهر الثاني ففاسدة لتبادر خلافها عرفا، و يظهر بمراجعة أمثال العبارة عند العرف، ألا ترى أنّه لو قيل: كل المرق في هذا اليوم و بعده اشرب الشاي، فالظاهر كون اليوم ظرفا لكلا الأمرين، فلا يعد أكل المرق في آخر جزء من اليوم، و شرب الشاي بعده في أوّل الليلة المستقبلة امتثالا له.

و الثاني: أن يكون قوله: «و صومي» الذي هو بمنزلة تطهّري، و ذكر الصوم من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 150

باب المثال عطفا على «اغتسلي» الذي هو مدخول «ثمّ» لا على مجموع كلمة «ثم و المدخول» فإنّه على هذا يستفاد انّ في الشهر للحائض وظيفتين، الأوّل: التحيّض ثمّ الغسل بعده، و الآخر: التطهّر

من دون تعرض للترتيب بينهما و عدمه، و على الأوّل أنّ المقدّم أيّهما، و لكن على تقدير العطف على المدخول يكون المعطوف أيضا مدخولا لكلمة «ثم» فيستفاد فيه التعقيب أيضا، و الظاهر في هذا المقام أيضا هو العطف على المدخول، و يظهر بمراجعة العرف في أمثال العبارة، ألا ترى لو قيل:

كل اليوم الثريد ثمّ اغسل رأسك و اشرب الشاي، أنّه يستفاد منه تعقيب شرب الشاي بالنسبة إلى الأكل و الغسل و وقوعه عقيبهما، ثمّ بعد تمامية المقدمتين يحصل المطلوب.

فإنّه يكون حاصل المستفاد من الرواية على هذا، أنّه يجب في كل ثلاثين يوما على المرأة المستمرة أن تعمل عملين، الأوّل التحيّض سبعة أيام مقدّمة ذلك على العمل الثاني، و هو التطهر ثلاثة و عشرين يوما، و هذا المعنى لا يتحقّق إلّا بوضع سبعة التحيّض في أوّل الثلاثين كما هو واضح.

الفقرة الثانية: التي يستفاد منها أيضا المدّعى المذكور من الترتيب قوله في ذيل المرسلة: «فإن استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، فلا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا».

توضيح الاستدلال أنّ الظاهر من قوله: «فإن انقطع في أقل إلخ»، أنّ ذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 151

بعد مضي الأشهر التي ذكرها في قوله: «فإن استمر بها الدم أشهرا» و عند ابتداء دخول الشهر اللاحق، لا أنّه حكم بالنسبة إلى ما بين نفس الأشهر، يعني إذا

استمر بها الدم ثلاثة أشهر مثلا فعلت في كل من هذه الثلاثة العمل الذي قال لها، و هو التحيّض سبعة و التطهر ثلاثة و عشرين، ثمّ إذا دخل الشهر الرابع نظرت إلى الدم «فإن انقطع في أقل إلخ» و هذا دليل على أنّ تطهر كل شهر واقع في نفسه كتحيّضه، و أنّ التحيّض مقدّم على التطهر، و ذلك لأنّه فرض المرأة عند دخول الشهر الرابع، فارغة عن وظائف الأشهر الثلاثة المتقدمة، و مبتلاة من أوّل دخوله بعمل نفس هذا الشهر، و ذلك لأنّه فرضها مشتغلة في أوّل الرابع بسبع التحيّض، و لو كانت متمّمة لعمل الشهر السابق لكانت متطهرة لا متحيّضة، فيدل على أنّ تطهر الشهر السابق حصل فيه، فيعلم منه أنّ في أوّل كل شهر يجب استئناف عمل جديد، دون الاشتغال بإتمام العمل السابق، فلا تدخل وظيفة شهر في شهر بعده.

فإن قلت: لا نسلّم دلالتها على كون السبع الأول من الشهر الرابع سبع التحيّض، بل يلائم مع كونه من جزء التطهّر للشهر السابق، و ذلك لأنّه لا يستفاد منه الحكم بالتحيّض إلّا بعد الانقطاع، فلا ينافي أن يكون الحكم الظاهري هو التطهر: بأن كانت مشتغلة بتطهر الشهر السابق.

قلت: بل يدل على أنّه سبعة التحيّض بدليل ذكر عدد السبع، فإنّه لا شبهة أنّ المراد به سبع التحيّض، و إلّا فلا خصوصية لذكر هذا العدد.

و بالجملة يستفاد منه أنّه لا بدّ في كل شهر من الفراغ من كل ما يتعلّق بهذا الشهر، ثمّ تأسيس الأساس الجديد عند دخول الشهر البعد له أيضا، و الاشتغال

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 152

بعمله و إتمامه فيه أيضا، و يستفاد ذلك من فرض السبع في أوّل الشهر الرابع كما

هو واضح، فعلم من جميع ما ذكرنا أنّ التعيين في الأوّل هو الأقوى و الأحوط.

ثمّ قد يقال: إنّ على فرض الإغماض عن هذين الظهورين فقوله: «تحيّضي سبعا» حيث يكون في مقام البيان، و ذلك يظهر من تصريح المرسلة يكون له الإطلاق بالنسبة إلى تمام الشهر، فثبت التخيير بإطلاق هذا الكلام، و أجاب الأستاذ- دام ظله- بأنّ الأخذ بالإطلاق إنّما هو في مورد لو كان القيد المحتمل دخيلا في المطلوب لبّا، و لم يذكر في اللفظ حصل نقض الغرض و هذا لا يلزم في المقام، و إن سلّمنا كونه بصدد البيان، و وجه عدم اللزوم أنّ العلم بالاستمرار لا يحصل في أوّل كل ثلاثين للمرأة، أمّا الثلاثون الأول فواضح، و أمّا الثاني و ما بعده، فلأنّ ذلك مرض في المرأة، و من المعلوم أنّ المرض و لو امتد مكثه فالإنسان لا يحصل له عند دخول الشهر العلم ببقائه إلى آخر الشهر، بل يحتمل زواله في الأثناء و لو بسبب قهري، فالعلم من أوّل الشهر بالبقاء إلى آخره لا شك أنّه أمر نادر الحصول، إذ لو فرض حصوله فهو في مثل حمنة التي هي مورد الرواية، ممّن بلغ مرضه إلى حدود سبع سنين و لا شك في ندرته، و بعد ذلك نقول: تكليف المرأة في أوّل كل ثلاثين يوما هو التحيّض، لأنّه بحسب الفرض غير عالمة بتجاوز دمها عن العشرة بالنسبة إلى هذا الشهر.

نعم هي عالمة بالتجاوز بالنسبة إلى الماضي، ففي تحقّق موضوع الاستمرار في حقّها بالنسبة إلى الشهر الحاضر شاكة، و من المعلوم أنّ التكليف حينئذ ما لم ينقض العشر هو التحيّض إلى العاشر، إذا عرفت ذلك فتكليف «تحيّضي» بالنسبة إلى كل شهر إنّما يتوجه إلى

المرأة بعد علمها بكونها مستمرة، و هو بعد انقضاء العشرة،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 153

فينكشف حينئذ أنّ تحيّضها إلى العاشر كان خلاف الواقع، و أنّ الواقع كان هو التحيّض بالسبع، و حينئذ فالمفروض حصول التحيّض بالسبع منها في ضمن العشر، فمن المحتمل أن يكون غرض الشارع متعلّقا بخصوص التحيّض في أوّل الشهر، و لم يصرّح به لكونه حاصلا في الغالب، لعدم كون النساء مسامحات في تلك الأزمنة في التكاليف الشرعية فلو لم يذكر القيد حينئذ لم يلزم نقض غرض لفرض حصول غرضه، و حينئذ فلا يبقى الإطلاق للكلام حتى يرجع إليه في المورد النادر، و هو صورة حصول العلم بالاستمرار في أوّل الشهر، بل يكون المرجع هو الأصل العقلي و هو التعيين كما عرفت هذا ما ذكره- دام ظلّه.

و يمكن الخدشة فيه: أوّلا: بأنّا لا نسلّم غلبة عدم حصول العلم بالاستمرار و بقاء الدم من أوّل الثلاثين إلى آخره، بل هو يحصل بامتداد ذلك إلى سنة مثلا و يحتمل حصوله في الأقل أيضا.

و ثانيا: سلّمنا هذه الغلبة، و لكن ما الدليل على أنّ الموضوع للتحيّض بعدد الرواية هو المستمرة بالنسبة إلى كل ثلاثين، حتى تحتاج في أوّل كلّ ثلاثين لمجي ء حكم المستمرة إلى إحراز التجاوز في هذا الشهر، بل الموضوع هو التجاوز في الشهر الأوّل، و نحن نقول أيضا بأنّه قبل العلم بالتجاوز لا بدّ من معاملة الحيض إلى العاشر، و أمّا بعد التجاوز في الشهر الأوّل لو استمر إلى الشهر الثاني، فلا تحتاج حينئذ إلى هذا العلم لصدق المستمرة عليها فعلا.

نعم لو علم بأنّ الدم ينقطع لدون العاشر لم يجز لها الاقتصار على السبع، أمّا ما دام تحتمل البقاء إلى العاشر تكون مشمولة

للتحيّض بالاعداد بحسب الظاهر، غاية الأمر لو انقطع لدون العشر، ينكشف أنّ حيضه من أوّل العشر إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 154

حيث انقطع لا خصوص ما عيّنه من العدد، فلا يقال: إنّه ينافي كون الموضوع هو التجاوز في الشهر الأوّل، أنّه لو انقطع على العاشر أو أقل كان الكلّ حيضا، فيدل ذلك على أنّ الموضوع إنّما هو التجاوز بالنسبة إلى كل شهر، إذ الحكم بالعدد يكون ظاهريا، و الانقطاع يكشف كونه مخالفا للواقع.

و بالجملة المستفاد من الرواية أنّه بعد التجاوز في الشهر الأوّل، تدخل تحت تكاليف المستمرة: من الأخذ بالعدد الخاص في كل ثلاثين يوما، إلّا أن يظهر خلاف ذلك و أنّ العدد المأخوذ لم يكن وحده حيضا، بل مع ضميمة، فعلم أنّ الحكم بتحيّض غير ذات العادة في نفس العشرة إلى العاشر، مخصوص بالعشر الأول من الشهر الأوّل من أشهر الاستمرار، و لا يعم العشر الأوّل من كل شهر، بل يتبدّل حكمها بالتحيّض في نفس العشر إلى السبع، مع الحكم بأنّ مع الانقطاع على العاشر أو ما دونه يكون الكل حيضا، و إذن فلو أغمض النظر عن ظهور الفقرتين اللتين ذكرناهما في الترتيب، لكان الإطلاق منعقدا و دليلا على التخيير.

ثمّ على القول بالتخيير هل هو بدوي أو استمراري؟ بمعنى حصوله حتى بعد البناء و العمل، مثلا لو بنت على السبع الأول فهل لها بعد انقضاء السبع و عمل الحيض فيها الرجوع و اختيار السبع الثاني؟ «1» أو الثالث مثلا و هكذا أو لا؟

الأظهر هو الثاني، فإنّ مقتضى استصحاب بقاء التخيير الثابت في الزمان السابق المشكوك في اللاحق و إن كان جاريا، و هو حاكم أيضا على استصحاب أحكام الحيض الجائية من قبل

الاختيار أو البناء في الزمان السابق، حيث إنّ الشك في ارتفاعها بالرجوع ناش عن الشك في بقاء التخيير و عدمه، فيكون الأصل في

______________________________

(1)- المراد من السبع الثاني ما كان أوّله اليوم الثاني من الشهر و هكذا (منه عفى عنه).

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 155

السبب مقدّما على الأصل في المسبب، إلّا أنّ الواقعة الواحدة، أعني: تحيض سبع واحد في تمام الشهر، لو بنت الخيار فيه في تمام الشهر بحيث انجر ذلك إلى إفطار تمام الشهر، لو اتّفق ذلك في رمضان بأن تبني أوّلا على السبع الأول، ثمّ بعد انقضائه ترجع و تعيّن في الثاني و هكذا إلى آخر الشهر، يكون أمرا غريبا غير معهود من الشرع، فإنّه يشبه باللعب و حكم اللّٰه تعالى أجلّ و أعلى من ذلك.

نعم لو كان هذا التخيير في الوقائع المبتدئة، كما في التخيير في الأخذ بالخبرين الدال أحدهما بوجوب الجمعة، و الآخر بوجوب الظهر: بأن يكون المكلّف في كل جمعة مخيّرا في اختيار أحدهما، أمر ممكن لا يعد من الغرائب و الموحشات.

ثمّ على القول بالتخيير ففي الشهر الأوّل الذي تحيّضت فيه إلى العاشر احتياطا، هل يقال بتعيّن السبع الذي تحيّضت من أوّل الشهر فيتعيّن الاستحاضة في الباقي؟ أو يقال حيث صدر منها هذا السبع من غير التفات إلى كونه أحد أفراد التخيير، فلم يوجب ذلك سقوط التخيير و الموجب إنّما هو التعيين بالاختيار و القصد و هو منتف، فإنّها تخيّلت كون التحيّض في ذلك السبع متعيّنا عليها من قبل الشرع، و الأقوى في هذه المسألة هو السقوط و عدم التخيير، و الأصل فيه أنّ الإتيان في كل واجب تخييري بإحدى الخصال، و لو لم يكن عن علم بكونها إحداها

يكون منطبقا عليها الأمر التخييري قهرا و يحصل الامتثال، فلو حصل العلم بعده بالتخيير لم يكن له اختيار الخصلة الأخرى، مثلا لو صلّى في أحد الأماكن الأربعة متخيّلا أنّ الواجب عليه الإتمام، أو متكلا على أصل ظاهري مقتضاه ذلك، ثمّ انكشف التخيير بينه و بين القصر، فهل لأحد أن يقول إنّه مشغول الذمة بأحد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 156

الأمرين؟ لأنّه لم يأت بأحدهما بعنوان الاختيار؟ و وجه ذلك انّ عنوان الاختيار خارج قطعا عن المطلوب و المطلوب هو ذات أحد الأمرين و هو حاصل بالفرض.

ثمّ على القول بالتخيير أيضا هل يجب موافقة الشهر الثاني للأوّل؟ بمعنى أنّه لو وضع العدد في أوّل الشهر الأوّل وجب ذلك في الثاني و ليس لها اختيار الوضع في غير الأوّل، أو أنّها كما كانت مختارة في الشهر الأوّل، فاختيارها باق في الثاني أيضا فلها أن تختار السبع في أوّل الشهر الأوّل، و في الثاني في آخره؟

الأظهر هو الأوّل لأنّا قد استفدنا من الرواية أنّه يجب تحيض السبع في كل ثلاثين يوما، بحيث لا يبقى ثلاثون خاليا من سبع التحيض، و في الصورة المزبورة، أعني: وضع السبع في أوّل الأوّل، و آخر الثاني حصل ستة و أربعون يوما في الوسط خالية عن سبع التحيض، و هو خلاف الرواية، و هكذا نقول إلى أن يكون المتوسط أقل من ثلاثين، فلو أخّرت في الشهر الثاني عن محل تحيض الشهر الأوّل بأقل من سبعة أيام، كان المتوسط لا محال أقل من ثلاثين، لكن يقع الكلام حينئذ في أنّه يلزم جواز التأخير بيوم أو يومين، بل بستة أيام.

و التحقيق أن يقال: لا بدّ أن لا تبلغ الأعداد التي تؤخّرها إلى الثلاثين، مثلا

لا يجوز أن تؤخّر ستة أيام في خمسة أشهر، فإنّ الخمس ستات يكون ثلاثين يوما خالية عن سبع التحيض.

نعم يجوز ذلك في أقلّ من خمسة أشهر. هذا كلّه هو الكلام في المبتدئة.

و أمّا الناسية: فهي على ثلاثة أقسام: ناسية الوقت دون العدد، و عكس ذلك، و ناسية كليهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 157

و الكلام فعلا في الثالث: و هي المسمّاة بالمتحيّرة و المحيّرة باعتبار تحيّر نفسها، أو أنّها محيّرة للفقيه في فهم حكمها.

و كيف كان فنقول: لا إشكال في دخول هذا القسم في السنّة الثالثة من المرسلة، فإنّ الموضوع و إن كان جعل هو المبتدئة، و لكن قد صرّح في الضابط بأنّ الملاك إطباق الدم و كونه على لون واحد، بعد فقد العادة المعلومة و التميز، و هذا المعنى يشمل المبتدئة و الناسية بالمعنى المذكور، و حينئذ فلا بدّ من القطع بأنّ العدد في حقّها هو السبع، عملا بالمرسلة السليمة عن المعارض من حيث الناسية، فإن رفعنا اليد عن ظهورها بالنسبة إلى المبتدئة، لوجود الأخبار المعارضة في خصوص المبتدئة، و لكن المعارض مخصوص بالمبتدئة و غير موجود في الناسية، فنحن بأي وجه عالجنا التعارض في المبتدئة بالجمع العرفي بأنحائه أو بالتخيير الخبري، لا بدّ أن نعمل بظاهر المرسلة في الناسية و لا يوجب ذلك إجمالها بالنسبة إلى الناسية، و لا يستلزم ذلك استعمال اللفظ الواحد في معنيين: بأن يكون الأمر بتحيّض السبع بالنسبة إلى المبتدئة مستعملا في التخيير، و إلى الناسية، في التعيين، فإنّ الاستعمال محفوظ في الإطلاق على أي حال، و التقييد غير قادح فيه أصلا، و لهذا لم يكن في المطلق الذي ورد عقيبه مقيّد تجوّز أصلا.

نعم نرفع بسبب المقيّد اليد عن

ظهور تطابق الإرادتين الاستعمالية و اللبّية، فيعلم أنّ اللب لم يكن في غير مورد القيد، بل كان صرف إرادة استعمالية، و إذا كان الحال في المقيّد كذلك، فلا إشكال أنّه لا بدّ من الاكتفاء على قدر شمول المقيّد، فلو كان غير شامل لبعض الأفراد فأصالة التطابق بالنسبة إلى هذا البعض سليمة عن المانع، و قد حقّق ذلك في الأصول.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 158

ثمّ بعد تعيّن عدد السبع عليها، قد عرفت أنّ ظاهر الفقرتين من المرسلة تعيين الوضع في أوّل الشهر، و على فرض الإجمال فالقدر المتيقن هو الوضع في الأوّل.

ثمّ إنّ لشيخنا المرتضى هنا كلامين في كل منهما الخدشة: و ذلك أنّه نقل الأقوال في الناسية و ذكر أنّها خمسة عشر، و عدّ من جملتها القول بالاحتياط في تمام الشهر بالجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، و قضاء عشرة أيام أو أحد عشر يوما مع التلفيق بعد الشهر لو اتفق في شهر رمضان.

ثمّ استشكل على هذا القول بأنّه و إن كان أصوب الأقوال بحسب العمل، و لكنّه أضعفها بحسب الدليل، لأنّ دليل الاحتياط ليس إلّا العلم الإجمالي للمرأة بأنّها حائض في زمان، و مستحاضة في زمان آخر، و لا علم لها بتعيّنهما، و هذا مبتن على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات: بأن يكون التكليف مردّدا بين التوجه بما هو موجود في الزمان الحاضر و ما يتجدّد في المستقبل، و الخدشة في تنجيزه أنّه على تقدير التعلّق بالأمر الاستقبالي فالتكليف به مشروط بحضور زمانه، فلم يحصل العلم بالتكليف المطلق على كل حال، هذا مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي المذكور لا يقتضي إلّا وجوب قضاء ثلاثة أيام دون عشرة، كما هو المدّعى و ذلك

لأنّه لا علم لها بثبوت التكليف بالقضاء في أزيد من ذلك.

و أنت خبير بما في كلتا الخدشتين.

أمّا الأولى: فلأنّه من الواضح كون المقام من باب العلم الإجمالي في الآنيّات دون التدريجيات، لوضوح الإجمال و الترديد للمرأة في كل زمان، فتعلم إجمالا في كل زمان أنّها إمّا حائض فيه أو مستحاضة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 159

و أمّا الثانية: فلأنّها عالمة في كل يوم أنّها إمّا حائض فيجب عليها تروك الحائض و قضاء صوم هذا اليوم بعد مضي الشهر، أو مستحاضة فيجب عليها الغسل و الصلاة و الصوم في هذا اليوم، فقضاء صوم كل يوم طرف للعلم الإجمالي، غاية الأمر إنّه مشروط بالزمان الآتي و الفرض تسليم تنجيز العلم في التدريجيات، ثمّ بعد انقضاء الشهر يحصل لها العلم بأنّ صوم عشرين يوما من تلك الأيام كان صحيحا، و ذلك للعلم بأنّ الحيض لا يزيد عن عشرة، و الفرض عدم تعدّد الحيض في شهر واحد، فيبقى العلم الإجمالي مؤثرا أثره بالنسبة إلى عشرة أيام أخر غير مميزة من أيام الشهر، و لم يحصل ما يوجب ارتفاعه موضوعا أو حكما، فلا وجه للاكتفاء بقضاء ثلاثة أيام.

فإن قلت: كيف ذلك و لا علم لها بحيضية أزيد من ثلاثة أيام، فعلمها الإجمالي في كل يوم إنّما هو من جهة احتمال انطباق الثلاثة عليه، و أمّا بالنسبة إلى السبعة أيام فشاكّة محضة؛ و بعبارة أخرى و إن كانت في كل يوم عالمة بأنّ الواجب عليها إمّا كذا، و إمّا قضاء الصوم في ما بعد إلّا أنّها غير عالمة بأنّ هذا القضاء غير ما علمت به إجمالا في اليوم السابق، فمن أوّل الأمر لا يتعلّق علمها الإجمالي إلّا بثلاثة أيام.

قلت: يكفي في

العلم الإجمالي هنا احتمال الحيضية، فلو لم يكن لها علم بحيضية الثلاثة أيضا و كان لها الاحتمال كفى في حصول العلم، لأنّها تعلم إجمالا بأنّها إمّا حائض أو مستحاضة، و على أي تقدير تكون مكلّفة بتكليف، بل و لو احتملت كون الدم قسما ثالثا أيضا كان الحال كذلك، فإنّه لا أقل من ثبوت تكليف الطاهر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 160

نعم لو كان أحد أطراف الاحتمال عدم التكليف كان الاحتمال غير كاف، كما في قطيع الغنم الذي علم إجمالا بموطوئية ثلاثة منها و احتمل ذلك في سبعة و علم العدم في البقية، حيث إنّ طرف الاحتمال في السبعة عدم الموطوئية و ثبوت الإباحة، فأصالة عدم التكليف فيها سليمة عن المعارض، و أمّا لو علم أنّ السبعة على تقدير عدم الموطوئية تكون مغصوبة، فلا محالة تعارض أصالة عدم الموطوئية بأصالة عدم المغصوبية، و يكون العلم الإجمالي ثابتا في تمام العشرة من القطيع و ما نحن فيه من هذا القبيل، فوجود العلم بحيضية الثلاثة و عدمه سيّان، و يكفي احتمال حيضية العشرة في حصول الإجمال بالنسبة إليها.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن نستصحب الطهر و عدم الحيض الثابت في زمان البياض، إلى أن يبقى مقدار ثلاثة أيّام من آخر الشهر.

قلت: هذا معارض بأصالة عدم الاستحاضة.

فإن قلت: كل دم لم يثبت حيضية فهو استحاضة شرعا و السبعة كذلك، إذ ليس على حيضيتها أمارة شرعية.

قلت: أوّل: نمنع عدم الأمارة الشرعية فإنّ قاعدة الإمكان و إن كانت معارضة بالمثل، و لكن حيضية العشرة الكلّية بلا تعيين هو المتيقن من المجموع.

و ثانيا: نمنع ما ذكرت من «أنّ كل دم لم يثبت إلخ» لعدم وضوح مدرك له.

فإن قلت: يمكن الاستصحاب الحكمي التعليقي

بأن يشار إلى شخص المرأة في زمان النقاء و البياض مجرّدة عن حالة الطهر، و يقال هذه كانت في زمان البياض بحيث لو دخل عليها شهر رمضان وجب عليها الصوم، فالأصل بقاء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 161

ذلك فيها، و الموضوع في الاستصحاب حيث إنّه الموضوع العرفي فبقاء شخص المرأة كاف هنا، إذ الطهر غير دخيل في الموضوع عرفا، بل هو من حالاته، فلا يقال إنّ الموضوع غير محرز في حال الشك، فهذا الاستصحاب يجري إلى ما قبل الثلاثة الأخيرة من الشهر، و مقتضاه عدم وجوب قضاء أزيد من الثلاثة.

قلت: المستصحب إمّا وجوب الصوم المطلق، أو المقيد بالغسل، أو بعدمه، أو المهمل و الكل غير صحيح، لأنّ الأوّل و الثالث مقطوعا البطلان في اللاحق، و الثاني مقطوع العدم في السابق، و الرابع غير معقول لعدم معقولية تعلّق الحكم ظاهريا أم واقعيا بالمهملة، و أمّا استصحاب المقيد بالطهارة، فهو و إن كان ممكنا و لكن حيث إنّ القدرة على الطهارة مشكوكة في اللاحق، فلا يمكن إثبات التكليف الظاهري بالأصل، لأنّه فرع إحراز القدرة و لا يعارض بالتكليف بالحج بعد الاستطاعة، مع الشك في القدرة إلى بلوغ الموسم، لأنّ المقتضي فيه محرز، و الشك في التكليف الفعلي، و هنا نشك في أصل المقتضي للتكليف الظاهري من جهة الشك في القدرة على متعلّقه.

فعلم من جميع ما ذكرنا أنّ الإشكال على العلم الإجمالي بما ذكر غير وجيه.

نعم يرد عليه، أنّه قد تقرر في محله انحلال العلم بقيام الطريق على أحد أطرافه و هو هنا حاصل، فانّا و إن بنينا على إجمال الروايات في مقام تعيين العدد و في مقام التعيين في أوّل الشهر، و لكن يحصل الاحتياط بالتحيّض

في أوّل الشهر بالثلاثة، ثمّ الاحتياط بالجمع في الرابع إلى العاشر، فتدبر.

نعم يتجه ما ذكر مع رفع اليد عن الأخبار بالمرّة حتى في المقدار المتيقن و هو ممّا لا وجه له.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 162

[الفصل الرابع في أحكام الحائض]

اشارة

فصل في أحكام الحائض و فيها مسائل

منها: حرمة الصلاة

و هل هي ذاتية أو تشريعية: بمعنى أنّ الصلاة في حقها تكون كقراءة العزائم، و لبث المساجد، و مس الكتاب حراما و معصية فلو فعلت كانت معاقبة على الفعل، أو أنّه ليس تحريمها إلّا من جهة التعبّد و التديّن بما لم يأمر به الشارع؟ و تظهر الثمرة في حسن الاحتياط للمرأة المردّدة في الحيض و الطهر كالمضطربة.

فعلى الأوّل يدور الأمر في فعل الصلاة بين الوجوب و الحرمة، فلا يمكن الاحتياط، بل ربما يقال بكون الاحتياط بترك العبادة تغليبا لجانب الحرمة، كما هو المستفاد من أخبار الاستظهار.

و على الثاني يدور أمرها بين الوجوب و اللغوية، إذ لو فعلتها رجاء و تحفّظا للواقع على ما كان لم يكن تشريعا، فانّ التشريع إنّما يكون مع البناء الجزمي بالمشروعية و المحبوبية، فيكون الاحتياط في مورد الاشتباه بالجمع بين وظيفتي الحائض و المستحاضة ممكنا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 163

فنقول: الاتفاق واقع على كون الاحتياط حسنا، و هذا يدل على أنّ لفظ يحرم الواقع في كلمات المجمعين محمول على الحرمة الوضعية، بمعنى عدم الصحة دون التكليفية. هذا بحسب كلمات القوم.

و أمّا بحسب نصوص الباب: فلا يخفى قوة ظهورها في بادئ الرأي في الحرمة الذاتية، فإنّ ظاهر كلمة لا يجوز و لا تحل، و حرمت كما وقع كل منها في رواية هو الحرمة التكليفية.

و كذلك قوله في علل الفضل عند بيان علّة التحريم من «أنّها على حدّ نجاسة، فأحب اللّٰه أن لا يعبد إلّا طاهرا» «1» فانّ الظاهر رجوع الحب إلى كلا جزئي الإثباتي و السلبي يعني أحب اللّٰه العبادة في حال الطهارة، و أحب اللّٰه عدمها في حال الحيض لا أنّ المقصود

إثبات الحب في الأوّل فقط مع السكوت عن الثاني، يعني أنّ العبادة في حال الطهارة محبوب و أمّا في غيره فليس بمحبوب، كما يؤيده التنظير بالنجاسة الظاهرية حيث إنّ الصلاة معها ليست بحرام، و إنّما هي غير محبوب، و ذلك لأنّ المناسب على تقدير إرادة هذا أن يقال: ما أحب اللّٰه أن يعبد في حال الحيض، و أمّا العبارة المذكورة فكالصريح في إفادة الحب في جانب المستثنى منه أيضا كالمستثنى.

لا يقال: إنّ الخبر يدل على مطلب الخصم من الحرمة التشريعية، من جهة جعل متعلّق الحب فيه هو العبادة، فالمحبوب وجودا أو عدما هو عبادة الحائض بالأركان المخصوصة و هو معنى التشريع.

لأنّا نقول: ليس التعبّد بمعنى فعل العبادة مساوقا للتعبّد بمعنى التشريع،

______________________________

(1)- الوسائل: ب 39 من أبواب الحيض، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 164

فانّ القصد الجزمي معتبر في تحقّق الثاني و ليس بمعتبر في تحقّق الأوّل، لوضوح أنّ العبادة تتحقّق بإتيان العمل برجاء كونه مطلوب المولى.

و بالجملة كما تكون عبادة الشخص القاطع بالإتيان مع القصد الجزمي بالمطلوبية، كذلك فعل العبادة للشخص الشاك هو الإتيان برجاء المطلوبية، فإنّ هذا أيضا تعبّد لهذا و فعل عبادة، فإذا كان العبادة بمقتضى الخبر محرمة كان كل من فرديها محرّما فيفيد الحرمة الذاتية.

و ربما يؤيد الذاتية أيضا بأخبار الاستظهار، حيث إنّ الإمام جعل الاستظهار و الاحتياط في حقّ المرأة الشاكّة هو ترك العبادة، فيدل على كون الحرمة في حقّ الحائض ذاتية و كونها أقوى من الوجوب في حقّ الطاهرة، و إلّا فلا معنى لهذا، بل كان الاحتياط هو الجمع كما هو واضح.

نعم لا دلالة في أوامر الترك من مثل قوله- عليه السّلام-: «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإنّه وارد عقيب

الوجوب، فيمكن كونه لرفع الوجوب كما يؤتى بالأمر عقيب الحظر لإفادة رفع الحظر.

و الحاصل أنّا لا نقول: إنّ الظاهر من تلك الأخبار الأفعال المخصوصة، و لو لم يأت بها على وجه العبادة، بل نقول: ظاهرها الإتيان على هذا الوجه، و لكن نقول المراد بالعبادة الإتيان بالفعل بداع راجع إلى اللّٰه تعالى، كالركوع بقصد تعظيمه أو إطاعة أمره، أو كونه أهلا للتواضع و نحو ذلك من الأنحاء للقصد الإلهي، و إذن نقول كما انّ عبادة القاطع الإتيان بقصد العظمة، و بقصد المطلوبية على وجه الجزم بحصول ذلك بالعمل، كذلك في حقّ الشاك يحصل برجاء ذلك و احتماله، فإذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 165

صار العبادة محرمة ذاتا كما هو الظاهر من الأدلّة صار القسمان تحته، و يؤيد المقام الأخبار الواردة للتمييز بين دم القرحة و الحيض، و كذلك بين العذرة و الحيض، و التعبير في مورد الاشتباه بذلك فإنّه على تقدير الحيضية فلتتق المرأة من اللّٰه بالإمساك عن الصلاة، و على تقدير عدمها لتتق اللّٰه بإتيانها، و هذا التعبير أيضا له كمال الظهور في الحرمة الذاتية دون مجرّد اللغوية. و من هذا الباب أيضا الاهتمام الوارد في الاستبراء من الحيض لدى الانقطاع، و من المعلوم انّه على تقدير عدم الذاتية لم يكن مقام لذلك، و كذلك جعل الاحتياط للمستحاضة التي اشتبه دمها بين الحيضية و الاستحاضة بترك الصلاة و إلّا كان الاحتياط الإتيان مع الرجاء.

و بالجملة المسألة بحسب الدليل أظن أنّه في طرف الذاتية صافية عن الإشكال، و أمّا بحسب القول فلم يظهر من كلماتهم فيها اتفاق، بل لم يدع شيخنا- قدّس سرّه- أيضا إلّا ظهوره، بل كلام الجواهر صريح في وجود المصرّح بالخلاف و

أنّ الحرمة ذاتية، و يظهر من نفسه اختيار ذلك، فراجع كلامه- رفع في الخلد مقامه.

و لكن يشكل الحال على هذا في غالب من الفروع المتعلّقة بالحائض التي اضطربت فيها أيدي الفحول، و لجئوا إلى الاحتياط فيها بالجمع بين إتيان العبادة مع أعمال المستحاضة، و استراحوا به عن دغدغة الإشكال فيصير هذا الباب أيضا منسدا علينا على هذا. فتأمل في ذلك فلعلّ اللّٰه يحدث بعد ذلك أمرا، و يفتح لنا باب الفرج انّه خير الفاتحين.

مسألة: و من جملة المحرمات للحائض مس الكتاب
اشارة

سواء كان لفظ الجلالة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 166

أم غيره حتى لفظ فرعون و الشيطان المكتوب بقصد القرآن، و الدليل في ذلك أيضا رواية أبي بصير المردّدة بين الموثقة و الصحيحة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عمّن قرأ من المصحف و هو على غير وضوء، قال: «لا بأس و لا يمس الكتاب» «1».

و لا خدشة في دلالته إلّا بدعوى عدم ظهور النهي في التحريم و هو في محل المنع للوجدان، و لا تعارض برواية أخرى ورد فيها النهي عن عدّة أمور منها مقطوع الكراهة، و عدّ منها مس الكتاب، فانّا لو كنّا و هذه الرواية لم تصر دليلا على الحرمة، و لكن لو اعتمدنا على رواية أخرى سالمة عن تلك الخدشة، فليست هذه الرواية قادحة في دلالة تلك، إذ غاية ما هنا أنّه يلزم ذكر المحرّم و المكروه في سياق واحد، و النهي عنهما بصيغة واحدة و هو غير مستبعد لاستعمال الصيغة في مطلق محبوبية الترك، و لا حاجة لنا بعد ذلك إلى الكلام في دلالة قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» و إنّ الضمير هل يرجع إلى القرآن أو الكتاب المكنون الذي هو اللوح المحفوظ

و أنّ المراد بالمس هو مباشرة ظاهر البدن، أو الوصول إلى العلوم المندرجة و إمساس القوة العاقلة لتلك المطالب، و انّ المراد بالمطهرين من طهر عن الاحداث و الجنابات، أو من طهّره اللّٰه من الذنوب و المعاصي، كالملائكة، أو ظهر منها بالاختيار كالأنبياء و الأولياء، و إن كان ربما أمكن على تقدير الحاجة بأن نقول كفينا مئونة ذلك ذكر الآية في رواية إسماعيل و الاستشهاد بها للمقام، و لكن نستشكل حينئذ في دلالة نفس الرواية بأنّها في مقام بيان السنن و الآداب و لا يستفاد منها الإيجاب و التحريم، و على ما ذكرنا فيصير هذا و شبهه مثل المروي عن مجمع البيان على وجه الإرسال مؤيدا للمطلب لا دليلا.

______________________________

(1)- الوسائل: ب 12 من أبواب الوضوء، ح 1.

(2)- الواقعة/ 79.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 167

و يبقى الكلام حينئذ في أمور:
[الأمر الأول ما هو المراد بالكتاب]

الأوّل: انّ المراد من الكتاب، و إن كان المجموع من الجلد و الأوراق من غير فرق بين حواشيها الخالية عن الكتابة و مواضعها المكتوب فيها خط القرآن، إلّا أنّ الظاهر منه في هذه الرواية خصوص الأخير، أعني: الخطوط دون الجلد و حواشي الورق، و ذلك لأنّه ذكر فيها عدم البأس بقراءة غير المتوضّي، و هي ملازمة غالبا مع إمساس البدن الجلد و الحواشي، فلو كان المقصود النهي عن مس ذلك أيضا لوجب التنبيه على ذلك، و انّه يجب حين القراءة أن يأخذ المصحف مع لف اليد بخرقة و نحوها.

[الأمر الثاني في شباهة المكتوب للإفهام بألفاظ القرآن]

الثاني: انّه لا إشكال في ما إذا كتب بعض من القرآن بقصده، و إنّما الكلام في ما يكتب بقصد إفهام أغراض أخر مع شباهة المكتوب بألفاظ القرآن، كما لو كتب من يسمّى طرفه بيوسف في كتابه إليه يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا، مثلا فنقول: ذلك يتصوّر على نحوين بحسب عالم الثبوت:

الأوّل: أن يكون الإتيان بذلك لأجل التفنّن في العبارة و الملاحة فيها، فيؤتى بآية مناسبة للغرض و بقصد إفهامه فقد فهم المرام مع استحسان الكلام، كما يروى عن فضة أنّها عند تكلّمها كانت مفهمة لمقاصدها بالآيات المناسبة، و يسمّى ذلك في الاصطلاح بالاقتباس، نظير ما يؤتى بشعر من سعدي؛ مثلا، مناسب للغرض و يظهر في الظاهر انّه منشئه، فقصد الحكاية في هذا القسم محفوظة و لا ينافيه قصد إفهام المعنى أيضا، غاية الأمر عدم تمشّي هذا القصد في عرض قصد الحكاية، بل إنّما هو في طوله نظير نفس الكتابة، حيث إنّها بقصد الحكاية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 168

عن نفس الألفاظ ثمّ يقصد المعاني بتوسط الألفاظ المحكي عنها بالخط، فهنا أيضا يقصد قائل اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ

الحكاية عن الألفاظ المنزلة ثمّ بعد ذلك يقصد المعاني ضمنا، و بهذا يمكن الجمع بين قصدي الحكاية و الإنشاء في قراءة الصلاة، و يسهل الأمر أيضا في رد السلام في أثناء الصلاة في مواقع الشك، مثل عدم سماع صيغة السلام حتى يؤتى بالمماثل، و كون المسلّم مميّزا غير مكلّف و نحو ذلك من المقامات المشتبهة، فإنّه ترتفع غائلة الإشكال بإتيان آية فيها صيغة السلام، مثل سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ بقصد القرآنية و يقصد ردّ السلام به ضمنا، إذ لم يدل دليل على وجوب الرد الابتدائي و على وجه الاستقلال.

و بالجملة، فالمقصود انّ مجرد هذا القصد الطولي الحاصل في الاقتباسات و نحوها، لا يخرج الملفوظ عن كونه لفظ القرآن و المكتوب عن كونه خطا له، بل الأمر دائر مدار قصد اللافظ و الكاتب بهما الحكاية عن الألفاظ المنزلة و عدمها، فمع هذا القصد لا إشكال في أنّه يصير حينئذ بالحمل الشائع قرآنا، فكما أنّ افناء اللفظ في معناه على وجه يحمل على اللفظ ما يحمل على المعنى، مثل ما يقال: إنّ اللفظ الفلاني تملّق أو تواضع و نحوهما، إنّما يكون بالقصد أي قصد المعنى منه و النظر إليه فانيا في المعنى، فمع عدم هذا اللحاظ و القصد يخرج عن عينية المعنى، كذلك في حكاية اللفظ باللفظ أو الخط أيضا إنّما يصير هذا اللفظ، أو الخط عين اللفظ المنتقل إليه إذا نظر إليهما بالنظر الحكائي الفنائي.

فحينئذ يصير الأوّل وجودا لفظيا له و الثاني وجودا كتبيا، و مجرّد الانتقال لا يوجب العينية و الفناء، فزيد إذا شابه عمرا على وجه حصل من رؤيته الانتقال

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 169

إلى عمرو لا يصير بمجرد ذلك عنى

عمرو، كذلك لو أتى متكلّم بكلام من غير التفات منه إلى كون نظيره منزلا و في القرآن، بل و عدم سماعه بنزول قرآن من اللّٰه، و لكن اتفق حصول المشاكلة مع أية من آيات القرآن، كما لو كان له بستان سمّاه الكوثر، فقال عند إعطائه تلك البستان شخصا حاضرا إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ فلا يقول من يعلم بالحال، أعني: صدور هذا الكلام من غير استشعار قائله بوجود مثله في القرآن، بل وجود قرآن أصلا: إنّه القرآن، بل يقول: إنّه لفظ مشاكل للقرآن، بل لو فرض محالا أنّه أتى بجميع القرآن على هذا النحو، فلا يطلق العالم بالحال على ذلك المجموع اسم القرآن، بل يقول: إنّه كلام آدمي اتّفق مشاكلته مع القرآن.

و من ذلك علمت القسم الثاني من القسمين اللذين ذكرنا ثبوتهما في مقام الثبوت، و هو الإتيان باللفظ المشاكل للفظ القرآن أو شعر سعدي، مثلا، لا بقصد الحكاية أصلا، بل حصل الموافقة من باب الاتفاق حيث إنّه ليس بقرآن و لا إشكال حينئذ في عدم حرمة مسّه.

و من هنا يظهر الكلام في فرع: و هو ما إذا جاء الريح و جمع التراب على هيئة خاصة حصل منها آية من القرآن، فإنّه لا إشكال في أنّه ليس بقرآن.

و أمّا ما يرى من أنّ العرف يحكمون في أمثال ذلك ممّا ظاهره حصوله من غير قصد قاصد بكونه قرآنا، بل يتبرّكون به فإنّما هو من باب أنّهم يرونه مقصودا، و سرّه أنّه لو رئي مثلا كتابة آية من القرآن على ذنب سمك، مثلا، فحيث إنّه خارق للعادة يرونه مستندا إلى يد غيبي، كما أنّه لو رئي سورة التوحيد بتمامها مكتوبة في كاغذ؛ مثلا، يحكمون بلا تأمّل بأنّه قرآن، و

وجه ذلك أنّهم لا يحتملون حصول ذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 170

بلا قصد الحكاية و من باب الموافقة الاتفاقية. فعلم من ذلك الكلام في مرحلة الإثبات عند مقام الشك، حيث يقال: إنّه لو شك في كلمة واحدة أو كلمتين يكثر وجودهما في غير القرآن أنّه كتب بقصد القرآنية أو عدمها فالأصل البراءة، إذ ليس في البين ما يعيّن أحد الأمرين، و أمّا لو كانت المشكوكة من الكلمات المختصة بالقرآن أو كانت آية طويلة بتمامها أو سورة كذلك، فالعرف في هذه المقامات يحكمون في مرحلة الإثبات بأنّها مكتوبة بقصد الحكاية، فيكون ذلك رافعا للشك و يجري عليه حكم تحريم المس.

[الأمر الثالث هل يحرم مس الحركات الإعرابية]

الثالث: هل الحركات الاعرابية و علامة الجزم و ألف الجمع و واوه عند عدم قراءته و التشديد و المدّ المكتوبة في المصاحف أيضا يحرم مسها على الحائض و شبهها أو لا؟ الظاهر نعم لأنّها معدودة من خط القرآن و صارت بعض ذلك رسما للخط مثل ألف الجمع، و بعض ذلك حكاية لهيئة اللفظ مثل الحركات، و بعضها حكاية عن الحرف الملفوظ و من ذلك التشديد فإنّه حكاية عن الحرف المدغم، و منه أيضا ما يكتب في بعض المصاحف بالحمرة عند إدغام نون في لأم و نحوه، من هيئة لام صغيرة فوق النون بيانا لصيرورته في التلفّظ لاما مدغما في اللام مثل «و لم يكن له».

[الأمر الرابع ما هو المراد بالمس]

الرابع: هل المراد بالمس ما ذا، فهل هو مختص بما تحلّه الحياة فلا بأس بمس الظفر و السن و الشعر و أمثالها، أو يعم جميع ذلك أو ما عدا الشعر، و هل يختص بالظاهر فلا بأس بوضع القرآن في الفم أو مسّه باللسان، أو يعم الظاهر و الباطن؟ الظاهر من لغة المس وصول شي ء إلى شي ء و لا خفاء في صدق ذلك في الظفر و السن و اللسان و الوضع في الفم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 171

نعم ربما يستشكل في الشعر لا سيّما إذا كان طويلا، حيث لو لم نقل بالانصراف عنه فلا أقل من عدم الإطلاق بالنسبة إليه أيضا، و أمّا في البواقي فمنشأ التوهم إمّا الانصراف: فيرد عليه انّه لو تم الانصراف فهو كما يظهر للاحظ في الأخبار، إنّما هو في خصوص اليد ممّا يتعارف تناول المصحف به، فلا يشمل الرجل فضلا عمّا لا تحلّه الحياة، و هو مدفوع بما يمكن القطع به من تلك الأخبار من

كون علّة الحكم احترام القرآن، و هو مناسب لعدم مس شي ء من البدن إيّاه، فإذا ذهب هذا الانصراف من البين من هذه الجهة، فهذه الأمور كلّها في عرض واحد.

و إمّا الافتراق بين الأعضاء من جهة قبول الجنابة و الطهر و عدم قبولهما، فيقال: إنّ الشعر؛ مثلا، لا يقبل الجنابة و الطهر، و لهذا لا يعتبر غسله في الغسل فلا يحرم مسّه و غيره يقبلهما فيحرم مسه، و هذا أيضا مندفع بأنّ الجنابة و الطهارة أمران عارضان على النفس، و بعد عروضهما على النفس فيصح نسبته إلى كل ما يرى عينا و جزءا للشخص فيشار إليه بتمام أجزائه، و يقال: هذا طاهر أو جنب، فيكون من هذه الجهة أيضا جميع الأجزاء على السواء؛ يعنى، أنّ المعروض هو النفس دون شي ء من الأجزاء، و لكن كلّما باشر المصحف شي ء من أجزاء بدن النفس الجنب و الحائض يصدق انّه مسّه الحائض أو الجنب.

[الأمر الخامس هل يحرم الإمساس للقرآن]

الخامس: كما انّ المس حرام على المكلّف فهل يحرم الإمساس أيضا كأن يجعل يد النائم؛ مثلا، على المصحف و كذلك يجب ردع الغير حتى الطفل من ذلك مع التمكن، أو أنّ التكليف في هذا الباب خاص بالشخص، الحكم في ذلك منوط بأن يستفاد من أخبار الباب حكم كلّي عمومي بالنسبة إلى عموم المكلّفين،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 172

أن لا يدعوا أن يمس يد غير الطاهر القرآن سواء كانوا هم الماسّين أم غيرهم، أو يستفاد حرمة المس على وجه كان ذلك خطابا إلى خصوص الماس دون غيره؟ قد يقال: إنّ الأوّل هو المستفاد من قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فإنّه بمنزلة أن يقال: إنّ المكلّفين مأمورون بأن لا يخلّوا غير الطاهرين أن تمس أبدانهم

القرآن.

و لكنّه مخدوش بأنّه خلاف المتفاهم العرفي من العبارة، فإنّ المستفاد انّه خطاب مختص بنفس الماسّين و لكن يمكن تأييد الأوّل؛ أعني: عموم الحرمة بانّ نواهي المقام ناشئة من لزوم حفظ شأن القرآن و علوّ رتبته، فهو مثل حرمة قتل النفس المسبّب عن احترامها و لزوم حفظ شرافتها، فكما يتعدّى في الثاني من مباشرة القتل إلى تسبيبه، بل إلى وجوب ردع من يريد القتل مع الإمكان، فكذلك هنا أيضا لا نشك أنّ الحكم المزبور مسبب عن حرمة القرآن و علو مقامه، فكما يحرم مباشرة المس كذلك تسبيبه و تخلية من يريد المباشرة مع التمكن من الردع سواء أ كان طفلا أم غيره.

السادس: هل يلحق بالقرآن الكريم لفظ الجلالة و الأسماء المختصة الإلهية، بل و غير المختصة إذا قصد بها الذات المقدسة و كذلك أسماء الأنبياء و الأولياء- صلوات اللّٰه عليهم-؟
اشارة

المشهور ألحقوا، و استدل لهم في خصوص أسماء اللّٰه بروايات متعارضة.

منها: موثقة عمار: لا يمسّ الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّٰه. «1»

و ما يدل على الجواز ثلاث روايات:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 18، من أبواب الجنابة، ص 491، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 173

الأولى رواية ابن محبوب المحكية في المعتبر عن كتابه في الجنب، يمسّ الدراهم و فيها اسم اللّٰه و اسم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم؟ قال: لا بأس. «1»

و الثانية: رواية إسحاق بن عمار عن الجنب و الطامث تمسّان بأيديهما الدراهم البيض؟ قال: لا بأس. «2»

و الثالثة: الصحيح المحكي في المعتبر أيضا عن جامع البزنطي، «هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: إي و اللّٰه إنّي لأوتى بالدرهم فآخذه و إنّي لجنب و ما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلّا أنّ عبد اللّٰه بن محمّد كان يعيبهم عيبا شديدا، فيقول: جعلوا السورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية و في

الخمر و يوضع على لحم الخنزير» «3»، و قد يحمل الطائفة الثانية على حال الضرورة، و الأولى على الاختيار، كما انّه يحمل الثانية على مسّ الدرهم و الدينار في غير موضع الكتابة منهما، و كان توهم السائل لأجل انّ مجرد مكتوبية هذه الأسماء يوجب حرمة مس تمام الدراهم أو الدينار.

و الانصاف أنّ كليهما حمل بعيد، بل الجمع العرفي لو كنّا نحن و تلك الأخبار هو حمل الأولى على الكراهة، و الثانية على الجواز، إلّا أنّه حكي عدم الخلاف في الحرمة عن نهاية الإحكام، و ظهور اتفاق الأصحاب عن المنتهى، و حينئذ فيحتمل أن يكون تجويز ذلك في الرواية مختصا بخصوص الدرهم و الدينار، و وجهه فيهما هو لزوم الحرج حيث إنّ السلاطين كانوا ملجئين بضرب الدنانير و الدراهم على

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 18، من أبواب الجنابة، ص 492، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ص 492، ح 2.

(3) راجع المصدر نفسه: ص 492، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 174

السكة الإسلامية، و السكة الإسلامية كانت غير منفكة عن الاشتمال على هذه الأسماء المباركة، فلو حرم حينئذ مسّها على الجنب و الحائض و غير المتوضّي لزم الحرج مع كثرة الحاجة إلى تداولها في الأيدي، في المعاملات و السوق بحيث لا ينفك عن أمثال ذلك، فصار ذلك سببا لارتفاع الحكم تسهيلا على العباد.

و يحتمل أيضا ابتناء الحكم في أخبار الجواز على التقية، كما ربما يشهد به قوله: «و ما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا» إذ يبعد أن يكون غرضه من ذلك التمسك بالسيرة.

و بالجملة فالأصل عند الشك في المسألة واضح أنّه البراءة، و طريق الاحتياط أيضا غير خفي أنّه عدم ترك التجنّب، و ربما يتمسك

للحكم في المسألة بالفحوى، أعني: فحوى حرمة مس الكتاب و يظهر الكلام فيه في المسألة التالية، هذا كلّه في أسماء اللّٰه تعالى من غير فرق بين الجلالة و الأسماء المختصة الأخر، و غير المختصة إذا قصد بها الباري تعالى.

[في حكم مس أسماء الأنبياء و الأولياء ع]

و أمّا أسماء الأنبياء، و الأولياء- صلوات اللّٰه عليهم- فوجه الحكم فيها لا يخلو من أمور ثلاثة:

الأوّل: الفحوى؛ أعني: فحوى حرمة مس الكتاب و المراد بالفحوى هو ما كان من دلالة اللفظ، بل ربما كان الكلام مسوقا لأجل إفهامه، و ليس المعنى المطابقي مقصودا كما يقال: لا تنظر إلى ظل فلان حيث ليس المقصود حقيقة هو النهي عن النظر إلى ظله، بل المقصود النّهي عن التعرض له، و لا يخفى انّ خطّ المصحف حاك عن الألفاظ التي نزلت من اللّٰه إلى رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و أسماء الأولياء أيضا حاكية عن تلك الذوات المقدسة، و لا شك أنّ احترام الحاكي في المقامين ناش من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 175

احترام محكيّه، و يمكن الجزم بأنّ المحكي في الثاني أبلغ احتراما و أعلى و أعظم رتبة من الأوّل، و إن عدّ الأوّل في حديث الثقلين أكبرهما و الثاني أصغرهما، و لكن يظهر منهم أنّهم بصدد التوجيه لهذه الفقرة، و يظهر منه مسلّمية أعظمية العترة من القرآن و اللّٰه العالم.

و الثاني: تنقيح المناط، و هو أن يعلم من الخارج أنّ مناط حرمة مس الجنب و الحائض و المحدث للقرآن هو علو مرتبة القرآن و شرافته، فكل شريف عالي المرتبة يحرم مس المذكورين له و لا شك أنّ الأسماء المباركة كذلك، و لا يعتبر على هذا الوجه الأولوية، بل يكفي المساواة و عدم الأقصرية.

الثالث:

أن نستفيد من ألفاظ الرواية و الآية كون العلّة هو الاحترام، و ذلك لأنّه قد علّل الحكم في الخبر بقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ و هو معلّل في الآية بأنّه قرآن كريم فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ، فيستفاد منه كون السبب لذلك كرامة القرآن، فبعموم التعليل يتعدى إلى الأسماء المباركة.

و الانصاف عدم تمامية شي ء من هذه الوجوه:

أمّا الأوّل: فلما ذكر من أنّه يعتبر في الدلالة الفحوائية كون غير المذكور على وجه أفاده المذكور كما في المثال، و كما في فهم الضرب، و الشتم، من آية تحريم قول «الأف» و لا يستقيم ذلك إلّا مع أولوية غير المذكور بمراتب من المذكور، و لا يحصل لأحد ممّن نظر إلى الآية الشريفة، و أدلّة حرمة مسّ الكتاب الانتقال إلى حرمة مسّ أسماء المعصومين- عليهم السّلام-، مثل الانتقال في آية التأفيف و هذا واضح.

و أمّا الثاني: فالإنصاف أنّ أصل استناد الحكم إلى احترام القرآن ممّا لا ينكر،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 176

و سلمنا أيضا كون الأولياء أعظم رتبة من القرآن المنزّل، إلّا أنّه لم لا يجوز أن يكون علو الرتبة على الوجه المخصوص منشأ لاحترام على نحو خاص، لم يكن محل لذاك النحو في محترم آخر و لو كان أعلى بمراتب، ألا ترى أنّ احترام توقيع صادر من والي البلد لدى العرف يكون بالتقبيل و الوضع على العين، و لكن ليس هذا احتراما لشخص الوالي، بل احترامه بسنخ آخر، فمن الممكن أن يكون للقرآن خصوصية اقتضت هذا النحو من الاحترام، و لم يكن هذه الخصوصية في الأسماء الشريفة، فليس في البين مناط قطعي تطمئن النفس به.

و أمّا الثالث: فالمستفاد من الآية دخل شيئين أو ثلاثة أشياء الكرامة و الكون

في الكتاب المكنون، بل يمكن أن يقال بدخل وصف القرآنية أيضا، و من هنا يمكن الخدشة في قياس سائر الكتب السماوية بالقرآن، فانّ الحكم لم يترتب على كتاب اللّٰه، بل على القرآن الموجود في الكتاب المكنون، مع أنّه ربما احتمل أن يكون ألفاظ سائر الكتب من نفس الأنبياء، و كون المعاني و المطالب ملقاة من اللّٰه تعالى و اللّٰه العالم.

مسألة: و من جملة المحرمات على الحائض قراءة سور العزائم

و استدل على هذا الحكم بروايات لم يذكر فيها سوى لفظ السجدة استثناء من جواز القراءة من القرآن ما شاءت، و هذه اللفظة مردّدة بين نفس آية السجدة و سورتها، و لا يمكن القطع باستظهار الثاني بملاحظة أنّ هذه اللفظة صارت علماء للسور الأربع تسمية بأشهر الألفاظ، مثل البقرة، و آل عمران، و نحوهما إلّا أنّه قد نقل في الوسائل و غيره عن معتبر المحقّق انّه أفتى أوّلا بحرمة قراءة سور العزائم الأربع، ثمّ قال: و روى ذلك البزنطي في جامعه، و كذا وقع التصريح بهذا المضمون في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 177

الفقه الرضوي.

و ربّما يخدش في عدّ الأوّل من الرواية بأنّه مذكور في كتاب فتوائي و بناؤه على الاستنباط، فلعلّه كان في رواية البزنطي أيضا لفظ السجدة و فهم المحقّق منه السور الأربع، و الرواية عبارة عمّا لم يجئ فيه مثل هذا الاحتمال: بأن أحرز كون بناء الراوي على مجرد نقل ما سمعه من دون تغيير و تصرّف فيه حسب استنباطه و رأيه فيسقط بذلك عن درجة الرواية.

و الظاهر عدم ورود الخدشة بشهادة أنّ المحقّق خصّ المضمون الذي ذكره برواية البزنطي، و لو كان ما ذكره على سبيل الاستنباط و فهم السور الأربع من لفظ السجدة لكان رواية البزنطي مشتركة في ذلك

مع الروايات الأخر، و ظاهر المحقّق انّ هذا ممّا يتفرّد به رواية البزنطي و بهذا يصح عدّه من باب الرواية.

نعم يقع الكلام حينئذ في رجال السند، فالبزنطي من الأجلّاء و لا كلام فيه و فيه الحسن بن زياد الصيقل و المثنّى، و ذكر في المستدرك رواية أربعة من أصحاب الإجماع من الأوّل، و كذا ذكر في الثاني أيضا قريبا من ذلك، و إذن فالرواية من حيث السند تبلغ حدّ الاعتبار، و حينئذ لا بد من التكلّم في دلالته.

فنقول: ربما يقال: إنّ السورة اسم لمجموع الآيات من أوّلها إلى آخرها فلا يصير دليلا على حرمة آية واحدة حتى نفس آية السجدة أيضا.

و يمكن أن يقال: بأنّ النواهي المتعلّقة بالمركبات عند العرف ظاهرة في التعلّق بالأجزاء. و قد ذكر ذلك شيخنا المرتضى في ما كتبه في المكاسب المحرّمة في ذيل عنوان تصوير الصورة الحيوانية، فذكر ما حاصله: أنّه لو اشتغل بتصوير الصورة إلى الوسط ثمّ بدا له في إتمامه، فهل ما صوّره يكون حراما أو تجرّيا؟ ثمّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 178

قوّى كونه حراما و فرّق بين النهي و الأمر بالمركب و جعل الفارق هو العرف، ففي الأمر يفهمون انّ المطلوب إيصال العمل إلى الآخر؛ و لا يرون الاشتغال بالأجزاء إلّا كالاشتغال بالمقدّمات. و أمّا في النهي عن المركب فيفهمون أنّ المطلوب التجنّب عنه و عدم التعرّض له رأسا و لو بالاشتغال ببعض أجزائه. و الظاهر تمامية ما ذكره. ألا ترى الفرق بين ما إذا قال: يجب عليك أكل هذه القرصة؛ و بين ما إذا قال: يحرم عليك أكل هذه القرضة؛ فيتحقّق المخالفة في الثاني بأكل لقمة واحدة و لا يتوقف على أكلها بتمامها. و

لا يتحقّق الامتثال في الأوّل إلّا بأكل تمام القرصة.

نعم يحتاج في الحكم بالجزئية عرفا في بعض المقامات إلى القصد إلى كونه جزءا لذاك المركب، كما في تصوير رأس واحد فإنّه لا يعد عرفا جزء من الصورة التامة إلّا مع إحراز كون المصوّر ناويا لتصوير الصورة التامة، و أمّا مع عدم القصد من الأوّل إلّا إلى تصوير الرأس فقط، فلا يقولون: إنّه جزء من الصورة التامة و القامة الإنسانية المنتقشة. و أمّا في مثال القرصة فلا يحتاج إلى قصد أكل التمام فإنّ جزئية اللقمة للقرصة حاصلة بدون هذا القصد. و على هذا فيمكن أن يقال في مقامنا بأنّه لو تكلّم ببعض حروف كلمة من كلمات هذه السور مثل «إق» في اقْرَأْ* و «بس» من «البسملة» و كان من قصده أيضا كونه من تلك السورة؛ فيبتني الجزئية و عدمها على قصد قراءة التمام، أو الكلمة التامّة، أو الآية و عدم قصد ذلك و قصد نفس هذا الحرف من الأوّل؛ ففي الأوّل يعد عرفا جزءا فيحرم و في الثاني لا يعد في العرف جزءا فلا يحرم. و أمّا الكلمة التامة و كذا الآية فلو قصد بها كونها من تلك السور فلا يحتاج إلى قصد التمام، إذ يصدق الجزئية بدون ذلك و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 179

مسألة: من جملة المحرّمات على الحائض اللبث في ما عدا المسجدين من المساجد و مطلق الدخول فيهما

أمّا الحكم في المستثنى و هو المسجدان فممّا لا إشكال فيه لوروده في غير واحد من الأخبار.

و أمّا الحكم في غيرهما فاعلم انّ العنوان المعبر عنه في الأخبار مختلف على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أنّ المنهي هو عنوان الجلوس و القعود.

و الثاني: انّ المحرم ما عدا المرور و المشي، و الظاهر أنّ المراد بالمرور مطلق المشي و لو كان

الدخول و الخروج من باب واحد.

و الثالث: انّ المحرم ما عدا العبور و الاجتياز و هما أخص من المرور، و يعتبر فيهما الدخول من باب و الخروج من باب آخر. هذه مقتضى أخبار الباب.

و أمّا الكتاب فالمرتبط منه بالباب هو قوله تعالى لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ .. وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ «1». و ظاهرها الأوّلي النهي عن الصلاة جنبا إلّا في حال السفر، فيجوز بأن يتيمم لفقد الماء و يدخل في الصلاة في حال الجنابة بدون الغسل، و التعبير بالسفر لأجل انّه الفرد الغالب من عدم التمكن من الماء و إلّا فلا خصوصية له، و بناء على هذا الظاهر فالآية أجنبية عن المقام، و لكن قد كفانا مئونة التكلّم في دلالتها ورود الرواية الصحيحة المفسرة لها بأنّ المراد مكان الصلاة، أعني: المساجد غير المسجدين فالمراد النهي عن دخول مواضع الصلاة في حال الجنابة إلّا أن يكون الجنب عابرا و المسجد له سبيلا و معبرا. و الرواية ما رواه زرارة و محمّد بن مسلم، قالا: قلنا: له الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال

______________________________

(1)- النساء/ 43.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 180

- عليه السّلام- الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين، انّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «1». فالمهم التكلّم في الطوائف الثلاثة من الأخبار:

فنقول: الظاهر انّ المراد بالقعود الكناية عن اللبث، لا سيما بملاحظة وقوعه في كثير من هذه الأخبار في مقابل المرور، فذكر فيها التصريح بالمنع عن الجلوس عقيب تجويز المرور، و العرف يفهم من أمثال ذلك الكناية عن اللبث. و إذن فمفاد هذه الطائفة يكون انّ المحرم في

هذا الباب هو مطلق الكون السكوني في المسجد؛ من غير فرق بين أنحائه، من الاستلقاء، و الاضطجاع و القعود، و القيام و غيرها.

و يكون المجوّز مطلق ما يقابل الكون السكوني، من غير فرق أيضا بين أقسامه من التحرك في أطراف المسجد و الخروج من الباب الذي دخل منه، سواء كان بالحركة البطيئة، أم السريعة بالرجل أم بغيرها، أم كان من باب العبور و الاجتياز، أعني:

الدخول من باب و الخروج من آخر. هذا مفاد هذه الطائفة فيتحد مع مفاد الطائفة الثانية التي كان المجوّز فيها مطلق المرور و المشي. فيبقى الكلام في الطائفة الثالثة:

حيث إنّ المجوّز فيها عنوان الاجتياز و هو أخص من مطلق الحركة، و الممنوع فيها ما يقابل الاجتياز و هو أعم من الممنوع في سائر الأخبار؛ أعني: الكون السكوني حيث يشمله مع بعض الأكوان التحركيّة و هي ما كان على غير وجه الاجتياز، و العبور، و كون المسجد سبيلا. فهل يخصص العام في طرف الحرمة في هذه الطائفة بالخاص في تلك؟ أو يخصص العام فيها في طرف الجواز بالخاص في هذه؟ الظاهر هو الثاني، ألا ترى انّه لو ورد: أكرم العلماء إلّا فسّاق العراق، و في

______________________________

(1)- الوسائل: حج 1، باب 15، من أبواب الجنابة، ص 486، ح 10.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 181

دليل آخر: أكرم العلماء إلّا فسّاق البصرة، فعموم العلماء في الأوّل أضيق منه في الدليل الثاني، و عموم الفساق الذي هو المخصص في الثاني أضيق منه في الدليل الأوّل. فالعرف يرون التقديم للأخص من المخصصين لا للأخص من العامين، فكما يخصّصون بفسّاق البصرة عموم العلماء في الدليل الثاني، يخصّصون به أيضا عموم الفسّاق العراقيين في الدليل الأول الذي قد

خصّص به عموم العلماء فيه؛ فيصير المحصل تخصيص عموم العلماء فيه أيضا بفسّاق البصرة. و كذلك إذا ورد في دليل انّه يحرم جميع الأكوان في المسجد إلّا الكون الغير السكوني، و في آخر يحرم جميع الأكوان فيه إلّا الكون الاجتيازي من البابين، فالمتعيّن تقديم خصوص الخاص في الثاني على خصوص العام في الأوّل، و يصير المحصل بعد التخصيصات حرمة ما عدا الاجتياز.

أو يقال في مقام الجمع بين مدلولي الطائفتين: إنّ إرادة الاجتياز، و العبور، من المرور، و المشي على نوع من المسامحة جائز في العرف، فتصير الطائفة التي ذكر فيها الاجتياز شارحة للمراد من المرور و المشي الواقعين في الطائفة الأولى و هذا أولى من العكس؛ أعني: حمل الاجتياز على إرادة معنى مطلق المرور لأنّ رواية الاجتياز مع اعتضادها بالآية الشريفة، مقيدة بصدق عابر السبيل و هو لا يتحقّق مع الخروج عن باب الدخول، فهي في معنى الاجتياز أظهر من الرواية الأخرى في معنى مطلق المرور. فيصير المتحصل على هذا أيضا حرمة ما عدا الاجتياز.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجه السابق واضح إذ الأوّل يبتني على اندراج المقام في باب المطلق و المقيد، و العام و الخاص. و الثاني غير مبتن عليه و يكون من باب ملاحظة مطلق الظهور اللفظي و تحكيم الأظهر على الظاهر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 182

ثمّ إنّهم بعد ذكر حرمة الكون الدخولي الغير الاجتيازي و جواز الاجتيازي؛ صرّحوا بحرمة وضع الشي ء في المسجد و جواز الأخذ منه. و يظهر منهم الموضوعية لهذين العنوانين من دون توقّف على رجوعهما إلى الأوّلين، فإنّ النسبة بينهما و بين مطلق الدخول عموم من وجه بحسب المورد.

و على هذا فالوضع و لو كان من

خارج المسجد حرام إلّا إذا كان طرحا، و قلنا: بعدم صدق الوضع مع الطرح، كما انّ الأخذ و لو مع المكث في مدة طويلة جائز، بشرط أن لا يكون المكث زياد على مقدار ما يحتاج إليه الأخذ.

و كيف كان فالعمدة التعرّض لدليل المسألة و هو بين ما يدل على حرمة الوضع، و جواز الأخذ كما ذكره العلماء، و بين ما يدل على العكس. فالأوّل روايتان:

رواية عبد اللّٰه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الجنب و الحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم و لكن لا يضعان في المسجد شيئا. «1»

و صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين- إلى أن قال:- و يأخذان من المسجد و لا يضعان فيه شيئا، قال زرارة: قلت له: فما بالهما يأخذان منه و لا يضعان فيه؟

قال: لأنّهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلّا منه، و يقدران على وضع ما بيدهما في غيره. «2»

و الثاني: ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره مرسلا عن الصادق- عليه السّلام-:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 17، من أبواب الجنابة، ص 490، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 491، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 183

إلّا أنّه قال: يضعان فيه الشي ء و لا يأخذان منه. فقلت: ما بالهما يضعان فيه و لا يأخذان منه؟ فقال: لأنّهما يقدران على وضع الشي ء فيه من غير دخول، و لا يقدران على أخذ ما فيه حتى يدخلا. «1»

و هذان الدليلان كما ترى ليس بينهما جمع عرفي بحسب الدلالة، فينحصر علاج التعارض بالرجوع إلى المرجّح السندي و واضح أنّه مع الأوّل،

كوضوح استفادة الموضوعية للعنوانين منه كما استفدنا من كلمات الأصحاب.

لا يقال: إنّ التعليل في الصحيحة ينافي الموضوعية و يدل على أنّ الحرمة في الوضع لاستلزامه الدخول، و انّ الجواز في الأخذ لعدم استلزامه إياه فلا يستفاد الحرمة في الأوّل في مورد عدم استلزامه الدخول، و لا الجواز في الثاني في مورد استلزامه.

لأنّا نقول: التعليل غير مذكور في كلام الإمام- عليه السّلام- أوّلا و إنّما ذكر بعد سؤال الراوي عن علّة الحكم و مثل هذا لا يقدح في إطلاق الحكم، فلا يكون بمنزلة قول القائل: لا تأكل الرمان لأنّه حامض و لا تشرب الخمر لأنّه مسكر.

بل التحقيق انّ التعليل في الصحيحة يفيد المدّعى من الموضوعية، و ذلك لأنّه جعل وجه جواز الأخذ انّه لو لم يجوّز لزم الحرج، و رفع اليد عن المال أو الشي ء المحتاج إليه فصار جائزا لرفع هذا الحرج.

و أمّا الوضع فحيث لم يلزم من حرمته هذا الحرج لإمكان الوضع في غير المسجد فلهذا صار حراما، و من المعلوم أنّ مقتضى ذلك انّ جواز الأخذ مطلق

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 17، من أبواب الجنابة، ص 491، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 184

حتى في صورة استلزام اللبث، أو المرور الغير الاجتيازي، و كذلك حرمة الوضع أيضا مطلق حتى في صورة الاجتياز.

نعم هنا أمر آخر و هو التكلّم في أنّ ما ذكر هل هو من باب العلّة أو الحكمة، فإن كان الأوّل لزم ارتفاع جواز الأخذ مع عدم لزوم الحرج، كما لو كان هنا شخص طاهر أمكن تولّيه للأخذ باستدعاء الجنب، أو أمكن مباشرة نفس الجنب و لكن بتوسط آلة من الخارج.

و إن كان الثاني كان جواز الأخذ ثابتا حتى مع ارتفاع

الحرج، و الظاهر هو الثاني لمكان الإطلاق، و عدم صلوح التعليل للتقييد كما عرفت.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد ذكر حرمة جميع الأكوان في المسجد و استثناء الاجتياز؛ صرّح بحرمة الدخول للأخذ ثمّ ذكر فتوى بعض الأصحاب بجوازه، ثمّ تنظّر فيه و قال: إنّ النظر فيه يظهر ممّا مرّ.

و الظاهر ابتناء ما ذكره على طرح أخبار طرفي المسألة للتعارض؛ و مراده من الدخول ما إذا كان على غير وجه الاجتياز، لأنّه المحرّم دون ما كان على وجه الاجتياز.

و قد يتوهم انّه إذا كان على وجه الاجتياز أيضا حرام؛ إذا كان بقصد الأخذ لعدم صدق السبيل حينئذ على المسجد، لأنّه يتوقف على كون المقصد في خارج المسجد؛ فلا يصدق مع كونه في نفس المسجد و هذا توهم فاسد، لأنّه كما قد يكون خارج المسجد مقصدا بالأصالة كذلك قد يكون مقصدا بالجعل و العارض؛ فيجعل الخارج مقصدا له لأجل أن يصير الاجتياز عليه جائزا؛ و لا إشكال في صدق السبيل حينئذ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 185

ثمّ على ما اخترناه يجوز الدخول في المسجد لأخذ ماء الاغتسال؛ و الاغتسال في الخارج. و عموم الشي ء في الخبر غير قاصر عن شموله من غير فرق بين الانحصار و عدمه مع الداعي العقلائي في اجتيازه، فلو استلزم المكث لا يجب التيمّم لأجله. و أمّا الدخول في المسجد لأجل الاغتسال من مائه فيه، فهو من الكون المحرّم حتى إذا كان مقدار المكث جنبا معه أقل منه مع الأخذ و الاغتسال في الخارج، كما لو كان مقداره في الثاني عشر دقائق خمسا للذهاب و خمسا للإياب، و في الأوّل سبعا خمسا للذهاب و اثنتين للاغتسال.

نعم الدخول للاغتسال في حال الاجتياز بأن

يجعل بعض عبوره من تحت الماء بقصد الغسل لا إشكال في جوازه.

ثمّ لو عصى و اغتسل في غير حال الاجتياز فالتحقيق أنّ غسله صحيح، لأنّ بطلان هذا الغسل يبتني على اتحاده مع الحرام، كما في الصلاة في المكان المغصوب حيث إنّه متحد مع التصرّف الغصبي، أو كونه علّة للحرام و كلاهما منتف في المقام، لأنّ المحرّم في المسجد هو الكون دون التصرّف فيه و الكون خارج عن أفعال الغسل.

نعم هو مقارن معها و هذا بخلاف المكان المغصوب، فإنّ نفس الكون فيه حرام و تصرّفه حرام آخر، و هو متحد مع الأفعال الصلاتية.

نعم لو فرض في ما نحن فيه كون الغسل مستلزما لتلويث المسجد صار باطلا، لكونه حينئذ علّة للتلويث المحرّم.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.